من الغريب أن يتنكر البعض لفلسفة الانتظار ويتهمها بالانهزامية والنكوص.
وإذا كان الانتظار في الفكر الإمامي يعدُ إحدى خصوصياته ومعالمه المتميزة وذلك للتراث الروائي الوارد في أهمية الانتظار، فإن مثل هذه الروايات وردت في كتب أهل السنة تحث على الانتظار وكونه عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى، فقد أخرج الترمذي عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سلوا الله من فضله، فإن الله عز وجل يحبُ أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج 1.
فقد وصف الحديث أن الانتظار هو أفضل العبادة، والتخلّف عن هذه العبادة يوجب التقصير في حق الله تعالى، ويؤكد المخالفة التي لا يُعذر العبد ازاءها.
إن تغييب ظاهرة الانتظار ومسخها إلى حالة تلكوءٍ وتراجع هي حالة الانهزامية الحقيقية التي يفر من خلالها هؤلاء من واقع المجابهة الحقيقية مع المستقبل، بل مع التطلعات الطامحة للتغيير، وتُحيله إلى حالة انكفاءٍ يتقهقر بسببها عن مسؤليته، بل تحيله إلى أداة يتربصُ من خلالها لاتهام الآخر بالتقوقع والتخلف.
هذه هي الممارسة السلفية التي رسّخت في مخيلة أتباعها عنف المواجهة مع الآخر والاعتذار بعدم التزامها بفلسفة معينة بأنها حالة خروجٍ عن المعقول.
فالإنتظار لا يعني سوى حالة ترقّب وتوثّبٍ لمحاولات تغيير تطال النظام السياسي أولاً وتتبعه بذلك التركيبة الاجتماعية بما لها من تبعاتِ ظلم وغبنٍ لحقوق المستضعفين _ وإن كانوا الأكثرية _ وهذا يعني أن حالة التغيير ستعصفُ بتقليدية الحاكم والمحكوم، أي التقليدية التي تجعل أتباع (المذهب الحاكم) حاكماً وغيرهم محكومين كوراثةٍ سياسية تاريخية تنشأ من السقيفةِ مروراً بالعهدين الأموي والعباسي وما شاكلهما، وسيكون الآخر مهمشاً تابعاً تقليدياً، وعلى هذا درجت العقلية السياسية في الوطن الإسلامي الكبير دون أن تنازعه أية إطروحةٍ معارضةٍ إلا وجعلتها خارجةً عن القانون، وبذلك تستحق العقوبة والمطاردة والتنكيل.
إن فلسفة الانتظار تعني حالة تهيئ لمجتمع يترقب الثورة وينتظر التغيير والإصلاح على حساب تلك التقليدية الحاكمية، وبذلك ستلغى طبقة الحاكم لتتساوى مع طبقات المحكومين تحت قيادةٍ واحدة، ومعنى ذلك أن الانتظار تهديدٌ يتوعد الحاكم ومثوله أمام حاكمية إلهيةٍ عادلةٍ تطالبه بحقوق الآخرين المضيّعة وكرامتهم المهدورة، وبذلك فالشخصية الحاكمة تتهرب عن واقع يلاحقها حقيقةً ويتوعدها دائماً وهو واقع الظهور الموعود الذي حثّت عليه أحاديث الظهور المتواترة.
من هنا علمنا ما للجهد السياسي من أثرٍ سلبيٍ على تغيير الاتجاه المهدوي المرتكز في أعماق الإنسان ووجدانه، وإحالته إلى محاولةِ تنظير تختص بها طائفة دون أخرى، وإبعاد الذهنية الإسلامية عن حقيقة التعلق بها، وإهدار قيمتها لمواجهة الأحداث وبناء المجتمع المتكامل من خلالها 2.
____________
1. صحيح الترمذي ٥: ٢٢٥، باب ٦ / ح ٣٦٤٢.
2. المصدر: كتاب علامات الظهور، جدلية صراع أم تحديات مستقبل؟ للسيد محمد علي الحلو رحمه الله.