الدليل الرابع: على مسئولية يزيد عن دم الحسين (ع)
  • عنوان المقال: الدليل الرابع: على مسئولية يزيد عن دم الحسين (ع)
  • الکاتب: الشيخ محمّد صنقور
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 23:35:48 1-9-1403

على مسئولية يزيد عن دم الحسين (ع) - وهو دليل نقضي، حاصله:

انَّه لو لم يكن قتل الحسين(ع) بإيعازٍ من يزيد بن معاوية وكان كارهاً لقتله (ع) لاتَّخذ إزاء عبيد الله بن زياد إجراءً يتناسب مع فظاعة الحدث، وحتى لو لم يكن الحسين (ع) مرضيَّاً عند يزيد إلا انَّ استقلال ابن زياد بهذا الإجراء يُعدُّ خروجاً عن مقتضى وظيفته وتمرُّداً على إرادة رأس الدولة، إذ لا يخفى على عاقلٍ انَّ اتِّخاذ قرارٍ بهذا الحجم لا يكون إلا من الإدارة المركزيَّة وانَّ استقلال أحد الموظَّفين به -مهما بلغت رتبته- معناه تهميش للإدارة المركزية، وأيُّ سلطةٍ تقبل بتحمُّل تبعات قرارٍ لم يكن قد صدر عنها !!.
وحتى تنفي تلك السلطة تبعات ذلك الإجراء الذي ارتجله أحدُ موظَّفيها لابدَّ من اتِّخاذ موقفٍ مناسبٍ ينفي عنها تُهمة التورُّط بذلك الإجراء المنافي لسياستها.

ونحن حينما نقفُ على تاريخ الحدث لا نجدُ من ذلك عيناً ولا أثراً رغم انَّ الدواعي لوصوله متوفِّرة ومبرِّرات الإختفاء معدومة، فليس هناك عاقلٌ إلاّ ويبذل قصارى جهده للتحفُّظ على أغراضه خصوصاً وانَّه قادرٌ على التحفُّظ عليها.

ولا يخفى على مثل يزيد الإجراء المناسب لنفي التهمة عن نفسه، وليس يزيد حينذاك عاجزاً عن اتِّخاذ مثل ذلك الإجراء ممَّا يُعبِّر عن انَّ قرار القتل كان هو القرار المناسب بنظره وانَّه الخيار الوحيد الناجع لحسم القضية وللظهور بمظهر القوة والهيمنة التامَّة وانَّه لا شيء يقفُ أمام إرادته، وانَّ ذلك وانْ كان يستتبع الوقوع في بعض المحاذير وانَّ مجموعة من المضاعفات تترتب عليه إلاّ انَّ هذه المضاعفات وتلك المحاذير لا ترقى بنظره لمستوى بقاء الحسين (ع) رافضاً للبيعة، إذ انَّ ذلك يعني انسلاب الهيبة عن الدولة ويُساهم في تمرُّد وتبلبل الوضع وزوال الاستقرار.
كلُّ ذلك حدا بيزيد إلى أنْ يتخذ هذا القرار الصعب، وإلا فما معنى أن تُقصى عائلة الحسين (ع) على هيئة السبايا إلى الشام ؟! وما معنى ان تُرفع الرؤوس على الرماح ويُطاف بها في البلدان؟! وما معنى أنْ يضع يزيدُ رأس الحسين (ع) بين يديه ثم يدعو أشراف أهل الشام إلى مجلسه لينظروا اليه وهو يقرع ثنايا الحسين بقضيبه ؟! وما معنى أنْ يُصلب رأسُ الحسين (ع) بدمشق ثلاثة أيام؟! 1، كلُّ ذلك يؤكد انَّ قتل الحسين(ع) كان خياره ولم يكن خيار ابن زياد.
وحتى نوثِّق ما ذكرناه من انَّ يزيد لم يتَّخذ تجاه ابن زياد ايَّ اجراء يُعبِّر عن سخطه وعن إدانته له بإعتباره خرج عن إطار وظيفته وأوقع يزيد في حرجٍ شديد، وحتى نوثِّق ذلك نذكر بعض النصوص المثبتة لهذه الدعوى، وسوف نُصنِّف تلك النصوص إلى طوائف:
الطائفة الأولى: ما دلَّ منها على انَّ عبيد الله بن زياد بقي في وظيفته إلى أن تُوفي يزيد بن معاوية.
منها: ما ذكره ابن الاثير في الكامل قال: (لما مات يزيد وأتى الخبر عبيد الله بن زياد... فنُودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس وصعد المنبر ونعى يزيد.... وقال يا أهل البصرة... أرسل إلى أهل الكوفة مع عمرو بن مسمع وسعد بن القرحاء... فلمَّا وصلا وكان خليفته عليها عمرو بن حرين جمع الناس...)2 وذكر الطبري ما يقارب هذا النص3.
وهذا النص يُوضِّح انَّ ابن زياد بقي والياً على البصرة والكوفة إلى حين موت يزيد بن معاوية، فلو كان ابن زياد متمرِّداً على إرادة يزيد وانَّه اتَّخذ قرار قتل الحسين (ع) باستقلاله ودون مراجعة يزيد بن معاوية في ذلك لكان أقلُّ ردة فعلٍ يمكن أن تصدر عن يزيد هي عزله عن الولاية لا أنْ يُبقيه على منصبه والذي هو أعلى منصب بعد الخلافة العامَّة، إذ لا يخفى على أحدٍ انَّ ولاية البصرة والكوفة كانت تُمثِّل الثقل الاكبر للحاضرة الإسلامية آنذاك، فعبيدُ الله بن زياد كان الرجل الثاني في الدولة الأمويَّة ولم يكن هناك منصبٌ يرقى لمنصبه بعد الخلافة العامة.
ترى ماهو سرُّ بقائه في منصبه لو كان قد تمرَّد على إرادة الإدارة المركزيَّة في حين انَّكم لاحظتم انَّ يزيد بن معاوية قد عزل أحد أبرز شيوخ بني اميَّة عن ولاية المدينة المنورة وهو الوليد بن عتبة والحال انَّه لم يمضِ على إقراره على الولاية سوى شهرين وعرفتم انَّ منشأ ذلك هو تلكؤه عن معالجة قضية الحسين (ع) بالشكل الذي يراه يزيد مناسباً4.
ترى ماهو موقع عبيد الله بن زياد في العائلة الأمويَّة حتى يكون يزيد مضطراً لإبقائه في منصبه، وهل يخفى على أحدٍ انَّ عبيد الله كان ابن زياد الذي تمَّ إلحاقه بالعائلة الامويَّة في أيام معاوية5.
ومن المثير للإنتباه انَّ يزيد بن معاوية قد عزل عمر بن سعيد الاشدق -والذي هو من أبرز شيوخ قريش- عن ولاية المدينة ومكة المكرمة بمجرَّد أن وشى بعضُ بني اميَّة عليه عند يزيد وقال - كما ذكر ابن الاثير والطبري: (لو شاء عمرو لأخذ ابن الزبير وسرَّحه اليك)6 في حين انَّ المؤرِّخين يذكرون انَّ عمرو بن سعيد الأشدق كان: (أشدّ شيء على ابن الزبير)7 وهذا ما يُوضح انَّ يزيد لا يتوانى في اقصاء كلِّ مَن احتمل انَّه تلكأ عن إنفاذ أوامره كائناً مَن كان.
أتراه يتوانى عن اقصاء عبيد الله بن زياد بعد أن تمرَّد على إرادته واستقلَّ بأمرٍ لا سابقة له في الاسلام وسلب عن دولته الغطاء الشرعي الذي كانت تتدثَّرُ به، فأيُّ رجلٍ أحقُّ بالإقصاء من هذا الرجل لولا انَّ ما صنعه هذا الرجل كان بمحض إرادة يزيد وامتثالاً لاوامره، وحينها يكون هذا الرجل أحرى بالتكريم والإجلال لانَّه أخرج يزيد من مأزقٍ لم يكن يخرجُ منه لولا طواعية ابن زيادٍ له.
قد يقال إنَّ يزيد لم يكن قادراً على اقصاء عبيد الله بن زياد، وذلك لقوَّته وشدَّةِ بأسه، فلعلَّ اقصاءه يكون دافعاً لابن زياد لأنْ يتمرَّد على يزيد، وهذا ما جعل يزيد يُبقيه على منصبه.
وهذا الإشكال واضحُ الفساد، إذ انَّ منشأ القوَّة التي كان عليها عبيد الله بن زياد آنذاك هي منصبه، فليس لابن زياد قوَّة ذاتية مستقلَّة عن قوَّة بني اميَّة ، فلم يكن ابن زياد من الصحابة الذين كانت لهم سابقة في الاسلام بل لم يكن من أبناء المهاجرين والانصار ولم يكن من أبناء احدى العشائر القويَّة في العراق. فعبيدُ الله بن زياد لم يكن أكثر من رجلٍ اُلحِقَ أبوه بالعائلة الاُمويَّة في أيام معاوية كما ذكر ذلك كلُّ المؤرخين، فمثلُ ابن زياد لا يجرء على التمرُّد على بني اميَّة ولو فكَّر في التمرُّد لما استجاب له أحد.
ونذكر لك نصَّاً تاريخياً يُعبِّر عن انَّ ابن زياد كان يحرص على أن يبدو بصورةٍ حسنة عند يزيد بن معاوية.
ذكر ابن الاثير في الكامل ما هذا نصُّه : (وأما المنذر بن الزبير فإنَّه قدم على ابن زياد فأكرمه... فأتاه كتاب من يزيد... يأمره بحبس المنذر فكره ذلك... وأخبره بالكتاب، فقال له: إذا اجتمع الناس عندي فتقدَّم وقل ائذن لي لانصرف إلى بلادي فإذا قلتُ بل تقم عندي فلك الكرامة والمواساة فقل: انَّ لي ضيعة وشغلاً ولا أجد بداً من الإنصراف، فإنِّي آذن لك بالانصراف فتلحق بأهلك.. فلمَّا اجتمع الناس على ابن زياد فعل المنذر ذلك فأذنَ له في الانصراف..)8.
وتلاحظون انَّ ابن زياد كان كارهاً لحبس المنذر فلم يشأ حبسه فاحتال على ذلك بهذه الحيلة حتى لا يصل إلى يزيد انَّ ابن زياد لم ينفذ أمره في المنذر وحتى يصل إلى يزيد انَّ المنذر خرج عن ابن زياد قبل وصول الامر بحبسه وبذلك لا يظهر ابنُ زيادٍ في مظهر المتمرِّد على أوامر يزيد بن معاوية رغم انَّ المسألة لم تكن من الخطورة بحيث يبدو فيها ابن زياد متمرِّداً على أوامر يزيد ومع ذلك لم يجرء على إظهار المخالفة.
ومن كان هذا شأنه في هذه القضية كيف يجرء على اعلان التمرُّد على الإدارة الاُموية والتي هي مصدر قوَّته ومنعته؟!.
ثم انَّ هناك نصَّاً يكشف عن انَّ ابن زياد لو فكَّر في التمرُّد فإنَّه لا يجد من يقفُ معه. ومن أجل أنْ نوثِّق ذلك نذكر هذا النصَّ عن ابن الاثير قال : ( لمَّا مات يزيد وأتى الخبر عبيد الله بن زياد... فلمَّا أتاه الخبر أسرَّه اليه وأخبره باختلاف الناس في الشام فأمر فنُودي الصلاة جامعة... وصعد المنبر فنعى يزيد وثلبه، فقال الأحنف انَّه كانت ليزيد في أعناقنا بيعة... فأعرض عنه عبيد الله، وقال: يا أهل البصرة انَّ مهاجرنا إليكم ودارنا فيكم ومولدي فيكم، ولقد وليتُكم وما يُحصي ديوان مقاتليكم إلاّ سبعين ألفاً ولقد أحصى اليوم مائة ألف... وانَّ يزيد قد تُوفِّي وقد اختلف في الشام، وانتم اليوم أكثر الناس عدداً وأعرضهم فناء... فاختاروا لانفسكم رجلاً ترضونه لدينكم وجماعتكم فأنا أول راضٍ من رضيتموه، فإن اجتمع أهل الشام على رجلٍ ترضونه دخلتم فيما دخل فيه المسلمون وانْ كرهتم ذلك كنتم على أحدٍ يليكم حتى تقضوا حاجتكم...
فقام خطباء أهل البصرة وقالوا سمعنا مقالتك وما نعلم أحداً أقوى عليها منك، فقال لاحاجة لي في ذلك فكرروا عليه فأبى... ثم بسط يده فبايعوه، ثم انصرفوا ومسحوا أيديهم بالحيطان، وقالوا أيظنُّ ابن مرجانة انَّنا ننقاد له في الجماعة والفرقة... فلمَّا بايعوه أرسل إلى أهل الكوفة... يعلمهم ما صنع أهل البصرة... فقام يزيد بن الحرث فقال الحمد لله الذي أراحنا من ابن سمية، أنحن نبايعه لا ولا كرامة وحصبهما أول الناس ثم حصبهما الناس بعده... فقال أهل البصرة أيخلعه أهل الكوفة ونولِّيه نحن!!، فضعف سلطانه، فكان يأمر بالأمر فلا يُقضى...)9.
وهذا النصُّ يوضح انَّ ابن زياد ليس له قوة ذاتية تستوجب التمرُّد، فقوته مستمدَّة من بني أميَّة فكيف يسعه أنْ يتمرَّد عليهم ثم لمَّا فكر في ذلك بعد موت يزيد وضعف الدولة الأموية -فالحجاز مضطربة بسبب ثورة ابن الزبير والشام مختلفة بسبب موت يزيد- صعد منبر البصرة وأخذ يتحدث عن نفسه بأسلوبٍ باهت، فلم يكن لابن زياد ما يفتخرُ به سوى انّة وُلد في بلدهم وداره عندهم ثم لم يكن ليجرء على التصريح بدعوة الناس إلى نفسه لولا انَّ بعض المتملِّقين قاموا فشدُّوا من عزمه وبقي متلكئاً في ذلك وقال انَّ ذلك إجراء مؤقت إلى أن يتفق أهل الشام على رجلٍ فندخل فيما دخل فيه المسلمون أو تكون لكم إرادة أخرى، ثم ما هي النتيجة هل وجد من يقفُ معه؟!!.
ثم انَّ النصَّ الذي ذكرناه مشتمل على ما يؤكِّد انَّ قوة ابن زياد كانت مستمدَّةً من قوة بني اميَّة، فأهل البصرة قالوا : (أيظنُّ ابن مرجانة اننا ننقادُ إليه في الجماعة والفرقة) وأهل الكوفة قالوا : (الحمد لله الذي أراحنا من ابن سميَّة). وهذا ما يُعبِّر عن انَّ انقياد الناس اليه كان بسبب القوَّة الاُمويَّة التي كان مُستنداً إليها فلمَّا ضعفت شتموه وعيَّروه بامِّه وجدَّته وحصبوا رسوليه بالحجارة.
ثم انَّ التاريخ يٌحدِّثنا عن كيفية خروجه من العراق بعد موت يزيد وضعف الدولة الامويَّة، فقد ذكر الطبري -وكذلك غيره- انَّ : (عبيد الله أرسل إلى حارث بن قيس... فقال: يا حارِ انَّ أبي أوصاني إن احتجت الهرب يوماً أن اختاركم... فقال الحارث:... إن أخرجتك نهاراً إني أخاف ألاّ أصل بك إلى قومي حتى تُقتل وأُقتل، ولكنِّي اُقيم معك حتى إذا وارى دَمسٌ دمساً وهدأت القدوم ردفتَ خلفي لئلا تُعرف ثم أخذتك إلى أخوالي... فقال عبيد الله: نِعمَ ما رأيت... انطلقَ به وكان يمرُّ على الناس وكانوا يتحارسون... فيسأله عبيد الله أين نحن فيخبره... فلمَّا أتى بني ناجية، قال: أين نحن، قال: في بني ناجية، قال: نجونا إنْ شاء الله..)10.
ومن هذا النصِّ يتجلَّى ماهو موقع ابن زياد في نفوس الناس وانَّ مثله لا يُحدِّث نفسه بالتمرُّد على مصدر قوَّتِه ومنعته.
الطائفة الثانية: ما دلَّ من النصوص على انَّ يزيد بن معاوية قد أجزل العطاء لعبيد الله بن زياد وحسنت حاله عند يزيد بعد قتله للحسين (ع)، فقد ذكر ابنُ الاثير في الكامل قال : ( لمَّا وصل رأسُ الحسين إلى يزيد حسُنت حالُ ابن زياد عنده وزاده ووَصلَه وسرَّه ما فعل)11.
وذكر الطبري : ( لمَّا قَتل عبيدُ الله بن زياد الحسين بن علي وبني أبيه بعث برؤوسهم إلى يزيد بن معاوية فسرَّ بقتلهم أولاً وحسنت بذلك منزلةُ عبيد الله عنده)12.
وهنا نتساءل كيف يحسن حال ابن زياد عند يزيد وكيف يجزل له العطاء والحال انَّه تمرَّد على إرادته وخرج عن طاعته وفعل ما هو مكروه عند يزيد ؟!!
فلعمري مَن يجيب عن هذه الأسئلة الملحَّة ومَن يجرء على أن يُنسب إلى المكابرة والخروج عن حدِّ التعقُّل والإنصاف. وقد أشبعنا الحديث عن هذين النصين في الدليل الثاني فراجع.
الطائفة الثالثة: ما دلَّ من النصوص على انَّ يزيد لم يكن يقبل حتى بتوبيخ ابن زياد فقد ذكر بعض المؤرِّخين ومنهم الطبري ماهذا نصُّه : (فلمَّا دخلوا على يزيد قال يحيى بن الحكم:
لهامٌ بجنب الطف أدنى قرابةً***من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سميَّة أمسى نسلُها عدد الحصى***وليس لآل المصطفى اليوم من نسلِ
فضرب يزيدُ في صدره وقال: اسكت)13.
وهذا النصُّ كما تلاحظون واضحٌ في انَّ يزيد لم يكن يقبل حتى بشتم ابن زياد وتوبيخه على قتله للحسين (ع)، فيحيى بن الحكم رغم انَّه نسب قتل الحسين إلى ابن زياد وهذا ما يستبطن نفيه عن يزيد ومع ذلك لم يقبل يزيد، ولذلك ضربه في صدره وأمره بالسكوت، وهذا ما يُعبِّر عن قبوله التام لما صنعه ابن زياد، ولأنَّ يزيد يُدرك انَّ توبيخ ابن زياد يُساوق توبيخه لم يقبل قول يحيى بن الحكم، وكان على يحيى -إذا أراد أن يُرضي يزيد- أن يشتم الحسين (ع) ويعتذر عن قتله بأنَّه عاقٌّ شاقٌّ كما اعتذر يزيد بذلك عن قتل الحسين (ع).
إذ ما معنى ان يُشتم مُوظَّف قد أدَّى وظيفته على أكمل وجه ، فلو كان من توبيخٍ فالأحرى أن يُوجَّه إلى يزيد، ومن هنا لم يقبل من يحيى قوله.
وبما ذكرناه من النصوص يتَّضح أنَّ يزيد لم يُبدِ أدنى ما يُعبِّر عن استيحاشه لما صنعه ابن زياد، ممَّا يُؤكِّد على انَّ ابن زياد لم يرتكب بنظر يزيد ما يستوجب الاستيحاش منه بل انَّ النصوص أوضحت انَّ يزيد كان في اتمِّ الرضا والقبول بما صنَعَه ابنُ زياد، وذلك لانجازه له هذه المهمَّة الصعبة التي تلكأ عن انجازها شيوخُ العائلة الاُمويَّة، ومن هنا كانت لابن زياد حظوةٌ متميِّزة عند يزيد بن معاوية.
ففي الوقت الذي كان المُنتظر من يزيد أنْ يقتصَّ من ابن زياد أو لا أقل يعزله عن منصبه لا نجد في كتب التاريخ ولا رسالة واحدة يُوبِّخ فيها يزيدُ عبيد الله بن زياد على ما صنعه، فهبْ انَّ قتل الحسين (ع) كان بأمرٍ منه وانَّه انَّما أنفذ أمره فلا يسعه توبيخه على ذلك إلا انَّ ابن زياد لم يكن قد قتل الحسين فحسب بل انَّه منعه عن الماء14 وأحرق خيامه15 ومثَّل بجسده وبأجساد أهل بيته واصحابه ثم أوطأ الخيل ظهره وصدره16 وطاف برأسه في شوارع الكوفة17 ، أفلا يستحق ابن زياد التوبيخ على هذه الاجراءات التي لم تكن في ضمن الامر المتوجِّه اليه في شأن الحسين (ع)، ونحن قد سبرنا التاريخ فلم نجد من ذلك عيناً ولا أثراً ممَّا يؤكد انَّ كلَّ ما صنعه ابنُ زياد في الحسين(ع) وعائلته كان بإيعازٍ من يزيد بن معاوية.
وقد تقول من المحتمل انَّ يزيد قد وبَّخ ابن زياد إلا انَّه لم يصلنا من ذلك شيء.
فنقول: إنَّه لا مجال لهذا الاحتمال بعد النصوص التي ذكرناها والتي تؤكِّد انَّ ابن زياد لم يرتكب -بنظر يزيد- ما يستوجبُ توبيخه بل هو حريٌّ بالمدح والثناء ومستحقٌ لأنْ يُزاد في عطائه وتعظم منزلته عند يزيد.
ثم ما هي الدواعي الموجبة لاختفاء تلك الرسائل -لو كانت موجودة- والحال انَّها تتناسب مع الإرادة الامويّة ذات القوَّة والمنعة، فبنوا اميَّة قادرون على تعريف التاريخ بموقفهم تجاه مقتل الحسين (ع) لو كانوا حقاً كارهين لقتله، وفي الوقت نفسه نجد انَّ صحائف التاريخ تُعبِّر أبلغ تعبير عن تورُّطِهم بدم الحسين (ع) بل انَّ المشيئة الامويَّة كانت تحرصُ على أن تؤكِّد للناس انَّ قتل الحسين (ع) كان بسيوفهم، فهذا هو يزيد يفتخر بملئ فيه:
أبا قومنا أن ينصفونا فانصفت***قواضبُ في أيماننا تقطرُ الدما
نفلِّق هاماً من رجال أعزَّةٍ***علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما1819

________________

    1. كنز الدرر لابي بكر الدواداري ج4/94، مرآة الجنان لابي محمد اليافعي المكي الشافعي ج1/19، البداية والنهاية ج8/222، مقتل الحسين للخوارزمي ج2/83.
    2. الكامل في التاريخ ج3 / 319 ـ 320.
    3. تاريخ الطبري ج4 / 387.
    4. قال ابن كثير في البداية والنهاية: (وفي هذه السنة عزل يزيد بن معاوية الوليد بن عتبة عن امرة المدينة لتفريطه) ج8/158، كنز الدرر لابي بكر الدواداري ج4/84 بتفاوت.
    5. تاريخ الطبري ج4/163، الكامل في التاريخ ج3/219، الامامة والسياسة ج1/181، مروج الذهب ج3/14، تاريخ الخلفاء 196، تاريخ ابن الوردي ج1/225، الاخبار الطوال 219.
    6. الكامل في التاريخ ج3/306، تاريخ الطبري ج4/366، البداية والنهاية ج8/231.
    7. الكامل في التاريخ ج3/305، تاريخ الطبري ج4/366.
    8. الكامل في التاريخ ج3 / 307، تاريخ الطبري ج4 / 368 ـ 369.
    9. الكامل في التاريخ ج3 / 319 ـ 320، تاريخ الطبري ج4 / 387.
    10. تاريخ الطبري ج4 / 392، الكامل في التاريخ ج3 / 320 ـ 321، الاخبار الطوال 259 ، تاريخ الاسلام ووفيات المشاهير والاعلام أحداث أربع وستين / 37.
    11. الكامل لابن الاثير ج3 / 300، تاريخ الطبري ج4 / 388 ـ 389، تاريخ الخلفاء للسيوطي 208، تذكرة الخواص لسبط بن الجوزي 238، البداية والنهاية ج8/254، نقل ابن أعثم أنَّ يزيد أوصل ابن زياد (بالف ألف درهم جائزة) كتاب الفتوح ج5/252.
    12. تاريخ الطبري ج4/288 ـ 289.
    13. الكامل في التاريخ ج3 / 301، تاريخ الطبري ج4 / 252، البداية والنهاية ج8/209، أنساب الاشراف ج3/421.
    14. تاريخ الطبري ج4/311 ـ 312، الكامل في التاريخ ج3/282، مقتل الحسين للخوارزمي ج1/346، الاخبار الطوال 255، أنساب الاشراف ج3/379.
    15. تاريخ الطبري ج4/333، الكامل في التاريخ ج3/291، مقتل الحسين للخوارزمي ج2/19 ـ 20، أنساب الاشراف ج3/402.
    16. تاريخ الطبري ج4/314، الكامل في التاريخ ج3/284، مقتل الحسين للخوارزمي ج1/348، انساب الاشراف ج3/410، البداية والنهاية ج8/ ، في مرآة الجنان (ان ابن زياد أمر ان يقوّر الرأس المشرف حتى ينصب في الرمح فقام طارق فقوّره) ج1/109.
    17. تاريخ الطبري ج4/351، الكامل في التاريخ ج3/297 قال: (وأمر ابن زياد برأس الحسين فطيف به في الكوفة)، أنساب الاشراف ج3/415، كنز الدرر لابي بكر الدواداري ج4/92 ـ 93، مرآة الجنان ج1/109.
    18. الكامل في التاريخ ج3 / 298، تاريخ الطبري ج4 / 356، مروج الذهب ج3 / 71، البداية والنهاية لابن كثير ج8 / 208 ـ 209 ـ 251، مقاتل الطالبيين / 119، مقتل الحسين للخوارزمي ج2 / 65، تذكرة الخواص لسبط بن الجوزي نقله عن البلاذري وهشام / 235 ـ 236، تاريخ مدينة دمشق ج65/396، مختصر تاريخ دمشق ج28/19 ، أنساب الاشراف ج3/415، كتاب الفتوح ج5/239.
    19. المصدر : موقع سماحة الشيخ محمد صنقور حفظه الله نقلا عن كتاب "قراءة في مقتل الحسين" الأدلة على تورط يزيد بدم الحسين (ع) للشيخ محمد صنقور حفظه الله