كثير من المسائل الفقهية المهمة التي اختلفت فيها آراء أساطين العلماء قديماً وحديثاً ، وكثر فيها الأخذ والرد ، والنقض والإبرام ، وربما ألفت فيها رسائل وكتب ، إلا أن أكثر تلك المسائل لا يكون في طرحها بين العلماء ولا عند العوام أي حذر أو محذور ، وقد لا يتردد الفقيه في طرح رأيه المخالف لما هو المشهور عند علماء الإمامية ، مع أن بعض تلكم المسائل ربما يرتبط بأمور مهمة ، تمس الدماء ، والفروج ، والأعراض ، والأموال .
إلا أن بعض المسائل الفقهية أخذت أبعاداً أخرى ، فصار من يطرح رأيه فيها عرضة للطعن والنقد ، أو عرضة لما هو أكثر من ذلك .
ولعل من الأمثلة الواضحة على هذا النوع من المسائل مسألة ( التطبير ) ، فإنها أخذت بعداً كبيراً ، فاعتبرها بعضهم مسألة فقهية ، حالها حال غيرها من المسائل الفقهية التي يجوز للفقيه أن يبدي فيها رأيه ، وإن خالف فيها أساطين الطائفة وجهابذتها ، بينما رأى البعض الآخر أن التطبير من شعائر الله ، أو من شعائر المذهب ، أو من الشعائر الحسينية التي لا يحق لأي أحد أن يجتهد فيها بأي حال من الأحوال .
وسواء أكان التطبير من شعائر المذهب ، أو من الشعائر الحسينية ، أو من شعائر الله كما يذهب إليه بعض العلماء ، أم أنه لم تثبت شعاريته ولا استحبابه كما يذهب إليه السيد الخوئي والميرزا جواد التبريزي قدس سرهما 1 ، وسواء أكان التطبير فعلاً جائزاً إذا لم يكن فيه ضرر معتد به كما أفتى بذلك بعض الأعلام ، أم أنه مستحب كما أفتى به بعض آخر ، فإن كل ذلك لا يخرج التطبير عن كونه مسألة فقهية يجوز الاجتهاد فيها والخروج فيه برأي مغاير لهذه الآراء ؛ لأن استحباب التطبير أو شعاريته لم يجمع عليهما علماء الطائفة وأساطين المذهب ، فحينئذ يكون للاجتهاد فيه مجال ، وعلى كل مكلف أن يرجع إلى فتوى مرجعه في هذه المسألة ، من دون حاجة لإلزام الآخرين برأي مجتهد واحد ، وجعل مسألة التطبير مثاراً للتراشق والنزاع بين أبناء المذهب الواحد .
وبما أن جمعاً من أعلام الطائفة لم يفتوا باستحباب التطبير بنحو الإطلاق ، وإنما أفتوا بأنه فعل جائز إذا لم يكن فيه ضرر معتد به لا يقدم عليه العقلاء ، ولم يستلزم توهين المذهب في نظر العرف السائد 2 ، فإن تشخيص ذلك بيد المكلف ، فلا محذور على من يرى بحسب وضعه وتشخيصه أن القيام بهذا العمل لا مصلحة فيه في بلده ، أو أنه يستلزم توهين المذهب وهتكه في هذا العصر ، ولأجل ذلك رفض التطبير وامتنع عنه ، فإنه سواء أخطأ أم أصاب فإنه من غير شك لا يهدف بذلك إلى محاربة شعيرة ثابتة من الشعائر الحسينية ، ولو علم أن التطبير من شعائر الله أو من الشعائر الحسينية لحرص على فعله وحث عليه .
وكذا من رأى أن التطبير شعيرة عظيمة تستوجب إعلاء شأن الدين وتقوية المذهب ، وأنه نوع محبوب وممدوح من إظهار الجزع على سيد الشهداء عليه السلام ، ولأجل ذلك حث عليه ، وحرص على إحيائه في مناسباته ، فإنه سواء أخطأ أم أصاب فإنه بلا إشكال لا يرى أن هذا عمل قبيح ، وأنه يستوجب توهين المذهب أو هتكه ومع ذلك يفعله ويحرص على إقامته .
ومن الواضح أن دوافع هؤلاء المختلفين في التطبير ، سواء أكانوا من الذين يحثون عليه ويمارسونه ، أم من الذين يمنعونه ويرفضونه ، دوافعهم كلها دينية بحتة ، ولا أظن أي طرف يتهم الطرف الآخر بالسعي لتحقيق مكاسب دنيوية خاصة من إحياء التطبير أو المنع منه ، كما أستبعد أن يتهم أحد الطرفين الطرف الآخر بأنه يريد الإساءة إلى المذهب ، وتشويه صورته عند الخصوم ، أو محاربة شعيرة من الشعائر الحسينية ، والكل متفق على أن من حثَّ على التطبير أو مارسه إنما أراد أن يحيي شعيرة من الشعائر الحسينية بنظره ، ومن منعه فإنه أراد أن يصون المذهب عن كل هتك ، ويمنع عنه كل همز ولمز بحسب نظره .
وخلاصة ما أريد أن أقوله هو أن التطبير مسألة فقهية اختلفت فيها أنظار علماء الطائفة ، ولا محذور في طرحها على مائدة البحث والنقاش كغيرها من المسائل الفقهية ، وعلى الفقيه أن يدلي فيها برأيه من غير حذر ولا تقية من أحد ، وعلى كل مقلد أن يرجع فيها إلى رأي مرجعه ، وعلى كل طرف أن يتقبل رأياً آخر في هذه المسألة مخالفاً لرأيه ، من دون حاجة إلى المزايدات والتصعيد والشحن الجماهيري في هذه المسألة أو في غيرها من المسائل الفقهية الأخرى ، ولا معنى لإثارة النزاعات في مسألة فقهية اختلفت فيها فتاوى العلماء ، وتفاوتت فيها الأنظار في زمان يحتاج فيه الشيعة إلى الاتفاق على الأمور التي تجعلهم يبرزون فكر أئمة أهل البيت عليهم السلام ومحاسن كلامهم بالصورة التي تلائم هذا العصر ، وتناسب أهله 3
_________
1. صراط النجاة 2 / 464 .
2. صراط النجاة 2 / 465 .
3. سماحة الشيخ علي آل محسن ـ 29 / 2 / 2008 م ـ 8 : 16 م . نشرت هذه الكلمة في نشرة الرسالة / العدد57 شهر صفر 1429هـ .