دوافع الحروب الصليبية على البلاد الإسلامية
  • عنوان المقال: دوافع الحروب الصليبية على البلاد الإسلامية
  • الکاتب: عبد الله الدلباني
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 23:45:43 1-9-1403

دوافع الحروب الصليبية على البلاد الإسلامية (1)

عبد الله الدلباني

ترجع أهمية الحروب الصليبية بالنسبة لنا إلى أنها تشكل تجربة في تاريخ المسلمين جميعاً سواء في المشرق أو المغرب. وهذه التجربة ليست من التجارب العابرة المحدودة الأثر والنتائج وإنما هي تجربة كبرى خطيرة مليئة بالدروس والعظات مما يتطلب منا أن نتأملها ونبحثها في كل وقت ـ الآن وفي المستقبل ـ لنستفيد من أخطاء الماضي ونتجنبها ونواجه أخطار الحاضر ونتغلب عليها. (والواقع أن هذه الظاهرة تسترعي الانتباه وتستحق منا التفكير العميق). فقد تكون الحروب الصليبية في حد ذاتها مسؤولة عن الانهيار الذي تعرّضت له بلادنا في أواخر العصور الوسطى بعد أن استنفدت جهود هذه البلدان في الدفاع عن كيانها وكرّست مواردها ونشاطها للقضاء على الإخطبوط الصليبي(1).

 

ماهية الحركة الصليبية:

ولعلّ السؤال الذي يواجهنا بعد ذلك هو: ما المقصود بالحركة الصليبية؟

الواقع أن الإجابة على هذا السؤال تعدّدت بتعدّد النوافذ التي أطلّ منها المؤرَّخون على الموضوع . فهناك من المؤرّخين من نظر إلى الحروب الصليبية على أنها حلقة من حلقات الصراع بين المشرق والمغرب وهو الصراع التقليدي القديم الذي ظهر بوضوح في النزاع بين الفرس واليونانيين ثم بين الفرس والروم(2).

 ومن الواضح أن هذا الصراع القديم لا يمكن ربطه بأيّ عامل ديني حيث أنه دار في عصور كان الشرق والغرب فيها وثنيين ؛ وربما بدا من الأرجح ربطه بالعامل الحضاري بوصفه صراعاً بين حضارتين مختلفتين وعقليتين متباينتين وأسلوبين في الحياة متباعدين(3).

وهناك فريق آخر من المؤرخين رأى أن الحركة الصليبية وما ارتبط بها من محاولات كبرى ومشاريع عديدة لغزو الوطن الإسلامي ـ وخاصة في الشرق الأدنى ـ ليست في حقيقة أمرها إلاّ الحلقة الأخيرة في سلسلة الهجرات الكبرى التي صحبت سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية(4). وهناك فريق ثالث من المؤرخين يرى أن الحركة الصليبية ليست إلاّ انطلاقة كبرى decumanus Fluctus نتجت عن عملية الإحياء الديني التي بدأت في غرب أوروبا في القرن العاشر والتي بلغت أشدّها في القرن الحادي عشر. ذلك أن حركة الإصلاح الكلونية (نسبة إلى دير كلوني في شرقي فرنسا) كانت في حقيقة أمرها حركة إحياء ديني بكل معاني الكلمة ترتب عليها عودة البابوية إلى سطوتها القديمة السابقة وتقوية الجهاز الكنسي وتدعيمه وربط أطرافه بالمركز الرئيسي في روما ثم إثارة نوع من الحماسة الدينية بوجه عام في الغرب الأوروبي.

وإذا كان الغربيون قد عرفوا الحج وزيارة الأماكن المقدسة ببلاد الشام منذ القرنين الرابع والخامس إلا أن مشاريع الحج ظلّت فردية. أما القرن الحادي عشر فقد عرف لأول مرة ظاهرة الحج الجماعي«en Masse» فكان يخرج للحج بضع مئات تحت زعامة أسقف أو نبيل ويتجهون سوياً من غرب أوروبا في صورة مظاهرة دينية سلمية قاصدين الأراضي المقدسة ببلاد الشام(5).

ويرى هذا الفريق من المؤرخين أنّ الحروب الصليبية التي بدأت الدعوة لها 1095م ليست إلا استمراراً لحركة الحج الجماعي إلى بيت المقدس، مع حدوث تطوّر في الأسلوب وهو أن الحج الجماعي صار حربياً بعد أن كان سلمياً. أما ذلك التطور في الأسلوب فمرجعه تلك الأخبار التي أخذت تصل إلى الغرب الأوروبي عن سوء معاملة الحجاج بعد استيلاء السلاجقة على بيت المقدس سنة 1071م ثم استيلائهم على أنطاكية سنة 1085 م وطرد البيزنطيين منها مما جعل الغرب يؤمن بأنه لابدّ من استخدام القوة لتأمين عملية الحج إلى بلاد الشام(6).

وأخيراً فإن هناك رأياً رابعاً أخذ به بعض الباحثين ورأى في الحروب الصليبية الوسيلة التي تحايل بها الغرب الأوروبي للخروج من أوضاع العصور الوسطى والانطلاق إلى حياة أوسع أفقاً. ذلك أن الغربيين ظلّوا طوال العصور الوسطى يعيشون داخل دائرة معينة حّددت أفقها الكنيسة تحديداً ضيقاً وكان كل من يحاول الخروج على هذه الدائرة يتعرض لغضب الكنيسة وطرده من رحمتها وبئس المصير!

 على أن الاتصالات التي تمت بين الغرب الأوروبي والمسلمين ـ سواء المسلمين في الأندلس أو في المشرق ـ أظهرت للأوروبيين أن الحياة أوسع أفقاً مما يظنون. وكان من المتعذر في ظل الظروف التي أحاطت بالناس في غرب أوروبا آنذاك تحقيق أمنيتهم إلاّ بالمشاركة في حركة ضخمة مثل الحركة الصليبية.

هذه هي أهم النوافذ التي أطلّ منها الباحثون على الحروب الصليبية(7). ونستطيع نحن على ضوء الآراء السابقة وغيرها أن نعرّف الحركة بأنها: (حركة كبرى نشأت من الغرب الأوروبي المسيحي في العصور الوسطى واتخذت شكل هجوم حربي استعماري على بلاد المسلمين وبخاصة في الشرق الأدنى بقصد امتلاكها. وقد انبعثت هذه الحركة في ظل الأوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والدينية التي سادت غرب أوروبا في القرن الحادي عشر واتخذت من استغاثة المسيحيين في الشرق ضد المسلمين ستاراً دينياً للتعبير عن نفسها تعبيراً عملياً واسع النطاق)(8).

وسنحاول أن نلقي نظرة سريعة على البواعث أو الدوافع التي أدّت بغرب أوروبا إلى القيام بحركة من أهم الحركات في تاريخ البشرية بوجه عام وفي تاريخ العصور الوسطى على وجه التحديد.

 

الدافع الديني:

اعتاد مؤرخو المدرسة القديمة أن ينظروا إلى الحروب الصليبية من زاوية واحدة هي زاوية الدين، متجاهلين الدوافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية، من ذلك أن ريان Rianـ (9) عرّف الحروب الصليبية بأنها :

(حروب دينية استهدفت عن طريق مباشر أو غير مباشر الاستيلاء على الأراضي المقدّسة ببلاد الشام).

ويقول مكسيموس مونروند: ( إن من أهداف الحرب الصليبية حصر المسلمين في حدودهم الرملية وخلاص إيطاليا وأسبانيا من غزواتهم وأخيراً استنقاذ أوروبا كلها استنقاذاً مؤبداً من المعتقد المحمدي )(10). حقيقة إن الحركة الصليبية لها في اسمها وطريقة الدعوة لها والروح التي كيّفت بعض أحداثها ما يجعل الصفة الدينية واضحة فيها؛ ولكن ليس معنى ذلك أن التيار الديني هو المسؤول الوحيد عن إثارة تلك الحركة والقوة الوحيدة الموجَّهة لها. وأن المدقق في تاريخ الحروب الصليبية ليسترعي نظره أن الروح الصليبية ذاتها كثيراً ما فترت في بعض حلقاتها وأن الباعث الديني كثيراً ما ذاب وسط التيارات السياسية والاقتصادية بوجه خاص.

والواضح أن كثيراً من المؤرخين السابقين الذين اعتادوا أن يستفتحوا كلامهم عن الحروب الصليبية بالمبالغة في سوء أحوال المسيحيين في البلاد الإسلامية في العصور الوسطى وما تعرّضوا له من اضطهادات وحشية وكيف أنّ كنائسهم خربت وأديرتهم أغلقت وطقوسهم عطّلت... فضلاً عما لاقاه حجّاج بيت المقدس المسيحيون من عقبات وما تعرّضوا له من معاملة سيئة من حكام البلاد الإسلامية التي مرّوا بها! (11)

إنّ القول بأن الحروب الصليبية أتت كردّ فعل للاضطهاد الذي تعرّض له المسيحيون ـ الشرقيون والغربيون ـ في البلدان الإسلامية إنما هو ادّعاء باطل لا يتفق وروح الإسلام وطبيعة الدعوة إليه وما أحاط به القرآنُ أهل الكتاب من رعاية وعناية وما أمر الله به محمداً  (صلى الله عليه وآله وسلم) من دعوتهم إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة ( فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلّوْا فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )(12). ويثبت التاريخ أن المسيحيين عاشوا دائماً في كنف الدولة الإسلامية عيشة هادئة هانئة تشهد عليها الرسالة التي بعث بها ثيودسيوس بطرق بيت المقدس سنة 869 م إلى زميله إجناثيوس بطرق القسطنطينية والتي امتدح فيها المسلمين وأثنى على قلوبهم الرحيمة وتسامحهم المطلق حتى أنهم سمحوا للمسيحيين ببناء الكنائس دون أي تدخل في شؤونهم الخاصة ، وذكر بطرق بيت المقدس بالحرف الواحد في رسالته: ( إن المسلمين قوم عادلون ونحن لا نلقى منهم أي أذى أو تعنت )(13).

حقيقة إن التاريخ يشير إلى تعرض المسيحيين أحياناً في بعض البلدان الإسلامية لنوع من الضغط أو الاضطهاد، ولكن هذه الضغوط تشكّل حالات فردية شذّت عن القاعدة العامة التي حرص الإسلام دائماً عليها، وهي التسامح المطلق مع أهل الكتاب.

 وإذا كان دعاة الحروب الصليبية في أواخر القرن الحادي العشر قد دأبوا على الدعاية لحركتهم في غرب أوروبا عن طريق المناداة بأن أحوال المسيحيين في آسيا الصغرى والشام قد ساءت تحت حكم السلاجقة ، فإن هناك أكثر من مؤرخ أوروبي مسيحي منصف قرروا بصراحة تامة أن السلاجقة لم يغيروا شيئاً من أوضاع المسيحيين في الشرق وأن المسيحيين الذين خضعوا لحكم السلاجقة صاروا أسعد حالاً من إخوانهم الذين عاشوا في قلب الإمبراطورية البيزنطية ذاتها؛ (وأن ما اعترى المسيحيين في الشام وآسيا الصغرى من متاعب في ذلك العصر إنما كان مردّه الصراع بين السلاجقة والبيزنطيين لأنه لا يوجد أيّ دليل على قيام السلاجقة باضطهاد المسيحيين الخاضعين لهم)(14).

أما عن البابوية فكانت قد بلغت في القرن الحادي عشر درجة خطيرة من القوة واتساع النفوذ مما فتح أمامها آفاقاً واسعة لتجعل سلطاتها عالمية بمعنى أن يكون البابا ـ بوصفه خليفة المسيح والقديس بطرس ـ الزعيم الروحي لجميع المسيحيين في الشرق والغرب(15) والمعروف أن البابوية ظلت دائماً ترغب في إخضاع الكنيسة الشرقية الاورثوذكسية لزعامتها وأخيراً جاء استنجاد الأباطرة البيزنطيين بالغرب الأوروبي ضد السلاجقة في القرن الحادي عشر ليتيح فرصة ذهبية للبابا للظهور في صورة الزعيم الأوحد للمسيحيين كلهم في صراعهم ضد المسلمين ولمحاولة إدماج الكنيسة الشرقية بالكنيسة الغربية على أن يتم ذلك كله تحت ستار محاربة المسلمين وحماية البيزنطيين واسترداد الأرض المقدسة في فلسطين(16).

هذا عن البابوية، أما عن جمهرة الصليبين الذين استجابوا لنداء البابوية وخرجوا قاصدين الشرق الأدنى فلم يكن الهدف الديني هو الباعث الرئيسي الذي دفع الغالبية العظمى منهم إلى المشاركة في الحركة الصليبية. وقد اعترف كثير من المؤرخين الأوروبيين الذين عالجوا هذا الموضوع بأن غالبية الصليبيين الغربيين الذين ساهموا في الحركة الصليبية تركوا بلادهم إما بدافع الفضول أو لتحقيق أطماع سياسية ، وأما للخلاص من حياة الفقر التي كانوا يحيونها في بلادهم في ظل النظام الإقطاعي، وأما للهرب من ديونهم الثقيلة أو محاولة تأجيل سدادها وإما فراراً من العقوبات المفروضة على المذنبين منهم (17). وأي وازع ديني كان عند ألوف الصليبين الذين شاركوا في الحملة الصليبية الرابعة والذين اتجهوا نحو القسطنطينية ـ وهو البلد المسيحي الكبير ـ لينهبوا كنائسها ويسرقوا أديرتها ويعتدوا على أهلها؛ بالقتل والضرب وهم جميعاُ إخوانهم في الدين ؟! وهكذا يبدو أنه إذا أردنا أن نعرف الأسباب الحقيقية للحركة الصليبية فعلينا بالبحث في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في غرب أوروبا خلال القرن الحادي عشر(18).

للبحث صلة

ــــــــــــــــــــــــ

(1) سعيد عاشور: الحركة الصليبية/ ج1/ ص3/ القاهرة 1963 .

(2) الحركة الصليبية: / ج1 / ص21؛ محمد المطوي: الحروب الصليبية في المشرق و المغرب/ ص10 تونس 1954.

(3) الحركة الصليبية /ج1/ ص21.

(4) المصدر نفسه.

(5) Setton/ History of the Crusades/ Vol – 1/P76.

(6) Setton/ Vol – 1/P – 78/ Pennsylvania 195.

(7) الحركة الصليبية: / ج1/ ص24، 25

(8) المصدر نفسه.

(9) الكونت ريان Rian هو مؤلف جمعية الشرق اللاتيني Societe de l Orient Latin / راجع حول ذلك السيد باز العريني/ مؤرخو الحروب الصليبية ص8/ القاهرة 1962.

(10) مونروند مكسيموس: / تاريخ الحروب المقدسة/ ص45/ اورشيم 1865.

(11) الحركة الصليبية/ ج1/ ص27، 28.

(12) القرآن الكريم/ سورة آل عمران / 20.

(13) Thompson: Economic and Soccial History of the Middle Ages/ Vol –1/P- 385/ London 1959.

(14) Thompson/ Vol 1-/P –391.

(15) Vasiliev: /History of the byzantine Empire/vol 2 /P- 377/ Madison 1961

(16) Ostrogorky: History of the Byzanrine State/ Oxford, 1956.

(17) Thompson: /Vol – 1/p 302.

(18) الحركة الصليبية/ ج1 / ص354.

دوافع الحروب الصليبية على البلاد الإسلامية (2)

عبد الله الدلباني

الدافع الاقتصادي:

أثبتت الأبحاث الحديثة دور العامل الاقتصادي وأهميته في تحريك العديد من الهجرات والحروب الهامة في التاريخ. ونحن مع اعترافنا بوجود بواعث عديدة للحركة الصليبية نؤكد على أهمية العامل الاقتصادي في تلك الحركة. ذلك أن جميع الوثائق المعاصرة تشير إلى سوء الأحوال الاقتصادية في غرب أوروبا ـ وبخاصة فرنساـ في أواخر القرن الحادي عشر. فالمؤرّخ المعاصر جيوبرت نوجنت Guibert Nogentـ(1) يؤكد أنّ فرنسا بالذات كانت تُعاني من مجاعة شاملة قبيل الدعوة للحملة الصليبية الأولى، بحيث ندر وجود الغلال وارتفعت أثمانها ارتفاعاً فاحشاً مما ترتب عليه حدوث أزمة في الخبز. وفي ضوء هذه الحقيقة يمكننا أن نفسّر لماذا كانت نسبة الصليبيين الفرنسيين المشتركين في الحملة الصليبية الأولى أكبر من الوافدين من أيّ بلد آخر في غرب أوروبا.

ومهما يقال من أن هذه الأزمة كانت مفتعلة، افتعلها التجار المستغلون ـ وجلّهم من اليهود ـ فالذي يهمنا هو أنه كانت هناك أزمة اقتصادية فعلاً في الغرب الأوروبي وراء الدعوة للحملة الصليبية الأولى وأن هذه الأزمة ألجأت الناس إلى أكل الأعشاب والحشائش(2). وزاد من سوء الأحوال الاقتصادية في الغرب الأوروبي في ذلك الوقت كثرة الحروب المحلية بين الأمراء الإقطاعيين، وهي الحروب التي لم تنجح الكنيسة أو الملوك في وقفها مما أضرّ بالتجارة وطرقها والزراعة وحقولها أبلغ الضرر. وهكذا جاءت الحروب الصليبية لتفتح أمامٍ أولئك الجوعى في غرب أوروبا باباً جديداً للهجرة، ولم يكن عجباً أن ضمّت الحملة الصليبية الأولى جموعاً غفيرة من المعدمين والفقراء والمساكين وطريدي القانون. وجميعهم كانوا يفكرون في بطونهم قبل أن يفكروا في دينهم، بدليل ما أتوا به طوال طريقهم إلى القسطنطينية من أعمال العدوان والسلب والنهب ضد الشعوب المسيحية التي مرّوا بأراضيها مما يتعارض مع أيّ وازع ديني.

ثم إن الباحث في تاريخ الحركة الصليبية يلحظ حماسة منقطعة النظير من جانب المدن التجارية ـ في إيطاليا من الغرب الأوروبي ـ للمساهمة في تلك الحركة سواءً بعرض خدماتها لنقل الصليبيين عن طريق البحر إلى الشرق أو في نقل المؤن والأسلحة وكافة الإمدادات إلى الصليبيين بالشام. وهنا أيضاً نستطيع أن نقرر أن جمهوريات إيطاليا البحرية لم تكن مدفوعة إلى تقديم تلك المساعدات للصليبيين بوازع ديني وإنما جرت وراء مصالحها الاقتصادية الخاصة(3).

والواقع أن الصليبيين بالشام لم يكن بإمكانهم الاستغناء عن مساعدة أساطيل (الثلاثة الكبار) ـ البندقية وجنوى وبيزا ـ حيث أن هذه الأساطيل قامت بدور فعّال في ربط الشام (الصليبية) بالغرب الأوروبي. وإذا كانت هذه الجمهوريات الايطالية قد قدّمت المساعدة المطلوبة للصليبيين، فإنها لم تفعل ذلك إكراماً للكنيسة وإنما مقابل معاهدات عقدتها مع القوى الصليبية بالشام وحصلت بمقتضاها على امتيازات اقتصادية هامة(4).

وهكذا اصطبغت الحركة الصليبية من أول أمرها بصبغة اقتصادية استغلالية واضحة. فكثير من المدن والجماعات والأفراد الذين أيدوا تلك الحركة وشاركوا فيها ونزحوا إلى الشرق ، لم يفعلوا ذلك لخدمة الصليب وحرب المسلمين وإنما جرياً وراء المال وجمع الثروات وإقامة مستعمرات ومراكز ثابتة لهم في قلب الوطن الإسلامي ، بغية استغلال موارده والمتاجرة فيها والحصول على أكبر قد ممكن من الثروة. حقيقة إن الاستعمار بمعناه الحديث لم تتضح معالمه إلاّ بعد الانقلاب الصناعي في القرن الثامن عشر، ولكن في العصور الوسطى كانت الحروب الصليبية ( أول تجربة في الاستعمار الغربي قامت بها الأمم الأوروبية خارج حدود بلادها لتحقيق مكاسب اقتصادية واسعة النطاق)؛ وذلك على قول أحد المؤرخين المحدثين(5).

وليس أدلّ على سيطرة النزعة الاستعمارية الاستغلالية على عقول كثير ممن ساهموا في الحركة الصليبية ، مما نشأ من تلك المنازعات والمخاصمات ، بل الحروب الأهلية التي نشأت بين الصليبيين أنفسهم في بلاد الشام. وقد استمرت هذه الحروب وبخاصة بين الثلاثة الكبار ـ البندقية وجنوى وبيزا ـ في أشد الأوقات حرجاً بالنسبة للصليبيين أي في النصف الأخير من القرن الثالث عشر عندما تساقطت مواقع من تبقّى من الصليبيين بالشام في أيدي المسلمين الواحدة بعد الأخرى.

وعبثاً ذهبت صيحات العقلاء من البابوات ورجال الدين وملوك قبرص ليوحّد الصليبيون صفوفهم، فالمنافسات التجارية والخصومات المادية بين الصليبيين الاستعماريين أنفسهم كانت أعمق جذوراً وأقوى أثراً من شعور الولاء للدين والكنيسة(6).

 

الدافع الاجتماعي:

تألّف المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى من ثلاث طبقات :

طبقة رجال الدين (من الكنيسة والديريين) .

طبقة المحاربين (من النبلاء والفرسان).

 طبقة الفلاحين (من الأقنان ورقيق الأرض).

وكانت الطبقتان , الأوليان تشكلان أقلية تمثل في مجموعها الهيئة الحاكمة من وجهة النظر السياسية والارستقراطية السائدة ، في حين ظلّت طبقة الفلاحين تمثل الغالبية المغلوبة على أمرها والتي كان على أفرادها أن يعملوا ويشقوا ليسدوا حاجة الطبقتين الأوليين(7).

وكان معظم أولئك الفلاحين من العبيد والأقنان الذين ارتبطوا ارتباطاً وراثياً بالأرض التي يعملون عليها وقضوا حياتهم محرومين من أبسط مبادئ الحرية الشخصية. فكل ما يجمعه القن يعتبر ملكاً خاصاً للسيد الإقطاعي لأن القن محروم حتى من الملكية الشخصية(8).

ثم إن أولئك الفلاحين عاشوا مثقلين بمجموعة ضخمة من الالتزامات والخدمات فكان عليهم أن يقدّموا خدمات معينة للسيد الإقطاعي مثل فلاحة أرضه الخاصة فضلاً عن تسخيرهم في أعمال شاقة مثل إنشاء طريق أو حفر خندق أو إصلاح جسر.

كذلك كان على الفلاحين دفع مقرّرات معينة مثل ضريبة الرأس التي يتعين على كل قن دفعها سنوياً رمزاً لعبوديته ، هذا عدا عن الضرائب الأخرى، وهكذا ظلت الغالبية العظمى من الناس في غرب أوروبا يحيون حياة شاقة مليئة بالذلّ والهوان. وكان ذلك في الوقت الذي علت فيه الدعوة للحرب الصليبية فوجدت تلك الألوف من البؤساء في الغرب الأوروبي فرصتها قد حانت للتخلص مما كانت تعيش فيه من الذّل ونكد الدنيا. فالموت كان أحبّ إليهم من حياة الجوع والذّل والعبودية(9).

 

الدافع السياسي:

ولكن إذا كانت الفاقة والحرمان والذلّ والهوان هي التي دفعت الغالبية العظمى من الصليبيين إلى الترحيب بالدعوة الجديدة والمشاركة في الحركة الصليبية بحثاً عن حياة أفضل ، فما هو الدافع الذي دفع عدداً لا بأس به من ملوك أوروبا وأمرائها وفرسانها للمشاركة في تلك الحركة؟....

أما عن ملوك الغرب الذين شاركوا في الحروب الصليبية مثل فردريك بربروسا وريتشارد قلب الأسد، وفيليب أوغسطس وفردريك الثاني فيثبت التاريخ أن معظمهم لم يخرج من بلاده لحرب المسلمين إلا تحت ضغط البابوية وإلحاحها بل تهديدها.

 وربما كان هذا الحكم بعيداً عن الصحة في حالة واحدة هي حالة لويس التاسع ملك فرنسا الذي اشتهر بورعه وتقواه. أما من عداه فإن تاريخ البابوية وتاريخ غرب أوروبا وتاريخ الحركة الصليبية يشهد على السفارات العديدة التي دأب البابوات على إرسالها بين حين وآخر إلى ملوك أوروبا يلحون عليهم في الخروج على رأس جيوشهم إلى الشرق لمحاربة المسلمين(10).

وإن من يدرس تاريخ الغرب الأوروبي في تلك الفترة من العصور الوسطى يعرف جيداً مدى قوة البابوية وعظم سلطانها، فأي ملكٍ من ملوك الغرب كان لا يستطيع أن يعصي لها أمراً أو يردّ لها طلباً وإلاّ تعرّض للحرمان والطرد من الكنيسة ورحمتها فلا يستطيع الاحتفاظ بعرشه أو بولاء شعبه.

وأبرز مثل لدينا الإمبراطور فردريك الثاني الذي أخذ البابوات واحداً بعد آخر يلحون عليه في الخروج على رأس حملة صليبية إلى الشرق ضد المسلمين. ولم يجد الإمبراطور دافعاً يدفعه للقيام بتلك الخطوة فظلّ يماطل مرة بعد أخرى والبابوية تتوعدّ وتهدّد حتى أصدرت ضده قرار الحرمان(11). وعندئذ خرج الإمبراطور ـ مكرهاً ـ على رأس فئة قليلة من رجاله قاصداً الشام وبادر بمجرد وصوله إلى الاتصال بالسلطان الكامل الأيوبي ليشرح له موقفه وبأنه ( ليس له غرض في القدس ولا غيره وإنما قصد حفظ ناموسه عند الفرنج ! )(12).

هذا عن الملوك .

 وأما الأمراء الذين ساهموا في الحركة الصليبية فمعظمهم كانوا يجرون وراء أطماع سياسية لم يستطيعوا إخفاءها قبل وصولهم إلى الشام وبعد استقرارهم فيها. والمعروف أن النظام الإقطاعي ارتبط دائماً بالأرض وبقدر ما يكون الإقطاع كبيراً والأرض واسعة بقدر ما تكون مكانة الأمير سامية في المجتمع. وقد أدّت طبيعة النظام الإقطاعي في الغرب الأوروبي إلى وجود عدد كبير من الفرسان والأمراء بدون أرض لأنه من القواعد الأساسية في هذا النظام أنّ الابن الأكبر وحده هو الذي يرث الإقطاع فإذا مات صاحب الإقطاع انتقل الإقطاع بأكمله إلى أكبر أبنائه(13). ومن الواضح أن هذا المبدأ يعني بقاء بقية الأبناء بدون أرض.

 وكان أن ظهرت الحركة الصليبية لتفتح باباً جديداً أمام ذلك النفر من الأمراء والفرسان المحرومين من الأرض في غرب أوروبا فلبّوا نداء البابوية وأسرعوا إلى المساهمة في تلك الحركة لعلّهم ينجحون في تأسيس إمارات لأنفسهم في الشرق تعوّضهم عما فاتهم في الغرب. كذلك سنرى أنّ الصليبيين بعد أن استقروا في بلاد الشام كثيراً ما دبّ الخلاف فيما بينهم حول حكم إمارة أو الفوز بمدينة وعبثاً حاولت البابوية أن تتدخل لفض بعض تلك المشاكل ولتذكّر الأمراء الصليبيين بالشام بأنّ المسلمين يحيطون بهم وبالتالي فالواجب يستدعي تضامنهم لدفع الخطر عن أنفسهم. ولكن تلك الصيحات ذهبت مع الريح لأنّ هدف الأمراء كان ذاتياً سياسياً ولم يكن يهمّهم كثيراً رضا البابا أو سخطه(14).

يضاف إلى ذلك كله عامل آخر شجع كثيرين من فرسان الغرب الأوروبي على المشاركة في الحركة الصليبية ذلك أنّ النظام الإقطاعي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالفروسية والحرب وإظهار الشجاعة وأنّ حياة السلم كانت تعني البطالة بالنسبة لمحاربين محترفين لا عمل إلا القتال والحرب. وعندما كثرت الحروب الإقطاعية وهدّدت المجتمع الغربي تهديداً خطيراً تدخلت البابوية ونادت بما يعرف باسم (هدنة الله) وهي أوقات معلومة يحرّم فيها القتال. وعندئذ بحث الفرسان الغربيون عن ميادين جديدة يستعرضون فيها عضلاتهم فابتكروا المبارزة. ولكن المبارزات بين الفرسان كانت تتم بطريقة تمثيلية استعراضية استهدفت إظهار أكبر قسط من المهارة بأقل قدر من الإصابات وإراقة الدماء(15).

 لذلك لم يقنع الفرسان بتلك الوسيلة حتى إذا ما ظهرت الدعوة الصليبية فتحت أمامهم باباً واسعاً لإظهار شجاعتهم والتعبير عن مواهبهم الحربية بغضّ النظر عما في المشاركة في تلك الحركة الجديدة من سعي مشكور وذنب مغفور(16).

 

ـــــــــــــــ

1ـ هو رئيس دير نوجنت Nogent/ راجع حول ذلك السيد الباز العريني:/ مؤرخو الحروب الصليبية/ ص 45.

2ـ Thompson:/Vol 1/P 392.

3ـ سعيد عاشور الحركة الصليبية:/ ج 1/ ص 34، 35/ القاهرة 1963.

4ـ عبد القادر اليوسف:/ علاقات بين الشرق والغرب/ ص42/ بيروت 1969. راجع سعيد عاشور:/ الحركة الصليبية/ ج1/ ص36.

5ـ Thompson:/Vol1/ P97.

6ـ الحركة الصليبية:/ ج1/ ص37.

7ـ سعيد عاشور:/ أوروبا العصور الوسطى/ ج2/ص63/ القاهرة ط2/1961ـ 1963.

8ـ أوروبا العصور الوسطى/ ج2/ ص77، 79.

9ـ الحركة الصليبية/ ج1/ ص38، 39.

10ـ الحركة الصليبية/ج1/ ص40.

11ـ الحركة الصليبية/ج1/ ص41.

12ـ المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك./ج1/ص230/ القاهرة / 1934 ـ 1958.

13ـ أوروبا العصور الوسطى:/ ج2/ ص49.

14ـ الحركة الصليبية/ج1/ ص42.

15ـ أوروبا العصور الوسطى:/ ج2/ ص68.

16ـ الحركة الصليبية/ج1/ ص43.