الشنتوية وريثة البوذية:
على إثر حمل بعثة كورية تمثال بوذا إلى إمبراطور اليابان، ومجموعة من الحكم البوذية والكلم المأثور، حدث في أعقاب ذلك صدام عنيف بين المحافظين المشهورين بمعارضتهم للبوذية، وبين المجدّدين التقدميين الموالين لها، بزعامة أسرة سوغا الكبيرة. وقد تمت الغلبة للفريق الثاني، فنودي بالبوذية ديانةً رسميةً لليابان، وكان ارتقاء الإمبراطورة سويكو العرش (593ـ629)، وهي من أسرة سوغا، فكانت أول امرأة تجلس فوق عرش اليابان، واتخذت مساعداً لها أحد أمراء سوغا، هو أومايادو سوغا، الذي عُرف منذ ذاك بأسم شوتوكو تايشي، الذي كان من أشهر رجال عصره. وإذ كان بوذياً مخلصاً وغيوراً، فقد أدرك سموّ الثقافة البوذية وتعاليها وتساميها فوق ديانة البلاد البدائية المسماة شنتو، التي استغرقت في الأساطير والخرافات حول مراسيم التطهير والرجس. واعتماداً منه على الخلقية البوذية، أصدر شوتوكو في عام 604 مرسوماً تألف من 17بنداً، واتخذ دستوراً لحكومة ذات سيادة تأخذ النَّاس بالعدل، بعيداً عن كُلّ استبداد. ومن هذا العهد، ارتفعت في البلاد أولى الأديار والمعابد التي تجمع بين المعبد الياباني والهيكل الصيني. ومن أبرز هياكل هذا العهد وأجملها على الإطلاق، هيكل هوريوجي، الذي تأسس عام 607م، والذي أكلت النَّار أحد أفرِزته، في حريق شبّ فيه عام 1949.
وفي هذه المرحلة، بدأت اليابان تقلِّد الصين تقليداً حرفياً، فأخذت عنها النظام الإداري الذي عُمِلَ به في عهد دولة تانغ، كما اقتبست إصلاحاتهم ونظمهم الاقتصادية، دون أن يدركوا جيِّداً أنَّ الشّكل الديمقراطي لهذه السلطة لا يأتلف قطّ مع التقاليد الأرستقراطية الصرفة التي كانت تتألف، في اليابان، من كبار الملاّكين للأرض، فأدّى الأمر في عهد الملك نـازا (707ِـ781)، إلى شيءٍ من الاتفاق، أصبح معـه الإمبراطور (Tenno) حاكماً زمنياً وروحياً، وطنياً، وإلهاً قومياً. وكان يعمل تحت سلطته جهازان خاصان، هما ألـ Shinto الذي لا نرى له مثيلاً أو مرادفاً في الصين، والآخر هو مجلس شورى الدولة، فالأول يهتم بكلّ الأمور الدينية، لا سيّما ما تعلّق منها بالعبادات القديمة في اليابان، بينما الجهاز الثاني يؤلف رأس هرم الإدارة العامّة الذي يبدأ من الوزراء لينتهي بالدوائر المحلية، فالوظائف لا تُعطى لأصحابها، ولا الرتب لحاملها، وفقاً لاستحقاقات خاصّة أو لنجاح يصيبونه في الامتحانات، إنّما هي من حظ أبناء الأسر الكبيرة التي كانت تخرج من الجامعة الإمبراطورية، وأبناء كبار أرباب البلاد الذين ساهموا من قبل في قيادة المملكة وتوجيهها، تسند إليهم وظائف تستمر في بيوتهم بالوراثة، ولما كانوا يتقاضون مرتَّبات ضخمة لقاء هذه المراتب الشرفية التي يحملونها، فقد أصبحوا يشكّلون عبئاً ثقيلاً على خزينة الدولة التي كانت تتغذى من الرسوم المفروضة على المكلّفين من غير النبلاء وعلى العبيد الأرقاء، وقد سببت الضرائب الباهظة خراب الملكية الصغيرة التي فرض على أصحابها من كلا الجنسين، دفع رسوم، منذ بلوغهم السادسة من عمرهم، ولما كانت الأرض لا تُورّث، فقد كانت تعود ملكيتها إلى الدولة عند وفاة صاحبها، كما كانت الدولة تعمد إلى توزيعها من جديد، بعد كُلّ ستّ سنوات؛ فلا يمكن التنازل عنها لأحد أو بيعها من أحد، باستثناء قطع الأرض التي تقوم عليها عمائر ومبان، أو فيها أغراس من شجر اللك.
يشكِّل تاريخٌ اليابان في هذه الفترة التي نستعرض بعض معالمها، سلسلةً متّصلة الحلقات من الخصومات والمواثيق بين رجال الإقطاع على اختلاف فئاتهم، وذلك بتشجيع من السلطة المركزية بتخفيض عدد هذه الإقطاعات، أو إلغاء بعضها أو تكبيلها بأنظمة وقوانين، ولكن بالرغم من كُلّ ذلك، فإنّ هذه العقارات الكبرى ما لبثت أن استحالت تدريجياً إلى إقطاعات فاقت بقوّتها العسكرية، قوّة السلطة المركزية للإمبراطور.
وصعود هذه الإقطاعيات جرّ على الشعب موجةً من التطير والتشاؤم، زاد من حدّتها الاعتقادات والأوهام الشعبية التي راحت تروَّج وتنتشر، منذرةً بأنَّ سنة 1052، ستحمل معها زوال الناموس البوذي.
وما ساهم في الإقلاع عن البوذية، هو حالة الثراء التي أصابت الرهبان البوذيين، الذين استغرقوا في البذخ والجاه، فراحوا يناصبون العداء بعضهم البعض، ويوغرون صدور بعضهم البعض بالدسّ والافتراء. وهذا ما جعل الشعب يبحث عن ديانةٍ جديدةٍ تحمل معها التعزية والسلوان لمن ذهب فريسة التشكك والارتياب، فالتفت إلى بوذا أميدا، فأخذت عبادته تزدهر إذ ذاك وتنتشر. وفي الوقت نفسه، أخذت اليابان تنكفئ على نفسها وتنطوي على ذاتها، ولو بصورة مؤقتة، وقيدت علاقتها بالصين بالأمور التجارية دون سواها، وانصرفت لفتح الجزر الواقعة على مقربةٍ منها إلى الشمال، حتّى إذا ما تـمَّ إخضاعها، في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، عادت اليابان إلى سيرتها من الاتصالات مع الغرب.
الشنتوية عقيدة متأصلة:
وهي الديانة الأكثر قدماً في اليابان، وتشكِّل الحيز الأساس من تراث اليابان، كان السكان الأوائل الذين هاجروا إلى اليابان من مناطق آسيا المجاورة يطلقون عليها اسم (ينبون) أي بلد الشمس، وذلك لاعتقادهم بأنَّ الشمس إنّما تشرق من خلف الجبال المنتشرة على الجزر اليابانية لتنير العالـم كلّه، ولا تزال هذه التسمية معتمدة حتّى يومنا هذا.
والشنتو كلمة صينية الأصل مؤلَّفة من مقطعين: شن وتعني الروح أو إله، وتا وتعني الطريق، فهي، إذاً تعني طريق الإله.
مصادر العقيدة الشنتوية:
إنَّ معتقدات الشنتو يتضمنها كتابان يعود زمن صياغتهما بالشكل المتداول حالياً إلى النصف الأول من القرن الثامن الميلادي، والكتابان هما كوجيكي Kojiki، ونيهونجي Nihongi.
وكوجيكي أي سجلات الآثار القديمة، وقد كتب عام 712م، وكتب بالأصل بأحرف صينية تصوّر بالألفاظ الصوتية للسكان.
أمّا نيهونجي، أي سجلّ الأحداث التاريخيّة لليابان، فقد كتب عام 720م، وإذا كان الأول يتضمَّن أساطير اليابانيين حول خلق العالـم وانتشار المخلوقات وارتباطها والدور الأساس فيها للشمس، فإنَّ الثاني يعرض لتاريخ اليابان منذ القدم حتّى عام 697م، وفيه سعي لإثبات عراقة اليابان، ومكانة الأسرة الإمبراطورية، وهذان الكتابان يعدان من أهم مصادر عقيدة وفكر ديانة الشنتو.
الخلق والانبثاق الوجودي وفق كتاب ألـ (كوجيكي):
الأسطورة تقول: إنَّ أوّل الموجودات كان ولد آلهة في أسماءهم: الإلهة المولى مركز السَّماء المهيب، ثُمَّ بعدها كان وجود إله الإنتاج الأعلى المهيب، وأخيراً كان إله الولادات الإلهية، هذا الثالوث من الآلهة، هو الأول من سلسلة الآلهة، له عندهم صور جسدية، حيثُ صرّحوا أنَّ هؤلاء الآلهة كانوا عازبين وقد حجبوا أجسادهم عن الأنظار، ولـم يبرروا كلامهم وعمّن كان الحجب ما داموا هم أوّل من وجد، وقد نسبوا إلى هذه الآلهة الأمور الأساسية في الخلق والسلطان.
بعدها كان إلهان من الأرض هذه المرّة، هما: الإله الأمير الرضي، والإله المقيم أبداً في السَّماء، وبذلك اكتمل عندهم عقد الآلهة الخمسة السَّماويين الذين يتميّزون عن الآلهة الأخرى التي يقولون بها.
بعدها كان إلهان آخران عازبان ومحجوبان عن الأنظار كالخمسة.
وبعدهما: الإله المقيم أبداً في الأرض، والإله حقل الفيوم الوافرة. وبعد ذلك يأتي دور الآلهة المتزاوجين، وحسب أسطورة ألـ (كوجيكي) يولد إله الطين وزوجته إلهة السيف، وبعدهما الإله الوتد الصلد وزوجته الإلهة الوتد الهائج، ومن ثَمَّ يولد الإله الذكر الهيكل الكبير وزوجته الإلهة الأنثى الهيكل الكبير، ويأتي دور ولادة الإله الهيئة الناضجة وزوجته الإلهة المعشوق، ومن نسلهما الأباطرة، وهما إلهان تبادلا الغواية، ما يجعل فعلهما قريباً مما كان في الجنّة من غوايةٍ ووسوسةٍ، وهذان الإلهان هما أيزاناكي فوكامي وزوجته إيزانامي نوكامي، وإلى هذين الأخيرين أسندت مسألة التكاثر والخلق والتوالد، ومن عملهما كانت الجزر اليابانية حسب الأسطورة.
وكلّ ما في اليابان مولود إلهي: الجزر، الجبال، البحار، مظاهر الطبيعة (السهول، الجبال، النبات، الأشجار)، وكذلك الحكام الأباطرة الذين انحدروا من سلالة أمايتراس، وبعدهم الشعب الياباني عموماً الذين يعدّونه مميّزاً ومتميّزاً على سائر الشعوب والأمم.
وتوالت عمليات الخلق والانبثاق إلى أن جاء دور ولادة العائلة الإمبراطورية، وهي من أنواع الآلهة، والآلهة في اليابان بالآلاف، والولادة الإمبراطورية جاءت من إله الشمس: أمايتراس.
(أمايتراس ـ نو ـ كامي منذ الزمن القديـم ينظر إليه على أنَّه رئيس أصنام نحلة الشنتو Shinto، ومن بقاياه قطع مادية يعتقد في قداستها، لأنَّه يعتقد أنَّها ترجع إلى أصل الصنم الرئيس المقدّم، وهذه القطع المقدّسة عبارة عن مرآة وخنجر وبقايا مسجة.
وتبعاً لهذه القصة، فإنَّ أمايتراس ـ نو ـ كامي أرسل ولده الذي يدعى: (ني ـ نيجي Ni-Nigi) ليحكم بلاد اليابان، ثُمَّ تزوج هذا الابن من ابنة جبل فوجي Fuji، وحفيد هذين الزوجين المسمى جمّو ـ تنّو Jimmu-Tenno نصّب نفسه قيصراً وملكاً ذا سلطان وحكم، فهو القيصر الياباني الأوّل.
وبناءً على ذلك، فمنـزلة الصنم المقدَّس (الشمس) مستمرة أبدية طالما أنّ حفيده قيصر على اليابان. تقوم عقيدة الشنتو في الأغلب على الأساطير، وكلّ شيء عندهم مقدّس، (تربط معبوداتهم بتعدّد آلهة على علاقة بكلّ مظاهر الطبيعة، حيثُ الكلّ مقدس من الكواكب، إلى الأنهار، إلى الأجداد والسلف، إلى الأباطرة والكثير من المظاهر الطبيعية).
وللشمس مكانةٌ خاصَّةٌ عند الشنتو، وتسمى (أمايتراسو) ومنها الضوء، ووفقاً لمعتقداتهم، فإنَّ السلالة الإمبراطورية التي تحكم اليابان منذ آلاف السنين مقدسة، وسبب قداستها أنَّ مؤسسها الأول سليل الشمس المقدسة، وقد وصل إلى الأرض عبر جسر عائم قائم بين السَّماء والأرض، وما يبرر ذلك، أنَّ في معتقدات الشنتو ما مفاده أنَّ الأرض والسَّماء وثيقتا الصلة.
وعندهم مقدّس آخر هو الـ (كامي) Kame، ورغم أنَّ كامي عنصر أساسي في عقيدة الشنتو، إلاَّ أنَّها كلمة يلفُّها الغموض، وأحد فقهاء الشنتوية في القرن الثامن عشر للميلاد، وهو (توري نورينما ) ، صرّح بعجزه عن فهم كلمة (كامي) وعرّفها بصورة عامة، فقال: (جميع الأشياء أيّا كانت التي تستحق التبجيل، وتبعث على الرهبة، لأنَّها فوق المألوف، وكذلك القوى الضائعة التي تملكها تسمى: كامي).
ويقول عبد الفتاح شبانة: (تترجم كلمة (كامي) عادةً إلى كلمة الإله أو الروح، ولكنَّها في فلسفة الشنتو إنّما تعني شيئاً له القداسة، وهو موجود في الحياة اليومية، ويؤثّر في الإنسان، بحيث يبعث فيه مشاعر الاحترام والقداسة أو مشاعر الغموض والانبهار).
وقد أوضح موتوري Motori، وهو من علماء الشنتوية في القرن السابع عشر للميلاد، نزعة اليابانيين إلى إظهار التفوّق، وتبريرهم يقوم على مقولة هي: ما دام الإمبراطور الياباني سليل الآلهة المباشرة، فهذا كافٍ لتكون اليابان متفوّقة على بقية الأمم والشعوب.
وهذه النـزعة ولّدت روح المقاومة عند شعب اليابان، وروح الجدية في العمل لتحقيق إنجازات تثبت هذا التفوق، وقد عبّر عن هذه الحقيقة عبد الفتاح شبانه بقوله: (حدث بعد الاحتلال الأمريكي لليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية أنَّ اليابانيين لـم يستخدموا إطلاقاً كلمة تسليم أو استسلام أو كلمة جيش الاحتلال، لا في الوثائق الرسمية ولا في جرائدهم ومجلاتهم، واستخدم اليابانيون جملة: انتهاء الحرب بدلاً من التسليم، وحملة الجيش الذي عسكر في قاعدة متقدّمة، بدلاً من جيش الاحتلال).
هذه الروح حفزت الياباني على المقاومة، وقد تزامن انبعاث الشنتوية مع ثورة التجديد مع الإمبراطور يحيى (1867ـ1912)، ومعه أضحت الشنتوية وجه العملة الآخر للوطنية اليابانية، والقصر عندهم والمعبد لهما دلالة واحدة، ومع هذه الانطلاقة (أظهروا نفوراً من كُلّ ما هو أجنبي... وعادت الشنتوية ديناً قومياً في المرتبة الأولى).
وكان عندهم من جملة احترام الإمبراطور أن لا تقع عين أحد على عينه، ومن يفعل ذلك يكون آثماً، وكفارة ذنبه الانتحار، وعندما يمرّ موكب الإمبراطور في الشوارع، فالكلّ ينحني والعين مقفلة، أمّا صوته فهو سرّ لا يسمعه إلاَّ الصفوة من رجال البلاط.
العبادة في الشنتوية:
لـم يذهب الشنتو في معتقداتهم إلى الإقرار بإله واحد هو الخالق الواحد للكون، وليس لعقيدة التوحيد مكان عند (الشنتو)، بل هم يؤمنون بتعددية الآلهة والمعبودات التي يقيمون لها المعابد (الهياكل) والأصنام أو التماثيل، وتتلازم عقيدتهم مع موقف أخلاقي حازم لجهة التقديس والطقوس، والطهارة الطقسية، تكون بتمكن الإنسان من إقامة علاقة مع الـ (كامي).
الشنتو لا يؤمنون بحياة أخرى غير الحياة الدنيا، والموت عندهم ينتهي بجسم المتوفى إلى منطقة ملوّثة، أمّا روح الميّت، فقد أطلق سراحها من قيودها المادية لتصبح مرة أخرى جزءاً من قوى تكوين الطبيعة.
والعبادة عندهم تتضمَّن أربعة عناصر، هي:
1 ـ فعل التطهّر هاراي (Harai) بالإضافة إلى الاغتسال، عندما يلوح الكاهن بفرع من شجرة السكاكي أو ورقة منها إلى رأس المتطهر.
2 ـ القربان (شينس Shinse) الذي يكون من الحبوب أو الشراب، وهذه الأيام جرت العادة أن يكون من المال، أو قد يكون رمزياً في صورة غصن من شجرة السكاكي.
3 ـ طقوس الصلاة Norito.
4 ـ الوليمة الرمزية (Neori)، وهي إشارة إلى تناول الطعام مع كامي، وتتبع هذه الطقوس عملية تناول شراب (ميكي) المقدّس، وهو مصنوع من شراب الأرزّ المخمر، ومن المتعبدين من يطلب أداء الرقصة المقدسة للمعبد (كايورا)، وهي على خمس وثلاثين طريقة مستمدة من أساطيرهم القديمة.
والصلاة عندهم تنحصر نصوصها غالباً بالمطالب البشرية، ومن هذه النصوص النص التالي:
(أولاً وقبل كُلّ شيء، هناك في حقلك المقدَّس أيُّها الإله المهيمن
ليت حبة الأرزّ الأخيرة التي سيحصدونها،
ليت الحبة الأخيرة من الأرزّ التي ستحصد،
بحبات العرق المتساقط من سواعدهم،
وتشدّ مع الوحل العالقين بالفخذين،
ليت هذه الحبة تزدهر بفضلك،
وتنفتح سنابل الأرزّ التي تتوق إليها الأيدي الكثيرة،
فتكون أولى الثمرات في الشراب وأعواد النبات).
ديانة الشنتو مبسَّطة ولا تطالب أتباعها بطقوس خاصة ومعقَّدة، كما أنَّها على استعدادٍ للتعايش مع أيِّ مذهب، لذلك باتت الشنتو بالنسبة لليابانيين في موقع التاريخ والتراث والعادات، وطقوسها متوارثة يُمارسها معظمهم على أنَّها حالة من التعبير عن الانتماء للوطن والحضارة.
عند هذا يصحُّ القول: (إنَّ مذهب الشنتو ما هو إلاَّ عاداتٍ اجتماعية يابانية تقليدية ومتوارثة عبر الأجيال... إنَّ الشنتو هي أسلوب حياة يعيشها اليابانيون).
تركز ديانة الشنتو على ثلاثة أمور هي: الشمس ولها صنم اما يتراس، والأسلاف، والعائلة الإمبراطورية، وتقتصر أغلب طقوسهم على زيارات موسمية، وفي ذلك قال ول ديورانت: (لـم تكن ديانة شنتو بحاجة إلى تفصيل مذهبي أو طقوس معقَّدة أو تشريع خلقي، ولـم تكن لها طبقة من الكهنة خاصة بها، كلا، ولا تذهب إلى ما يبعث العزاء في نفوس النّاس من خلود الروح ونعيم الفردوس، فكان كُلّ ما تُطالب به معتنقيها أن يحجوا آناً بعد آنٍ لأسلافهم، وأن يقدّموا لهم ضراعة الخاشعين، ويفعلوا كذلك لإمبراطورهم ولماضي أمتهم).
وديانة الشنتو لا تستخدم الصور والرسوم في معابدها، لكنَّها تعتمد الرموز، وهي كثيرة وأبرزها المرآة، وهي عندهم تشير إلى الارتباط مع إله الشمس (أما يتراس)، حيثُ المرآة هي الجسم العاكس لنور الشمس، وكذلك يستخدمون السيف والسجّة أو العقد المكون من مجموعة من الحبّات أصلها من الجوهر.
تختص كُلّ عشيرة بهيكل معيّن كان سببه ـ كما يبدو ـ ذلك التقديس للأسلاف الموجود في ديانة الشنتو، ويشترك الكونفوشيون الصينيون مع الشنتو في هذا الاعتقاد. لهذا كان من الطبيعي أن تلعب عبادة الأسلاف العائلية ـ العشائرية دوراً فائق الأهمية في الشنتوية، وهناك اعتقاد بأنَّ كُلّ ميّت يتحوّل إلى (كامي) (وهي التسمية العامة التي تشمل كافة الأرواح والآلهة)، ويؤدي ربّ العائلة أو رئيس السلالة الصلوات اليومية كما يقدّم لها القرابين.
أهمّ الهياكل اليابانية التي يحجّ إليها الشنتويون هو هيكل مدينة آيس على المحيط الهادي، ويُعدُّ أهم هياكل الشنتو، وقد شيّد في القرن الثالث الميلادي، ويتألف من هيكل داخلي مخصص لعبادة آلهة الشمس (أما يتراس) وللجد الأول للأسرة الإمبراطورية، ومن هيكل خارجي تـمّ بناؤه في القرن الخامس الميلادي، وهذا أدنى مكانة من الأول، ويخصصونه لعبادة الإلهة (تويوك ميكامي Toyouke Mikami) إلهة الزراعة ودودة القز.
ومن الهياكل المتميّزة عند الشنتو هيكل (تيشا Taisha) في (إزومو Izumo»، وهو يحمل اسم العشيرة (إزومو»، وهناك هياكل عديدة أخرى في أوزومو، ومن معتقدات الشنتو أن الآلهة يجتمعون في شهر أكتوبر مرتين من كُلّ عام في الهياكل الصغيرة، لهذا كانوا يسمونه شهراً بلا آلهة.
الأسرة في الشنتوية:
إنَّ الحياة في الجزر اليابانية بدأت بزواج وتوالد، هذا الزواج الذي يتمّ بين زوجين من الآلهة حسب الأساطير الشنتوية، وهذه العلاقة قامت على أساس المجتمع الذكوري الذي يقدّم الرّجل ولا يقبل تقدّم أو سبق المرأة له.
والمرأة هي الركيزة الأساس في الأسرة، وعلى عاتقها تقوم أمور الأسرة، حتّى شراء المنـزل والمقتنيات، ومن تقاليدهم أنَّها تستلم مرتب زوجها وتعطيه مصروفه الخاص، ولكن ذلك لا يمنعها، وهي تحمل المؤهلات العلمية، من طاعة الزوج، والانحناء له وتنفيذ أوامره، فهو السيِّد المطاع.
وللصبي دورٌ وامتيازاتٌ أكثر من الفتاة في مجتمع اليابان حتّى يومنا هذا، ومن أسباب ذلك ما في معتقداتهم الدينية التي تنصّ على أنَّ تقديس الآباء والأجداد، لا يمكن أن يقوم به إلاَّ الأبناء والأحفاد الذكور.
والمرأة اليابانية تميل للاستقالة من عملها بعد الزواج والإنجاب لتتفرغ لشؤون أسرتها، والرّجل يقدّس عمله ويقضي فيه أوقاتاً إضافية حتّى لو كان ذلك دون مقابل مادّي، وهذا الأمر يكون محلّ رضى المرأة ويعزّز من تقديرها لزوجها، والزوجة التي يعود زوجها إلى المنـزل باكراً من عمله يصيبها الإحباط وخيبة الأمل، والمرأة اليابانية عندها الاستعداد لتحمل أمور كثيرة في بيت الزوجية وتفضل ذلك على الطلاق وترك منـزلها.
وشريعة الشنتو لا تُعارض تعدّد الزوجات، لا، بل تقرّه، وإن كان غير معمول به عندهم هذه الأيام، وتسلّم المرأة اليابانية بالمجتمع الذكوري، ومن ثمَّ بحقِّ الرّجل في تعدّد الزوجات، بينما المرأة لزوجها فقط. ولكنَّ هذا لـم يمنع من احترام الحياة الزوجية أو إعطائها هالة وموقفاً سامياً، حيثُ طقوس الزواج في اليابان لا تزال تعتمد الطقوس الشنتوية المتوارثة، حيثُ يتمّ الزواج في أحد معابد الشنتو.
ويتناول العروسان كأساً من الساكبة ـ المشروب الوطني المصنوع من الأرزّ المخمر، ويباركه الراهب بحضور الأسرتين، ويقوم كُلّ من العروسين بارتشاف قليل من الساكية ثلاث مرات، لأنَّه في ديانة الشنتو رقم ثلاثة يعني الحظ الطيب، وهو رقم محبب للآلهة قد تستجيب للدعوات.
وتتميّز الأسرة اليابانية بتضامنها، حيثُ يتمّ تكريـم الأبوين من قبل الأبناء وإسكانهم في منـزل واحد، أو المشاركة في إعطاء مساعدات مالية، ما أسهم في الاستقرار لحياة الأسرة، وقد شجعت الحكومة هذا الأمر، ونظمت الضرائب، وبنت الوحدات السكنية وما إلى ذلك، ما أسهم في نهضة اليابان بعد كُلّ الذي أصابها في الحرب العالمية الثانية.
لـم يعطِ الدستور الياباني أيَّ امتياز للشنتوية عن غيرها وتركوا الحرية للمشاركة في الأعمال الدينية، أو الاحتفالات وما إلى ذلك، وتمتنع الدولة وأجهزتها إدخال الدين في المناهج الدراسية أو القيام بأي نشاطٍ ديني آخر.
ولكن بالرغم من كُلّ ذلك، فإنَّ الشنتوية تبقى عقيدة متأصلة في اليابان، فالإمبراطور رمز الوحدة، ومحطّ تقديس الأسلاف ورؤية التأله في كُلّ ما في الطبيعة من أمور من ممارسة للطقوس الشنتوية، في الزواج والجنائز، وكلّها جعلت تاريخ اليابان وواقعه لصيقاً بالشنتوية.
وتعايش الشنتوية الديانة البوذية التي كانت الأقدم في اليابان، حتّى غدا 80 % من اليابانيين يزاوجون ما بين البوذية والشنتوية، وتوجد إلى جانب الشنتوية ديانات أخرى كالكونفوشية والمسيحية والإسلام، ولكن ما يلفت هو أنَّ عدد المسيحيين والمسلمين لا يتجاوز المليون نسمة، من أصل سكان اليابان الـ 128 مليوناً، وبذلك يكون اليابانيون على الشنتوية الممزوجة بالبوذية في الغالب، والتي تتوزع على أكثر من مائة مذهب ومدرسة دينية.