كلية مذهب الوهابية
وخلاصة القول فيه
ان اول من نثر في ارض الاسلام المقدسة تلك البذور السامة والجراثيم المهلكة، هو احمد بن تيمية في اخريات القرن السابع من الهجرة، ولما احس اهل ذلك القرن ـ بفضل كفائتهم ـ ان جميع تعاليمه ومبادئه شر وبلاء على الاسلام والمسلمين يجر عليهم الويلات، واي شر وبلاء اعظم من تكفير قاطبة المسلمين على اختلاف نزعاتهم! اخذ وحبس برهة ثم قتل.
ولكن بقيت تلك البذور دفينة تراب، وكمينة بلاء وعذاب، حتى انطوت ثلاثة قرون، بل اكثر، فنبغ، بل نزع محمد بن عبد الوهاب فنبش تلك الدفائن، واستخرج هاتيك الكوامن، وسقى تلك الجراثيم المائتة بل المميتة، والبذور المهلكة؛ فسقاها بمياه من تزويق لسانه وزخرف بيانه، فأثمرت ولكن بقطف النفوس وقطع الرؤوس وهلاك الاسلام والمسلمين، وراجت تلك السلعة الكاسدة والاوهام الفاسدة، على امراء نجد واتخذوها ظهيراً لما اعتادوا عليه من شن الغارات، ومداومة الحروب والغزوات من بعضهم على بعض وقد نهاهم الفرقان المبين والسنة النبوية عن تلك العادات الوحشية، والاخلاق الجاهلية، بملء فمه وجوامع كلمه؛ وقد عقد بينهم الاخوة الاسلامية، والمودة الايمانية وقال: « مال المؤمن على المؤمن حرام كحرمة دمه وعرضه »(1) وقال جل من قائل: « ولاتقولوا لمن القى إليكم السلام لست مؤمناً » (2)، أراد الله سبحانه ان يجعلهم فيما بينهم إخواناً وعلى العدو اعواناً، اراد ان يكونوا يداً واحدة للاستظهار على الاغيار من اعداء الاسلام، فنقض ابن عبد الوهاب تلك القاعدة الاساسية والدعامة الاسلامية، وعكس الاية فصار يكفر المسلمين ويضرب بعضهم ببعض، وما انجلت تلك الغبرة إلا وهم آلة بأيدي الاعداء ينقضون دعائم الدين، ويقتلون بهم المسلمين، ويصلون ما امر الله بقطعه، ويقطعون ما امر الله بوصله، فإذا طولبوا بالدليل والبرهان؛ وجاء حديث السنة والقرآن؛ فالجواب الشافي عند السيف والسنان، والنصف مع البغي والعدوان، والحق مع القوة والسطوة، والعدل والسواء، في الغلبة والاستيلاء .
نعم ، ليس للقوم فيما وقفنا عليه من كتب اوائلهم وأواخرهم، وحاضرهم وغابرهم حجة عليها مسحة من العلم او روعة من البيان، وطلاء من الحقيقة، سوى قولهم: ان المسلمين في زيارتهم للقبور وطوافهم حولها واستغاثتهم بها وتوسل الزائر بالملحود في تلك المقابر قد صاروا كالمشركين الذين كانوا يعبدون الاصنام، واصبحوا يعبدون غير الله ليقربهم الى الله تعالى كما حكى الله سبحانه في كتابه الكريم حيث يقول عنهم: « ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى» (3) فلم يقبل الله منهم تلك المعذرة، ولا اخرجهم ذلك الزعم عن حدود الشرك والضلالة.
هذه هي ام شبهاتهم، واس احتجاجاتهم، واقوى براهينهم ودلالاتهم، وإليها ترجع جميع مؤاخذاتهم على غيرهم من طوائف المسلمين من مسألة الشفاعة والتوسل، والتبرك والزيارة، وتشيد القبور، الى كثير من امثال ذلك مما يزعمون انه عبادة لغيرالله، وهو على حد الشرك بالله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وأنا اقول: لعمر الله والحق ما اكبر جهلهم! واضل في تلك المزاعم عقلهم! وليت شعري من اين صح ذلك القياس والتشبيه؟! تشبيه المسلمين بالمشركين وقياسهم بهم مع وضوح الفرق في البين، فإن المشركين كانوا يعبدون الاصنام لتقربهم الى الله زلفى كما هو صريح الاية، والمسلمون لا يعبدون القبور ولا اربابها، بل يعبدون الله وحده لاشريك له عند تلك القبور. والقياس الصحيح والتشبيه الوجيه ، قياس زائري القبور والطائفين حولها بالطائفين حول الكعبة البيت الحرام وبين الصفا والمروة : « ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت او اعتمر فلا جناح عليه ان يطوف بهما»(4)، فالطائف حول البيت، والساعي بين الصفا والمروة لم يعبد الكعبة وأحجارها، ولا الصفا والمروة ومنارها؛ وإنما يعبد الله سبحانه في تلك البقاع المقدسة، وحول تلك الهياكل الشريفة التي شرفها الله ودعا الى عباده فيها؛ وهكذا زائر القبور.
هذا هو القياس الصحيح والميزان العدل، اما القياس بالميزان الاول ففيه عين بل عيون، لابل هو خبط وجنون، أليس من الجنون قياس من يعبد الله موحداً له بمن يعبد الاصنام مشركاً لها مع الله جل شاًنه ؟!
وكشف النقاب عن محيا هذه الحقيقة الستيرة، بحيث تبدو للناظيرين ناصعة مستنيرة، موقوف على بيان حقيقة العبادة وكنه معناها، ولو على سبيل الإيجاز حسب اقتضاء هذه العجالة التي جرى بها اللسان متدافعاً تدافع الآتي من غير وقفة ولا أناة ولا مراجعة ولامهل.
إن حقيقة العبادة ومصاص معناها، وكنه روحها ومغزاها بعد كونها مأخوذة بحسب الاشتقاق من العبد والعبودية، وليس العبد في الحقيقة وطباق نفس الامر والواقع ما ملكته بالاغتنام او الشراء او غيرهما من الاسباب، ولا السيد والمولى من تولى عليك بالغلبة والقهر ، أو المصانعة والخداع ، إنما السيّد من أنعم عليك بنعمة الحياة، وخلع عليك بعد العدم خلعة الوجود، ورباك في بواطن الاصلاب وبطون الارحام ستيراً، لاتراك سوى عينه؛ ولاترعاك سوى عنايته، فذاك هو الرب والمالك والسيد حقيقة من غير تسامح في المعنى؛ ولا تجوز في اللفظ، وانت ذلك العبد المملوك بحقيقة العبودية، المربوب بنعمة الايجاد والتكوين، والصنع والخلق، وقد اقتضت تلك العبودية، حسب النواميس العقلية، والاعتبار والروية، المعزى إليها بقوله عز شأنه: «وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون »(5).
فالعبادة معناها كلفظها مشتقّة من العبودية ، وهي شأن من شؤونها وأثر من آثارها، فإن العبودية قضت على العبد حفظاً لاستدامة تلك النعمة ، بل النعم الجمّة وامتدادها أبدياً أن يقف العبد موقف الإذعان والاعتراف بها لوليّها ومولاها ، فكما أنّه في موطن الحقّ والواقع عدماً صرفاً وعجزاً محضاً ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ؛ ولا موتاً ولا حياة ، كذلك يكون في موطن الخارج والظاهر ماثلاً بين يدي مولاه في غاية الخضوع والذلّة ، والعجز والحاجة.
فالعبادة حقيقة هي التظاهر بتلك العبودية الحقيقية باستعمال اقصى مراتب الخضوع في الظاهر بجميع القوى والمشاعر مقروناً باستحضار تلك الجوهرة المكتنونة ، والدرّة الثمينة ـ جوهرة العبودية ـ وأني اخضع وأخشع ، وأسجد وأعبد، ذلك المنعم الذي انعم عليًّ بنعمة الحياة ، وأسبغ عليًّ جلابيب الوجود ، فصرت بتلك النعم مغموراً ؛ بعد أن أتى عليَّ حين من الدهر لم أكن فيه شيئاً مذكوراً.
اذاً فالعبادة على الحقيقة هي كون العبد في مقام الاعتراف والإذعان بالعبودية مقروناً بما يليق بها من استعمال ما يدلّ على اقصى مراتب الخضوع، والذلّة بالسجود والركوع ، والهرولة والطواف ، وغير ذلك ممّا وصفته الشرائع، وأوعزت إليه الأديان من معلوم الحكمة ومجهولها ، ومبهم الحقيقة أو معقولها.
تلك هي العبادة الحقيقية ، غايته أنّ عامّة الناس قصرت أفكارهم عن اجتناء ذلك اللبّ واقتصروا على القشور من العبادة، اللّهمّ إلاّ أن يكون ذلك مرتكزاً في اعماق نفوسهم على الإجمال في المقصود ، دون التفصيل والاستحضار والشهود، وكيف كان الحال ، فهل تحسّ أنّ أحداً من زوّار القبور والمتوسّلين بأربابها يقصد أنّ القبر الذي يطوف حوله ، أو صاحبه الملحود فيه هو صانعه وخالقه ، وأنّه بزيارته يريد أن يتظاهر بالعبوديّة له فتكون عبادة له ؟! أو أنّ أحداً من الزائرين يقول للقبر ـ أو لمن فيه ـ : يا خالقي ويا رازقي ويا معبودي؟ !
كلا ثم كلا ما احسب ان احداً يخطر على باله شيء من تلك المعاني مهما كان من الجهل والهمجية، كيف وهو يعتقد ان صاحب القبر بشر مثله عاش ومات واصبح رميماً رفاتاً. نعم، يعتقد ان روحه باقية عند الله ـ جل شأنه ـ فهو بها يسمع ويرى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحيآء عند ربهم يرزقون ) (6) ونظراً الى تلك الحياة يخاطبه ويسلم عليه ويتوسل الى الله سبحانه به ويطلب الشفاعة منه.
وبعد هذا كله فهل تجد من الحق والانصاف تشبيه الزائرين بعبدة الاصنام وهذه منابرهم ومنائرهم ومشاعرهم تضج في الاوقات الخمس بل في اكثر الاوقات بشهادة ان لا اله الا الله ويلهجون بأنه لا معبود الا الله؟! فهل ذلك القول الا قول مجادل بالباطل يريد ان يدحض به الحق، ويلقح شرر الفساد في الارض، ويريق دماء المسلمين ظلماً وعدواناً؟! ومما ذكرنا من معنى العبادة وحقيقة معناها يتضح انه لا شيء من تلك العناوين الممنوعة عند الوهابية، من الشفاعة والوسيلة، والتبرك والاستغاثة والزيارة وامثالها، له مسيس بالعبادة بوجه من الوجوه، هذا مضافاً إلى صدوره من النبي واصحابه والتابعين الواردة في صحيح الاخبار من صحيحي البخاري ومسلم وغيرها، وقد استوفى جملة منها جدنا كاشف الغطاء ـ رفع الله درجته ـ في رسالته التي مثلها الطبع في العام الغابرالمسماة بمنهج الرشاد كما سبق ذكرها قريباً فلا حاجة الى إعادتها وفيها مقنع وكفاية من ارادها فليراجعها .
وانما جل الغرض تنبيه الوهابين وغيرهم من المسلمين على موضع الزلة ومدخل الشبهة وخطل الراي، وان الصريمة والغريمة اليوم؛ والواجب، بل الاهم من كل واجب هو وحدة المسلمين وتكاتفهم، فإن الجميع موحدون فحبذا لو أصبحوا والجميع متحدون، ولا يحسبوا ان بقاء سلطتهم ونعيمهم بأن يضرب بعضهم بعضاً ويتعادى بعضهم على بعض، بل هذا ادعى لفشلهم وقرب اجلهم.
وليعلم الوهابيون علماً جازماً حاسماً لكل وهم وشبهة ان اليد التي اصبحت تضرب بهم المسلمين اليوم سوف تضربهم بغيرها غداً فلينتبهوا ولينتهوا قبل ان يقعوا في حفائر السياسة السحيقة، ومهاويها العميقة، والى الله سبحانه نضرع راغبين اليه وحده في ان يجمع الكلمة ويؤلف شمل الامة ويوقظهم من سنة هذه الغفلة التي اوشكت ان تكون حتفاً قاضياً عليهم أجمع؛ والى الله تصير الامور، ومنه البعث وإليه النشور.
________________________
الهوامش:
(1) مضمون الحديث ورد في الكافي 2 / 268 ح 2، من لا يحضره الفقيه 4 / 300 ح 909، مستدرك الوسائل 9 / 136 ح 10478، المؤمن: 72 ح 199.
(2) النساء: 94.
(3) الزمر:3.
(4) البقرة:158.
(5) آل عمران: 169.