قال الزنديق : فما تقول في الملكين هاروت وماروت ؟ وما يقول الناس بأنهما يعلمان الناس السحر ؟
قال ( عليه السلام ) : إنهما موضع ابتلاء وموقع فتنة ، تسبيحهما : اليوم لو فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا وكذا ، ولو يعالج بكذا وكذا لكان كذا ، أصناف السحر ، فيتعلمون منهما ما يخرج عنهما ، فيقولان لهم : إنما نحن فتنة فلا تأخذوا عنا ما يضركم ولا ينفعكم .
قال الزنديق : أفيقدر الساحر أن يجعل الإنسان بسحره في صورة الكلب أو الحمار أو غير ذلك ؟
قال ( عليه السلام ) : هو أعجز من ذلك ، وأضعف من أن يغير خلق الله ، إن من أبطل ما ركبه الله وصوره وغيره فهو شريك الله في خلقه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، لو قدر الساحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهرم والآفة والأمراض ، ولنفى البياض عن رأسه والفقر عن ساحته ، وإن من أكبر السحر النميمة ، يفرق بها بين المتحابين ، ويجلب العداوة على المتصافيين ، ويسفك بها الدماء ، ويهدم بها الدور ، ويكشف بها الستور ، والنمام أشر من وطئ الأرض بقدم ، فأقرب أقاويل السحر من الصواب أنه بمنزلة الطب ، إن الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النساء ، فجاء الطبيب فعالجه بغير ذلك العلاج ، فابرئ .
قال الزنديق : فما بال ولد آدم فيهم شريف ووضيع ؟
قال ( عليه السلام ) : الشريف المطيع ، والوضيع العاصي .
قال الزنديق : أليس فيهم فاضل ومفضول ؟
قال ( عليه السلام ) : إنما يتفاضلون بالتقوى .
قال الزنديق : فتقول إن ولد آدم كلهم سواء في الأصل لا يتفاضلون إلا بالتقوى ؟
قال ( عليه السلام ) : نعم ، إني وجدت أصل الخلق التراب ، والأب آدم والأم حواء ، خلقهم إله واحد ، وهم عبيده ، إن الله عز وجل اختار من ولد آدم أناسا طهر ميلادهم ، وطيب أبدانهم ، وحفظهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، أخرج منهم الأنبياء والرسل ، فهم أزكى فروع آدم ، فعل ذلك لأمر استحقوه من الله عز وجل ، ولكن علم الله منهم – حين ذرأهم – أنهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئا ، فهؤلاء بالطاعة نالوا من الله الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده ، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب ، وسائر الناس سواء ، ألا من اتقى الله أكرمه ، ومن أطاعه أحبه ، ومن أحبه لم يعذبه بالنار ! !
قال الزنديق : فأخبرني عن الله عز وجل كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحدين وكان على ذلك قادرا ؟
قال ( عليه السلام ) : لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب ، لأن الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم يكن جنة ولا نار ، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته واحتج عليهم برسله وقطع عذرهم بكتبه ، ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون ويستوجبون بطاعتهم له الثواب وبمعصيتهم إياه العذاب .
قال الزنديق : فالعمل الصالح من العبد هو فعله ، والعمل الشر من العبد هو فعله ؟
قال ( عليه السلام ) : العمل الصالح من العبد بفعله والله به أمره ، والعمل الشر من العبد بفعله والله عنه نهاه . قال الزنديق : أليس فعله بالآلة التي ركبها فيه ؟
قال ( عليه السلام ) : نعم . ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر على الشر الذي نهاه عنه .
قال الزنديق : فإلى العبد من الأمر شئ ؟
قال ( عليه السلام ) : ما نهاه الله عن شئ إلا وقد علم أنه يطيق تركه ، ولا أمره بشئ إلا وقد علم أنه يستطيع فعله ، لأنه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون .
قال الزنديق : فمن خلقه الله كافرا ، أيستطيع الإيمان ، وله عليه بتركه الإيمان حجة ؟
قال ( عليه السلام ) : إن الله خلق خلقه جميعا مسلمين ، أمرهم ونهاهم ، والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد ، ولم يخلق الله العبد حين خلقه كافرا ، إنه إنما كفر من بعد أن بلغ وقتا لزمته الحجة من الله ، فعرض عليه الحق فجحده ، فبإنكاره الحق صار كافرا ( ۱ ) .
قال الزنديق : أفيجوز أن يقدر على العبد الشر ، ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير أن يعلمه ، ويعذبه عليه ؟
قال ( عليه السلام ) : إنه لا يليق بعدل الله ورأفته أن يقدر على العبد الشر ويريده منه ، ثم يأمره بما يعلم أنه لا يستطيع أخذه ، والإنزاع عما لا يقدر على تركه ، ثم يعذبه على أمره الذي علم أنه لا يستطيع أخذه .
قال الزنديق : بماذا استحق الذين أغناهم وأوسع عليهم من رزقه الغناء والسعة ، وبماذا استحق الفقير التقتير والتضييق ؟
قال ( عليه السلام ) : اختبر الأغنياء بما أعطاهم لينظر كيف شكرهم ، والفقراء بما منعهم لينظر كيف صبرهم . ووجه آخر : أنه عجل لقوم في حياتهم ، ولقوم أخر ليوم حاجتهم إليه .
ووجه آخر : فإنه علم احتمال كل قوم فأعطاهم على قدر احتمالهم ، ولو كان الخلق كلهم أغنياء لخربت الدنيا وفسد التدبير ، وصار أهلها إلى الفناء ولكن جعل بعضهم لبعض عونا ، وجعل أسباب أرزاقهم في ضروب الأعمال وأنواع الصناعات ، وذلك أدوم في البقاء وأصح في التدبير ، ثم اختبر الأغنياء بالاستعطاف على الفقراء ، كل ذلك لطف ورحمة من الحكيم الذي لا يعاب تدبيره .
قال الزنديق : فما استحق الطفل الصغير ما يصيبه من الأوجاع والأمراض بلا ذنب عمله ، ولا جرم سلف منه ؟
قال ( عليه السلام ) : إن المرض على وجوه شتى : مرض بلوى ، ومرض عقوبة ، ومرض جعل علة للفناء ، وأنت تزعم أن ذلك عن أغذية ودية ، وأشربة وبية (۲) ، أو من علة كانت بأمه ، وتزعم أن من أحسن السياسة لبدنه ، وأجمل النظر في أحوال نفسه ، وعرف الضار مما يأكل من النافع لم يمرض ، وتميل في قولك إلى من يزعم أنه لا يكون المرض والموت إلا من المطعم والمشرب ! قد مات أرسطاطاليس معلم الأطباء وإفلاطون رئيس الحكماء ، وجالينوس شاخ ودق بصره وما دفع الموت حين نزل بساحته ، ولم يألوا حفظ أنفسهم والنظر لما يوافقها ، كم مريضا قد زاده المعالج سقما ، وكم من طبيب عالم وبصير بالأدواء (۳) والأدوية ماهر مات ، وعاش الجاهل بالطب بعده زمانا ، فلا ذاك نفعه علمه بطبه عند انقطاع مدته وحضور أجله ، ولا هذا ضره الجهل بالطب مع بقاء المدة وتأخر الأجل .
ثم قال ( عليه السلام ) : إن أكثر الأطباء قالوا : إن علم الطب لم تعرفه الأنبياء ، فما نصنع على قياس قولهم بعلم زعموا ليس تعرفه الأنبياء الذين كانوا حجج الله على خلقه ، وأمناءه في أرضه ، وخزان علمه ، وورثة حكمته ، والأدلاء عليه ، والدعاة إلى طاعته ؟
ثم إني وجدت أن أكثرهم يتنكب في مذهبه سبل الأنبياء ، ويكذب الكتب المنزلة عليهم من الله تبارك وتعالى ، فهذا الذي أزهدني في طلبه وحامليه .
قال الزنديق : فكيف تزهد في قوم وأنت مؤدبهم وكبيرهم ؟
قال ( عليه السلام ) : إني رأيت الرجل الماهر في طبه إذا سألته لم يقف على حدود نفسه ، وتأليف بدنه ، وتركيب أعضائه ، ومجرى الأغذية في جوارحه ، ومخرج نفسه ، وحركة لسانه ، ومستقر كلامه ، ونور بصره ، وانتشار ذكره ، واختلاف شهواته ، وانسكاب عبراته ، ومجمع سمعه ، وموضع عقله ، ومسكن روحه ، ومخرج عطسته ، وهيج غمومه ، وأسباب سروره ، وعلة ما حدث فيه من بكم وصمم وغير ذلك ، لم يكن عندهم في ذلك أكثر من أقاويل استحسنوها ، وعلل فيما بينهم جوزوها .
قال الزنديق : فأخبرني هل يعاب شئ من خلق الله وتدبيره ؟
قال ( عليه السلام ) : لا .
قال الزنديق : فإن الله خلق خلقه غرلا (۴) ، أذلك منه حكمة أم عبث ؟
قال ( عليه السلام ) : بل منه حكمة .
قال الزنديق : غيرتم خلق الله ، وجعلتم فعلكم في قطع الغلفة (۵) أصوب مما خلق الله لها ، وعبتم الأغلف والله خلقه ، ومدحتم الختان وهو فعلكم ، أم تقولون إن ذلك من الله كان خطأ غير حكمة ؟ !
قال ( عليه السلام ) : ذلك من الله حكمة وصواب ، غير أنه سن ذلك وأوجبه على خلقه ، كما أن المولود إذا خرج من بطن أمه وجدنا سرته متصلة بسرة أمه ، كذلك خلقها الحكيم فأمر العباد بقطعها ، وفي تركها فساد بين للمولود والأم ، وكذلك أظفار الإنسان : أمر إذا طالت أن تقلم ، وكان قادرا يوم دبر خلق الإنسان أن يخلقها خلقة لا تطول ، وكذلك الشعر في الشارب والرأس يطول فيجز ، وكذلك الثيران خلقها الله فحولة وإخصاؤها أوفق ، وليس في ذلك عيب في تقدير الله عز وجل .
قال الزنديق : ألست تقول : يقول الله تعالى : * ( ادعوني أستجب لكم ) * (۶) وقد نرى المضطر يدعوه فلا يجاب له ، والمظلوم يستنصره على عدوه فلا ينصره ؟
قال ( عليه السلام ) : ويحك ! ما يدعوه أحد إلا استجاب له ، أما الظالم : فدعاؤه مردود إلى أن يتوب إليه ، وأما المحق : فإنه إذا دعاه استجاب له ، وصرف عنه البلاء من حيث لا يعلمه ، أو ادخر له ثوابا جزيلا ليوم حاجته إليه ، وإن لم يكن الأمر الذي سأل العبد خيرا له إن أعطاه ، أمسك عنه ، والمؤمن العارف بالله ربما عز عليه أن يدعوه فيما لا يدري أصواب ذلك أم خطأ ، وقد يسأل العبد ربه هلاك من لم تنقطع مدته أو يسأل المطر وقتا ولعله أوان لا يصلح فيه المطر ، لأنه أعرف بتدبير ما خلق من خلقه ، وأشباه ذلك كثيرة ، فافهم هذا .
قال الزنديق : أخبرني أيها الحكيم ، ما بال السماء لا ينزل منها إلى الأرض أحد ، ولا يصعد من الأرض إليها بشر ، ولا طريق إليها ولا مسلك ، فلو نظر العباد في كل دهر مرة من يصعد إليها وينزل ، لكان ذلك أثبت في الربوبية ، وأنفى للشك وأقوى لليقين ، وأجدر أن يعلم العباد أن هناك مدبرا إليه يصعد الصاعد ، ومن عنده يهبط الهابط ؟ !
قال ( عليه السلام ) : إن كل ما ترى في الأرض من التدبير إنما هو ينزل من السماء ، ومنها يظهر ، أما ترى الشمس منها تطلع وهي نور النهار وفيها قوام الدنيا ، ولو حبست حار من عليها وهلك ، والقمر منها يطلع وهو نور الليل ، وبه يعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام ، ولو حبس لحار من عليها وفسد التدبير ؟ وفي السماء النجوم التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، ومن السماء ينزل الغيث الذي فيه حياة كل شئ من الزرع والنبات والأنعام ، وكل الخلق لو حبس عنهم لما عاشوا ، والريح لو حبست لفسدت الأشياء جميعا وتغيرت ، ثم الغيم والرعد والبرق والصواعق ، كل ذلك إنما هو دليل على أن هناك مدبرا يدبر كل شئ ومن عنده ينزل ، وقد كلم الله موسى وناجاه ، ورفع الله عيسى بن مريم ، والملائكة تنزل من عنده ، غير أنك لا تؤمن بما لم تره بعينك ، وفيما تراه بعينك كفاية إن تفهم وتعقل .
قال الزنديق : فلو أن الله رد إلينا من الأموات في كل مائة عام واحدا لنسأله عمن مضى منا ، إلى ما صاروا وكيف حالهم ، وماذا لقوا بعد الموت ، وأي شئ صنع بهم ، لعمل الناس على اليقين ، واضمحل الشك وذهب الغل عن القلوب .
قال ( عليه السلام ) : إن هذه مقالة من أنكر الرسل وكذبهم ، ولم يصدق بما جاءوا به من عند الله ، إذ أخبروا وقالوا : إن الله أخبر في كتابه عز وجل على لسان أنبيائه حال من مات منا ، أفيكون أحد أصدق من الله قولا ومن رسله . وقد رجع إلى الدنيا مما مات خلق كثير ، منهم : أصحاب الكهف ، أماتهم الله ثلاثمائة عام وتسعة ، ثم بعثهم في زمان قوم أنكروا البعث ليقطع حجتهم وليريهم قدرته وليعلموا أن البعث حق .
وأمات الله ( أرميا ) النبي ( عليه السلام ) الذي نظر إلى خراب بيت المقدس وما حوله حين غزاهم بخت نصر وقال : * ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ) * ثم أحياه ونظر إلى أعضائه كيف تلتئم ، وكيف تلبس اللحم ، وإلى مفاصله وعروقه كيف توصل ، فلما استوى قاعدا قال : * ( أعلم أن الله على كل شئ قدير ) * . وأحيا الله قوما خرجوا عن أوطانهم هاربين من الطاعون لا يحصى عددهم ، وأماتهم الله دهرا طويلا حتى بليت عظامهم وتقطعت أوصالهم وصاروا ترابا ، بعث الله – في وقت أحب أن يرى خلقه قدرته – نبيا يقال له : ” حزقيل ” فدعاهم فاجتمعت أبدانهم ، ورجعت فيهم أرواحهم ، وقاموا كهيئة يوم ماتوا ، لا يفقدون من أعدادهم رجلا ، فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا .
وإن الله أمات قوما خرجوا مع موسى ( عليه السلام ) حين توجه إلى الله فقالوا : * ( أرنا الله جهرة ) * ، فأماتهم الله ثم أحياهم .
قال الزنديق : فأخبرني عمن قال بتناسخ الأرواح ، من أي شئ قالوا ذلك ، وبأي حجة قاموا على مذاهبهم ؟
قال ( عليه السلام ) : إن أصحاب التناسخ قد خلفوا وراءهم منهاج الدين ، وزينوا لأنفسهم الضلالات ، وأمرجوا أنفسهم (۷) في الشهوات وزعموا أن السماء خاوية ما فيها شئ مما يوصف ، وأن مدبر هذا العالم في صورة المخلوقين ، بحجة من روى أن الله عز وجل خلق آدم على صورته ، وأنه لا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا نشور ، والقيامة عندهم خروج الروح من قالبه وولوجه في قالب آخر ، فإن كان محسنا في القالب الأول أعيد في قالب أفضل منه حسنا في أعلى درجة من الدنيا ، وإن كان مسيئا أو غير عارف صار في الدواب المتعبة في الدنيا ، أو هوام مشوهة الخلقة وليس عليهم صوم ولا صلاة ، ولا شئ من العبادة أكثر من معرفة من تجب عليهم معرفته ، وكل شئ من شهوات الدنيا مباح لهم : من فروج النساء وغير ذلك من الأخوات والبنات والخالات وذوات البعولة.
وكذلك الميتة والخمر والدم ، فاستقبح مقالتهم كل الفرق ، ولعنهم كل الأمم ، فلما سئلوا الحجة زاغوا وحادوا ، فكذب مقالتهم التوراة ، ولعنهم الفرقان ، وزعموا مع ذلك أن إلههم ينتقل من قالب إلى قالب ، وأن الأرواح الأزلية هي التي كانت في آدم ، ثم هلم جرا تجري إلى يومنا هذا في واحد بعد آخر ، فإذا كان الخالق في صورة المخلوق فبما يستدل على أن أحدهما خالق صاحبه ؟ !
وقالوا : إن الملائكة من ولد آدم كل من صار في أعلى درجة من دينهم خرج من منزلة الامتحان والتصفية فهو ملك ، فطورا تخالهم نصارى في أشياء ، وطورا دهرية يقولون : إن الأشياء على غير الحقيقة ، فقد كان يجب عليهم أن لا يأكلوا شيئا من اللحمان ، لأن الذرات عندهم كلها من ولد آدم حولوا من صورهم ، فلا يجوز أكل لحوم القربات .
قال الزنديق : ومن زعم أن الله لم يزل ومعه طينة مؤذية ، فلم يستطع التفصي منها (۸) إلا بامتزاجه بها ودخوله فيها ، فمن تلك الطينة خلق الأشياء ! !
قال ( عليه السلام ) : سبحان الله تعالى ! ! ما أعجز إلها يوصف بالقدرة ، لا يستطيع التفصي من الطينة ! إن كانت الطينة حية أزلية ، فكانا إلهين قديمين فامتزجا ودبرا العالم من أنفسهم ، فإن كان ذلك كذلك ، فمن أين جاء الموت والفناء ؟ وإن كانت الطينة ميتة فلا بقاء للميت مع الأزلي القديم ، والميت لا يجئ منه حي .
وهذه مقالة الديصانية ، أشد الزنادقة قولا وأمهنهم مثلا ، نظروا في كتب قد صنفها أوائلهم ، وحبروها بألفاظ مزخرفة من غير أصل ثابت ، ولا حجة توجب إثبات ما ادعوا ، كل ذلك خلافا على الله وعلى رسله بما جاءوا عن الله . فأما من زعم أن الأبدان ظلمة ، والأرواح نور ، وأن النور لا يعمل الشر ، والظلمة لا تعمل الخير ، فلا يجب عليهم أن يلوموا أحدا على معصية ولا ركوب حرمة ولا إتيان فاحشة ، وإن ذلك عن الظلمة غير مستنكر ، لأن ذلك فعلها ولا له أن يدعو ربا ، ولا يتضرع إليه ، لأن النور الرب ، والرب لا يتضرع إلى نفسه ولا يستعبد بغيره ، ولا لأحد من أهل هذه المقالة أن يقول : أحسنت يا محسن ، أو : أسأت ، لأن الإساءة من فعل الظلمة وذلك فعلها ، والإحسان من النور ، ولا يقول النور لنفسه أحسنت يا محسن ، وليس هناك ثالث ، وكانت الظلمة على قياس قولهم ، أحكم فعلا ، وأتقن تدبيرا ، وأعز أركانا من النور ، لأن الأبدان محكمة ، فمن صور هذا الخلق صورة واحدة على نعوت مختلفة ؟ وكل شئ يرى ظاهرا من الزهر والأشجار والثمار والطير والدواب يجب أن يكون إلها ، ثم حبست النور في حبسها والدولة لها ، وأما ما ادعوا بأن العاقبة سوف تكون للنور ، فدعوى ، وينبغي على قياس قولهم أن لا يكون للنور فعل ، لأنه أسير ، وليس له سلطان ، فلا فعل له ولا تدبير ، وإن كان له مع الظلمة تدبير ، فما هو بأسير بل هو مطلق عزيز ، فإن لم يكن كذلك وكان أسير الظلمة ، فإنه يظهر في هذا العالم إحسان وجامع فساد وشر ، فهذا يدل على أن الظلمة تحسن الخير وتفعله ، وكما تحسن الشر وتفعله ، فإن قالوا محال ذلك ، فلا نور يثبت ولا ظلمة ، وبطلت دعواهم ، ورجع الأمر إلى أن الله واحد وما سواه باطل ، فهذه مقالة ماني الزنديق وأصحابه .
وأما من قال : النور والظلمة بينهما حكم ، فلا بد من أن يكون أكبر الثلاثة الحكم ، لأنه لا يحتاج إلى الحاكم إلا مغلوب أو جاهل أو مظلوم ، وهذه مقالة المانوية ، والحكاية عنهم تطول .
قال الزنديق : فما قصة ماني ؟
قال ( عليه السلام ) : متفحص أخذ بعض المجوسية فشابها ببعض النصرانية ، فأخطأ الملتين ولم يصب مذهبا واحدا منهما ، وزعم أن العالم دبر من إلهين ، نور وظلمة ، وأن النور في حصار من الظلمة على ما حكينا منه ، فكذبته النصارى ، وقبلته المجوس .
قال الزنديق : فأخبرني عن المجوس أفبعث الله إليهم نبيا ؟ فإني أجد لهم كتبا محكمة ومواعظ بليغة ، وأمثالا شافية ، يقرون بالثواب والعقاب ، ولهم شرائع يعملون بها .
قال ( عليه السلام ) : ما من أمة إلا خلا فيها نذير ، وقد بعث إليهم نبي بكتاب من عند الله ، فأنكروه وجحدوا كتابه .
قال الزنديق : ومن هو ؟ فإن الناس يزعمون أنه خالد بن سنان .
قال ( عليه السلام ) : إن خالدا كان عربيا بدويا ، ما كان نبيا ، وإنما ذلك شئ يقوله الناس .
قال الزنديق : أفزردشت ؟
قال ( عليه السلام ) : إن زردشت أتاهم بزمزمة ، وادعى النبوة ، فآمن منهم قوم وجحده قوم ، فأخرجوه فأكلته السباع في برية من الأرض .
قال الزنديق : فأخبرني عن المجوس كانوا أقرب إلى الصواب في دهرهم ، أم العرب ؟
قال ( عليه السلام ) : العرب في الجاهلية كانت أقرب إلى الدين الحنيفي من المجوس ، وذلك أن المجوس كفرت بكل الأنبياء وجحدت كتبهم ، وأنكرت براهينهم ولم تأخذ بشئ من سنتهم وآثارهم ، وإن كيخسرو ملك المجوس في الدهر الأول قتل ثلاثمائة نبي ، وكانت المجوس لا تغتسل من الجنابة ، والعرب كانت تغتسل ، والاغتسال من خالص شرايع الحنيفية ، وكانت المجوس لا تختن وهو من سنن الأنبياء ، وأول من فعل ذلك إبراهيم خليل الله ، وكانت المجوس لا تغسل موتاها ولا تكفنها ، وكانت العرب تفعل ذلك ، وكانت المجوس ترمي الموتى في الصحارى والنواويس والعرب تواريها في قبورها وتلحدها ، وكذلك السنة على الرسل ، إن أول من حفر له قبر آدم أبو البشر ، والحد له لحد ، وكانت المجوس تأتي الأمهات وتنكح البنات والأخوات ، وحرمت ذلك العرب ، وأنكرت المجوس بيت الله الحرام وسمته بيت الشيطان ، والعرب كانت تحجه وتعظمه ، وتقول : بيت ربنا ، وتقر بالتوراة والإنجيل ، وتسأل أهل الكتب وتأخذ ، وكانت العرب في كل الأسباب أقرب إلى دين الحنيفية من المجوس .
قال الزنديق : فإنهم احتجوا بإتيان الأخوات أنها سنة من آدم .
قال ( عليه السلام ) : فما حجتهم في إتيان البنات والأمهات وقد حرم ذلك آدم ، وكذلك نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وسائر الأنبياء ، وكل ما جاء عن الله عز وجل .
قال الزنديق : ولم حرم الله الخمر ولا لذة أفضل منها ؟
قال ( عليه السلام ) : حرمها لأنها أم الخبائث ، ورأس كل شر ، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبه ، ولا يعرف ربه ، ولا يترك معصية إلا ركبها ، ولا حرمة إلا انتهكها ، ولا رحم ماسة إلا قطعها ، ولا فاحشة إلا أتاها ، والسكران زمامه بيد الشيطان ، إن أمره أن يسجد للشيطان سجد ، وينقاد حيث ما قاده .
قال الزنديق : فلم حرم الدم المسفوح ؟
قال ( عليه السلام ) : لأنه يورث القساوة ، ويسلب الفؤاد رحمته ، ويعفن البدن ، ويغير اللون ، وأكثر ما يصيب الإنسان الجذام يكون من أكل الدم .
قال الزنديق : فأكل الغدد ؟
قال ( عليه السلام ) : يورث الجذام .
قال الزنديق : فالميتة لم حرمها ؟
قال ( عليه السلام ) : فرقا بينها وبين ما يذكى ويذكر اسم الله عليه ، والميتة قد جمد فيها الدم وتراجع إلى بدنها ، فلحمها ثقيل غير مرئ لأنها يؤكل لحمها بدمها .
قال الزنديق : فالسمك ميتة ؟
قال ( عليه السلام ) : إن السمك ذكاته إخراجه حيا من الماء ، ثم يترك حتى يموت من ذات نفسه ، وذلك أنه ليس له دم ، وكذلك الجراد .
قال الزنديق : فلم حرم الزنا ؟
قال ( عليه السلام ) : لما فيه من الفساد وذهاب المواريث وانقطاع الأنساب ، لا تعلم المرأة في الزنا من أحبلها ، ولا المولود يعلم من أبوه ، ولا أرحام موصولة ، ولا قرابة معروفة .
قال الزنديق : فلم حرم اللواط ؟
قال ( عليه السلام ) : من أجل أنه لو كان إتيان الغلام حلالا لاستغنى الرجال من النساء ، وكان فيه قطع النسل ، وتعطيل الفروج ، وكان في إجازة ذلك فساد كثير .
قال الزنديق : فلم حرم إتيان البهيمة ؟
قال ( عليه السلام ) : كره أن يضيع الرجل ماءه ويأتي غير شكله ، ولو أباح ذلك لربط كل رجل أتانا (۹) يركب ظهرها ويغشى فرجها ، وكان يكون في ذلك فساد كثير فأباح ظهورها وحرم عليهم فروجها ، وخلق للرجال النساء ليأنسوا بهن ويسكنوا إليهن ، ويكن مواضع لشهواتهم وأمهات أولادهم .
قال الزنديق : فما علة الغسل من الجنابة ، وإن ما أتى حلالا وليس في الحلال تدنيس ؟
قال ( عليه السلام ) : إن الجنابة بمنزلة الحيض ، وذلك أن النطفة دم لم يستحكم ، ولا يكون الجماع إلا بحركة شديدة وشهوة عالية ، فإذا فرغ تنفس البدن ووجد الرجل من نفسه رائحة كريهة ، فوجب الغسل لذلك ، وغسل الجنابة مع ذلك أمانة ائتمن الله عليها عبيده ليختبرهم بها .
قال الزنديق : أيها الحكيم ، فما تقول في من زعم أن هذا التدبير الذي يظهر في العالم تدبير النجوم السبعة ؟
قال ( عليه السلام ) : يحتاجون إلى دليل ، أن هذا العالم الأكبر والعالم الأصغر من تدبير النجوم التي تسبح في الفلك ، وتدور حيث دارت متعبة لا تفتر ، وسائرة لا تقف .
ثم قال : وإن لكل نجم منها موكل مدبر ، فهي بمنزلة العبيد المأمورين المنهيين ، فلو كانت قديمة أزلية لم تتغير من حال إلى حال .
قال الزنديق : فمن قال بالطبائع ؟
قال ( عليه السلام ) : القدرية ، فذلك قول من لم يملك البقاء ولا صرف الحوادث ، وغيرته الأيام والليالي ، لا يرد الهرم ، ولا يدفع الأجل ، ما يدري ما يصنع به .
قال الزنديق : فأخبرني عمن يزعم أن الخلق لم يزل يتناسلون ويتوالدون ويذهب قرن ويجئ قرن وتفنيهم الأمراض والأعراض وصنوف الآفات ، ويخبرك الآخر عن الأول ، وينبئك الخلف عن السلف ، والقرون عن القرون ، إنهم وجدوا الخلق على هذا الوصف بمنزلة الشجر والنبات ، في كل دهر يخرج منه حكيم عليم بمصلحة الناس ، بصير بتأليف الكلام ، ويصنف كتابا قد حبره بفطنته ، وحسنه بحكمته ، قد جعله حاجزا بين الناس ، يأمرهم بالخير ويحثهم عليه ، وينهاهم عن السوء والفساد ويزجرهم عنه ، لئلا يتهارشوا ، ولا يقتل بعضهم بعضا ؟
قال ( عليه السلام ) : ويحك ! إن من خرج من بطن أمه أمس ، ويرحل عن الدنيا غدا ، لا علم له بما كان قبله ولا ما يكون بعده ، ثم إنه لا يخلو الإنسان من أن يكون خلق نفسه أو خلقه غيره ، أو لم يزل موجودا ، فما ليس بشئ ليس يقدر أن يخلق شيئا وهو ليس بشئ ، وكذلك ما لم يكن فيكون شيئا ، يسأل فلا يعلم كيف كان ابتداؤه ، ولو كان الإنسان أزليا لم تحدث فيه الحوادث ، لأن الأزلي لا تغيره الأيام ، ولا يأتي عليه الفناء ، مع أنا لم نجد بناء من غير بان ، ولا أثرا من غير مؤثر ، ولا تأليفا من غير مؤلف ، فمن زعم أن أباه خلقه ، قيل : فمن خلق أباه ؟ ولو أن الأب هو الذي خلق ابنه لخلقه على شهوته ، وصوره على محبته لملك حياته ، ولجاز فيه حكمه ، ولكنه إن مرض فلم ينفعه ، وإن مات فعجز عن رده ، إن من استطاع أن يخلق خلقا وينفخ فيه روحا حتى يمشي على رجليه سويا ، يقدر أن يدفع عنه الفساد .
قال الزنديق : فما تقول في علم النجوم ؟
قال ( عليه السلام ) : هو علم قلت منافعه ، وكثرت مضراته ، لأنه لا يدفع به المقدور ، ولا يتقى به المحذور ، إن المنجم بالبلاء لم ينجه التحرز من القضاء ، إن أخبر هو بخير لم يستطع تعجيله ، وإن حدث به سوء لم يمكنه صرفه ، والمنجم يضاد الله في علمه ، بزعمه أن يرد قضاء الله عن خلقه .
قال الزنديق : فالرسول أفضل أم الملك المرسل إليه ؟
قال ( عليه السلام ) : بل الرسول أفضل .
قال الزنديق : فما علة الملائكة الموكلين بعباده ، يكتبون عليهم ولهم ، والله عالم السر وما هو أخفى ؟
قال ( عليه السلام ) : استعبدهم بذلك وجعلهم شهودا على خلقه ، ليكون العباد لملازمتهم إياهم أشد على طاعة الله مواظبة ، وعن معصيته أشد انقباضا ، وكم من عبد يهم بمعصيته فذكر مكانهما فارعوى وكف ، فيقول ربي يراني ، وحفظتي علي بذلك تشهد ، وإن الله برأفته ولطفه أيضا وكلهم بعباده ، يذبون عنهم مردة الشيطان وهوام الأرض ، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله إلى أن يجئ أمر الله .
قال الزنديق : فخلق الخلق للرحمة أم للعذاب ؟
قال ( عليه السلام ) : خلقهم للرحمة ، وكان في علمه قبل خلقه إياهم أن قوما منهم يصيرون إلى عذابه بأعمالهم الردية وجحدهم به .
قال الزنديق : يعذب من أنكر فاستوجب عذابه بإنكاره ، فبم يعذب من وجده وعرفه ؟
قال ( عليه السلام ) : يعذب المنكر لإلهيته عذاب الأبد ، ويعذب المقر به عذاب عقوبة لمعصيته إياه فيما فرض عليه ، ثم يخرج ، ولا يظلم ربك أحدا .
قال الزنديق : فبين الكفر والإيمان منزلة ؟
قال ( عليه السلام ) : لا .
قال الزنديق : فما الإيمان ؟ وما الكفر ؟
قال ( عليه السلام ) : الإيمان : أن يصدق الله فيما غاب عنه من عظمة الله ، كتصديقه بما شاهد من ذلك وعاين . والكفر : الجحود .
قال الزنديق : فما الشرك ؟ وما الشك ؟
قال ( عليه السلام ) : الشرك هو أن يضم إلى الواحد الذي ليس كمثله شئ آخر . والشك : ما لم يعتقد قلبه شيئا .
قال الزنديق : أفيكون العالم جاهلا ؟
قال ( عليه السلام ) : عالم بما يعلم ، وجاهل بما يجهل .
قال الزنديق : فما السعادة ؟ وما الشقاوة ؟
قال ( عليه السلام ) : السعادة : سبب الخير ، تمسك به السعيد فيجره إلى النجاة ، والشقاوة : سبب خذلان ، تمسك به الشقي فيجره إلى الهلكة ، وكل بعلم الله .
قال الزنديق : أخبرني عن السراج إذا انطفأ ، أين يذهب نوره ؟
قال ( عليه السلام ) : يذهب فلا يعود .
قال الزنديق : فما أنكرت أن يكون الإنسان مثل ذلك ، إذا مات وفارق الروح البدن لم يرجع إليه أبدا ، كما لا يرجع ضوء السراج إليه أبدا إذا انطفأ ؟
قال ( عليه السلام ) : لم تصب القياس ، إن النار في الأجسام كامنة ، والأجسام قائمة بأعيانها كالحجر والحديد ، فإذا ضرب أحدهما بالآخر سقطت من بينهما نار ، تقتبس منها سراج له ضوء ، فالنار ثابت في أجسامها والضوء ذاهب . والروح : جسم رقيق قد البس قالبا كثيفا ، وليس بمنزلة السراج الذي ذكرت ، إن الذي خلق في الرحم جنينا من ماء صاف ، وركب فيه ضروبا مختلفة ، من عروق وعصب وأسنان وشعر وعظام وغير ذلك ، فهو يحييه بعد موته ، ويعيده بعد فنائه .
قال الزنديق : فأين الروح ؟
قال ( عليه السلام ) : في بطن الأرض حيث مصرع البدن إلى وقت البعث .
قال الزنديق : فمن صلب فأين روحه ؟
قال ( عليه السلام ) : في كف الملك الذي قبضها حتى يودعها الأرض .
قال الزنديق : فأخبرني عن الروح أغير الدم ؟
قال ( عليه السلام ) : نعم ، الروح على ما وصفت لك : مادتها من الدم ، ومن الدم رطوبة الجسم وصفاء اللون وحسن الصوت وكثرة الضحك ، فإذا جمد الدم فارق الروح البدن .
قال الزنديق : فهل يوصف بخفة وثقل ووزن ؟
قال ( عليه السلام ) : الروح بمنزلة الريح في الزق ، إذا نفخت فيه امتلأ الزق منها ، فلا يزيد في وزن الزق ولوجها فيه ، ولا ينقصها خروجها منه ، كذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن .
قال الزنديق : فأخبرني ما جوهر الريح ؟
قال ( عليه السلام ) : الريح هواء إذا تحرك يسمى ريحا ، فإذا سكن يسمى هواء ، وبه قوام الدنيا ، ولو كفت الريح ثلاثة أيام لفسد كل شئ على وجه الأرض ونتن ، وذلك أن الريح بمنزلة المروحة ، تذب وتدفع الفساد عن كل شئ وتطيبه ، فهي بمنزلة الروح إذا خرج عن البدن نتن البدن وتغير ، وتبارك الله أحسن الخالقين .
قال الزنديق : أفتتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق ؟
قال ( عليه السلام ) : بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور ، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى ، فلا حس ولا محسوس ، ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها ، وذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين .
قال الزنديق : وأنى له بالبعث والبدن قد بلي ، والأعضاء قد تفرقت ، فعضو ببلدة يأكلها سباعها ، وعضو بأخرى تمزقه هوامها ، وعضو صار ترابا بني مع الطين حائط ؟ ! !
قال ( عليه السلام ) : إن الذي أنشأه من غير شئ ، وصوره على غير مثال كان سبق إليه ، قادر أن يعيده كما بدأه.
قال الزنديق : أوضح لي ذلك !
قال ( عليه السلام ) : إن الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسئ في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا كما منه الخلق ، وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها مما أكلته ومزقته كل ذلك في التراب ، محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها ، وإن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب ، فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور ، فتربو الأرض ثم تمخضوا مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مخض ، فيجتمع تراب كل قالب إلى قالبه ، فينتقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها ، وتلج الروح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا .
قال الزنديق : فأخبرني عن الناس يحشرون يوم القيامة عراة ؟
قال ( عليه السلام ) : بل يحشرون في أكفانهم .
قال الزنديق : أنى لهم بالأكفان وقد بليت ؟
قال ( عليه السلام ) : إن الذي أحيا أبدانهم جدد أكفانهم .
قال الزنديق : فمن مات بلا كفن ؟
قال ( عليه السلام ) : يستر الله عورته بما يشاء من عنده .
قال الزنديق : أفيعرضون صفوفا ؟
قال ( عليه السلام ) : نعم ، هم يومئذ عشرون ومائة ألف صف في عرض الأرض .
قال الزنديق : أوليس توزن الأعمال ؟
قال ( عليه السلام ) : لا ، إن الأعمال ليست بأجسام ، وإنما هي صفة ما عملوا ، وإنما يحتاج إلى وزن شئ من جهل عدد الأشياء ، ولا يعرف ثقلها أو خفتها ، وإن الله لا يخفى عليه شئ .
قال الزنديق : فما معنى الميزان ؟
قال ( عليه السلام ) : العدل .
قال الزنديق : فما معناه في كتابه : * ( فمن ثقلت موازينه ) * (۱۰) ؟
قال ( عليه السلام ) : فمن رجح عمله .
قال الزنديق : فأخبرني أوليس في النار مقتنع أن يعذب خلقه بها دون الحيات والعقارب ؟
قال ( عليه السلام ) : إنما يعذب بها قوما زعموا أنها ليست من خلقه ، إنما شريكه الذي يخلقه ، فيسلط الله عليهم العقارب والحيات في النار ليذيقهم بها وبال ما كذبوا عليه فجحدوا أن يكون صنعه .
قال الزنديق : فمن أين قالوا : ” إن أهل الجنة يأتي الرجل منهم إلى ثمرة يتناولها ، فإذا أكلها عادت كهيئتها ” ؟
قال ( عليه السلام ) : نعم ، ذلك على قياس السراج ، يأتي القابس فيقتبس عنه ، فلا ينقص من ضوئه شيئا ، وقد امتلأت الدنيا منه سراجا .
قال الزنديق : أليسوا يأكلون ويشربون ، وتزعم أنه لا يكون لهم الحاجة ؟
قال ( عليه السلام ) : بلى ، لأن غذاءهم رقيق لا ثقل له ، بل يخرج من أجسادهم بالعرق .
قال الزنديق : فكيف تكون الحوراء في جميع ما أتاها زوجها عذراء ؟
قال ( عليه السلام ) : لأنها خلقت من الطيب لا يعتريها عاهة ، ولا يخالط جسمها آفة ، ولا يجري في ثقبها شئ ، ولا يدنسها حيض ، فالرحم ملتزقة ملدم (۱۱) ، إذ ليس فيها لسوى الإحليل مجرى .
قال الزنديق : فهي تلبس سبعين حلة ، ويرى زوجها مخ ساقها من وراء حللها وبدنها ؟
قال ( عليه السلام ) : نعم ، كما يرى أحدكم الدراهم إذا ألقيت في ماء صاف قدره قدر رمح .
قال الزنديق : فكيف تنعم أهل الجنة بما فيه من النعيم ، وما منهم أحد إلا وقد فقد ابنه وأباه أو حميمه أو أمه ، فإذا افتقدوهم في الجنة لم يشكوا في مصيرهم إلى النار ، فما يصنع بالنعيم من يعلم أن حميمه في النار ويعذب ؟
قال ( عليه السلام ) : إن أهل العلم قالوا : إنهم ينسون ذكرهم . وقال : بعضهم انتظروا قدومهم ، ورجوا أن يكونوا بين الجنة والنار في أصحاب الأعراف (۱۲) .
—————————————
(۱) قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويشركانه ” ، كنز العمال ، الجزء الأول ، الحديث ۱۳۰۷ .
(۲) الودية : المهلكة ، الوبية : الكثيرة الوباء .
(۳) الأدواء : الأمراض .
(۴) في المصدر : ” عزلا ” ، تصحيف صوابه ما أثبتناه . والغرل : جمع أغرل ، وهو ما كان فيه غرلة ، وهي جلدة الصبي التي تقطع في الختان .
(۵) الغلفة أو القلفة : الجلدة التي يقطعها الخاتن من ذكر الصبي .
(۶) غافر : ۶۰ .
(۷) أي خلوها وتركوها .
(۸) التفصي : التخلص ، وتفصى عن الشئ : بان عنه .
(۹) الأتان : الحمارة .
(۱۰) الأعراف : ۸ .
(۱۱) أي كثيرة اللحم .
(۱۲) الاحتجاج : ۳۳۶ .