التعريف :
ـ حركة دينية سياسية ، تفرَّعت من المباركية ، إحدى فِرق الإسماعيلية . دُعيت بهذا الاسم نسبة إلى مؤسِّسها حمدان بن الأشعث ، الملقَّب بـ (قَرْمَط) ، في عهد الخليفة المعتضد العبَّاسي ، واتبعتْ تنظيماً سرِّياً دقيقاً . وكانوا في الأصل على مقالة المباركية ، ثُمّ خالفوهم ، وقالوا : لا يكون بعد محمد(صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) غير سبعة من الأئمَّة.
عوامل الظهور :
ـ ساعدت الأوضاع الفاسدة ، والتهالك ، والانحلال في جسم الدولة العباسية ، على نمو الحركات الثورية المعارضة ، ومنها : الحركة الإسماعيلية ـ القَرْمَطيَّة ، التي انتشرت بصورة عجيبة في المشرق الإسلامي ، وولَّدتْ انفجاراتٍ عسكرية ، أقضَّت مضاجع الخلافة العباسية ، وحرمتها لذيذ الرقاد.
ـ اعتمدت الفِرقة القَرْمَطيَّة على الجانب الإعلامي، وبعث الدعاة إلى الأقاليم كـ : اليمن ، والحجاز ، والهند ، ومصر ، وبعلبك ، وواسط ، وسلمية ، وعُمان ، وخراسان . فاستطاعت بذلك جذب الأعداد الكبيرة ، من الموالين لها في تلك البلدان ، ألَّفوا فيما بعد القواعد الشعبية ، التي مكَّنتهم من تنظيم الجيوش والتوجُّه لنشر عقائدهم.
ـ تميَّزت الفِرقة القَرْمَطيَّة بالسرية التامة ، وتكتُّمها وإخفائها للحقائق التي تنطوي عليها ، والتستُّر على كبار قادتها ، حتى اخفوا شخصياتهم ، على المقرَّبين إليهم ، ممَّا مكَّنهم من النفوذ إلى الكثير من المجتمعات ، وتعليمهم مذهبهم من دون الكشف عن هويَّاتهم.
ـ اهتمام زعماء القَرَامِطة بكلّ ما يخدم طموحاتهم ، ومخططاتهم الثورية والاجتماعية ، بدرجة أنهم لم يعيروا اهتماماً للانتماء الاسمي، أو الديني أو البحث عن الرسالة، ومن هو الخليفة، أو ورثته أو المهدي المنتظر.
ـ اتخذت القيادة القَرْمَطيَّة التدابير المالية ، بفرض ضرائب متعدِّدة ؛ لتحصل على رصيد مادي ضخم ، يمكنها من تنفيذ مشاريعها وبرامجها ، فطرحت أنواعاً من الضرائب: كـ (ضريبة الفطرة) ، وهي درهم على الرجال والنساء والأولاد ، و(ضريبة الهجرة) ، وهي دينار عن كُلّ من أدرك الحنث ، و(ضريبة البلغة) ، وهي سبعة دنانير ، و(ضريبة الخمس) ، وهي خمس الأرباح السنوية . وأسَّست نظام الألفة ، وهي جمع الأموال في موضع واحد . كُلّ هذا مكَّنها لأن تبني كياناً اقتصادياً متيناً.
ـ إتّباع القَرَامِطة لنهج العنف ، وانحرافهم عن مسير الحركة الإسماعيلية ، وكانوا توّاقين بعنف إلى إمام مهدي منتظر، يسارع في إنقاذهم من الفوضى الاقتصادية ، والقلق النفسي ، فأصرّوا على أن يباشروا فوراً في إعلان دولة في بلاد الشام.
النشأة والتطوُّر :
ـ كان ابتداء أمر القَرَامِطة أنّ رجلاً قَدِم من ناحية الأهواز إلى سواد الكوفة ، يُظهر الزهد والتقشُّف ، وأقام على ذلك فترة . وكان إذا قعد إليه رجل ذاكره أمر الدين ، وزهدَّه في الدنيا... ثُمّ مرض ، فمكث على الطريق مطروحاً . وكان في القرية رجل أحمر العينين ، يحمل على أثوار له ، يُسمُّونه كرميته ، فحمل الكرميته المريض إلى منزله ، واعتنى به حتى بَرِئَ . ودعا أهل تلك الناحية إلى مذهبه ، فأجابوه . واتخذ منهم اثني عشر نقيباً ، أمرهم أن يدعوا الناس إلى مذهبهم ، وقال: ( انتم كحواري عيسى بن مريم (عليه السلام) ) .
فاشتغل أهل كور تلك الناحية عن أعمالهم بما رسم لهم من الصلوات ، وكان للهيصم ، في تلك الناحية ضياع ، فرأى تقصير الأكَرة في عمارتها ، فسأل عن ذلك ، فأخبر بخبر الرجل ، فأخذه وحبسه ، وأغلق باب البيت عليه ، وجعل مفتاح البيت تحت وسادته ، واشتغل بالشرب ، فرقّت إحدى الجواري للرجل ، وأطلقت سراحه ، من دون أن يعلم الهيصم ، وشاع ذلك في الناس ، فافتتن أهل الناحية وقالوا : رُفع ثُمّ ظهر في ناحية أخرى ، ولقي جماعة من أصحابه وغيرهم ، ثُمّ خرج إلى ناحية الشام.
وقيل غير ذلك : بأنّ حمدان هو الذي التقى بالرجل الداعي ـ أحد دعاة الباطنية ـ فالتزم حمدان سرّه ، ثُمّ اندفع الداعي في تعليمه فنون (؟) واستجاب له في جميع ما دعاه ، ثُمّ انتدب حمدان للدعوة ، وصار أصلاً من أصول هذه الدعوة ، فسُمِّى أتباعه : القَرَامِطة.
ـ وفي البحرين ظهر رجل من القَرَامِطة يُعرف بأبي سعيد الجنابي ، فاجتمع إليه جماعة من الأعراب ، وقوي أمره ، ثُمّ سار إلى القطيف . وفي سنة 287 هـ أغاروا على نواحي هَجَر ، وقرب بعضهم من نواحي البصرة.
ـ أسّسوا لهم موضعاً سمَّوه بـ (دار الهجرة) ، يهاجرون إليها ويجتمعون بها ، وبنوا حولها سوراً منيعاً عرضه ثمانية أذرع ، ومن ورائه خندق عظيم ، وانتقل إليها الرجال والنساء من كُلّ مكان ، وذلك سنة (277هـ) ، فلم يبق حينئذٍ أحدً إلاّ خافهم لقوَّتهم وتمكُّنهم في البلاد.
ـ في سنة (289 هـ) أحسَّت الخلافة العباسية بخطر القَرَامِطة ، وازدياد حشودهم ، فأمرت عاملها في سورية شبل الديلمي ، فألَّف جيشاً جرَّاراً وهاجم الجيوش القَرْمَطيَّة ، ولكنَّهم دحروا هذه القوّة بعد أن قتلوا عدداً كبيراً منها.
ـ تمكَّن الحسين بن زكرويه ، أبو مهزول ، الملقَّب بصاحب الخال ، من تجهيز الجيوش ، وفتح الرِّقَّة وحلب ، وحماة ، وحمص ، ودمشق ، وسلمية ، وحقَّق الانتصارات الباهرة ، وخطب على المنابر وأيَّده أهلها.
ـ التبس على بعض كبار دعاة القَرَامِطة الأمر في أنّ إمامهم هو عبيد الله المهدي ، وكانوا لا يزالون يدينون بالولاء والطاعة للإمام محمد بن إسماعيل ، الذي بذر بذور الدعوة بينهم ، واعتبروه المهدي المنتظر . ولم تفلح الحجج والبراهين التي اعتمدها الدعاة في إقناعهم بأنّ الإمام عبيد الله المهدي ، بموجب النصّ الذي أودعه الإمام محمد بن إسماعيل في عقبه.
ويرجع هذا التعنُّت من بعض دعاة القَرَامِطة لانقطاعهم في البادية ، ولعدم احتكاكهم الدائم مع مركز الدعوة الإسماعيلية في سلمية ، وتتبُّعهم تطوُّرات الدعوة ، فاعتبروا أنّ هذه التطوُّرات خارجة عن مفهوم التعاليم الأوَّلية التي لُقِّنوها.
ـ وفي سنة 317 هـ هاجم القَرَامِطة مكّة ونهبوا الكعبة ، واقتلعوا الحجر الأسود . ولما بلغ ذلك الإمام الإسماعيلي ، والخليفة الفاطمي عبيد الله المهدي ، كَتَبَ إلى أبي طاهر يُنكر ذلك ويلومه ، ويقول : ( حقَّقت على شيعتنا ودعاة دولتنا ، اسمَ الكفر والإلحاد ، بما فعلت ) ، وأمره أن يُعيد الحجر الأسود إلى موضعه ، فأعاده.
ـ أنكر القَرَامِطة على الإسماعيليين والفاطميين سياسة الملاينة ، التي اعتمدوها في كسب العناصر غير الإسماعيلية . وقد جسَّدوا معتقداتهم بالعنف والبطش ، واستحلوا استعراض الناس بالسيف ، وقتلهم واخذ أموالهم ، والشهادة عليهم بالكفر.
ـ استغلّ القرامطة شعار الانتساب إلى البيت العلوي الثائر المُضْطَهَد ، ونادوا بالعدالة الاجتماعية ، وطرحوا أنفسهم في قالب ديني ثوري ؛ ممَّا أعطى لتحرُّكهم الإطار الشرعي . ولا يعرف التاريخ الإسلامي مذهباً ثورياً ، لا يستند إلى أساس روحي ، أو حركة ثورية عامة ، لا ترجع إلى الدين.
وكان من المألوف في العصور الإسلامية أن تظهر الجماعات الداعية إلى الثورة السياسية ، مستنيرة بالمذهب الشيعي ، في سبيل نشر رسالتها ، وتأليب رجالها إلى أن يستتِب لها الأمر ، فتسفر عن حقيقة أمرها.
الأفكار والمعتقدات :
ـ قالوا : إنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) نصّ على علي بن أبي طالب ، وأنّ علياً نصّ على إمامة ابنه الحسن ، وأنّ الحسن نصّ على إمامة أخيه الحسين ، وأنّ الحسين نصّ على إمامة ابنه علي ، وأنّ علياً نصّ على إمامة ابنه محمد الباقر ، ونصّ محمد على إمامة ابنه جعفر الصادق ، ونصّ جعفر على ابن ابنه محمد بن إسماعيل . وزعموا أنّ محمد بن إسماعيل حيّ إلى اليوم لم يَمُت ، ولن يموت حتى يملك الأرض ، وأنّه هو المهدي الذي تقدَّمت البشارة به ؛ واحتجُّوا في ذلك بأخبار رووها عن أسلافهم ، يخبرون فيها : أنّ سابع الأئمة قائمهم.
ـ اثبتوا النبوة ظاهراً ، وأنكروا الوحي ، وهبوط الملائكة . وأولَّوا المعجزات ، فجعلوها رموزاً : فثعبان موسى : حُجَّته ، والغمام : أمره . وأنكروا كون عيسى من غير أب ، بل هو رمزُ اخذ العلم من غير إمام ، وإحياء الموتى إشارة إلى العلم ، ونَبْعِ الماء من الأصابع إشارة إلى كثرة العلم ، وطلوع الشمس من المغرب خروج الإمام.
ـ إنّ الله بدا له في إمامة جعفر وإسماعيل ، فصيَّرها في محمد بن إسماعيل . وزعموا أنّ محمد بن إسماعيل حيّ ، وأنّه غائب مستتِر في بلاد الروم . ومعنى القائم عندهم أنّه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة ، وينسخ بها شريعة محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، وأنّ محمد بن إسماعيل من أولي العزم ، وأولو العزم عندهم سبعة.
ـ إنّ جميع الأشياء التي فرضها الله تعالى على عباده ـ ومنها نبيه محمد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ـ وأمر بها ، لها ظاهر وباطن . وإنّ جميع ما استَعبد الله به العباد في الظاهر ، من الكتاب والسنة ، أمثال مضروبة ، وتحتها معانٍ هي بطونها ، وعليها العمل.
ـ أقرّوا حصر ممتلكاتهم في بيت المال ، وسنُّوا التشريعات التي تحدِّد صلاحية الفرد ، وتبيِّن حقوقه ضمن المجموع . وضَمَنُوا حياة
العاجز ، والعاطل ، والعامل ، والصانع ، والفلاَّح.
ـ استحلُّوا استعراض الناس بالسيف ، وقَتْلِهم وأخذ أموالهم ، والشهادة عليهم بالكفر.
ـ زعموا أنّه يجب عليهم أن يبدأوا بقتل من قال بالإمامة ، ممَّن ليس على قولهم ، وخاصة مَن قال بإمامة موسى بن جعفر ووُلْده من بعده.
ـ قسموا المجتمع إلى أربع طبقات ، وهي :
الأولـى :
طبقة الشباب ، بين عمر 15 ـ 30 عاماً ، ويُسمَّون : الأخوان الأبرار الرحماء.
الثـانية :
وتشمل مَن كانوا بين 30 ـ 40 عاماً ، وهم الرؤساء وذوو السياسات ، ويُسمَّون : الأخيار الفضلاء.
الثـالثة :
وتشمل من كانوا بين 40 ـ 50 عاماً من العمر ، وهم أصحاب الأمر والنهي ونصر الدعوة.
الرابعة :
وهي مرتبة من يزيد عمرهم على الخمسين سنة ، وهي أعلى في نظرهم . ويُطلق عليهم : طبقة المريدين ، ثُمّ المعلِّمين ، ثُمّ القادة ، ثُمّ المقرَّبين إلى الله.
ـ قالوا : بأنّ محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيِّين ، الذي حكاه الله في كتابه ، وأنّ الدنيا اثنتا عشرة جزيرة ، في كُلّ جزيرة حجة ، وأنّ الحجج اثنتا عشرة ، ولكلّ داعية يد ، يعنون بذلك أنّ اليد رجل ، له دلائل وبراهين يُقيمها.
ـ حرّموا زيارة القبور وتقبيلها.
ـ إنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) انقطعت عنه الرسالة في حياته ، في اليوم الذي أمر فيه بنصب علي (عليه السّلام) للناس بغدير خم ، فصارت الرسالة في ذلك اليوم في الإمام علي (عليه السّلام) ، وأنّ النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد ذلك كان مأموراً لعلي ، محجوباً به.
أبرز الشخصيَّات :
1 ـ حمدان بن الأشعث ، المعروف بـ : قَرْمَط.
2 ـ عبدان الداعية.
3 ـ أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي ـ كبير القَرَامِطة في البحرين.
4 ـ ميمون القداح.
5 ـ أبو طاهر سليمان بن الحسن الهجري.
6 ـ أبو يعقوب يوسف بن الحسن الجنابي.
7 ـ يحيى بن زكرويه.
8 ـ الحسين بن زكرويه ، صاحب الخال.
9 ـ الحسن بن محمد الأعسم.
10 ـ زكرويه بن مهرويه.
لانتشار ومواقع النفوذ :
ـ انتشرت الفِرقة القَرْمَطيَّة في الكوفة ، و واسط ، والبصرة من العراق . ثُمّ ظهر دُعاتهم في البحرين ، و القطيف ، وعَظُم أمرهم . وأغاروا على نواحي هَجَر ، والإحساء ، والقطيف ، والطائف . وبلغت دعوتهم إلى اليمن ، وتغلَّبوا على سائر مُدُن اليمن ، وساروا إلى بعلبك ، وقتلوا عامة أهلها ، ولم يبق منهم إلاّ اليسير.
ثُمّ ساروا إلى سلمية ، وصالحوهم وأعطوهم الأمان . واستولوا على دمشق عام (260) ، ومنها توجَّهوا إلى مصر ، واجتمع معهم خلق كثير من العرب والإخشيدية . وظهر أمرهم في المغرب وعُمان ، وفي بلاد الديلم.
استطاع أبو حاتم نشر فكر القَرَامِطَة ، وفي نيشابور تولّى الدعوة لهم الشعراني.
أحداث ووقائع :
ـ في سنة 326 هـ فسد حال القَرَامِطَة ، وقتل بعضهم بعضاً . وسبب ذلك أنّه كان رجل منهم يقال له : ابن سنبر ، وهو من خواص أبي سعيد القَرْمَطي والمطَّلعين على سرّه ، وكان له عدو من القَرَامِطَة اسمه : أبو حفص الشريك ، فعمد ابن سنبر إلى رجل من أصبهان ، وقال له: إذا ملكتُ أمر القَرَامِطَة ، أريدُ منك أن تقتل عدوي أبا حفص ، فأجابه إلى ذلك وعاهده عليه . فأطلعه على أسرار أبي سعيد ، وعلامات كان يذكرانها في صاحبهم الذي يدعون إليه ، فحضر عند أولاد أبي سعيد وذكر لهم ذلك ، فقال أبو طاهر : هذا هو الذي يدعوا إليه ، فأطاعوه ودانوا له ، حتى كان يأمر الرجل بقتل أخيه فيقتله ، وكان إذا كره رجلاً يقول له : إنّه مريض ، يعني أنّه قد شكّ في دينه ، ويأمر بقتله.
وبلغ أبا طاهر أنّ الأصبهاني يُريد قتله ؛ ليتفرَّد بالمُلْك ، فقال لإخوته : لقد أخطأنا في هذا الرجل ، وسأكشفُ حاله ، فقال له : إنّ لنا مريضاً فانظروا إليه ليبرأ ، فحضروا وأضجعوا والدته ، وغطَّوها بإزار ، فلمَّا رآها قال : إنّ هذا المريض لا يبرأ فاقتلوه ، فقالوا له : كذبت ، هذه والدتك ، ثُمّ قتلوه بعد أن قتل منهم خلق كثير من عظمائهم ، وشجعانهم . وكان هذا سبب تمسُّكهم بهَجَر ، وترك قصد البلاد.
من ذاكرة التاريخ :
ـ لمّا انتشر القَرَامِطة بسواد الكوفة ، وجّه إليهم المعتضد شبلاً ، غلام أحمد بن محمد الطائي ، وظفر بهم ، وأخذ رئيساً لهم يُعرف بأبي الفوارس ، فسيَّره إلى المعتضد ، فاحضره بين يديه ، وقال له : أخبرني : هل تزعمون أنّ روح الله تعالى ، وأرواح أنبيائه ، تحلّ في أجسادكم فتعصمكم من الزلل ، وتُوفقكم لصالح العمل ؟ فقال له : يا هذا ، إن حلَّت روح الله فينا فما يضرُّك ؟ وإن حلَّت روح إبليس فما ينفعك ؟ فلا تسأل عمَّا لا يعنيك ، وسَلْ عمَّا يخصُّك.
فقال : ما تقول فيما يخصُّني ؟ قال أقول : إنّ رسول الله (صلَّّى الله عليه وآله وسلّم) مات ، وأبوكم العبَّاس حي ، فهل طالب بالخلافة ؟ أم هل بايعه أحد من الصحابة على ذلك ؟ ثُمّ مات أبو بكر ، فاستخلف عمر ، وهو يرى موضع العبَّاس ولم يوصِ إليه ، ثُمّ مات عمر ، وجعلها شورى في ستة أنفس ولم يوصِ إليه ، ولا ادخله فيهم ، فبماذا تستحقُّون أنتم الخلافة ؟ وقد اتفق الصحابة على دفع جدّك عنها . فأمر به المعتضد فعذِّب وخلعت عظامه ، ثُمّ قُطعت يداه ورجلاه ، ثُمّ قُتل.
ـ بعد أن قُتل رئيس القَرَامِطة أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي سنة (301 هـ) ، تولَّى أبنه أبو طاهر سليمان الجنابي أمر القَرَامِطة في البحرين ، فأراد أن يستولي على البصرة ، فغزاها مراراً . وأشدّ غزواته سنة (311 هـ) ، فقد سار إليها في (1800) رجل ، ودخلها وقتل حاميتها ، وأقام بها (17 يوماً) ، وحمل ما قدر عليه من المال والنساء والصبيان ، وعاد إلى هَجَر ، ثُمّ توجَّه إلى طريق الحج ، فقطع الطريق على الحجاج ، ونهب القوافل حتى مات أكثرهم جوعاً وعطشاً ، فكتب إليه المقتدر يطلب منه أن يطلق مَن عنده من الأسرى ، فأطلقهم وطلب منه أن يُولِّيه على البصرة والأهواز ، فلم يجبه المقتدر إلى طلبه ، فسار إلى الكوفة ، وتغلَّب على عسكر الخليفة.
ـ في سنة (339 هـ) أعاد القَرَامِطة الحجر الأسود إلى مكّة ، وقالوا : أخذناه بأمر وأعدناه بأمر ، وكان بجكم قد بذل لهم في ردّه خمسين ألف دينار ، فلم يجيبوه ، وردّوه الآن بغير شيء في ذي القعدة . فلمَّا أرادوا ردّه ، حملوه إلى الكوفة، وعلَّقوه بجامعها ، حتى رآه الناس ، ثُمّ حملوه إلى مكّة . وكانوا أخذوه من ركن البيت الحرام سنة (317 هـ) ، وبقي عندهم (22 سنة).
خلاصة البحث :
ـ القَرَامِطة : حركة سياسية دينية ، تفرَّعت من الفِرقة المباركية ، إحدى شُعَب الإسماعيلية . سُميِّتْ بهذا الاسم نسبة إلى زعيمها حمدان بن الأشعث ، الملقَّب بـ (قَرْمَط) . وتولَّت زمام الأمور في بعض البلدان الإسلامية أكثر من قرن ، تمكَّنت من نشر عقائدها وأفكارها ببعثها الدعاة ، وحَمَل رجالها السيف ؛ للاستيلاء على بلدان عديدة من العالم الإسلامي.
ـ ضُعْفُ الدولة العبَّاسية زمن المعتضد ، وتدهورُ الحالة الاقتصادية والاجتماعية ؛ فَسَحَ المجال أمام أغلب الحركات المناهضة لبني العبَّاس ، وخصوصاً تلك التي ثارت باسم الإمامة والتشيُّع ، حيث استقطبت أغلب المعارضين للظلم والفساد العباسي.
ـ تميَّزت الفِرقة القَرْمَطِيَّة بدقَّة التنظيم ، والسرية التامة ، حتى إنّه خفي اسم قادة الحركة على المقرَّبين إلى رؤساء الفِرقة ، واستبدل أغلب قادتِها أسماءهم خوفاً من بطش العبَّاسيِّين ؛ ولكي يتمكَّنوا من التحرّك بفاعلية أكثر بين المُدُن الإسلامية.
ـ تبنَّت الفِرقة أفكاراً ميَّزتها عن غيرها من الفِرق الإسلامية ، حيث آمنت بإمامة محمد بن إسماعيل بن الإمام الصادق (عليه السّلام) ومهدويَّته ، وادّعوا أنّه حيّ لم يمت . وأنكروا الوحي ، وهبوط الملائكة ، والمعجزة ، وقالوا : إنّ الله بدا له في إمامة جعفر وإسماعيل ، فصيَّرها في محمد بن إسماعيل . وإنّ جميع الأشياء التي فرضها الله تعالى على عباده ، وسنَّها نبيُّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، وأمر بها ، لها ظاهر وباطن . وأقرّوا حصر ممتلكاتهم في بيت المال ، وحددوا حقوق الفرد ضمن المجموع . وزعموا أنّه يجب عليهم أن يبدأوا بقتل مَن قال بالإمامة ممَّن ليس على قولهم ، وغير ذلك من الآراء.
ـ من أبرز شخصيَّاتهم : عبدان الداعية ، وزكرويه بن مهرويه ، وحمدان قَرْمَط ، والحسن بن بهرام الجنابي ، وميمون القدَّاح ، ويحيى بن زكرويه ، والحسين بن زكرويه ، وغيرهم ممَّن تولَّوا قيادة القَرَامِطة في العراق ، وسورية ، والبحرين.
ـ انتشرت آراء الفِرقة القَرْمَطِيَّة في : العراق ، والبحرين ، وسلمية ، ومصر ، والحجاز ، وهَجَر ، واليمن ، والإحساء ، والقطيف ، وامتدّ نفوذهم إلى بلاد الديلم ونيسابور.
ـ دخلوا في حروب كثيرة ، وقادوا الحملات العسكرية على : دمشق ، ومصر ، والكوفة ، والبصرة . كلَّفتهم الجهود العالية ، والتضحيات الجسيمة ، وتنوَّعت نتائجها بين المدّ والجزر في الوجود القَرْمَطي.