وقف الإمام الحسين ليعالج مرضاً أصيبت به الأمة وهو «هو حالة انعدام الإرادة وانعدام وضوح الطريق»؛ ووصل ذلك عبر سلسلة من الإزاحات:
• استسلمت الأمة بعد الرسول لعهد «الخلافة الراشدة» وتحقيق نظرية ”المفضول على الفاضل“، بحسب رؤية فريق من المسلمين، وأبعد المجتمع عن المسار الإلهي لولا وجود علي وقتها، بحسب رؤية فريق آخر.
• تتابع الصدام ضد الإمام علي ، والذي أوصل الأمة إلى حالة «الشك والانقلاب» مع بداية ملك معاوية.. فوصول آل أبي سفيان وآل الحكم، قد مثل انجرافاً كاملاً للمجتمع عن حقيقة الروح السائدة وفق المنظور الإلهي.
• الوضوح والتصارح بين جناحين متصارعين، واتضحت معالمه بعد فقدت الأمة لكامل إرادتها، واستطاع الذين اغتصبوها وسرقوا شخصيتها وزوّروا إرادتها وأباحوا كرامتها، أن يخدّروها وأن يجعلوها غير قادرة على مجابهة الموقف.
لا شك أنّ فترة عشر سنوات في حياة الشعوب والحضارات تعتبر قصيرة جداً خاصة إذا ما أريد لها تربية الناس على خلاف ما كانوا قد ترعرعوا عليه من سجايا وخصائص، كما هو الحال في المجتمع الجاهلي الذي كان على النقيض تماماً من مضامين هذه الركائز في كل شؤونه. لذلك لم يدم الوضع طويلاً على تلك الحالة فكلما كان الوقت يمضي كان المجتمع الإسلامي ينحدر تدريجياً نحو الضعف والخواء.
لم يمض بعدُ نصفُ قرن على رحيل الرسول ﷺ حتى كادت تلك الركائز - التي على أساسها أشاد النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقضائي... - كادت تنقرض وتنمحي من حياة الناس. ولم يعد معاوية خليفة لمن قبله، كنسق سائد عند الخلفاء السابقين، وإنّما أضحى بين ليلة وأخرى خليفة الله، واجتهد حزبه في البرهنة على حقهم الشرعي والحصري بالخلافة، أي بسياسة الناس في دينهم ودنياهم، مما يستتبع نشوء حاكمية مزدوجة «دينية/مدنية» والتي هي الوجه الحقيقي لعملهم السياسي. واعتمدوا في تبرير سلطتهم وامتيازاتهم على موقعهم النسبي!
ولذلك نرى أنّ السلطة الأموية، أجازت:
1 - أن تحافظ على النظام المناسب لها، وتنتقل وفقاً لإجراءات وراثية على امتداد التسلسل الإداري.
2 - أن تساهم في بروز أحداث غير مألوفة ومقلقة «كقتل الهاشميين»، وانتهاك الحرمات والمقدسات والتي تمثلت بدك الكعبة وإحراقها.
3 - أن تحطم المدرسة المعرفية والفكرية لأهل البيت ؛ من خلال: اختلاق الأحاديث في ذم علي والنيل منه على المنابر، وعدم الرواية عن الحسين .
4 - أن تعتمد على ربط السياسة بالقداسة، وأن ترمي بالكفر جميع الأحزاب الخارجة عليها. وتطبيق قاعدة «المحلل والمحرم» «المقدس والمدنس». فكل اعتداء على السلطة هو سقوط في دائرة المحرمات «المدنسات»، وكل تحالف معها هو إحياء في دائرة المحللات «المقدسات». ولذلك خرج شعار ”إذا كان بينكم أمير، وقام أحد وادعى الإمارة، فسارعوا واقتلوه“. وعرف فيما بعد ذلك ب ”حرمة الخروج على الحاكم الظالم“.. ولهذا كانت بعض الأحاديث محل عناية من الجهاز الثقافي للسلطة.
إنّ حشد هذا المفهوم كانت له تداعيات خطيرة على مستوى تشكيل الوعي الديني / السياسي للمجتمع الإسلامي، ومن هذه التداعيات:
أ - حرمة الخروج على الحاكم الظالم.
ب - وجوب طاعة الحاكم الظالم.
ج - حرمة نقض البيعة للحاكم الظالم.
د - حرمة الخروج على الجماعة وشق عصا المسلمين. وهذا ما قاله معاوية صريحاً لعبد الله بن عمر عندما سأله عن سبب تنصيب يزيد خليفة: ”إني أحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق مَلَئِهم وأن تسفك دماءهم“1.
5 - أجازت أن ترسي دعائم الجبر والإرجاء: من خلال التلاعب في أسس الدين وعقائده ومفاهيمه الصحيحة، ومن أخطر ما روجوه بين الأمة وأكدوا على إشاعته هو فكرة الجبر الإلهي بهدف التمكن من السلطة والسيطرة التامة على مصير الناس.
يقول الدكتور أحمد محمود صبحي: ”إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب ولكن بأيديولوجية تمس العقيدة في الصميم، ولقد كان يعلن في الناس أنّ الخلافة بينه وبين علي قد احتكما فيها إلى الله فقضى الله له على علي... وهكذا كاد يستقر في أذهان المسلمين أنّ كل ما يأمر به الخليفة حتى لو كانت طاعة الله في خلافه قضاء من الله قد قدر على العباد“.
إنّ المشكلة الكبيرة التي كانت تواجه معاوية هي قضية تنصيب ولده يزيد خليفة على المسلمين، لذا كان على معاوية أن يحرف في بعض مفاهيم الدين من أجل أن يبرر تولية ابنه. فقصد المدينة من أجل تهيئة الظروف المناسبة لولاية يزيد وأخذ البيعة له، والتقى في سبيل ذلك بعائشة فكان مما قاله لها: ”إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم“.. وقد استخدم هذا الأسلوب أيضاً مع صحابة رسول الله.
وفتحت هذه الفكرة للسلطة الباب على مصراعيه من أجل ارتكاب ما تريد طالما أنّ الخطاب التبريري حاضر من أجل أن يرفع عن السلطة ورموزها كافة أشكال المسؤولية، باعتبار أنّ ما حصل إنّما هو من قضاء الله!!
من هنا نستطيع أن نقف على خطورة موقف الإمام الحسين ، فلقد واجه كل هذا الركام المدسوس بنهضة رائدة، وبوعي نبوي ثاقب 2.
_________
1. الإمامة والسياسة: ص 210.
2. المصدر: موقع جهنية الاخبارية.