التعريف :
ـ هي من التيارات السلوكية الإسلامية، تبتني على أسس أخلاقية واجتماعية، وتعتمد فكرتها على تصفية القلب والتعلق بالمعبود، برزت كطريقة وسلوك في أواخر القرن الثاني الهجري، محورها تربية الروح، ونبذ حطام الدنيا، والاستغراق في الاعتبارات الروحية، وقد نشطت في إطار الإسلام، وتطورت حتى اتصلت بآراء فلسفية.
عوامل الظهور :
ـ من العوامل التي ساعدت بشكل كبير على نشوء التيار الصوفي هي حالة التركيز على الجانب العقلي، لدى معظم الفرق وتفسيرها لكثير من القضايا في إطار دائرة الفلسفة والجدل، مما دفع ذلك إلى عزوف جماعات عن هذا المنحى والتجائهم إلى تحكيم النفس، وكان لابدّ لهم من إضفاء الصبغة الدينية على سلوكهم، وطريقتهم فاخذوا يفسرون الآيات القرآنية ويتأولونها، بما يتفق وأهدافهم ونزعاتهم، وقد وضعوا الأحاديث والروايات التي تبرر هذا النمط من النظر والنهج، ويظهر ذلك جلياً في أراء الصوفية على مختلف نحلهم وطرائقهم.
ـ إنّ الكثيرين ممن دخلوا الإسلام بعد أن اجتاحت الفتوحات الإسلامية الدولتين الرومانية والفارسية كانوا يدينون بمختلف الأديان والمعتقدات بما في ذلك اليهودية، والمسيحية، والبوذية، والمانوية، والزرادشتية، وقد تأثروا كثيراًً بمعتقدات الهنود، والصينين، حتى أصبحت مظاهر حياتهم خليطاً من البوذية والبرهمية والدهرية، وكان من الصعب في مثل هذه الظروف أن ينفذ الدين الجديد إلى نفوسهم وقلوبهم، وتألفه عقولهم بتلك السرعة، بحيث يجتث معها ما توارثوه وألفوه، حتى أصبح جزءاً من حياتهم وكيانهم، وقد تهيأ لهم التغلغل في العواصم الإسلامية، واختلطوا بالعرب الفاتحين، فكان لذلك الأثر البالغ في إحياء الروح التقشفية الصوفية، وانتشارها في البلاد الإسلامية، والاستغراق في الاعتبارات الروحية، نزعة مشتركة بين مختلف المذاهب والأديان، منها الغربي ومنها الشرقي، ومنها الديني ومنها الفلسفي، ونلمس ذلك جلياً في أهل الكتاب، ونعني بهم اليهود والنصارى والمجوس فكتبهم المقدسة .
ـ وهي العهد القديم والعهد الجديد و أوستا، مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس وتهذيبها ومخالفة هواها. ـ نقل الكثير من الكتب الأجنبية وترجمتها إلى العربية، بما تحمل بين طياتها من آراء ومعتقدات من التوراة، والإنجيل، والمانوية، والمزدكية حيث كان لها، التأثير الواضح على آراء الصوفية وتبـنـيهم لها، وبلغ ذلك ذروته في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، ويظهر ذلك جلياً في أدب الشعر الصوفي فقد جاء فيه :
مـواعظ رهـبان وذكر فعالهم | وأخبار صدق عن نفوس كوافر | |
مـواعظ تشفينا فنحن نحوزها | وإن كانت الأنباء من كُلّ كافر | |
مواعظ برّ تورّث النفس عبرة | وتـتركها ولـهاء حول المقابر |
يضاف إلى هذا كله تأثير السلوكية الرهبانية على الحياة في البلدان الإسلامية، بما تحمله من أفكار تدعو إلى ترك الحياة، وتشجع التقشف، والاستهانة بالدنيا فقد ورد في الإنجيل :
( إنّه لأهون على الجمل أن يدخل خرم الإبرة من أن يدخل غني ملكوت السماوات ).
وفي موضع آخر :
( لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون، ولا لأجسامكم فيما تلبسون، انظروا إلى طير السماء فإنها لا تحصد ولا تزرع، ولا تخزّن شيئاً لغدها ومع ذلكم فأبوكم الذي في السماء يقوتها، أفلستم انتم بأفضل منها ؟ ).
ـ وتدعو الصوفية في كثير من برامج إلى محاربة الغرائز، وإماتتها، بالتجويع ولبس الخرق، والمرقعات، والالتجاء إلى الكهوف والغابات، والتنكر لجميع شؤون الحياة، فأصحاب السلوكيات والطرق ـ وإن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الاختلاف في العقائد العامة الراجعة إلى الخلق والإيجاد ـ لكنهم متفقون في الرأي على وجوب ترويض النفس، للحصول على كمال المعرفة وسعادة النشأة. وتبرز سمات التأثير السلوكي على الشخصية الصوفية حينما نلاحظ السلوكية العامة لرجال الرهبانية والمسيحية، وهذا الاشتراك يظهر في ميزات أربع تعدّ القاسم المشترك العملي بين جميع أصحاب تلك العقائد على اختلاف مشاربها وهي :
1 ـ الهدوء
2 ـ الاعتزال
3 ـ الإيحاءات الرياضية الروحية
4 ـ احتقار الأمور المالية وهجرها
ـ يقول العلامة الفيلسوف الكبير الطباطبائي (قدّس سرّه) (وأمّا سائر الفرق المذهبية من الهنود، كالجو كية أصحاب الأنفاس والأوهام، وكأصحاب الروحانيات وأصحاب الحكمة وغيرهم : فلكلّ طائفة منهم رياضات شاقة عملية لا تخلو عن العزلة، وتحريم اللذائذ الشهوانية على النفس، وأما البوذية فبناء مذهبهم على تهذيب النفس، ومخالفة هواها، وتحريم لذائذها عليها للحصول على حقيقة المعرفة، وقد كان هذا هو الطريقة التي سلكها بوذا نفسه في حياته، فالمنقول أنّه كان من أبناء الملوك والرؤساء، فرفض زخارف الحياة، وهجر أريكة العرش، إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه، واعتزل الناس وترك التعلق بمزايا الحياة ،واقبل عن رياضة نفسه، والتفكر في أسرار الخلقة، وخرج إلى الناس ودعاهم إلى ترويض النفس، وتحصيل المعرفة).
ـ تميـَّزت التربية الصوفية الروحية حينما استـندت على جذور عريقة، غاصت بها في تراث الأمم وخرجت بمفاهيم وبرامج تمخضت عن تجربة صعبة، حملت فيها تأريخ الأمم والحضارات، وجاءت تعكس أهمّ ما وصلت إليه الأمم السالفة من تجارب وأساليب في بنائها الإنساني والروحي والديني، وكونها تشترك فيما بينها في الإطار العام، في النظرية الصوفية ونظرتها وتصورها عن الكيان البشري، واعتباره كتلة متلاصقة من الدم والعظام والجلد والعضلات، والنخاع واللحم، والمني والدموع، والغائط والبول، ويهيمن عليه الشوق، والغضب، والوجل ،والشراهة، والوهم، والشهوة ،والجوع والعطش والشيخوخة، والموت والمرض والألم، وقالوا : كيان كهذا لابد من اماتتة لتحيا الروح، وتتصل بخالقها، وتنكشف لها حقائق الأشياء وخفايا الكون، وهذا العمق التاريخي للفكر الصوفي جعله ينفذ بسرعة إلى قلوب الكثيرين، ويتفاعل مع النفوس، بعد أن أدرك ما تحتويه تلك الأنفس وما ترغب به، فالتصوف الإسلامي لم يبق بمعزل عن المؤثرات الخارجية، التي تتناغى مع الاتجاه الصوفي، ولا يمكن إخفاء التأثير الأفلاطوني، والمسيحي، بل والبوذي على التصوّف الإسلامي، وذهب بعض إلى أنّ لباس الصوف هو الآخر نوع تأثر بالادرية، وهم عرفاء النصارى ـ التي كانت تتبنى فكراً مزيجاً من الفلسفات الشرقية والغربية.
النشأة والتطور:
مرّ التصوّف بأدوار مختلفة، جعلت منه نظاماً خاصاً ذا فلسفة ثابتة، ويمكن توزيع تلك الأدوار على ثلاث مراحل : ـ مرحلة الزهد العملي : وهذه المرحلة تمثل ادوار الحضانة للتصوّف، إذ كان التصوّف طريقة في الحياة اتصفت بالرغبة الشديدة في شؤون الدين، والاستهانة بأمور الدنيا، والقيام بالفرائض الدينية على أتمّ وجه للتقرب إلى الله سبحانه.هذه المرحلة من وجهة نظر تحليلية تاريخية مثلت عملة ذات جنبتين، جنبتها الايجابية في تشديدها على الاعتبارات الروحية، والفضائل الخلقية، والقدوة الصالحة التي وجدها الناس في حياة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم) وسلوك المنتجبين من الصحابة، وجنبتها السلبية في الردّة العنيفة التي حدثت في وجه التوسع الاجتماعي، والسلوك المنحرف لبعض الحكام المسلمين.
وهذه الردّة الروحية بدأت على شكل سلوك فردي، لكن سرعان ما تحولت إلى تيار اجتماعي، ثُمّ تبلورت كاتجاه في تعاليم الحسن البصري، وفي مواعظه الزهدية في مسجد البصرة، ولذلك عدّه المتصوفة رئيسهم ومنظرهم الأول.
ـ مرحلة الفلسفة الصوفية : وهي المرحلة الثانية التي بدأ التأثير الخارجي يتجلى فيها متمثلاً بالنزعة الزهدية بشكلها المتطور، ويظهر ذلك في ( رابعة العدوية ) التي كانت السبّاقة إلى طرح فكرة الحبّ الإلهي مكان الخوف، والرهبنة المسيحية، وفكرة الحبّ الإلهي مهدت الطريق لفكرة الاتصال، أو الفناء التي طبعت الزهد بطابع التصوّف الفلسفي.
ومن هنا أخذ المذهب الصوفي يتجه في مجريين : حمل الأول التأثير اليوناني، وانطبع الثاني بالطابع الهندي.
يرشح الأول من مؤلفات ( الحارث بن أسد المحاسبي) التي تتجلى في فكرة التماس معرفة الحقّ، بالاتصال الاشراقي التي عمل بها ذو النون المصري (المتوفى سنة 245 هـ)، ويبرز الثاني في فكرة الفناء الروحي التي حملها إلى التصوّف أبو يزيد البسطامي (المتوفَّى سنة 261)، وهو فارسي الأصل اقتبس فكرة الفناء (النرقانا) عن زهاد الهند، ثُمّ جاء الجنيد البغدادي (المتوفي سنة 297 هـ)، فنسّق مبادئ التصوّف، وربطها بالأصول القرآنية، وأفرغها في نظام روحي فلسفي، قوامه الزهد والتقشف، وركنه ممارسة الرياضة الروحية.
ـ مرحلة المبادئ المتطرفة : اتسمت هذه المرحلة بتطور الأفكار الصوفية التي ظهرت في كلماتهم على شكل رموز و تعابير خاصة، اضطرتهم إلى إضفاء جانب السرية، لعدم اطلاع (العوام) عليها، فـ (الحلاّج)، نجم لامع في دنيا الصوفية وتطورت عنده فكرة الفناء حتى زعم إنّ روحه تتحد في حال نشوته بالذات الإلهية، مما دعاه إلى كشف بعض الأسرار، وتصريحه بأنّه الحقّ والحقّ هو، وكان يقول : ( سبحاني ما أعظم شأني ) الأمر الذي أودى به إلى القتل مصلوباً، ثُمّ جاء دور أبي حامد الغزالي، الذي حاول أن يحرر التصوّف ويهذبه، مما لحق به ويرده إلى الرصانة، ويؤيد أصوله بالشرع، ويحببه إلى القلوب، لكن السمة التي وسمه بها الحلاج عادت إليه في صورة عقيدة الحلول وفكرة وحدة الوجود.
وإذا بلغ التصوّف الذروة في مراحله السابقة فإنّه قد أخذ في الانحطاط في هذه المرحلة حتى اقترن بالشعوذة والسحر، وادعاء الكرامات، بل تحوّل في نهاية المطاف إلى مذهب خرافي.
ففي القرن السابع الهجري نزل في العراق، والشرق العربي بشكل عام، متصوفون من الهنود والمشعوذين من الحكماء الإلهيين فأدخلوا على حلقات الصوفية صنوفاً من المخدرات الصناعية، والطرق الغريبة كالرقص المشاهد، حتى يومنا هذا في تكايا الدراويش، الذي يصاحبه أعمال شعبذة وأكل للزجاج والنار، ووخز البدن بإبر الحديد المحمي.
ـ وتفرّعت الصوفية إلى العديد من المذاهب التي تبنت كُلّ منها اتجاها فلسفيا وعقائديا ميزها عن غيرها من المذاهب نستعرضها كما يلي :
المذهب الاشراقي : وهو أوّل مذهب غلبت عليه الناحية الفلسفية، والإشراق الروحي، أساس كُلّ تصوّف ظهر داعياً إلى الزهد والتقشف، وأوّل من ( ادّعاه ثوبان بن إبراهيم ذو النون المصري ).
المذهب الحلولي : وهو ثاني المذاهب الصوفية، ومفاده : حلول العنصر الإلهي في العنصر البشري، وبه نادى (الحلاّج)..
مذهب وحدة الوجود : وهو ثالث مذاهب الصوفية، والقائل به ( محيي الدين بن عربي )، ( والسهر وردي )، ( وابن الفارض )، و(الحلاّج) أيضاً.
مذهب الفناء في الله : وهو من المذاهب التي تأمر بالمزيد من العبادات، وإهمال الجسم، ولبس الخشن من الثياب، وكان يحمل لواءه ( أبو يزيد البسطامي ).
مذهب حبّ الله : ويدعو هذا المذهب إلى الحضور الذهني والتعلق الإلهي، والمنظر الأول لهذا المذهب ( رابعة العدوية )، و( معروف الكرخي ).
ـ وابتكر رجال المتصوفة طرقاً عملية أخرى اتبعت مناهجَ وأساليب مختلفة في تربية مريديها، ويمكن أن نقول إنّ طرق الصوفية كثيرة جداً يصعب حصرها إذا ما لاحظنا جانب السرية الذي يكتنف بعضها، واهمّ تلك الطرق هي :
الطريقة القادرية : مؤسسها الشيخ عبد القادر الكيلاني، المعروف بأبي محمد محيـي الدين عبد القادر بن موسى بن عبد الله الكيلاني، ويعرف جده بالاسم الفارسي ( حنكي دوست ) عرف بالكيلاني نسبة إلى مسقط رأسه ( كيلان ) بفارس وذلك سنة 471 هـ، وفي سنة 488 هـ انتقل إلى بغداد أثناء خلافة ( المستظهر بالله العباسي ).
الطريقة الرفاعية : مؤسسها احمد بن علي بن أحمد الرفاعي، ولد سنة 512 هـ، بقرية حسني بإقليم البطائح ما بين البصرة و واسط، وقيل أن الرفاعي نسبة إلى رفاعة احد البطون القبلية، كان خاله شيخاً للطريقة الصوفية، وقد أخذ عنه وأصبح المسئول عن الرفاعية، توفي ببلدة ( أمّ عبيدة ) سنة 578هـ، ودفن فيها، وله مسجد معروف في القاهرة باسمه.
الطريقة الميلوية : مؤسسها جلال الدين محمد بن محمد بن الحسين الملقب بالبلخي، نسبة إلى مسقط رأسه، ولد سنة 604 هـ، وانتقل إلى نيسابور ثُمّ إلى بغداد، واستقر بمدينة قونية التركية، إبان حكم الأمير علاء الدين السلجوقي، وهذه الطريقة شائعة بين الأتراك، وكانوا عند الأذكار يجتمعون في حلقات فيرقصون بلباسهم الخاص، ويستخدمون الطبول الإيقاعية، ولا يزال لهذه الفرقة وجود في تركية، ودمشق، وإيران.
وهناك طُرق صوفية معروفة عند متصوفة الهنود أهمها :
ـ الطريقة الجشتية : للشيخ معين الدين حسن السنجري، المتوفَّى سنة 627 هـ، ومدارها على الذكر الجلي، بحفظ الأنفاس، وربط القلب بالشيخ، وصفاء المحبة والتعظيم، والدخول في الأربعينات، مع دوام الصيام، والقيام، وتقليل الكلام، والطعام والمنام، والمواظبة على الوضوء.
ـ طريقة النقشبندية : للشيخ بهاء الدين محمد نقشبند البخاري، ومدارها على تصحيح العقائد ودوام العبادة، ودوام الحضور مع الحقّ سبحانه.
ـ طريقة السهر وردية : للشيخ شهاب الدين عمر السهر وردي، ومدارها على توزيع الأوقات على ما هو اللائق بالناس من الصيام والقيام والمواظبة على الأدعية المأثورة والأوراد..
ـ طريقة الكبروية : للشيخ نجم الدين أبي الجناب احمد بن عمر بن محمد الخوارزمي المعروف بالكبرى.
ـ طريقة المدارية : للشيخ بديع الدين المدار المكنبوري، ومدارها على التماشي من مخالفة ظاهر الشريعة، وإنشاء أسرار التوحيد في الدرجة القصوى.
ـ طريقة القلندرية : للشيخ قطب الدين العمري الجونبوري المشهور بـ (بنادل).
ـ طريقة الشطارية : للشيخ عبد الله الشطار الخراساني.
ـ طريقة العيدروسية : تنسب للسيد عفيف الدين العيدروس الكبير، ومدارها إحياء العلوم للغزالي.
الأفكار والمعتقدات :
ـ الحلول والاتحاد : وهو إنّ من هذّب نفسه في الطاعة، وصبر عن اللذات والشهوات، يرتقي إلى مقام المقربين، ثُمّ لا يزال يرتقي ويصفو في درجات المصافاة حتى يصفو من البشرية، فإذا لم يبق فيه من البشرية حظّ حلّ فيه روح الله، الذي حلّ في عيسى بن مريم، ولم يُردْ حينئذ شيئا إلاّ كان كما أراد وكان جميع فعله، فعل الله تعالى.
ونقل إنّ أبا يزيد البسطامي دخل مدينة فتبعه منها خلق كثير فالتفت إليهم وقال : (أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني) فقال الناس : لقد جنّ أبو يزيد وتركوه.
ـ وحدة الوجود : وهو إنّ الله هو الروح لكلّ الموجودات، والموجودات جسم لتلك الروح، وجميع تلك الأجسام تشير إلى الروح التي هي الله وهو كُلّ شيء، وأنّه تعالى متحد وموجود في كُلّ الصور، والاختلاف بين الناس في المعبود، إنما هو في الشكل لا في الجوهر، وقال بعضهم في تحديد حقيقة الوجود : إنّ الوجود حقيقة هو ذات الحقّ تعالى، وليس لتلك الأعيان والماهيات الظاهرة، وجود حقيقي ذاتي لها والذي نشاهد منها هو انصباغها بنور الوجود الحقّ على نحو من أنحاء الظهور، وطور من أطوار التجلي الخفي، فهو الظاهر من جميع المظاهر المشهور في كُلّ التعينات بحسب استعدادها، ومن ذلك قول ابن عربي :
لـولاه لـما كـنا | ولا نـحن ما كانا | |
فـان قلنا بانا هو | يـكون الحقّ إيانا | |
فيظهرنا ليظهر هو | سـراراً ثُمّ إعلانا |
ـ الحقيقة المحمدية : وهي أوّل المخلوقات، ومبدأ خلق العالم، وهي النور الذي خلقه الله قبل كُلّ شيء وخلق منه كُلّ شيء، أو هي العقل الإلهي الذي تجلى الحقّ فيه لنفسه، فكان هذا التجلي بمنـزلة أول مرحلة من مراحل التنزل الإلهي في صور الوجود، وهي الصورة الكاملة للإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه جميع حقائق الوجود. ومن الشعر الصوفي في الحقيقة المحمدية الأبيات التالية :
ذات لها في نفسها وجهان | للسفل وجه والعلا للثاني | |
ولكلّ وجه في العبادة والادا | ذات وأوصاف وفعل بيان | |
إن قلت واحدة صدقت وان تقل | اثنان حقّ أنّه اثنان |
ـ إنّ الولاية لا صلة لها بأي شأن من شؤون العالم ولذلك لم يكن لها زمان، دون زمان وأنّ النبوة إحدى مراتب الولاية مقضي عليها بالانقطاع لأنها من الصفات التي تزول عمن يتصفون بها، أما الولاية فلا زوال لها، والعلم الباطن أعلى وأتمّ من العلم الذي يتوصل إليه النبيّ بواسطة الوحي، وأنّ أي رسول من حيث هو ولي أتمّ وأكمل منه، من حيث هو رسول أو نبي. وأنّ الولي يطلق على العبد إذا اكتملت فيه حقا صفات الولاية.
واخصّ صفات الولاية الإسلامية هي الفناء في الله والتحقق بالوحدة الذاتية بين الحق والخلق، فإذا وصل العبد إلى هذا المقام فقد وصل إلى غاية الطريق الصوفي وحقّ له أن يسمي نفسه لا باسم الولي وحده، بل بأيّ اسم من الأسماء الإلهية، وإذا فني الصوفي عن صفاته البشرية وتخلق بصفات الإلوهية سموا ذلك تخلقاً، وإذا فني عن ذاته وتحقق بوحدته مع الحقّ سموا ذلك تحققاًَ وإذا بقي بعد الفناء وعرف أن لا وجود له ولا قوام إلاّ بالله وحصل في مقام القرب الدائم منه سموا ذلك متحلقا.
ـ للأولياء ثلاث مراتب : القطب الأول هو القطب الواحد وهي روح محمد وتعد أكمل مظاهره. والثاني قطب العالم الإنساني، وهي أنّ الأرض لا تخلو من رسول حيّ بجسمه. والقطب الثالث هو قطب الغوث وهذا القطب لا يكون منه في الزمان إلاّ واحد وهو قد يكون ظاهر الحكم ويحوز الخلافة الظاهرة، وسمي بالغوث من حيث إغاثة العوالم بمادته ورتبته الخاصة. ـ للقطب إمامان وهما بمنزلة الوزيرين احدهما عبد الربّ والآخر عبد الملك، ويخلفه احدهما عند موته. كما أنّ الأوتاد أربعة في كُلّ زمان يحفظ الله بأحدها المشرقّ وبالثاني المغربّ وبالثالث الجنوبّ وبالرابع الشمال، وأنّ الأبدال سبعة يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، وهم عارفون بما أودع الله سبحانه وتعالى الكواكب السيارة من أمور وأسرار في حركاتها ونزولها في المنازل المقدرة.
ـ الأولياء من رجال الغيب خمسة أقسام :
القسم الأول : هم المقتفون آثار الأولياء والغائبون عن عالم الأكوان في الغيب المسمى بمستوى الرحمن.
القسم الثاني : أهل المعاني الذين يصور الولي بصورهم فهم أرواح وكأنهم أشباح سافروا عن عالم الشهود، وهؤلاء أوتاد الأرض القائمون لله بالسنة والفرض.
والقسم الثالث : ملائكة الإلهام والبواعث، يطرقون الأولياء ويكلمون الأصفياء، لا يبرزون إلى عالم الإحساس ولا يتعرفون لعوام الناس.
القسم الرابع : رجال المناجاة الذين يخبرون بالمغيبات وينبئون عن الأسرار.
والقسم الخامس : أهل الحظوة في العالم ومن أجناس بني آدم، يظهرون للناس ويغيبون، ويكلمونهم فيجيبون وأكثر ما يسكنون الجبال والقفار والاودية وأطراف الأنهار.
ـ إنّ الله تعالى لما تسمى بالملك ورتب العالم، ترتيب المماليك فجعل الخواص من عباده جلساءه، ثُمّ جعل حاجباً من الكروبين أعطاه علمه في خلقه وسماه نوناً، ثُمّ عيّن من الملائكة ملكاً آخر، دونه في الرتبة سماه القلم واتخذه كاتباً، وعلمه من علمه، ما شاء في خلقه بواسطة نون.
ـ إمكان رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، وأنّه يراه المؤمنون دون الكافرين لأنّ ذلك كرامة من الله تعالى ورؤيته تعالى، جائزة عقلاً واجبة سمعاً، ولا يمكن رؤيته في الدنيا بالأبصار ولا بالقلوب.
ـ إنّ الله خلق أفعال العباد جميعها خيرها وشرّها وأنّ كُلّ ما يفعلونه فبقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته، ولولا ذلك لم يكونوا عبيداً حيث قال الله تعالى:(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) ، وفي آية أخرى، قال الله تعالى :(مِن شَرِّ مَا خَلَقَ) .
ـ إنّ الدين على قسمين : شريعة وحقيقة. فأهلّ الشريعة عندهم أهل الظاهر العوام من الناس الذين يعتمدون على النصوص الشرعية، ومنهم فقهاء المذاهب وعامة فقهاء الشرع ويسمون بعلماء الرسوم. وأمّا أهل الباطن فهم أهل الحقيقة والطريقة وهم الخاصة من الناس الذين يعتمدون على تأويل النصوص الشرعية والتأويل، هو صرف النصّ إلى معنى لا يحتمله إلاّ عن طريق الأحلام واستفتاء القلوب.
أبرز الشخصيات :
1 ـ محمد بن علي بن أحمد المعروف بـ (محيـي الدين بن عربي) الملقب بالشيخ الكبير.
2 ـ محمد بن محمد بن أحمد (أبو حامد الغزالي الطوسي).
3 ـ الحسين بن منصور (أبو مغيث الحلاج).
4 ـ أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي.
5 ـ الحارث المحاسبي.
6 ـ أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي.
7 ـ ثوبان بن إبراهيم (ذو النون المصري) أبو الفيض.
8 ـ بشر بن الحرث الحافي أبو نصر.
9 ـ أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي.
10 ـ أبو الحسن سري بن المغلس السقطي.
11 ـ عبد الحق بن إبراهيم بن محمد ـ المشهور بـ ـ ابن دارة ـ والملقب بـ (قطب الدين).
12 ـ رابعة العدوية.
الانتشار ومواقع النفوذ :
ـ انتشرت الفرقة الصوفية في خراسان وأصفهان من بلاد إيران وفي بغداد ـ وهي أكبر معاقل التصوّف ـ والبصرة والكوفة من العراق، ونشأت أغلب الطرق الصوفية في بلاد المغرب العربي، ومنه انتقلت إلى مصر والسودان، وبلغت آراء ومعتقدات الصوفية وطرقهم شبة القارة الهندية والباكستان، ولا تزال لحدّ الآن تلقى الاتباع والمريدين، ويمارس معتنقوها أعمالهم وشعائرهم في مراكزهم الخاصة لأداء مراسمهم وطقوسهم.
وقائع وأحداث :
ـ قيل لأبي يزيد البسطامي : لا نراك تشتغل بكسب فمن أين يأتيك معاشك ؟ فقال : مولاي يرزق الكلب والخنزير أتراه لا يرزق أبا يزيد.
ـ إنّ بعض الصوفية دخلوا على الجنيد وقالوا له : أين نطلب الرزق ؟ فقال : إن علمتم أين هو فاطلبوه، فقالوا : نسأل الله تعالى ؟ فقال : إن علمتم أنّه ينساكم فذكَّروه، فقالوا، أندخل البيت ونقفله علينا ونتوكل ؟ فقال : التجربة مع الله شكّ، فقالوا : فما الحيلة ؟ قال : الحيلة في ترك الحيلة.
ـ ومن الأحداث المهمة والظريفة ما جرى للحسين بن منصور الحلاج وهو من كبار الصوفية على ما نقله شيخ الطائفة الطوسي (ره) حيث قال : لما أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلاج ويظهر فضيحته ويخزيه وقع له إنّ أبا سهل بن إسماعيل بن علي النوبختي ـ رضي الله عنه ـ ممن تجوز عليه مخرقته وتتمّ عليه حيلته فوجه إليه يستدعيه، وظنّ إنّ أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله، وقدّر أن يستجرّه إليه فيتمخرق به، ويتسوف بانقياده على غيره فيستتب له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحله من العلم والأدب أيضاً عندهم، ويقول له في مراسلته إياه : (إلى وكيل صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه) ـ وبهذا أولاً كان يستجرّ الجهال ثُمّ يعلو منه إلى غيره ـ وقد أمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك ولا ترتاب بهذا الأمر) فأرسل إليه أبو سهل ـ رضي الله عنه ـ يقول له : إني أسالك أمراً يسيراً يخفّ مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو إنّي رجل أحبّ الجواري وأصبو إليهن ولي منهن عدة أتحظاهن والشيب يبعدني عنهن، واحتاج أن أخضبه في كُلّ جمعة، وأتحمل منه مشقة شديدة لأستر عنهن ذلك، وإلاّ انكشف أمري عندهن، فصار القرب بعداً والوصال هجراً، وأريد أن تغنيني عن الخضاب، وتكفيني مؤونـته ، وتجعل لحيتي سوداء فاني طوع يديك، وصائر إليك، وقائل وداع إلى مذهبك، مع مالي في ذلك من البصيرة، و لك من المعونة)، فلما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم أنّه قد أخطأ في مراسلته، وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جواباً ولم يرسل إليه رسولاً وصيره أبو سهل ـ رضي الله عنه ـ إحدوثة وضحكة، ويطنز به عند كُلّ أحد، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سبباً لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه.
من ذاكرة التاريخ :
ـ يحكي الغزالي في باب معاقبة النفس إنّ أبا مسلم الخولاني قد علق سوطاً في جدار بيته يخوف به نفسه، فإذا كلت نفسه تناول سوطه وضرب به ساقه ! ويقول : أنت أولى بالضرب من دابتي ! ثُمّ يقول : أيظن أصحاب (محمد) أن يستأثروا به دوننا ؟ كلا والله لنزاحمنهم عليه زحاماً، حتى يعلموا إنهم خلفوا وراءهم رجالا ! ثُمّ يستأنف ضرب نفسه !!
ـ ويحكي الغزالي أيضاً أنّ صفوان بن سليم كان قد تعقدت ساقاه من طول القيام، وكان إذا جاء الشتاء اضطجع على السطح ليضرب به البرد ! وإذا جاء الصيف اضطجع داخل البيت ليجد الحرّ فلا ينام !!.
ـ اجمع علماء بغداد على قتل الحسين بن منصور المشهور بالحلاّج، ووضعت القيود في يديه وحمل إلى السجن، وأمر المقتدر بالله بتسليمه إلى صاحب الشرطة ليضربه ألف سوط فان مات، وإلاّ يضربه ألف سوط أخرى، ثُمّ يضرب عنقه. فسلمه الوزير للشرطي وقال له : إن لم يمت فاقطع يديه ورجليه وحزّ رأسه واحرق جثته ولا تقبل خدعه فتسلمه الشرطي وأخرجه إلى باب الطاق يُجر في قيوده، فاجتمع عليه خلق عظيم وضربه ألف سوط فلم يتأوه، ثُمّ قطع أطرافه، وحزّ رأسه، واحرق جثته، ونصب رأسه على الجسر وذلك في سنة 309 هـ.
خلاصة البحث :
ـ الصوفية هي إحدى المذاهب الإسلامية الكبرى، تبنت طرقاً ورياضات روحية في بداية ظهورها أواخر القرن الثاني الهجري، وطرحت عقائد ميزتها عن غيرها من الفرق الإسلامية، كالقول بوحدة الوجود، والحقيقة المحمدية، والحلول وتأويل الآيات القرآنية طبقاً لما تفرزه المكاشفات والإلهامات الشخصية.
ـ أثرت عوامل عديدة في إبراز الآراء الصوفية وفتحت المجال أمام أئمة الصوفية حيث الاحتدام الفكري العقائدي والتركيز على التفسير العقلي والفلسفي والاعتماد بشكل متميز على التحليل العقلي والنظري، مما مهد السبيل وفتح الآفاق أمام التيار الصوفي في سدّ الفراغ الروحي، ووضعت الرياضات النفسية التي لم تلتفت إليها بقية الفرق الإسلامية، فجاءت الصوفية بأسلوب عليه صبغة الزهد، ولباس التقوى، وسمة الإيمان، واستهوت قلوب الكثير من ضعفاء الإيمان، والمتحجرين فصوروا للجهلاء إنّ الدين رفض الدنيا، وفسخ للارتباط بالمجتمع، وهجر الناس، والاشتغال بذكر، الأوراد والأفكار.
ـ ومن العوامل دخول التيارات المناوئة للرسالة الإسلامية كالنصرانية، واليهودية، والمجوسية والبوذية، وتأثيرها المتقابل على المجتمع الإسلامي، وخصوصا خلال الفتوحات الإسلامية التي عمت الحضارتين الرومانية والفارسية، ودخول الأعداد الغفيرة من الديانات الأخرى إلى الإسلام الفاتح، ولم تكن الفرصة كافية كي يتجاوزوا مرحلة التغيير الفكري، والعقائدي حسبما يريده ويقرره الدين الجديد المتمثل بالإسلام، فخلطوا بين ما توارثوه من آبائهم وبين أسس ومعتقدات الدين الإسلامي، وكانت النتيجة ظهور عقائد شائبة، وسلوكيات معوجّة، تتنافى مع جوهر العقيدة الإسلامية الأصلية وروحها.
استندت حركة التصوّف على عدّة محاور وركّزت فيها على مجموعة من المراتب في إعداد أتباعها وهي:
1 ـ مرحلة الزهد العملي
2 ـ مرحلة الفلسفة الصوفية
3 ـ مرحلة المبادئ المتطرفة
وكان أبرز ما طرحته الصوفية من معتقدات وأفكار هي :
1 ـ الحلول والاتحاد .
2 ـ وحدة الوجود وهو إنّ الوجود حقيقة، هو ذات الله وانه تعالى موجود في كُلّ العصور.
3 ـ الحقيقة المحمدية وهي أوّل مرحلة من مراحل التنزل الإلهي في صور الوجود.
4 ـ إنّ للأولياء ثلاث مراتب.
5 ـ وإنّ الأولياء من رجال الغيب ستة أقسام.
من أبرز الشخصيات التي وجهت التحرّك الصوفي على مرّ القرون المتعددة ووضعت النظريات ورسمت أبعاد السلوك الصوفي هي :
1 ـ محمد بن علي المعروف بـ (محيـي الدين بن عربي).
2 ـ محمد بن محمد أبو حامد الغزالي.
3 ـ أبو يزيد طيفور بن عيسى البسطامي، وغيرهم.