قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ 1.
اتّهم الشيعة من قبل بعض مخالفيهم بأنّهم يقولون بوقوع التحريف في القرآن الكريم، والحق أنّ الشيعة يؤمنون بأنّ القرآن الكريم مصونٌ من التغيير والتبديل، ولم تطاله يد التحريف لا بزيادة ولا نقيصة، فلا يقيمون أيَّ وزن لقول من قال منهم أو من غيرهم بوقوع التحريف فيه، لأنّ هذا القول محض اشتباه وخطأ وقع فيه البعض نتيجة لوجود بعض الرّوايات عند الفريقين «السنة والشيعة» الموهمة بالتحريف، وجلّها روايات ضعيفة من ناحية السّند، وبعضها لا دلالة فيه على شيء من التحريف.
فمثلاً، ورد في بعض الرّوايات أنّ بعض الصحابة كان يقرأ: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ - في علي - وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 2، بزيادة عبارة «في علي»، والآية في المصحف الشريف من دون هذه الزّيادة، فتحمل القراءة لهذه الآية بهذه الكيفية على أنّ عبارة «في علي» زيادة تفسيريّة من الصّحابي لا أنّها من أبعاض الآية، وكذلك قراءة الصحابي عبد الله بن عبّاس وغيره من الصّحابة للآية: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ -إلى أجل مسمى- فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} 3، والآية الكريمة من دون عبارة «إلى أجل مسمّى»، فتحمل على أنّها زيادة تفسيريّة تأكيداً على أنّ الآية خاصّة بالنّكاح المنقطع.
إضافة إلى كل ذلك فإنّها روايات آحاد لا يمكن الرّكون إليها والاعتماد عليها لزعزعة النّص القرآني الثابت بالتواتر.
فالشيعة يؤمنون بأنّ القرآن الكريم حفظه عن النبي «صلى الله عليه وآله» جماعة من المسلمين الأوائل وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» والإمامان الجليلان الحسن والحسين «عليهما السلام»، وأنّ النبي «صلى الله عليه وآله» لم يرحل إلى الرّفيق الأعلى إلاّ وكان القرآن مجموعاً في صحف وفي صدور من حفظه من الصّحابة عن ظهر قلب، وانتقل بالتواتر من جيل إلى جيل إلى يومنا هذا.
وصرّح علماء الشيعة قديماً وحديثاً بصيانة القرآن عن التحريف وأنّه لم يطرأ عليه شيء من ذلك لا بزيادة ولا نقيصة، قال الشيخ الصدوق «رحمه الله»: «اعتقادنا في القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على نبيّه محمد «صلى الله عليه وآله» هو ما بين الدّفتين، وهو ما في أيدي النّاس ليس بأكثر من ذلك، ومن نسب إلينا أنّا نقول أنّه أكثر من ذلك فهو كاذب» 4.
وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي، الملقب بشيخ الطائفة «رحمه الله»: «وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضاً، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى «رحمه الله»، وهو الظاهر في الروايات» 5.
وقال السيد روح الله الموسوي الخميني «قدّس سرّه»: «إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه قراءة وكتابة يقف على بطلان تلك المزعومة 6، وما ورد فيه من أخبار -حسبما تمسكوا- إما ضعيف لا يصلح للاستدلال به أو مجعول تلوح عليه إمارات الجعل، أو غريب يقضي بالعجب، أما الصحيح منها فيرمي إلى مسألة التأويل والتفسير وأن التحريف إنّما حصل في ذلك لا في لفظه وعباراته» 7.
وقال السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي «رحمه الله»: «... أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلاّ من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأه إليه حب القول به، والحب يعمي ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته» 8.
من الأدلة على عدم تحريف القرآن
ويستدل على عدم وقوع التحريف في القرآن الكريم بزيادة أو نقيصة بأدلّة عديدة، منها:
1-قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ 1، فالمراد بالذكر في الآية الكريمة هو القرآن الكريم، وهي تدل على أنّ الله سبحانه وتعالى تعهّد بحفظه، ومن أبرز مصاديق الحفظ صونه عن التحريف، فهو إذاً مصون عن ذلك بحفظ الله تعالى له.
2- قوله تعالى: ﴿ ... وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ 9، وبما أنّ من أبرز مصاديق الباطل هو وقوع النقصان أو الزيادة في القرآن، فهو إذاً مصون من قبل الله سبحانه وتعالى عن ذلك منذ يوم نزوله وإلى قيام الساعة.
3- أثرت بعض النّصوص الشريفة التي تنص على وجوب عرض الحديث المروي عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» والأئمة الطاهرين من أهل البيت «عليهم السلام» على القرآن الكريم، فما وافقه منها يؤخذ ويعمل به، وما خالفه منها يرد ويطرح ويعرض عنه، فعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: «خطب النبي «صلى الله عليه وآله» بمنى فقال: أيّها الناس ما جاء كم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، وما جاء كم يخالف كتاب الله فلم أقله» 10.
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «إنّ على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه» 10.
وعن الإمام الصادق «عليه السلام» قال: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه» 11.
فهذه النصوص تعطينا قاعدة وهي أنّ الحديث الذي يروى وينسب إلى النبي «صلى الله عليه وآله» أو لأحد الأئمة الطاهرين من أهل البيت «عليهم السلام» يجب أن يعرض على القرآن، فإن وافق مضمون الحديث مضمون القرآن الكريم أخذ به، وإلاّ فإنّه يرد مع عدم إمكان تأوليه بما لا يتنافى معه، فلولا أنّ القرآن الكريم مصون ومحفوظ عن التحريف لما أمكن الرّكون إلى هذه القاعدة وتطبيقها والوثوق بها، لأنّه لو طالته يد التحريف فعندها لا يكون مقياساً لعرض أحاديث المعصومين «عليهم السلام»، ولما أمرونا بعرضها عليه لو أنّهم كانوا يتحملون حصول التحريف له بزيادة فيه أو نقيصة منه.
4- حديث الثقلين، وهو قول النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»: «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» 12.
فإن الأمر من النبي «صلى الله عليه وآله» من خلال هذا الحديث الشريف بالتّمسك بالقرآن الكريم يدلُّ على أنّه مصون من التحريف، إذ لا معنى أن يأمر «صلى الله عليه وآله» بالتّمسك بما يحتمل حصول التحريف فيه.
حقيقة مصحف فاطمة
ونسب بعض المغرضين والمشنّعين على الشيعة إليهم بأن عندهم قرآناً آخر غير القرآن المعروف والمتداول في أيدي المسلمين، واستندوا في اتهامهم هذا إلى ما ورد في بعض الرّوايات الشيعية من وجود مؤلف يسّمى بمصحف فاطمة، والحق أنّ مصحف فاطمة الذي ورد ذكره في الرّوايات لا توجد نسخة واحدة منه عند أحد من الشيعة، ولم يدّع أحد منهم ذلك، وربّما لم يطّلع عليه أحدٌ إلاّ أئمة أهل البيت «عليهم السلام»، فهو من أوعية العلم التي انتقلت من إمام إلى آخر، ويفترض أنّه موجود فعلاً عند الإمام المهدي المنتظر «عليه السلام»، وليس فيه شيء من القرآن الكريم، ففي الرّواية أنّ الإمام الصادق «عليه السلام» سئل عن مصحف فاطمة «عليها السلام» فقال: «إنّ فاطمة مكثت بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله» خمسة وسبعين يوماً، وكان دخلها حزن شديد على أبيها وكان جبرئيل «عليه السلام» يأتيها فيحسن عزاء ها على أبيها، ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان علي «عليه السلام» يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة «عليها السلام»» 13.
وفي رواية أخرى أنّه لما سئل عن مصحف فاطمة «عليها السلام» قال: «إنّ الله تبارك وتعالى لما قبض نبيه «صلى الله عليه وآله» دخل على فاطمة من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجل فأرسل إليها ملكاً يسلى عنها غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» فقال لها: إذا أحسست بذلك فسمعت الصوت فقولي لي، فأعلمته فجعل يكتب كلما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفاً».
ثم قال الإمام الصادق «عليه السلام»: «أمّا أنّه ليس فيه من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون» 14.
فاتّضح من هذه النصوص أنّ مصحف فاطمة «عليها السلام» ليس بقرآن، ولا فيه شيء من القرآن، وإنّما يتضمن أخباراً مما يكون في مستقبل الزمان مما يتعلق بذريّة الزهراء «عليها السلام» أو مطلقاً، فمن يزعم أنّ للشيعة قرآناً آخر غير المتداول في أيدي المسلمين فما هو إلاّ كذاب ومفتر على الشيعة.
قال الداعية السني الكبير العلامة الشيخ محمد الغزالي «رحمه الله»: «إنني آسف لأن بعض من يرسلون الكلام على عواهنه، لا بل بعض من يسوقون التهم جزافاً غير مبالين بعواقبها دخلوا في ميدان الفكر الإسلامي بهذه الأخلاق المعلولة فأساؤا إلى الإسلام وأمته شرّ إساءة، سمعت واحداً من هؤلاء يقول في مجلس علم: إنّ للشيعة قرآناً آخر يزيد «أو» ينقص عن قرآننا المعروف!
فقلت له: أين هذا القرآن؟
إنّ العالم الإسلامي الذي امتدت رقعته في ثلاث قارات ظل من بعثة محمد «صلى الله عليه وآله» إلى يومنا هذا بعد أن سلخ من الزمن أربعة عشر قرناً لا يعرف إلاّ مصحفاً واحداً مضبوط البداية والنهاية معدود السور والآيات والألفاظ، فأين هذا القرآن الآخر؟!
ولماذا لم يطلع الإنس والجن على نسخة منه من خلال هذا الدهر الطويل؟
ولحساب من تفتعل هذه الإشاعات وتلقى بين الأغرار ليسوء ظنهم بإخوانهم وقد يسوء ظنهم بكتابهم.
إنّ المصحف واحد يطبع في القاهرة فيقدسه الشيعة في النجف أو في طهران ويتداولون نسخه بين أيديهم وفي بيوتهم دون أن يخطر ببالهم شيء بتة إلاّ توقير الكتاب جل شأنه ومبلغه «صلى الله عليه وآله»، فلم الكذب على الناس وعلى الوحي؟
ومن هؤلاء الأفاكين من روّج أنّ الشيعة أتباع علي، وأنّ السنيين أتباع محمد، وأنّ الشيعة يرون علياً أحق بالرسالة، أو أنّها أخطأته إلى غيره!
وهذا لغو قبيح وتزوير شائن، ولكن تصديق هذا اللغو كان الباعث على تلك المجزرة المخزية التي وقعت في أبناء الإسلام من سنة وشيعة، فجعلتهم وهم الأخوة في الدين يأكل بعضهم بعضاً على هذا النحو المهين.
إنّ الشيعة يؤمنون برسالة محمد «صلى الله عليه وآله» ويرون شرف علي في انتمائه إلى هذا الرسول في استمساكه بسنته، وهم كسائر المسلمين لا يرون بشراً في الأولين والآخرين أعظم من الصادق الأمين ولا أحق منه بالاتباع فكيف ينسب لهم هذا الهذر؟!
الواقع أنّ الذين يرغبون في تقسيم الأمة طوائف متعادية لما لم يجدوا لهذا التقسيم سبباً معقولاً لجأؤا إلى افتعال أسباب الفرقة، فاتسع لهم ميدان الكذب حين ضاق ميدان الصدق.
لست أنفي أنّ هناك خلافات فقهية ونظرية بين الشيعة والسنة، بعضها قريب الغور وبعضها بعيد الغور، بيد أنّ هذه الخلافات لا تستلزم معشار الجفاء الذي وقع بين الفريقين وقد نشب خلاف فقهي ونظري بين مذاهب السنة نفسها بل بين أتباع المذهب الواحد منها، ومع ذلك فقد حال العقلاء دون تحول هذا الخلاف إلى خصام بارد أو ساخن» 15.
فأين هذه الدعوة من هذا الداعية الكبير التي يدعو فيها إلى لم شمل الأمة الإسلامية وتوحيد صفوفها، ونبذ الفرقة بين طوائفها ومذاهبها المختلفة، ويستنكر على كل من يروّج الأكاذيب وينشر الافتراءات على هذا المذهب أو ذاك، ويفتعل أسباب الفرقة انطلاقاً من نفس مريضة أو أغراض مشبوهة أو غيرها مما روّج ويروّج له البعض من عدم إمكانية التقارب بين السنة والشيعة بعد أن لفقوا على الشيعة الأكاذيب ورموهم بالكثير من الافتراءات ونسبوا إليهم أموراً لا يعرفونها ولا يعتقدون أو يقولون بها16.
_____________
1. a. b. القران الكريم: سورة الحجر (15)، الآية: 9، الصفحة: 262.
2. شرح إحقاق الحق 6/349، عن ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي.
3. مصنف عبد الرّزاق 7/ 397 رواية رقم: 14099.
4. رسالة الاعتقادات للشيخ الصدوق، صفحة 59.
5. التبيان في تفسير القرآن 1/3.
6. مزعومة تحريف القرآن.
7. تهذيب الأصول 2/165.
8. البيان، صفحة 259.
9. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 41 و 42، الصفحة: 481.
10. a. b. الكافي 1/69.
11. وسائل الشيعة 27/118.
12. بحار الأنوار 2/100.
13. الكافي 1/241.
14. بصائر الدرجات، صفحة 177.
15. دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، صفحة 219 - 221.
16. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن عبدالله العجمي حفظه الله.