إن التسمية التي أطلقت على الفريقين ، ليست وفية للحقيقة . و هي أسماء سموها من عند أنفسهم ، نزاعة للتشويه و التضليل ، أكثر من حرصها على الموضوعية . و استخدام الاسمين في الأبعاد التضليلية ، كان من دأب التيار الأموي . فالنقطة الحساسة التي توحي بها المفارقة بن الاسمين ، هو أن ( سنة ) الرسول صلى الله عليه و آله لها شمتها في عنوان ( السنة و الجماعة ) ، في الوقت الذي لا رائحة لها في عنوان ( مذهب الشيعة ) . هذا يعني إن مذهب الشيعة يقف مقابلا لمذهب ( السنة و الجماعة ) بما هي الممثل الوحيد لسنة الرسول صلى الله عليه و آله !.
و هذا التشويه ، و التضليل ، قد أوتي أكله على امتداد الأيام التي أردفت عصور المحنة . فلقد أصبح ( الشيعة ) يفتقدون للمسوغات النفسية و الإعلامية في ذهن الجمهور .
و السؤال الصميمي هنا : من هم الشيعة ، و من هم السنة ؟.
السنة
السنة في اللغة ، تعني الطريقة ، و المنهاج . و سنة الرسول صلى الله عليه و آله معناها طريقته . و في لسان العرب لابن منظور ، السنة ، و التسنن تعني الطريقة المحمودة المستقيمة . و لذلك قيل : فلان من أهل السنة ، بمعنى ، إنه من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة ، و هي مأخوذة من السنن و هو الطريقة ، و يقال للخط الأسود على متن الحمار : سنة .
و هي اصطلاحا ، تعني كل ما صدر عن الرسول صلى الله عليه و آله من قول و فعل و تقرير . و يسمى السنة مذهبهم ( أهل السنة و الجماعة ) و يقصدون بذلك إنهم أصحاب الطريقة المحمودة 1. و اتباع الرسول صلى الله عليه و آله و الجماعة ، و غيرهم لا يسلك طريق النبي صلى الله عليه و آله و هي الجماعة التي قال عنها الرسول صلى الله عليه و آله ( يد الله مع الجماعة ) .
الشيعة
و الشيعة لغة ، هم الأتباع و الأنصار . و في لسان العرب ( هم القوم الذين يجتمعون على الأمر . و كل قوم اجتمعوا على أمر ، فهم شيعة . و كل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع .
و في القرآن الكريم : ﴿ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴾ 2 .
و شايع تأتي بمعنى والاه ، من التولي..
يقول الكميت :
وما لي إلا آل أحمد شيعة | و ما لي إلا مذهب الحق مذهب |
و ( الشيعة ) اصطلاحا يراد بهم أتباع و أنصار آل البيت ( عليهم السلام ) و هم الذين ناصروهم في كل محنهم ، و سلكوا سبيلهم و والوهم !.
يقول ابن خلدون 3: ( إعلم أن الشيعة لغة هم الصحب و الاتباع ، و يطلق في عرف الفقهاء و المتكلمين من الخلف و السلف على أتباع علي و بنيه ( رضي الله عنهم ) .
و الشيعة حسب تعريف علمائهم ، هم الذين يسلكون سنة الرسول صلى الله عليه و آله مأخوذة من عترته الطاهرة .
بيد أن الملابسات السياسية و الإيديولوجية التي رافقت حركت الفرقتين أضفت على القضية ، مجموعة من الشبهات لا تحصى و لا تعد . و بالتالي يكون من الضروري التعرض إلى المصطلحين . بشكل أعمق ، يستمد مرتكزاته من عمق التأريخ الإسلامي ذاته .
و ذلك لأن أعداء الشيعة طالما تحاملوا على الشيعة ، ملتمسين كل سلبية غريبة و إلصاقها بهم . و في ذلك يقول طه حسين 4 : ( و ما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة ) .
ثم ماذا ؟
إنني ما زلت أتتبع تاريخ المذاهب الإسلامية ، حتى انتهيت إلى أن مذهب آل البيت ( عليهم السلام ) هو أول مذهب في الإسلام . و هذا لا يعني إنهم انفردوا عن غيرهم بطريقة ابتدعوها ، و لكنهم احتفظوا بموقعهم الأصيل الذي عرفوا به ، هذا في الوقت الذي شردت فيه جميع الملل و النحل ، و تفرقت تبتغي الحق عند غير أهله .
يقول السيد محسن الأمين في الأعيان 5 : ( فما يظهر من فهرست ابن النديم من أن تسمية أتباع علي ( عليه السلام ) بإسم الشيعة كان ابتداؤه من يوم الجمل ليس بصواب ، بل تسميتهم بذلك من زمن الرسول صلى الله عليه و آله قال ابن النديم في الفهرست ما لفظه : ذكر السبب في تسمية الشيعة بهذا الاسم . قال محمد بن إسحاق لما خالف طلحة و الزبير على علي و أبيا إلا الطلب بدم عثمان بن عفان و قصدهما علي ( عليه السلام ) ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله جل أسمه ، فسمى من اتبعه على ذلك الشيعة فكان يقول شيعتي ) .
فالتشيع ليس بدعة في تاريخ الإسلام . و لطالما حاول البعض إلصاقه بالعهود المتأخرة . بل لقد بلغت القسوة ببعضهم فربطه ( بالفرس ) .
و كان لهذه الدعايات أثر علي في البداية ، مع أنني لم أستسلم لها بسهولة ، فلم أكن سلسا لتقبل كل فكرة بدون اختبار .
و استقرت قناعتي في النهاية بعد أن تأكدت من تلك الحبكات الخرافية . ففي ( فجر الإسلام ) لأحمد أمين ، و هو من أكبر المناصبين للشيعة ، يقول : ( كانت البذرة الأولى للشيعة ، الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله أن أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه ) 6 .
و في دحض فكرة ( فارسية ) التشيع ، قال : ( و الذي أرى ـ كما يدلنا التاريخ ـ إن التشيع لعلي بدأ قبل دخول الفرس في الإسلام ، و لكن بمعنى ساذج ، و هو أن عليا أولى من غيره من وجهتين ، كفايته الشخصية و قرابته للنبي ) 7 .
فالذين لا يعلمون ـ من إخواننا السنة ـ يجب أن يدركوا ، كما أدركت ـ منذ فتحت قلبي للحقيقة ـ أن أغلب علمائهم من ( فارس ) .
إنني ما زلت أقتفي آثار علماء السنة الكبار ، في البلاغة و النحو و الفقه و الحديث و التصوف.. فأجد الأغلبية الغالبة منهم ، فرسا . و منهم : البخاري و الترمذي و النسائي و ابن ماجة القزويني و الإمام الرازي و القاضي البيضاوي و أبو زرعمه الرازي و الفيروزآبادي ( صاحب القاموس المحيط ) و الزمخشري و الإمام فخر الدين الرازي والكازروني و أبو القاسم البلخي و القفال المروزي و التفتازاني و الراغب الأصفهاني و البيهقي و التبريزي الخطيب ، و الجرجاني و أبو حامد الغزالي .. و غيرهم مما يعجز عن عدهم اللسان و يضيق عنهم المقام . فأعلام ( السنة و الجماعة ) الفطاحل ، و علماؤهم النحارير و محدثوهم النقاريس ، كانوا من بلاد ( فارس ) .
و التشيع أدخل إلى فارس ، من بلاد العرب ، و ساهم في نشر التشيع في بلاد فارس علماء من العراق ، و جبل عامل و الأحساء ، و المدينة المنورة .
ليست التسمية ـ إذا ـ هي موضوع الإشكال ، و إنما الواقع الفعلي للمذهبين هو موضوع النقاش . إذ إننا و نحن ننظر في سنة الرسول صلى الله عليه و آله القولية و الفعلية و التقريرية . سوف نتبين أي الفريقين أقرب إليها .
إن الشيعة لم يكونوا يوما مبتدعة ، بل إن مذهبهم قائم في الأساس على ( النص ) . و إذا أتيت إن الإسلام الحقيقي بعد الرسول صلى الله عليه و آله تمثل في علي ( عليه السلام ) فإن التشيع لعلي ( عليهم السلام ) هو التعبير المرحلي عن التشيع لمحمد صلى الله عليه و آله بالثبات على تعاليمه و توصياته في حق علي (عليه السلام ) و الذي هو الإسلام ) !.
فإسم ( السنة ) أتى ، كأستراق للفرصة ، لمحاصرة ( الشيعة ) اصطلاحيا ، لأن التيار السائد يومها لم يكن له من الحجة سوى اللعب على وتر المفاهيم القشرية . و كان اليوم الذي تحولت فيه الخلافة إلى ملك عضود ، هو عام الجماعة ، و منها جاء ( السنة و الجماعة ) !.
كان همي أن أبحث عن الإسلام الحق ، فأنا لم أكن أبحث عن التمذهب .
و ما أن دخلت في لجج التأريخ ، حتى تبين لي أن الباحث عن اللامذهبية ، كالباحث عن السراب . إن الإسلام ، تفرق أهله إلى فرق لا تحصى ، و ما بقي من إسلام حق ، بدا للمتمذهبين ، مذهبا . فأي المذاهب ، إذا ، تمثل الإسلام الصحيح . أو حتى ما يقارب 95 في المائة من الإسلام الصحيح ؟
و من يضمن لي يومها إن هذه الفرقة أو تلك ، هي الأقرب إلى ( الحقيقة ) و أنا في خضم المعترك أبحث عن خشبة نجاة ؟ و لكنني لم أشك في القرآن الكريم .
ففيه عثرت على مقومات البحث عن الحقيقة . تعلمت أن من شروط البحث عن الحقيقة ، عدم الاستماع إلى القول الواحد ، و إلى الفرقة الواحدة . و لكن ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ... ﴾ 8 . كما رأيت إن الله ، يمدح القلة و يذم الكثرة ، حسب معايير الحق و الباطل.. حيث يقول ﴿ ... وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ 9 كما يقول ذاما الكثرة الجاهلة ﴿ ... بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ 10 .
إن قلبي بدأ ينفتح ، شيئا فشيئا على التأريخ ، و الشيعة الآن أصبحوا جزءا من الإسلام ، و هذا ما توصلت إليه حتى تلك اللحظات . لقد كان الرسول صلى الله عليه و آله أول من تكلم في الشيعة ، و وصفهم للصحابة . و أول من ربط التشيع بالإمام علي ( عليه السلام ) ، و هو يريد بذلك إثارة المستقبل في ذهن الصحابة ، و يلفت المسلمين إلى قيمة علي (عليه السلام ) في الآن و في المستقبل . ليكونوا في أجوائه حين يقع ما يقع . و إلا ماذا يعني أن يقول : ( علي مع الحق و الحق مع علي ) .
أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : كنا عند النبي صلى الله عليه و آله فأقبل علي ( عليه السلام ) فقال النبي صلى الله عليه و آله : ( و الذي نفسي بيده ، إن هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة . و نزلت ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ 11 12.
و أخرج ابن مردويه عن علي (عليه السلام ) قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه و آله ألم تسمع قول الله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ 11 ؟، هم أنت و شيعتك و موعدي و موعدكم الحوض إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرا محجلين ) 13 .
و روى ابن حجر في الصواعق المحرقة ، و هو من أكبر الناقمين على الشيعة عن ابن عباس أنه قال ، لما أنزل الله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ 11 ، قال رسول الله صلى الله عليه و آله لعلي (عليه السلام ): ( هم أنت و شيعتك ، تأتي أنت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ، و يأتي عدوك غضابا مقمحين .
قال : من عدوي ؟ قال : من تبرأ منك و لعنك .
و روى الحمويني الشافعي في فرائد السمطين إن الآية الكريمة : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾ 11 ، نزلت في علي (عليه السلام ) فكان أصحاب محمد صلى الله عليه و آله إذا أقبل علي (عليه السلام ) قالوا قد جاء خير البرية .
و روى ابن المغازلي المالكي في مناقبه عن ابن عباس ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و آله عن قوله تعالى : ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ 14 فقال : قال لي جبريل : ذلك علي و شيعته هم السابقون إلى الجنة المقربون من الله لكرامته .
و لما كانت الأحاديث التي ربطت الآية بعلي (عليه السلام ) و شيعته ، و بعد أن تواترت و استعصى تكذيبها ، لما كان رواتها من فطاحل أهل السنة و الجماعة ، حاول ابن حجر ـ في صواعقه المحرقة ـ أن يفلسفها و يخنقها بترهاته المعهودة ، قائلا : عن علي ( عليه السلام ) فقال ، قال ( عليه السلام ) : إن خليلي رسول الله صلى الله عليه و آله قال يا علي إنك ستقدم على الله و شيعتك راضين مرضيين و يقدم عليه عدوك غضابا مقمعين ، ثم جمع علي يديه إلى عنقه يريهم الاقحام قال ـ بن حجر ـ و شيعته هم أهل السنة و لا تتوهم الرافضة ، و الشيعة قبحهم الله ) .
و لا أحد يشك ؟ في هذا التهافت الباطل . إذ كيف يستقيم كلام هذا ـ المخرف ـ ، و هل يظن أنه يكتب للأرانب . إذا كان شيعة علي ( عليه السلام ) هم أهل السنة ، فأعداؤه من ؟؟ هل هم شيعته الذين قاتلوا إلى جنبه الطاغوت الأموي ؟. و نحن إلى الآن ، لن نجد تراث بني أمية سوى عند أهل السنة ، ولم نجده عند الشيعة قط .
و من المؤسف بالنسبة لي ، أن بدأت أخسر بعض أصدقائي المقربين . الذين ما ألفنا منهم سوى العمق في الدراسة و التحليل . إنه عزيز علي أن أرى صاحب ( التأريخ الإسلامي ) محمود شاكر ، يقول : ( بل لم تكن كلمة الشيعة تحمل أكثر من معنى التأييد و المناصرة . و لكنها غدت مع الزمن فكرا خاصا و عقيدة خاصة ، و نسب إلى الأوائل أقوال لم يقولوها و أخبار لم يعرفوها ، و أفكار لم تخطر على بالهم أبدا 15.
و كان على أستاذنا الجليل أن يبحث أكثر من ذلك . فمع أنه لم ينكر إن ( كلمة ) الشيعة كانت في البداية . إلا أنه لم يحفر في الخلفيات التاريخية ، التي أظهرت التشيع كحالة مذهبية ، انفردت بأفكار و عقائد خاصة ، فأستاذنا ، لم يحدثنا عن الآخرين ، و هل ثبتت أفكارهم و عقائدهم . لقد ابتعد المسلمون عن الأفكار و العقائد في صفائها الإسلامي الأول ، حتى بدت لهم عقائد أهل البيت ( عليه السلام ) و كأنها هي المتحركة . فهم أشبه بمن يعتقد بحركة الجبال و الأشجار من رواء نافذة القطار . ثم هل خصوصية هذه الأفكار و العقائد ، دليل على أخطائها ؟!
كنت متأكدا من أن هؤلاء يجتهدون في دائرة أخطائهم ، و يتألقون في فلسفة الباطل .
فالشيعة لغة و اصطلاحا ، هم أولئك الذين تمحوروا حول الرسول صلى الله عليه و آله و من بعده على آل البيت ( عليهم السلام ) استجابة للنصوص الواردة .
____________________
1. هذا المعنى في الواقع جديد على هذا العنوان . لأنه تاريخيا كان له هدف معين و معنى آخر ، كما سنوضح !.
2. القران الكريم : سورة الصافات ( 37 ) ، الآية : 83 ، الصفحة : 449 .
3. تاريخ ابن خلدون ، الفصل السابع و العشرون : في مذهب الشيعة في حكم الإمامة / 348.
4. اسلاميات لـ طه حسين
5. اعيان الشيعة لمحسن امين :1 / 19
6. فجر الإسلام لأحمد أمين : 366 .
7. نفس المصدر : 277 .
8. القران الكريم : سورة الزمر ( 39 ) ، الآية : 18 ، الصفحة : 460 .
9. القران الكريم : سورة سبأ ( 34 ) ، الآية : 13 ، الصفحة : 429 .
10. القران الكريم : سورة العنكبوت ( 29 ) ، الآية : 63 ، الصفحة : 403 .
11. a. b. c. d. القران الكريم : سورة البينة ( 98 ) ، الآية : 7 ، الصفحة : 598 .
12. الدر المنثور للسيوطي
13. نفس المصدر السابق
14. القران الكريم : سورة الواقعة ( 56 ) ، الآية : 10 و 11 ، الصفحة : 534 .
15. التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر ـ الخلفاء الراشدون و العهد الأموي. الطبعة الرابعة ( 1405 ه ـ 1985 م ) المكتب الإسلامي .