التعريف :
ـ فرقة ظهرت على الصعيد الإسلامي في بداية العصر الأموي في المدينة المنورة، ولعبت دوراً خطيراً على مسرح الأحداث السياسية، اثر الاختلافات حول مقتل عثمان، وانقسام الأمّة إلى فريقين، واتخذت جانب الاحتياط في تأييد كلا الفريقين، وسُمُّوا بالمرجئة لأنهم تولَّوا المختلفين جميعاً، ورجَوْا لهم المغفرة، ولا يقضون بحكم على الذين اختلفوا، وتنازعوا في الخلافة. لأنهم لم يقضوا على مرتكب الكبيرة، وأخّروا الحكم عليه إلى يوم القيامة.
عوامل الظهور:
ـ كان أوّل من تكلم في الإرجاء الحسن بن محمد بن الحنفية، وكتب في ذلك رسالة ثُمّ ندم عليها، وكان يتوقف في عثمان، وطلحة، والزبير فلا يتولاهم ولا يذّمهُّم ولعله بطرحهِ فكرة الإرجاء كان يرجو إيقاف الهجمة على جدَّه أمير المؤمنين عليّ (عليه السّلام) حيث كان الخطباء، ووعاظ السلاطين، يسبّونه على صهوات المنابر أعواماً عديدة، فأراد وليد البيت الهاشمي (الحسن) إيقاف السبّ بهذه الفكرة.
ـ ساعدت سلوكية القاعدين ومواقفهم السلبية من الأحداث التي مرّت بها الأمّة الإسلامية، ولم يبدوا استعدادهم في نصرة أيّ فريق من الفرق المختلفة، في ظهور ميول سياسية جديدة، أو آراء مذهبـية. فكان الإرجاء من مخلفاتها، وكان المرجئة هم الورثة لهذا التيار القاعد والمتخاذل، المتجسد بشخصية سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأسامة بن زيد، وأهبان بن صيفي وأمثالهم. ومن هذه المواقف وغيرها استطاع البعض أن يكوّن نظرية كلامية أخذت بالتوسع فيما بعد.
ـ حظيت أفكار المرجئة بالدعم الإعلامي، والسياسي من قبل الملوك، والحكام الأمويين، ونشطوا في نشر أفكار هذه الفرقة، وإذاعتها بين الناس لأنها حكمت بمشروعية خلافتهم، وتركت الحكم فيما اقترفوه من الأحداث الجسام إلى اللّه سبحانه، فهو الذي يحكم بين عباده بالحقّ يوم القيامة، وليس لأحد أن يلجَ أو يخوض في أعمالهم أو يحكم عليهم بشيء. وقد نشأت المرجئة نشأة سياسية، وكان إعلامها أداة طيّـعة بأيدي الحكام، والساسة، سواء كانوا من بني أُمية أم من بني العباس، يقول المأمون : ( الإرجاء دين الملوك ). ولم يقفوا موقف المعارضة أمام الأحداث الهائلة التي صدرت من الملوك الأمويين، وهذه الفرقة لا تتفق مع واقع الإسلام وجوهره.
النشأة والتطور:
ـ ظهر الإرجاء منهجاً فكرياً دينياً التجأ إليه أصحابه، وكان أول مَنْ تكلم وكتب رسالة فيه، الحسن بن محمد بن الحنفية، فهو أول من طرح فكرة الإرجاء بشكلها العلمي، ومن ثُمّ اتخذت منهاجاً، بعد أن كانت نواة هذه الفكرة موجودة في صدر الإسلام الأول.
ـ عاصرت المرجئة الفرق الإسلامية الكبرى، كالخوارج، والشيعة، والسنّة فرأت الخوارج يكفَرّون علياً(عليه السّلام)، وعثمان، والقائلين بالتحكيم، والأمويون يخالفون الشيعة، ويقاتلونهم ويرون أنهم مبطلون، وكلّ طائفة تدّعي أنها على الحقّ وحدها، وان ما عداها كافر، وفي ضلال مبين. فظهرت المرجئة تسالم الجميع، ولا تكّفر أيَّ طائفة وتترك أمرهم جميعاً إلى اللّه سبحانه. ومن هذا السلوك الاعتقادي، تولد موقف سياسي محايد من جميع الطوائف المخالفة لهم، من شيعة، ومعتزلة، وخوارج وسنّة فهم أميل إلى المسالمة حيث عدوا كُلّ من تأوّل واجتهد مؤمناً وإن اخطأ.
اعتماد الفكر المرجئي على أصلين :
الأوّل :
يدعو إلى إنّ الإنسان قاصر عن تشخيص المصيب والمخطئ ، بل يترك أمر المخطئين إلى اللّه سبحانه.
والثاني :
يعرب عن إنّ الشهادة اللفظية بالتوحيد، أو المعرفة القلبية تكفي في دخول الإنسان في عداد المؤمنين فيحرم قتاله، فساعد هذا الاعتقاد على خدمة السياسة الأموية والعباسية وأقرّا مشروعيتهما، فترك الحكام فيما اقترفوه من الأحداث الجسام، والمظالم العظام، إلى اللّه دون إعلان الثورة، والمعارضة، والمطالبة بالتغيير، والإصلاح.
ـ كان لشعراء المرجئة الدور البارز والفعال في جذب العواطف وتحريك الأحاسيس، لبثّ عقائد الإرجاء، ففتحوا بذلك باباً واسعاً من أبواب الأدب وخصوصاً في العصر العباسي، وصوروا إمكان عفو اللّه عن ذنوب العاصـين، حتى مع عدم التوبة.
ومن شعرهم في هذا المضمار شعر أبي نواس :
أيـها الـغافلُ المقيمُ على اللهو | ولاعُـذرَ فـي الـمقام لِـسَاهِ | |
لا بـإعمالنا نـطيق خـلاصاً | يـوم تـبدو السماء فوقَ الجباهِ | |
غير إني على الإساءة والتفريط | راجٍ لـحـسن عـفـو الإلـه |
وقال شاعرهم المشهور ثابت قطنة قصيدة رائعة تعد وثيقة قيمة في الإرجاء وبيان معتقدات المرجئة ورد فيها :
يـا هنَدُ فاستمعي لي إنّ سيرتَنا | أن نـعبد اللّه لم نشرِكْ به أحدا | |
نُـرجي الأمور إذا كانت مشبهة | ونَصْدُقُ القولَ فيمن جار أو عَنَداَ | |
الـمسلمون عـلى الإسلام كلهم | والـمشركون أَشـتُّوا دينهم قِدَدَاَ |
إلى أن قال :
كُـلّ الخوارج مخطٍ في مقالته | ولـو تـعبَّد فيما قال واجتهدا | |
أمـا عـلي وعـثمان فـإنهما | عـبدان لم يشركا باللّه مذ عبدَا | |
وكـان بينهما شغب وقد شهدا | شقَّ العصا، وبعين اللّه ما شهدا | |
يُـجزَى علي وعثمان بسعيهما | ولـستُ ادري بـحقّ أيّةً وردا |
ـ افترقت المرجئة إلى أربع فرق، فرقة منهم غاَلوْا في القول وهم الجهمية أصحاب ( جهم بن صفوان ) وهم مرجئة أهل خراسان، والغيلانية أصحاب ( غيلان بن مروان ) وهم مرجئة أهل الشام، والماصرية أصحاب ( عمرو بن قيس الماصر ) وهم مرجئة أهل العراق ومنهم ( أبو حنيفة ) ونظراؤه، وفرقة منهم يسمون ( الشكاك ) و( البترية ) أصحاب الحديث منهم ( سفيان بن سعيد الثوري ) و( شريك بن عبد الله ) و( ابن أبي ليلى ) و( محمد بن إدريس الشافعي ) و( مالك بن أنس ) ونظراؤهم من أهل الحشو والجمهور العظيم وقد سموا ( الحشوية ).
ـ أخذت كُلّ فرقة، من فرق المرجئة تضلل أختها، وتسلك منهجاً خاصاً في تفسير الإيمان،وأهمّ هذه الفرق هي : اليونسية اتباع يونس بن عون، والغسانية أتباع غسان المرجئي، والتومنية اتباع أبي معاذ التومني، والثوبانية اتباع أبي ثوبان المرجئي، والعبيدية أصحاب عبيد المكـتئب، والصالحية أصحاب صالح بن عمر الصالحي .
ـ اعتمدت المرجئة على أصل واحد وهو تحديد الإيمان والكفر، فكان المقوّم لجميع عقائدها وأفكارها، وليس لهم رأي في الموضوعات الأخرى بشكل خاص ومبسوط، ولأجل ذلك تفرقوا في آخر أمرهم، إلى فرق متبددة ومتضادة، فترى مرجئياً يتبع منهج الخوارج، وآخر يقتفي اثر القدرية، وثالثاً يشايع الجبرية، والفرق التي ذابوا فيها هي.
1 ـ مرجئة الخوارج.
2 ـ مرجئة القدرية.
3 ـ مرجئة الجبرية.
4 ـ المرجئة الخالصة.
الأفكار والمعتقدات:
طرحت فرقة المرجئة أفكاراً كثيرةً، كانت معظمها تدور حول الإيمان وتفسيره نستعرض أهمها :
ـ فكرة تقول الإيمان هو التصديق بالقلب، أو بعبارة أخرى هو معرفة اللّه، وأضاف بعضهم الإقرار باللسان، واعتبره الركن الثاني من الإيمان، ويكاد المرجئة يجمعون على أنّ العمل ليس ركناً من أركان الإيمان، ولا داخلاً في مفهومه.
ـ مرتكب الكبيرة مؤمن، لأنه مصدِّق بقلبه، فاسق لارتكابه الكبيرة، بل منهم مَن يقول أنّه لا يصح أن يسمى فاسقاً مطلقاً، بل يقال فاسق في كذا.
ـ المؤمن مرتكب الكبيرة لايخلَّد في النار ـ على أيّ حال ـ لإيمانه ويرون أنّه لايخلَّد في النار إلاّ الكافر.
ـ الإمامة ليست واجبة، وأنّه يصلح لها من استوفى الأهلية، ولو كان غير قرشي.
ـ إنّ وعد اللّه لا يتخلف، ووعيده قد يتخلف، لأنّ الثواب فضل فيفي اللّه به، لأنّ الخلف في الوعد نقص والعقاب عدل. وله أن يتصرفَ فيه كما يشاء ولا يعد الخلف في الوعيد نقصاً
ـ كُلّ الطوائف من شيعة، ومعتزلة، وخوارج، وغيرهم مؤمنون، وعدّوا أيضاً كُلّ مَن تأوّل واجتهد مؤمناً وإن اخطأ، وليس كافراً إلاّ مَنْ أجمعت الأمّة على كفره.
ـ جواز رؤية اللّه سبحانه في الآخرة، واستدلّوا على ذلك بظواهر جملة من آيات القرآن.
ـ التوبة طاعة واجبة، لأنّها امتناع عن قبيح، غير أنّه لا يجب سقوط العقاب عندها عقلاً وإنما يسقط عندها تفضّـلاً من اللّه تعالى، كما يسقط عند العفو.
ـ ذهبت المرجئة على اختلاف مذاهبها في الأصول إلى أنّ شفاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في إسقاط الضرر لا غير، وإنها لا تكون في زيادة المنافع، لأنّ حقيقتها في إسقاط الضرر.
ـ إنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنّ أمر التصديق دائر بين الوجود والعدم، ومثله تفسير الإيمان بالإقرار باللسان، فهو أيضاً كذلك وليس العمل داخلاً في حقيقته.
ـ وقالت طوائف من المرجئة : إنّ إبليس لم يسأل اللّه قط النظرة، ولا أقرَّ بأنّ خلقه من نار، وخلق آدمَ من ترابٍ وآخرون قالوا : إنّ النبوّة تكتسب بالعمل الصالح.
ابرز الشخصيات:
1 ـ الحسن بن محمد بن الحنفية.
2 ـ غسان المرجئ.
3 ـ أبو معاذ التوميني.
4 ـ يونس بن عون.
5 ـ صالح بن عمر الصالحي.
6 ـ أبو ثوبان المرجئ.
7 ـ عبيد المكتئب.
الانتشار ومواقع النفوذ:
أوّل ما انتشرت أفكار المرجئة في المدينة المنورة، وبعدها أخذت بالانتشار في خراسان، والعراق، وبلاد الشام.
أحداث ووقائع:
ـ وقف أئمة أهل البيت (عليه السّلام) في وجه المرجئة، وشنّوا حملاتٍ قوية ضدّ الإرجاء، لما ينطوي عليه الاعتقاد بأفكار المرجئة من انحلال أخلاقي، وترك القيم، بحجة أنّه يكفي في اتصاف الإنسان بالإيمان، وعداده ضمن المؤمنين، إقراره باللسان أو الإذعان بالقلب ولا نـحتاج وراء ذلك إلى شيء من الصوم والصلاة، فقام الأئمة الأطهار (عليه السّلام) بتحذير الشيعة وأولادهم من خطر المرجئة، روي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) أنّه قال : ( بادروا أولادكم بالحديث، قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة ).
ـ وفي مورد آخر تصدّى الإمام الصادق (عليه السّلام) لبيان فكرة الإيمان والحبّ، وأنّ المرجئة خاطئة في تفسير الإيمان بالمعرفة القلبية، والحب الفارغ المختلط بالمعاصي والآثام، حيث قال الصادق (عليه السّلام) : ( ما أحبَّ اللّهُ عزّ وجل مَنْ عصاه ) ثُمّ انشد الإمام (عليه السّلام) قائلاً :
(تعصي الإله وأنت تظهر حبّه | هـذا مـحال في الفعال بديع | |
لـو كان حُبُّكَ صادقاً iiلاطعتَهُ | إنّ المحبَّ لمن أحَبَّ مطيعُ ) |
من ذاكرة التأريخ:
ـ قال عثمان بن إبراهيم بن حاطب : إنّ أول من تكلم في الإرجاء هو الحسن بن محمد بن الحنفية، كنت حاضراً يوم تكلم، وكنت في حلقته مع عمي، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه، فتكلموا في عليّ، وعثمان، وطلحة، والزبير فأكثروا، والحسن ساكت، ثُمّ تكلم فقال : (سمعت مقالاتكم، ولم أرَ شيئاً أميل من أن يرجأ علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، فلا يتولوا ولا يتبرأ منهم)، ثُمّ قام فقمنا. قال لي عمي : يا بني ليتخذن هؤلاء هذا الكلام إماماً. قال : عثمان : فقال به سبعة رجال، رأسهم جحدب من تيم الرباب، ومنهم حرملة التيمي تيم الرباب، وأبو علي بن حرملة. وبلغ أباه محمد بن الحنفية ما قاله، فضربه بعصاً فشجه وقال : لا تولي أباك علياً ؟ ! قال : وكتب الرسالة التي ثبت فيها الإرجاء بعد ذلك.
قال عطاء بن السائب : إنّ زاذان وميسرة دخلا على الحسن بن محمد بن علي فلاماه على الكتاب الذي وضع في الإرجاء فقال لزاذان : يا أبا عمر : وددت إني كنت متُّ ولم اكتبه.
ـ قال أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام :لم نر الأمويين اضطهدوا مرجئاً لإرجائه، كما كانوا يضطهدون المعتزلة لاعتزالهم، والخوارج لخارجيتهم، والشيعة لتشيعهم، بل نراهم يستعملون من عرف بالإرجاء في أعمالهم، كما فعل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة بثابت قُطنة،وهو شاعر المرجئة. فقد ولاّه أعمالاً من أعمال الثغور. فإن كان الأمويون قد عذّبوا أحداً من المرجئة فليس سبب العذاب إرجاءه ولكنه شيء آخر، فقتلوا الحارث بن سريج وهو زعيم من زعماء المرجئة في عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية لا لأنه مرجئ، ولكن لخروجه وثورته.
خلاصة البحث:
ـ المرجئة : إحدى الفرق الإسلامية الكبرى ظهرت على المسرح التاريخي إثر الاختلافات حول مقتل عثمان، وانقسام الأمّة إلى فريقين، فاتخذت جانب الحياد في تأييد كلا الفريقين ، وسّموا بالمرجئة لأنهم تولوا المختلفين جميعاً، وأرجئوا أمرهم إلى يوم الحساب، ورجوا لهم المغفرة.
ـ ساعدت عوامل كثيرة على تركيز الإرجاء وتثبـيـتـهِ منها : ما كتبه الحسن بن محمد بن الحنفية في هذا المضمار، ومنها سلوكية القاعدين في صدر الإسلام من الأحداث بشكل سلبي، أمثال سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وأسامة بن زيد، وغيرهم، ومنها الدعم الإعلامي والسياسي من قبل ملوك الدولة الأموية، لأفكار المرجئة لأنها حكمت بمشروعيتهم، وتبرير أعمالهم.
ـ تطورت فرقة المرجئة حتى بلغت أربع فرق هي الغيلانية، والماصرية، والجهمية، والشكاك.
ـ ارتكزت أفكار المرجئة حول تفسير الإيمان، وصار محوراً لأغلب أفكارها، وقالوا : إنّ الإيمان هو التصديق بالقلب، وأضاف بعضهم ركن الإقرار باللسان، واجمعوا على أنّ العمل ليس ركناً من أركان الإيمان، وعدّوا مرتكب الكبيرة مؤمناً، لأنه مصدق بقلبه، واعتقدوا أنّ الإمامة ليست بواجبة، وأنّه يصلح لها من استوفى الأهلية، ولو كان غير قرشي، وغيرها من الأفكار.
ـ برزت في هذه الفرقة شخصيات تصدّت لنشر الإرجاء وترويجه، كان على رأسهم الحسن بن محمد بن الحنفية، وغيلان بن مروان، وعمرو بن قيس الماصر وغسان المرجئ.
ـ انتشرت أفكار المرجئة في بلدان عديدة كالشام، والعراق، وخراسان، والمدينة المنورة.