ما ورد في حوار طويل مع أحد الزنادقة يشتمل على متنوعات كثيرة من الأسئلة التعجيزية ، فقد سأله زنديق : كيف يعبد الله الخلق ولم يروه ؟
قال الإمام : رأته القلوب بنور الإيمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب ، وإحكام التأليف ، ثم الرسل وآياتها ، والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء ما رأت من عظمته دون رؤيته .
قال الزنديق : أليس هو القادر أن يظهر حتى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين ؟
قال الإمام : ليس للمحال جواب .
يقول العلامة المظفر في كتابه الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، الصفحة ۱۹۱ : إنما الرؤية تثبت للأجسام ، وإذا لم يكن تعالى جسما استحالت رؤيته ، والمحال غير مقدور ، لا من جهة النقص في القدرة بل النقص في المقدور.
وسأله الزنديق : من أي شئ خلق الأشياء ؟
قال الإمام : لا من شئ .
قال الزنديق : كيف يجئ من لا شئ شئ ؟
قال الإمام : إن الأشياء لا تخلو إما أن تكون خلقت من شئ أو من غير شئ ، فإن كانت خلقت من شئ كان معه ، فإن ذلك الشئ قديم ، والقدم يكون حديثا ، ولا يتغير . . . إلى آخر المناظرة المذكورة في الكافي .
والذي أراد الإمام إثباته من خلال عملية الحصر في هذه الموجودات التي نشاهدها لا بد وأن تكون مسبوقة بالعدم.
وبعد أن جرى الحوار في منوعات من القضايا والمواضيع إلى أن قال الزنديق : فأخبرني عن الله ، أله شريك في ملكه ، أو مضاد في تدبيره ؟
قال الإمام : لا .
قال الزنديق : فما هذا الفساد في العالم ؟ من سباع ضارية وهوام مخوفة وخلق كثير مشوهة ودود وبعوض وحيات ، وزعمت أنه لا يخلق شيئا إلا لعلة لأنه لا يعبث ؟
قال الإمام : ألست تزعم أن العقارب تنفع من وجع المثانة والحصاة ومن يبول على الفراش ، وأن أفضل الترياق ما عولج من لحوم الأفاعي ، فإن لحومها إذا أكلها المجذوم بشب نفعه ، وتزعم أن الدود الأحمر الذي يصاب تحت الأرض نافع للآكلة ؟
قال الزنديق : نعم .
قال الإمام : فأما البعوض والبق فبعض سببه أنه جعله بعض أرزاق الطير ، وأهان به جبارا تمرد على الله وتجبر وأنكر ربوبيته ، فسلط الله عليه أضعف خلقه ، ليريه قدرته وعظمته وهي البعوض ، فدخل في منخره حتى وصلت إلى دماغه فقتلته ، واعلم أنا لو وقفنا على كل شئ خلقه الله تعالى لم خلقه ؟ ولأي شئ أنشأه ؟ لكنا قد ساويناه في علمه ، وعلمنا كل ما يعلم ، واستغنينا عنه وكنا وهو في العلم سواء .
ومن جملة ما طرحه الزنديق من الأسئلة ، قال : أخبرني أيها الحكيم ، ما بال السماء لا ينزل منها إلى الأرض أحد ولا يصعد إليها من الأرض بشر ، ولا طريق إليها ولا مسلك ، فلو نظر العباد في كل دهر مرة من يصعد إليها وينزل لكان ذلك أثبت للربوبية ، وأنفى للشك وأقوى لليقين ، وأجدر أن يعلم العباد أن هناك مدبرا ، إليه يصعد الصاعد ومن عنده يهبط الهابط .
قال الإمام : إن كل ما ترى في الأرض من التدبير إنما هو ينزل من السماء ومنها يظهر ، أما ترى الشمس منها تطلع وهي نور النهار وفيها قوام الدنيا ولو حبست حار من عليها وهلك ، والقمر منها يطلع وهو نور الليل ، وبه يعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام ، ولو حبس لحار من عليها وفسد التدبير ، وفي النجوم التي تهتدي بها في ظلمات البر والبحر ، ومن السماء ينزل الغيث الذي فيه حياة كل شئ من الزرع والنبات والأنعام وكل الخلق ، لو حبس عنهم لما عاشوا ، والريح لو حبست إياه لفسدت الأشياء جميعا وتغيرت ، ثم الغيم والرعد والبرق والصواعق كل ذلك إنما هو دليل على أن هناك مدبرا يدبر كل شئ ومن عنده ينزل ، وقد كلم الله موسى وناجاه ، ورفع عيسى بن مريم ، والملائكة تنزل من عنده ، غير أنك لا تؤمن بما لم تره بعينك ، وفيما تراه بعينك كفاية .