مناظرة الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع أبي قُرة
  • عنوان المقال: مناظرة الإمام الرضا ( عليه السلام ) مع أبي قُرة
  • الکاتب: مركز آل البيت العالمي للمعلومات
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 12:5:9 14-9-1403

تصدّى الإمام الرضا ( عليه السلام ) لإبطال الشُبَه التي أثيرت حول العقيدة الإسلامية.
وقد قصد أبو قُرة خراسان لامتحان الإمام (عليه السلام)، وطلب من صفوان بن يحيى ، وهو من خواص الإمام (عليه السلام) أن يستأذن منه للدخول عليه ، فأذن الإمام (عليه السلام) له.
فلمَّا تشرَّف بالمثول أمامه سأله عن أشياء من الحلال والحرام ، والفرائض والأحكام ، فأجابه (عليه السلام) عنها.
ثم سأله عن بعض قضايا التوحيد، وهذه منها:
قال أبو قُرَّة : أخبرني جعلني الله فداك عن كلام الله لموسى؟
فقال (عليه السلام): ((اللهُ أعلم بأيٍّ كَلَّمَهُ، بالسِّريانيَّة أم بِالعِبرَانِيَّة)).
فأخرج أبو قُرَّة لسانه وقال: إنما أسألك عن هذا اللسان –ومعنى ذلك أنه هل كلَّمه بلسان كَلِسَان الإنسان–؟
فقال (عليه السلام):  ((سبحان الله عما تقول، ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلِّمون، ولكنه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء، ولا كمثله قائل ولا فاعل)).
فقال أبو قُرَّة: كيف ذلك؟
فقال (عليه السلام): ((كَلام الخالقِ لمخلوقٍ ليس كَكَلام المخلوق لمخلوق، ولا يلفظ بِشَقِّ فَمٍ ولسان ولكن يقول: (كُنْ  ، فكان بمشيئتِه ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير تردّد في نَفَس)).
فقال أبو قُرَّة : ما تقول في الكُتُب؟
فقال (عليه السلام): ((التَّوراةُ، والإنجِيل، والزَّبُور، والفُرقَان، وكل كتابٍ أُنزِل كان كلام الله، أنزله للعالمين نوراً وهُدىً، وهي كلّها مُحدَثة، وهي غير الله حيث يقول عزَّ وجلَّ : ((أوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً))[ طه : 113 ] .
وقال عزَّ وجلَّ: ((مَا يَأْتِيهِمْ مِّنْ ذِكْرٍ مِّنْ رِّبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ استَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)) [ الأنبياء : 2 ].
والله أحدَثَ الكتب كلها التي أنزَلَها)).
فقال أبو قُرَّة : هل تُفنَى – أي: الكتب – ؟
فقال (عليه السلام): ((أجمعَ المسلمون على أنَّ ما سوى الله فانٍ، وما سوى الله فعل الله، والتوراة والإنجيل والزَّبور والفرقان فعل الله، ألم تسمع الناس يقولون: رب القرآن، وأن القرآن يقول يوم القيامة: يا ربِّ هذا فلان – وهي أعرف به منه – قد أظمأتُ نهارَه وأسهرتُ ليله ، فَشَفِّعنِي فيه.
وكذلك التوراة والإنجيل والزَّبور وهي كلها مُحدَثة ، مَربُوبة ، أحدثها من ليس كمثله شيء هُدىً لقومٍ يعقلون ، فمن زعم أنَّهُنَّ لم يَزلْنَ معه فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم ، ولا واحد ، وإن الكلام لم يزل معه ، وليس له بدو ، وليس بإِلَه)) .
فقال أبو قُرَّة : إنا روينا : إن الكتب كلّها تجيء يوم القيامة والناس في صعيد واحد، قيام لِربِّ العالمين ، ينظرون حتى ترجع فيه ، لأنها منه وهي جزء منه ، فإليه تصير .
فقال (عليه السلام): ((هكذا قالت النصارى في المسيح إنه روحه ، جُزء منه ، ويرجع فيه ، وكذلك قالت المجوس في النار والشمس أنهما جزء منه ترجع فيه .
تعالى ربُّنا أن يكون متجزياً أو مختلفاً ، وإنما يختلف ويأتلَّف المُتجزي لإن كل متجزي متوَّهم ، والكثرة والقلة مخلوقة دالَّة على خالق خلقها)).
فقال أبو قُرَّة: إنا روينا: إن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيَّين، فقسم لموسى الكلام ولمحمد الرؤية؟
فقال (عليه السلام): ((فمن المُبلغ عن الله الثقلين : الجن والأنس ؟ ، إنه لا تدركه الابصار ، ولا يحيطون به علماً ، وليس كمثله شيء ، أليس محمد))؟
فقال أبو قُرَّة : بلى .
وأوضح الإمام (عليه السلام) له الأمر ، وكشف ما التبس عليه قائلاً:
((كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله ، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله ، ويقول : إنه لا تدركه الابصار ولا يحيطون به علماً ، وليس كمثله شيء .
ثم يقول : أنا رأيتُه بعيني، واحطتُ به علماً، وهو على صورة البشر.
أما تستحيون؟!! ما قَدِرَت الزنادقة أن ترميهِ بهذا، أن يكون أتى عن الله بأمر ثم يأتي بخلافه من وجه آخر)).
فقال أبو قُرَّة: إنه يقول: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى))[ النجم : 13 ]، وما بعدها.
فقال (عليه السلام): ((إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى ، حيثُ قال:
(مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأى)[ النجم : 11 ] .
يقول : ما كذب فؤاد محمد ما رأت عينَاه ، فقال :
((لَقَدْ رَأى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى))[ النجم : 18 ]، فآياتُ الله غير الله .
وقال : ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً))[ طه : 11 ].
فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ، ووقعت المعرفة)) .
فقال أبو قُرَّة : فنكذِّب بالرواية ؟
فقال (عليه السلام): ((إذا كانت الرواية مُخالفة للقرآن كَذَّبتُها ، وما أجمع المسلمون عليه أنه - أي الله تعالى - لا يُحاط به علماً ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء)).
فقال أبو قُرَّة : ما معنى قوله تعالى :
((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ..))[ الإسراء : 1 ] .
فقال (عليه السلام) : ((لقد أخبر الله تعالى أنه أسرَى به ، ثم أخبر أنَّه لِمَ أُسْرِيَ به ، فقال : ( لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا ) [ الإسراء : 1 ] .
فآيات الله غير الله ، فقد أعذر ، وبَيَّن لِمَ فعل به ذلك ، وما رآه ، وقال :
( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ) [ الجاثية : 6 ] )).
فقال أبو قُرَّة: أين الله؟
فقال (عليه السلام): ((الـ ( أيْنَ ) مَكان ، وهذه مسألة شاهدٍ عن غائب ، فالله تعالى ليس بغائب، ولا يُقدِمُه قادم، وهو بِكُل مكان، موجود، مدبِّر، صانع، حافظ، ممسك السماوات والأرض)).
فقال أبو قُرَّة: أليس هو فوق السماء دون ما سواها؟
فقال (عليه السلام): ((هو الله في السماوات وفي الأرض ، وهو الذي في السماء إِلَه ، وفي الأرض إله ، وهو الذي يصوِّرُكم في الأرحام كيف يشاء ، وهو معكم أينما كنتُم ، وهو الذي استوى إلى السَّماء وهي دُخَان.
وهو الذي استوى إلى السماءِ فَسوَّاهُنَّ سبع سماوات ، وهو الذي استوى على العرش ، قَد كان وَلا خَلْق ، وهو كما كان إذ لا خَلْق ، لم ينتَقِل مع المُنتَقِلين)).
فقال أبو قُرَّة: فَما بَالُكم إذا دعوتُم رفعتم أيديكم إلى السماء؟
فقال (عليه السلام): ((إن الله استعبدَ خلقه بِضُروب من العبادة، ولله مَفازِعَ يفزعون إليه ومستعبد، فاستعبَدَ عبادَه بالقول والعلم، والعمل والتوجّه، ونحو ذلك استعبدهم بتوجيه الصلاة إلى الكَعبة، ووجه إليها الحَجَّ والعمرة.
واستعبد خلقه عند الدعاء والطلب، والتضرّع ببسط الأيدي، ورفعها إلى السَّماء حال الاستكانة، وعلامَة العبودية والتذلل له)).
فقال أبو قُرَّة: من أقرب إلى الله الملائكة أو أهل الأرض؟
فقال (عليه السلام): ((إن كُنتَ تقول بالشِّبر والذراع، فإن الأشياء كلها باب واحد هي فعله، لا يشتغل ببعضها عن بعض، يدبِّر أعلى الخلق من حيث يدبر أسفله، ويدبر أوَّله من حيث يدبِّر آخره من غير عناء، ولا كُلفة ولا مُؤْنة، ولا مشاورة، ولا نصب.
وإِن كنتَ تقول: من أقرب إليه في الوسيلة، فأطوَعهم لهُ، وأنتم ترون أن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد.
وروَيتم أن أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلى الخلق، وأحدهم من أسفل الخلق، وأحدهم من شرق الخلق، وأحدهم من غرب الخلق، فسأل بعضهم بعضاً فكلهم قال: مِن عندِ الله، أرسلني بكذا وكذا.
ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل)).
فقال أبو قُرَّة : أتقرّ أنَّ الله مَحْمُول؟
فقال (عليه السلام): ((كُل محمولٍ مفعول، ومضاف إلى غيره، محتاج، فالمحمول اسم نقص في اللفظ، والحامل فاعل، وهو في اللفظ ممدوح .
وكذلك قول القائل: فوق، وتحت، وأعلى، وأسفل، وقد قال الله تعالى:
( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا )[ الأعراف : 180 ].
ولم يقل في شيء من كُتُبه أنه محمول ، بل هو الحامل في البَرِّ والبحر ، والمُمسك للسماوات والأرض ، والمحمول ما سوى الله ، ولم نسمع أحداً آمن بالله وعظَّمَه قط قال في دعائه : يا محمول ..)).
فقال أبو قُرَّة : أفنكذِّب بالرواية: إن الله إذا غضب يعرفُ غضبه الملائكة الذين يحملون العرش، يَجدُونَ ثقله في كواهلهم، فَيَخرّونَ سُجَّداً، فإذا ذهب الغَضَب، خَفَّ فرجعوا إلى مواقفهم؟.
فقال (عليه السلام): ((أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لَعَن إبليس إلى يومك هذا ، وإلى يوم القيامة ، فهو غضبان على إبليس وأوليائه ، أو عَنهم رَاضٍ))؟
فأيَّد أبو قُرَّة كلام الإمام ( عليه السلام ) قائلاً: نَعَم، هو غضبان عليه.
وانبرى (عليه السلام) قائلاً: ((وَيْحَك، كَيف تَجتَرِئ أنْ تَصِفَ رَبَّك بالتغيّر من حال إلى حال، وأنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين؟
سُبحانه ، لم يزل مع الزَّائلين ، ولم يتغيَّر مع المُتغيِّرين)).
واستولى الذهول على أبي قُرَّة، وحارَ في الجواب، وانهزم من المجلس وهو غضبان، وقَد أُترِعَت نفسُه بالغيظ والحقد على الإمام (عليه السلام).