العالم الإسلامي عشية الحروب الصليبية
بقلم المؤرخ الغربي (أندريه غروسيّه)
النص الذي بين أيدينا مقتطع من كتاب صدر بالفرنسية منذ مدة غير قصيرة بعنوان (ملحمة الصليبيين) لمؤلفه (أندريه غروسيّه) .. الذي يعتبر واحداً من أبرز مؤرخي الحروب الصليبية في الغرب , فهو ـ أي المؤلف ـ حجّة يعتدّ بها الباحثون الغربيون وغيرهم في هذا المجال .
والكتاب هو سفر تاريخي وسياسي فيما يتعلق بالمسألة الصليبية من وجهة نظر الغرب , أما من وجهة نظرنا فكثير مما ورد فيه يحتاج إلى محاكمة ونقاش علميين سواء أكان ذلك لجهة حصول الأحداث وظروفها .. أم لجهة فهمها وتأويلها وانتزاع الثوابت والمتغيرات التاريخية أو السياسية أو الثقافية منها.
فيما يلي ننشر النص المترجم الذي اخترناه من الكتاب المذكور ، والذي قامت بتعريبه (سامية زغيب) ، بإشراف ومراجعة الدكتور سمير سليمان:
بعد 400 عام من انبثاقه من شبه الجزيرة العربية ، أصبح الإسلام يغطي المناطق الواقعة بين سوريا واسبانيا أي ما يقرب من نصف الأراضي الرومانية السابقة، وكان مهد المسيحية (فلسطين) ما يزال تحت سلطته.
واعتقدنا في وقت من الأوقات، أي بعد مرور ما يقرب من قرن، أنّ الأراضي المقدسة ستنقذ من أيدي المسلمين .. كان ذلك عندما قامت الإمبراطورية البيزنطية بالرد على العرب فأرجعتهم أدراجهم إلى سوريا.
وفي عام 969م تمّت إعادة مدينة إنطاكية إلى المسيحيين .
وفي عام 975 تمكّن الإمبراطور Jeant Zimisees، وهو أحد أهم ملوك التاريخ البيزنطي ، من اجتياح سوريا بكاملها، وأقام له قصراً عند أسوار دمشق.
ومن هناك استطاع هذا الملك اختراق الأراضي المقدسة في الجليل . . وكان يأتي على رأس الجحافل الرومية ليصلي على ضفاف بحيرة طبريا، ويتصل بسكان الناصرة ، وليصعد إلى جبل الطور ويحج إلى حيث كان يظهر السيد المسيح.
وكان هذا أدنى ما يرغبه ، إذ كان يطمح إلى الوصول إلى القدس ، ولكن التزامه بمحاربة الحاميات العربية، التي كانت تسيطر آنذاك على الموانئ اللبنانية ، هو الذي أوقف مسيرته نحو المدينة المقدسة.
وبعد أن أصبح قاب قوسين أو أدنى من هدفه عاد إلى القسطنطينية حيث توفي قبل أن (يُنقذ) المدينة المقدسة .
وقد أدرك المسيحيون بوضوح مدى عجز القوة البيزنطية وكنيسة بيزنطية ، عندما قام (الخليفة) المصري عام 1005، بالاعتداء على (ضريح) المسيح ، ذلك أن بيزنطية كانت قد قررت نهائياً عدم ربط اسمها بمجد الصليبية.
وازداد الوضع سوءاً مع ظهور الأتراك , فهم على عكس حماة الإسلام العرب والفرس ـ الذين فقدوا مهاراتهم القتالية تحت تأثير الحضارة المترفة ـ ، كانوا عناصر قتالية ممتازة.
وقد كسبوا صلابتهم بفعل نشأة أجيال عديدة منهم في ظل حياة البداوة والبؤس ، فزوّدوا العالم الإسلامي بقوة إضافية , وتغيّر كل شيء يوم دخل (طغرل بك) السلجوقي بغداد عام 1055، وكان هذا عاماً مهماً في تاريخ آسيا.
فقد جاء هذا السلجوقي، وهو زعيم إحدى القبائل في سهب (قرغيزيا)، وفرض نفسه على الخليفة العربي ، كممثل وسلطان .. ومعه تأسست الإمبراطورية التركية إلى جانب العربية ، وبفضله أصبح الأتراك ، السلالة الإمبراطورية التي تحكم العالم الإسلامي . . ومنذ ذلك التاريخ تغيّر كل شيء، فبعد توقف دام قرنين ، استؤنفت الفتوحات الإسلامية . . ولابدّ أن يكون (أوربان الثاني) وكان ما يزال راهباً في (كلوني) ، قد سمع من الحجّاج القادمين من الشرق كيف تمكن الأتراك السلاجقة ، بعد عمليات فتكٍ رهيبة ، من انتزاع الأرض المسيحية القديمة من الإمبراطورية البيزنطية في أرمينيا ، ولابد أيضاً أنه تلقى خبراً فظيعاً هو نكبة (مالازكرد) (سنة 1071م).
كان قد اعتلى عرش بيزنطية آخر عسكري متحمس، وهو الإمبراطور (ديوجين). وفي عام 1071م أراد هذا الإمبراطور، بعد تجييشه مئات الألوف من الرجال، انتزاع أرمينيا من الأتراك , واستعدّ زعيم الأتراك (ألب أرسلان) وكان يلقّب بـ (الأسد الصلب) ، وهو الثاني في سلطنة السلالة السلجوقية لملاقاته ، وحصلت الصدمة بالقرب من (مالازكرد) ، شمالي بحيرة (فان) حيث قام ضباط رومان في 19 آب 1071 بخيانته، وبقي وحده مع عدد من مناصريه الخلّص، يقاتل قتال الأبطال حتى أصيب بجروحِ وقُتل حصانه، فوقع أسيراًٍ وأُخذ إلى (ألب أرسلان) الذي عامله بكل شرفٍ ونبل، وعندما أُطلق سراحه قام البيزنطيون بفقء عينيه بسبب كراهيتهم السياسية له , واعتبرت هزيمة (مالازكرد) التي قلّما نشير إليها في كتبنا، إحدى أسوأ نكبات التاريخ الأوروبي , وكان من نتائج هذه المعركة التي نشبت في قلب أرمينيا , أن غزا الأتراك ثلاثة أرباع أراضي آسيا الصغرى في غضون عشرة أعوام.
ومما ساعد الأتراك في تقدّمهم هذا، هو افتقاد الجنرالات البيزنطيين ، المختلفين على العرش للوطنية المسيحية.
وكان أحد هؤلاء الطامعين بالعرش قد اعتبر الأتراك عام 1078 بمثابة حلفاء ، وأنزلهم على أساس هذا الشعار في (نيقيا) ، بالقرب من (مرمرة) في الجهة المقابلة للقسطنطينية , وبعد مضي ثلاث سنوات على ذلك قام أحد أبناء السلالة السلجوقية بطرد البيزنطيين وأسّس مملكة تركية خاصة بآسيا الصغرى عاصمتها نيقيا، وكانت بمثابة نواة تركيا التاريخية.
وفي هذا الوقت، قام قادة أتراك آخرون في سوريا، بانتزاع القدس من العرب المصريين عام 1071م وانطاكيه من البيزنطيين (1085م).
وفي عهد السلطان السلجوقي الثالث (ملك شاه) (1072ـ1092) امتدت الإمبراطورية التركية من بخارى حتى انطاكيا.
وفي عام 1087، أقدم (ملك شاه)، حفيد البدو والآتي من أعماق آسيا الوسطى على القيام بعملٍ رمزي مثير للاهتمام، عندما بلّ سيفه في مياه المتوسط.
كان لهذه الأحداث ، التي حصلت خلال وجود (أوربان الثاني) في سدّة البابوية (1088ـ1099) دوي هائل في الغرب.
إن انهيار الإمبراطورية البيزنطية بعد نكبة (مالازكرد) وعدم اكتراثها لاستيلاء العرق التركي والإسلام على آسيا الصغرى، فرضا على الغرب قناعة تقضي بتدخّل دوله لمواجهة هذه الهزيمة وإنقاذ أوروبا المهددة مباشرة.
ولم يكن مؤرخونا القدماء على خطأ في تقديراتهم , فقد قرر (غيوم وي تير) بعد كارثة (مالازكرد) حرمان (الأرثوذكس) نهائياً من حقّهم كحماةٍ للعالم المسيحي . . وكان هذا هو المبرّر لدخول الفرنج والحلول مكان هؤلاء الحلفاء غير الأكفاء وإبعادهم عن المسرح, لقد حان وقت التنبه والحذر، إذ كان باستطاعة المسلمين الانقضاض على القسطنطينية والاستيلاء عليها من موقعهم في نيقيا، حيث أصبح لهم موطئ قدم .. لذا كان يمكن (لكارثة) عام 1453، أن تحلّ قبل ذلك بكثير، أي في أواخر القرن الحادي عشر .. وقد شكّل هذا التوقع أحد العوامل التي جعلت (أوربان الثاني) ، وبعد مرور 14 عاماً على احتلال (نيقيا) من قبل الأتراك ، يعود (للتبشير) بأول حملة صليبية على الشرق .. ولم يكن ثمة ما يبرر، في هكذا ظروف ، صدور أمرٍ بهذا الحجم عن الإمبراطور البيزنطي (ألكسي كومنان). كان يكفي (أوربان الثاني) لسلوك سياسة واضحة، أن يُحس بواجباته كمرشدٍ وكمدافع عن العالم المسيحي.
وكانت سياسته تلك ذات آفاق بعيدة ، فمن عرش البابوية في (كليرمون فيرّون) ، كان يهتم بما يجري في القدس بين المصريين والسلاجقة من معارك كانت تؤدي إلى مجازر جديدة ضد المسيحيين هناك، كاهتمامه بقضية مضائق البوسفور والدردنيل التي كانت تدعى بـ (ذراع القديس جورج) وهي ما تزال تحت التهديد التركي، ففي 27 تشرين الثاني ـ عام 1095 ـ ، وفي اليوم العاشر للمجمع الكنسي في (كليرمون) (فرنسا)، دعا (أوربان الثاني) المسيحيين جميعاً إلى حمل السلاح, وكان ذلك بمثابة نداء من البابا للدفاع عن الإيمان المهدّد بغزو جديد من قبل المسلمين، وهو نداء من الوريث الفعلي لأباطرة الرومان للدفاع عن الغرب ومن أكبر سلطة أوروبية لإنقاذ أوروبا من الغزاة الآسيويين، خلفاء أخيلا (AHILA)، والسابقين لمحمد الثاني .. وراح نداء (الله يريد ذلك) ينتشر في الأنحاء كافة بناءً على طلب (أوربان الثاني)، الذي جعل منه عاملاً لتوحيد المسيحيين, وتم الطلب إلى جنود المسيح المستقبليّين، أن يتميّزو بوضع إشارة (الصليب) على ملابسهم .. وهكذا ولدت (الحروب الصليبية) وأتاحت المجال للأمراء ولأفواج الناس بالانطلاق نحو عمق الشرق ويمكن مقارنة الفكرة الصليبية لمجمع (كليرمون) الديني بالفكرة التي أطلقت يد الاسكندر الكبير واليونان لغزو آسيا في عام 336 ق . م، وقد جاء نداء (أوربان الثاني) وحالة التعبئة التي تلته في عام 1095 في الوقت المناسب .. إذ لو تمّت هذه الحملة قبل ذلك بسبع أو ثماني سنوات لكانت فرصة نجاحها أقل, ذلك أنّ إمبراطورية السلاجقة التركية كانت في أفضل حالاتها من الوحدة والثبات والقوّة.
إلاّ أنّ هذه الإمبراطورية كانت ، عندما بدأ (أوربان الثاني) بتحريض الغرب ضد آسيا، مقسّمة ومجزأة بعد مرور وقت قصير على وفاة السلطان (ملك شاه) (1092) وقد غدت هذه الإمبراطورية, كإمبراطورية شارلمان، تُعاني من التفسخ بفعل صراعاتٍ عائلية عميقة بين أبناء السلطان، وأبناء إخوته وأولاد عمه , ولم يحتفظ أبناؤه إلاّ ببلاد فارس ، بعد أن دارت خلافات حادّة حول تقسيم المقاطعات وأصبح ابنا أخيه ملكين على سوريا ، الأول في حلب والثاني في دمشق , أمّا آسيا الصغرى الممتدة من نيقيا حتى قونيا فتحولت هي الأخرى إلى إمبراطورية تركية رابعة تحت سلطة الإبن الأصغر للسلطان السلجوقي , وكان هؤلاء الأمراء كلهم ، بالرغم من صلة القرابة التي تجمعهم ، منقسمين فيما بينهم ، بحيث بات من المستحيل توحيدهم ضد أي خطر خارجي . . فلما وصل الصليبيون إلى بلادهم ، وبدل أن يتعاونوا ضدهم في الوقت المناسب ، راح كل واحد منهم يقاتل الصليبيين منفرداً ، فحلّت الهزيمة بهم واحداً إثر واحد, وبالطبع لم يكن (أوربان الثاني) على علم بتفاصيل تلك النزاعات ، لأن الأمور الأساسية التي كان ينقلها إليه الحجّاج لم تكن لتغيب عنه , ويجب الاعتراف هنا بأنّ توقيت (أوربان الثاني) للبدء بمشروعه كان مناسباً للغاية . . وقد فاجأت الحملة الصليبية العالم الإسلامي ، المتخبّط بصراعاته ، وفي ظرفٍ كانت تتقوض فيه أسس الإمبراطورية وحصل الشيء نفسه عندما فاجأ البدو الرحّل الغرب وهو في أوج تفسخّه وانحلاله.