فقد عثرت في بعض الجرائد (1)على سؤال نصّه هذا:
«غادر مكّة في شهر رمضان الماضي الشيخ عبدالله بن بليهد، قاضي قضاة الوهّابيّين في الحجاز، قاصداً المدينة المنوّرة، وقد تلقّت جريدة أمّ القرى من مكاتبها في المدينة أنّ الشيخ ابن بليهد اجتمع بعلماء المدينة وباحثهم في أمور كثيرة، ثم وجه إليهم السؤال الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، ما قول علماء المدينة المنوّرة ـ زادهم الله فهماً وعلماً ـ في البناء على القبور واتّخاذها مساجد، هل هو جائز أم لا؟
وإذا كان غير جائز، بل ممنوعُ منهيّ عنه نهياً شديداً، فهل يجب هدمها ومنع الصلاة عندها أم لا؟
وإذا كان البناء في مسبلة ـ كالبقيع ـ وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبنيّ عليه، فهل هو غصب يجب رفعه، لما فيه من ظلم المستحقّين ومنعهم استحاقهم، أم لا؟
وما يفعله الجهال عند هذه الضرائح، من التمسح بها، ودعائها مع الله، والتقريب بالذبح والنذر لها، وإيقاد السرج عليها، هل هو جائز أم لا؟
وما يفعل عند حجرة النبيّ صلى الله عليه وسلّم، من التوجّه إليها عند الدعاء وغيره، والطواف بها وتقبيلها والتمسّح بها، وكذلك ما يفعل في المسجد الشريف، من الترحيم والتذكير بين الأذان والإقامة وقبل الفجر ويوم الجمعة، هل هو مشروع أم لا؟
أفتونا مأجورين، وبيّنوا لنا الأدلّة المستند إليها، لازلتم ملجأً للمستفدين».
وهذا نصّ الجواب:
أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً؛ لصحّة الأحاديث الواردة في منعه، وبهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه، مستندين على ذلك بحديث عليٍ رضي الله عنه أنّه قال لأبي الهيّاج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أن لا تدع تمثالأ إلاّ طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته) رواه مسلم(2).
وأمّا اتّخاذ القبور مساجد والصلاة فيها فممنوع مطلقاً، وإيقاد السرج عليه ممنوع أيضاً؛ لحديث ابن عباس: (لعن رسول الله زائرات القبور، والمتّخذين عليها المساجد والسرج) رواه أهل السنن (3).
وأما ما يفعله الجهّال عند الضرائح، من التمسّح بها، والتقرّب إليها بالذبائح والنذور، ودعاء أهلها مع الله، فهو حرامُ، ممنوع شرعاً، لا يجوز فعله أصلاً.
وأما التوجه إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلّم عند الدعاء، فالأولى منعه، كما هو معروف من فقرات كتب المذهب؛ ولأنّ أفضل الجهات جهة القبلة.
وأما الطواف بها والتمسح بها وتقبيلها، فهو ممنوع مطلقاً.
وأما ما يفعل من التذكير والترحيم والتسليم في الأوقات المذكورة، فهو محدث.
هذا ما وصل إليه علمنا السقيم».
ويلي ذلك توقيع 15 عالماً.
تغلّب الوهابيون على الحجاز، فأوفدت حكومة إيران وفداً ـ على رأسه حضرات أصحاب السعادة: ميرزا غفّار خان جلال السلطنة، وزيرها المفوّض في مصر، وميرزا حبيب الله خان هويدا عين الملك، قنصلها الجنرال (4) بالشام ـ إلى الحجاز، ليتبيّنوا وجه الحقيقة فيما أذيع على العالم الإسلامي أجمع من فظائع الوهّابيّين في البلاد المقدّسة، وأتمّ هذا الوفد الرسميّ مهمّته،
وقد علّقت جريدة «أمّ القرى» على هذه الفتوى بمقالة افتتاحية قائلةً:
«إنّ الحكومة ستسير في تنفيذ أحكام الدين، رضي الناس أم كرهوا»! انتهى.
واطلعت أيضاً على مقالة في بعض الجرائد المصرية (*)، وهذا نصّها:
«تغلّب الوهابيون على الحجاز، فأوفدت حكومة إيران وفداً ـ على رأسه حضرات أصحاب السعادة: ميرزا غفّار خان جلال السلطنة، وزيرها المفوّض في مصر، وميرزا حبيب الله خان هويدا عين الملك، قنصلها الجنرال (4) بالشام ـ إلى الحجاز، ليتبيّنوا وجه الحقيقة فيما أذيع على العالم الإسلامي أجمع من فظائع الوهّابيّين في البلاد المقدّسة، وأتمّ هذا الوفد الرسميّ مهمّته، ورفع تقريره إلى حكومته.
ولما تجدّد نشر الإشاعات بأن الوهابيين هم هم.
وأن التطور الذي غشي العالم أجمع لم يصلح من فساد تطرّفهم شيئاً.
وأنهم هدموا القباب والمزارات المباركة المنبثّة في أرجاء ذلك الوادي المقدس.
وأنّهم ضيّقوا الحرّيّة المذهبيّة الإسلامية، نشراً لمذهبهم، وتوسيعاً لنطاق نحلتهم، في الوقت الذي تقوم فيه جميع حكومات العالم على رعاية الحريّات المذهبيّة.
أصدرت(5) أمرها بوقت التصريح بالسفر للحجاز، حماية لرعاياها، وحفظاً لهم من قصد بلادٍ لم يُعرف تماماً كنه الحكم فيها.
وعادت فأوفدت سعادة ميرزا حبيب الله خان هويدا ـ قنصلها الجنرال(6) في الشام ـ ثانية، للتحقّق من مبلغ صدق تلك الإشاعات، فإذا بها صحيحة في جملتها!
لم تمنع الحكومة الإيرانية رعاياها من السفر إلى الحجاز لأنّ حكومته وهّابيّة فحسب، ولكنّ الإيرانيّين ألفوا في الحجّ والزيارة شؤوناً يعتقدون أنها من مستلزمات أداء ذلك الركن، ويشاركهم في ذلك جمهور المسلمين من غير الوّهابيّين، كزيارة مشاهد أهل البيت، والاستمداد من نفحاتهم، وزيارة مسجد منسوب للإمام عليٍّ عليه السلام.
وقد قضى الوهابيّ على تلك الآثار جملةً، وقضى رجاله ـ وكلّ فرد منهم حكومة قائمة ـ على الحرّية المذهبيّة.
فمن قرأ الفاتحة على مشهد من المشاهد، جلد.
ومن دخّن سيجارة أو نرجيلة، أهين وضرب وزجّ في السجن، في الوقت الذي تحصّل فيه إدارة الجمارك الحجازيّة رسوماً على واردات البلاد من الدخان والتمباك.
ومن استنجد بالرسول المجتبى عليه صلوات الله وسلامه بقوله: (يا رسول الله) عدّ مشركاً.
ومن أقسم بالنبيّ أو بآله، عدّ خارجاً عن سياج الملّة.
وما حادثة السيد أحمد الشريف السنوسيّ (7) ـ وهو علم من أعلام المسلمين المجاهدين ـ ببعيدة، إذ كان وقوفه وقراءته الفاتحة على ضريح السيّدة خديجة رضوان الله عليها، سبباً كافياً في نظر الوهًابيّين لأخراجه من الحجاز.
كل هذا حاصلٌ في الحجاز لا ينكره أحد، ولا يستطيع الوهّابيّ ولا دعاته ولا جنوده أن يكذّبوه».
انتهى ما أردنا نقله من تلك الجريدة.
فرأيت أن أتكلّم معهم بكلمات وجيزة، جارية في نهج الإنصاف، خالية عن الجور والتعصّب والاعتساف، سالكاً سبيل الرفق والاعتدال، ناكباً عن طريق الخرق والجدال، فما المقصود إلاّ هداية العباد، والله وليّ الرشاد.
ثم إنا نتكلّم فما طعن به الوهّابيّون على سائر المسلمين في ضمن فصول، والله المستعان.
واجتنبت فيه عن الفحش في المقال، والطعن والوقعية والجدال.
هذا، والجرح لما يندمل، وإن القلوب لحرى، والعيون لعبرى، على الرزيّة التي عمّت الإسلام والمسلمين، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
فقد هدموا شعائرَ الدين، وجرحوا قلوب المسلمين، بفتوى خمسة عشر، تشهد القرائن بأنّهم مجبورون مضطّرون على هاتيك الفتيا!
ويا لها من رزيّة جليلة! ومصيبة فاظعة (8) فادحة! وثلمة عظيمة في الإسلام أليمة فجيعة!
كحلت بمقطرك العين عمايةً وأجلّ وقعك كلّ أذنٍ تسمع(9)
وعلى الجملة:
فقد هدموا شعائرَ الدين، وجرحوا قلوب المسلمين، بفتوى خمسة عشر، تشهد القرائن بأنّهم مجبورون مضطّرون على هاتيك الفتيا!
ويشهد نفس السؤال ـ أيضاً ـ بذلك، حيث إنّ السائل يعلّمهم الجواب في ضمن السؤال بقول: «وإذا كان غير جائز، بل ممنوع منهيّ عنه نهياً شديداً»!
ويومئ إليه ـ أيضاً ـ ما في الجريدة، أنّه اجتمع إليهم أوّلاً، وباحثهم ثانياً، ومن بعد ذلك وجّه إليهم السؤال المزبور!
ولقد حدّثني بعض الثقات من أهل العلم ـ بعد رجوعه من المدينة ـ عن بعض علمائها، أنّه قال: إنّ الوهّابيّة أوعدوني وعالمين غيري بالقتل والنهب والنفي (على مساعدتهم)(10) في الجواب، فلم نفعل.
هذي المنازل بالغميم فنادها واسكب سخيّ العين بعد جمادها(11).
_________________________
الهوامش:
(1) هي جريدة «أم القرى» العدد 69، بتاريخ 17 شّوال 1344 هـ.
(2) صحيح مسلم 2/ 666 ح 93 ب 31، كما ورد الحديث باختلاف يسير في بعض ألفاظه في المصادر التالية: مسند أحمد 1/ 96 و 129، سنن النسائي 4/ 88، سنن أبي داود 3/ 215 ح 3218، سنن الترمذي 3/ 366 ح 1049 ب 56.
(3) سنن أبي داود 3/ 218 ح 3236، سنن النسائي 4/ 95.
(*) هي جريدة «المقطّم» في عددها الصادر في 22 شوّال سنة 1344 هـ.
(4) أي: القنصل العامّ.
(5) جواب «لمّا» المتقدّمة.
(6) أي: القنصل العامّ.
(7) هو السيد أحمد الشريف بن محمد بن محمد بن علي السنوسي (1284 ـ 1351 هـ) ولد وتفقّه في «الجغبوب» من أعمال ليبيا، قاتل الإيطاليّين في حربهم مع الدولة العثمانية سنة 1339 هـ ، دعي إلى إسلامبول بعد عقد الصلح بين إيطاليا والعثمانيّين ثمّ رحل منها إلى الحجاز، كان من أنبل الناس جلالة قدر وسراوة حال ورجاحه عقل، وكان على علم غزير،
(8) كذا في الأصل، ولعلّها: «قاطعة»، والأصوب لغةً أن تكون: «فظيعة».
(9) من قصيدة لدعبل الخزاعي، يرثي بها سيد الشهداء الإمام أبي عبدالله الحسين بن عليّ
(10) كذا في الأصل، والصواب: «إنْ لم نساعدهم».
(11) مطلع قصيدة للشريف الرضيّ، يرثي بها سيّد الشهداء الإمام أبي عبدالله الحسين بن علي