التقيّة وأحكامها
  • عنوان المقال: التقيّة وأحكامها
  • الکاتب:
  • مصدر: هوية التشيع
  • تاريخ النشر: 12:10:3 14-9-1403

وممّا اُلصق بالشيعة وأصبح لا يتخلف عنهم عندما يخطرون في الذهن، وكأنّه عضو منهم خاصة دون باقي المسلمين: التقيّة، والذي ساعد على ذلك أنّ التشيّع انفرد على مدى تأريخه بالتعرّض إلى ضغط يفوق الوصف; لإنّه يشكّل جبهة المعارضة في وقت لا معنى للمعارضة إلاّ العداء، وليس كما تعطيه لفظة «المعارضة» من مدلول في الوقت الحاضر، وكان اعتيادياً أن يتعرَّضوا إلى مطاردة وتنكيل، وكان لابـُدّ من المحافظة على أنفسهم من الإبادة التامة، فلجؤوا إلى التقيّة باعتبارها وسيلة يقرّها الدين، للاحتماء بها عند الضرورة، ورووا لها سندها من الكتاب والسنّة، وكان من الأَولى أن يُمدحوا على ذلك; لأنّهم استعملوا ما أمر به الشارع لحفظ النفس عند الخطر، ولئلاّ يعرّضوا إلى أحد أمرين: إمّا الابادة أو الانهيار والارتماء في أحضان الظالمين، كما فعل غيرهم ممّن آوى إلى فراش الحكم والحكّام، يرتع في موائدهم ويعيش في حمايتهم ويتكلّف الأدلة، لتصبح آراؤهم منسجمة مع الشرع، كما قال ابن خلكان في ترجمة أبي يوسف القاضي، قال: إنّ زبيدة زوجة الرشيد كتبت إلى أبي يوسف القاضي: ماترى في كذا، وأحب الأشياء إليّ أن يكون الحقّ فيه كذا؟ فأفتاها بما أحبَّت، فبعثت إليه بحُقّ فضّة فيه حقاق فضّة مطبقات في كلّ واحد لون من الطيب، وفي جام دراهم وسطها جام فيه دنانير، . . . إلى آخره([1]) .
وقد كان للشيعة مندوحة عن كلّ ما عانوه من الجور والظلم بشيء من مجاراة الحكّام، ولكنّهم أبوا ذلك وتصلَّبوا من أجل مبادئهم إلاّ في حالات شاذّة .
على أنّ هناك ظاهرة ألفتُ النظر إليها، وهي: أنّ الشيعة منذ تعرّضوا للضغط عاشت عندهم التقيّة على مستوى الفتاوى، ولم تعش على المستوى العملي، بل كانوا عملياً من أكثر الناس تضحيةً، وبوسع كلّ باحث أن يرجع إلى مواقف الشيعة مع معاوية وغيره من حكّام الاُمويين وحكّام العباسيين: كحِجر بن عَدي، وميثم التمّار، ورشيد الهجري، وكميل بن زياد ومئات غيرهم، وكمواقف العلويين على امتداد التأريخ وثوراتهم المتتالية .
وبعد هذا، فإنّ القول بالتقيّة لم ينفرد به الشيعة، بل هم في ذلك كسائر المسلمين، وذلك واضح من آراء المسلمين عند شرحهم للآيات الكريمة والأحاديث الواردة في هذا الخصوص . فمن الآيات الكريمة التي وردت في هذا الموضوع: قوله تعالى: (لاَ يَتَّخِدِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِيْ شَيْء إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ)([2])، وقوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِْيمَانِ)([3]) .
أمّا الأحاديث، فمنها: ما ذكره البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «إنّا لنكشّر في وجوه قوم، وقلوبنا تلعنهم»([4]) .
وكقوله(صلى الله عليه وآله): «رفع عن اُمّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه»([5])، ذكر ذلك ابن العربي عند تفسيره للآية (مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِْيمَانِ...)([6]) .
وكقول النبيّ(صلى الله عليه وآله) لمحمّد بن مسلمة ومن معه لمّا أرسلهم لقتل كعب بن الأشرف، فقالوا: يا رسول الله، أتأذن لنا أن ننال منك؟ فأذن لهم([7]) .
وقد انقسم المسلمون في مفاد هذه النصوص ودلالتها على التقيّة إلى أقسام، قال بعضهم بجوازها بالقول دون الفعل، وعمّمها بعضهم إلى الفعل، واختلفوا في وجوبها مطلقاً، أو جوازها مطلقاً، أو التفصيل، فتجب في بعض الموارد وتجوز في اُخرى . وسأذكر لك في الفصل القادم آراء بعض فقهاء المسلمين لأخذ صورة عن الموضوع، وذلك بعد مدخل بسيط لصلب الموضوع:

 

تعريف التقيّة:

عرّف المفسرون التقيّة بأنّها: «إخفاء المعتقَد خوفاً من ضرر هالك، ومعاشرة ظاهرة مع العدوّ المخالف والقلب مطمئنّ بالعداوة والبغضاء، وانتظار زوال المانع من شقّ العصا»([8]) .
وعرّفها الشيخ المفيد في كتابه «أوائل المقالات» بأنّها: «كتمان الحقّ وستر الاعتقاد به، ومكاتمة المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يعقّب ضرراً في الدنيا والدين»([9]) .
والمؤدّى واحد في كلٍّ من التعريفين .
وبعد تعريف التقية أعود إلى آراء فقهاء المذاهب الإسلامية في أحكام التقية المختلفة .
أقوال فرق المسلمين فيها [ التقية ]:
1 ـ المعتزلة: أجاز المعتزلة التقيّة عند الخطر المهلك، وعند خوف تلف النفس، وفي ذلك يقول أبو الهذيل العلاّف: إنّ المُكرَه إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما اُكره عليه فله أن يكذب، ويكون وزر الكذب موضوعاً عنه([10]) .
2 ـ الخوارج: انقسم الخوارج حول التقيّة إلى ثلاثة أقسام:
فقسم الاول ـ وهم الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق ـ منعوا التقيّة وندّدوا بمن يعمل بها بشدّة، وكفَّروا القاعدين عن الثورة بوجه الظلم والظالمين، وفي ذلك يقول نافع ابن الأزرق: التقيّة لا تحلّ، والقعود عن القتال كفر واضح، لقوله تعالى: (إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ...)([11])، ولقوله تعالى: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِم)([12]) .
والقسم الثاني ـ وهم النجدات أتباع نجدة بن عويمر ـ فقد أجازوا التقيّة في القول والعمل، ولو أدّى ذلك إلى قتل النفس التي حرّم الله .
والقسم الثالت ـ وهم الصفرية أتباع زياد بن الأصفر ـ فكانوا وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء، فأجازوها في القول دون الفعل، كما نصّ على ذلك عنهم الشهرستاني([13]) وأدلتهم قابلة للمناقشة، ولست بصدد ذلك .
3 ـ أهل السنّة: التقية عند السنّة بالإجماع جائزة في القول دون العمل، ويذهب بعضهم إلى الوجوب، فيقول بوجوبها في بعض الحالات، ومنهم الغزالي حيث يقول في ذلك: إنّ عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان القصد سفكَ دم مسلم فالكذب فيه واجب([14]). وقد اقتصر بعضهم على الرخصة بالتقيّة إذا كان المسلم بين كفّار يخافهم على نفسه أو ماله، ومن هؤلاء القائلين بالرخصة: الرازي المفسّر والطبري كذلك في تفسيريهما عند قوله تعالى: (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)([15]).
بينما ذهب قسم آخر من العلماء إلى أنّ التقية متعيّنة ليست بين الكفّار فقط، بل حتى إذا كان المسلم بين مسلمين شابهت حالهم الحال مع الكافرين، أي في حال عدم قدرة المسلم على إظهار عقيدته المذهبية بين مسلمين من فرق اُخرى، وممّن ذهب لهذا الرأي: الإمام الشافعي، وابن حزم الظاهري([16]) .
وحكم التقيّة كباقي الأحكام باق إلى يوم القيامة، خلافاً لمن قَصَره على أيام ضعف الإسلام، وفي ذلك يقول الفقهاء:
إنّها جائزة للمسلم إلى يوم القيامة، مستندين إلى قول النبيّ(صلى الله عليه وآله) لعمّار بن ياسر لمّا قال للنبيّ(صلى الله عليه وآله): ما تركوني حتى نلت منك . فقال له: «إن عادوا فعد لهم بما قلت»، ذكر ذلك البيضاوي في تفسيره للآية 106 من سورة النحل، فراجعه .
4 ـ رأي الشيعة بالتقيّة: لا يختلف الشيعة عن السنّة في القول بالتقيّة، فإنّها عندهم وسيلة أرشد إليها الشرع لحفظ النفوس الواجب حفظها، وحفظ باقي الاُمور التي أمر الشرع بحفظها. هذا كلّ هدف التقيِّة عندهم لا غير، وليس كما يقول البعض: إنّ الشيعة اتخذوا من التقية أداةً للختل والمراوغة والازدواجية ولأجل المؤسّسات السرّية الهدّامة([17]) .
والتقيّة عند الشيعة تختلف باختلاف المقام، فقد تكون واجبة، وقد تكون مباحة، وقد تكون محرّمة، ولذلك تجد عبارات فقهاء الشيعة قد ذكرت الحالات الثلاث:
يقول ابن بابويه القمّي: اعتقادنا في التقيّة أنّها واجبة، وأنّ من تركها فكأنّما ترك فرضاً لازماً كالصلاة، ومَن تركها قبل ظهور المهدي فقد خرج عن دين الله ودين نبيّه والأئمة(عليهم السلام).
بينما يقول الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان:
التقيّة جائزة عند الخوف على النفس، وقد تجوز في حال دونه عند الخوف على المال ولضروب من الاستصلاح، وأقول: إنّها قد تجب أحياناً من غير وجوب، وأقول: إنّها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة، وليس تجوز في الأفعال في قتل المؤمنين وما يغلب أنّه استفساد في الدين([18]) .
بينما يقول فقيه شيعي معاصر: وللتقيّة أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر، وليس هي بواجبة على كلّ حال، بل قد يجوز، أو يجب خلافها في بعض الأحوال، كما إذا كان في إظهار الحقّ والتظاهر به نصرة للدين وخدمة للإسلام وجهاد في سبيله، فإنّه عند ذلك يستهان بالأموال ولا تعزّ النفوس، وقد تُحرّم التقيّة في الأعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة، أو رواجاً للباطل، أو فساداً في الدين، أو ضرراً بالغاً على المسلمين بإضلالهم، أو إفشاء الظلم والجور فيهم . . . إلى أن قال : إنّ عقيدتنا في التقيّة قد استغلَّها من أراد التشنيع على الإمامية، فجعلوها من جملة المطاعن فيهم، وكأنّهم لا يشفى غليلهم إلاّ أن تقدّم رقابهم ـ أي رقاب الشيعة ـ إلى السيوف لاستئصالهم([19]).
ومن هذه المقتطفات التي ذكرتها يتضح أنّ التقيّة تتبع الحالات والظروف، وتكون محلاًّ للأحكام المذكورة تبعاً لاختلاف العناوين، وقد سبق أن ذكرنا استدلالات الشيعة للتقيّة من الكتاب والسنّة، ولذلك كان الإمام الصادق(عليه السلام) يقول: «التقيّة ديني ودين آبائي» . وخصوصاً في عصره حيث كانت السيوف هي اللغة الوحيدة، وقد حاول بعضهم أن يفلسف من موقف الإمام الصادق ومواقف الشيعة في التقيّة بأنّ التقيّة علاج لأمرين:
أـ هو أنّ سكوت أئمة أهل البيت(عليهم السلام) عن المطالبة بحقّهم والتصدّي للظالمين من ناحية، ومن ناحية اُخرى أنّ المفروض أنّهم الأئمة المفترضة طاعتهم أنّ ذلك يشكّل تناقضاً لا مخرج منه إلاّ التقية، قال بذلك كلّ من الرازي في كتابه «محصّل آراء المتقدّمين والمتأخرين»، والمَلطي في كتابه «التنبيه والردّ على أهل الأهواء والبدع»([20]).
ب ـ والأمر الثاني: هو ما يظهر من اختلاف في أقوال الأئمة بعضهم مع بعض، وفي أقوال الإمام الواحد في مقامات مختلفة، ممّا يشكِّل علامة استفهام، ودفعاً لذلك قالوا بالتقيّة، حتّى لا يبقى إشكال في ذلك، محصل قولهم ذكره صاحب كتاب «دراسات في الفرق والعقائد»([21]).
إنّ هذا الباحث يظهر من تصويره لمسألة التقيّة عند الأئمة أنّه اختلط عليه المقسم بالقسم; وذلك أنّ الموردين اللذين ذكرهما إنّما هما من موارد تطبيق
مبدأ التقيّة، لا أنّ التقيّة اُنشئت من أجلهما، هذا مع أنّ هذا الباحث ـ وهو الدكتور عرفان ـ من أكثر الناس إنصافاً للشيعة فيما كتب عنهم بالقياس إلى غيره، فانظر لما كتبه حولهم([22]) .
وقد اعتبر كثير من الكتّاب أنّ موقف الإمام الصادق(عليه السلام) من التشديد على التقيّة فيه ضعف وتخاذل، بينما الواقع أنّ الإمام بموقفه هذا حفظ أصحابه من هجمات شرسة فقدت صوابها، ولم يعد لها من منطق غير المخلب والناب، وفي مثل هذه الحالات لابـُدّ من الحكمة، وسأذكر لك صوراً مصغّرةً عمّا كان عليه الحال:
يقول الخطيب البغدادي بسنده عن أبي معاوية، قال: دخلت على هارون الرشيد فقال لي: لقد هممت أنّ من يُثبت الخلافة لعليٍّ أن أفعل به وأفعل، قال أبو معاوية: فسكتُّ، فقال لي: تكلّم، قلت: إن أذنت لي، قال: تكلّم، قلت: يا أميرالمؤمنين، قالت تيم: منّا خليفة رسول الله، وقالت عَديّ: منّا خليفة رسول الله، وقالت بنو اُمية: منّا خليفة الخلفاء، فأين حظّكم يا بني هاشم؟ والله ما حظّكم إلاّ ابن أبي طالب! فَسَكَتَ([23]) .
لقد أحسن الرجل الدخول وعرف من أين يأتيه، وهنا نقول: إذا كان من يذكر حقّ عليٍّ بالخلافة يُصنع به ما يصنع، فما رأي هؤلاء المتفيهقين([24]) في أيام الرخاء الذين لم تلفح وجوههم النار ولم يعضّهم الحديد .
على أنّ هناك شيئاً آخر، وهو: أنّ أئمة المسلمين الآخرين اضطروا إلى استعمال التقيّة فيما تعرّضوا له من مواقف، ومن ذلك: ما ذكره أحمد بن أبي يعقوب المعروف باليعقوبي عند استعراضه لموقف الإمام أحمد بن حنبل أيام المحنة والقول بخلق القرآن، قال: لمّا امتنع أحمد بن حنبل من القول بخلق القرآن وضُرِب عدّة سياط، قال إسحاق بن إبراهيم للمعتصم: ولّني يا أمير المؤمنين مناظرته، فقال: شأنك به، فقال إسحاق للإمام أحمد: ما تقول في خلق القرآن؟ فقال الإمام أحمد: أنا رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا، فقال: هذا العلم الذي علمته نزل به عليك مَلَك، أم علمته من الرجال؟ فقال أحمد: بل علمته من الرجال، فقال إسحاق: علمته شيئاً بعد شيء؟ قال: نعم.
قال إسحاق: فبقي عليك شيء لم تعلمه؟ فقال: نعم، قال: فهذا ممّا لم تعلم وعلّمكه أمير المؤمنين، فقال أحمد: فإنّي أقول بقول أمير المؤمنين، فقال إسحاق: في خلق القرآن؟ قال أحمد: في خلق القرآن . فأشهد عليه، وخلع عليه وأطلقه إلى منزله([25]) .
ولهذا قال الجاحظ في حواره مع أهل الحديث بعد أن ذكر محنة الإمام أحمد ابن حنبل وامتحانه: قد كان صاحبكم هذا ـ يعني الإمام ـ يقول لا تقيَّة إلاّ في دار الشرك، فلو كان ما أقرّ به من خلق القرآن كان منه على وجه التقيّة، فلقد أعملها في دار الإسلام وقد أكذب نفسه، ولو كان ما أقرّ به على الصحة والحقيقة فلستم منه وليس منكم، على أنّه لم يرَ سيفاً مشهوراً ولا ضُرب ضرباً كثيراً، ولا ضُرب إلاّ الثلاثين سوطاً مقطوعة الثمار مشبعة الأطراف حتى أفصح بالإقرار مراراً، ولا كان في مجلس ضيق، ولا كانت حالته مؤيسة، ولا كان مثقلا بالحديد، ولا خلع قلبه بشدة الوعيد، ولقد كان ينازع بألين الكلام، ويجيب بأغلظ الجواب، ويَزِنون ويخفّ، ويحلمون ويطيش([26]) .
على أنّ سيرة المسلمين بالفعل قائمة على التقيّة، فهناك اُمور لا يقرّها بعض المسلمين وهي قائمة عندهم . خذ مثلا بقاء قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فإنّ الوهّابيّين لا يتركون قبراً قائماً، فقد رووا في الصحاح عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي عليّ بن أبي طالب(عليه السلام): «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله(صلى الله عليه وآله) ألاّ أدع قبراً قائماً إلاّ سوّيته، ولا تمثالا إلاّ طمسته»([27]).
وعلى هذه الرواية استند الوهابيّون، أو هي أحد مستنداتهم في تهديم القبور([28])، ولكنّهم لم يتعرّضوا لقبر النبيّ، مع أنّ لسان الرواية عامّ لم يستثنِ قبراً، وليس ذلك إلاّ تقيّة من المسلمين . وقد كان خبر أبي الهياج سبباً للتهريج عند ابن تيمية على الشيعة، مع أنّ الرواية ما ثبتت عندهم من ناحية سندها.
لقد شحن ابن تيمية كتابه بقوارص من الشتم يأباها خُلُق الإسلام وأدب القرآن، ومن ذلك: أنّه إذا مرّ بذكر العلاّمة ابن المطهّر الحلّي يسمّيه بابن المنجّس([29]) .
في حين كان العلاّمة في خصومته مع العلماء في غاية التهذيب، وبوسع القارئ أن يرجع إلى الكتابين اللذين طبعا معاً، وأن يحكم على الاُسلوبين ليرى الفرق بينهما .
وإلى هنا أرجو أن أكون قد وضعت بين يدي القارئ فكرةً عن التقيّة، كافيةً لأخذ صورة عن الموضوع، ولا يخلو الواقع المعاصر من تقيّة متجسّدة عند مختلف الشعوب .

________________________
[1] . وفيات الأعيان : 2/465 .
[2] . آل عمران : 28 .
[3] . النحل : 106 .
[4] . البخاري : 4/43 .
[5] . أحكام القرآن لابن العربي : 2/ 1166 تسلسل عام .
[6] . النحل : 106 .
[7] . أحكام القرآن لابن العربي : 2/1257 .
[8] . دراسات في الفرق والعقائد : 45 .
[9] . أوائل المقالات : 66 .
[10] . الانتصار للخياط: 8/128.
[11] . النساء : 77 .
[12] . المائدة : 55 .
([13]) الملل والنحل هامش الفصل : 4/68 .
[14] . إحياء العلوم : 3/119 .
[15] . تفسير الطبري : 3/229 ، وتفسير الرازي عند تفسير الآية 28 من سورة آل عمران.
[16] . المحلّى لابن حزم : 8/335 ، المسألة 1408 .
[17] . ضحى الإسلام : 3/246 .
[18] . أوائل المقالات : 97 .
[19] . عقائد الإمامية للمظفَّر: 87.
[20] . التنبيه والردّ: بحث التقية .
[21] . دراسات في الفرق والعقائد : 53 .
[22] . دراسات في الفرق والعقائد : 42 .
[23] . الإمام الصادق لأسد حيدر : 2/310 .
[24] . مرّ توضيحها راجع هامش صفحة: 203.
[25] . تاريخ اليعقوبي : 3/198 .
[26] . الإمام الصادق لأسد حيدر : 2/310 .
[27] . صحيح مسلم: 2/666/969، الجامع الصحيح: 3/366/1049.
[28] . منهاج السنة لابن تيمية : 1/333 .
[29] . المصدر السابق : 1/13 .