مسألة في وجوب النظر
أول الأفعال المقصودة التي لا يصح خلو العاقل منها وجوبا النظر المؤدي إلى المعرفة ، يفرق ما بين الحق والباطل.
لأن كل عاقل نشأ بين العقلاء يعلم اختلافهم ، ودعوة كل فريق منهم إلى مذهبه وتخويفه من خلافه ، فيخافهم لا محالة ، وإذا خاف وجب عليه التحرز مما خافه ، لعلمه ضرورة بوجوب التحرز من الضرر . فلا يخلو أن يتحرز باتباع الجل، أو اطراح الجل ، أو اتباع بعض عن نظر ، أو تقليد . واتباع الجل محال ، لتنافي ما بينهم . واطراح الجل يقتضي كونه على ما كان عليه من الخوف .
واتباع البعض عن تقليد لا يرفع خوفه مما أطرحه من المذاهب ، لتجويز كونه حقا ، ولا يقتضي سكونه إلى ما ذهب إليه ، لتجويز كونه باطلا .
فلم يبق لتحرزه من الضرر المخوف إلا النظر المميز للحق من الباطل ، فوجب فعله ، لكونه تحرزا من ضرر ( وليس لأحد أن يعترضنا بأن : ) ما يعطينا هذا الاستدلال وجوب النظر للتحرز من ضرر المذاهب ، ولا يفيد الوجه الذي يشترطونه في وقوع المعارف المتولدة عن النظر الموقع الذي يستحق بها وبما تولدت عنه الثواب ويؤمن العقاب .
لأن الوجه الذي لأجله وجب النظر على جميع الطرق كونه تحرزا من ضرر مخصوص ، وهذا الوجه حاصل في هذه الطريقة ، فيجب مساواتها لطريقتي العلم بالثواب والعقاب ووجوب معرفة فاعل الحي وما هو عليه من النفع . من حيث كان الناظر عند الخوف من معرة أهل الحق والباطل إنما ينظر في الأدلة للوجه الذي خوفه الدائن بها ، من كونها طرقا إلى معرفة من خلقه حيا قادرا عاقلا سميعا بصيرا ، وخلق المنافع له ، وكلفه فعل الواجب وترك القبيح .
ليعلم بمعرفته كونه منعما فيشكره ، ومكلفا لما يستحق الثواب عليه من فعل الواجب واجتناب القبيح بفعل هذا والاخلال بذاك فيؤدي الواجب عليه من شكره ، فيحوز به المدح والثواب ، ويأمن الذم والعقاب ، على الوجه الذي يستحق عليه الذم والمدح أقرب من الواجب وأبعد من القبيح .
( و ) وقوع نظره على هذا الوجه موجب لحصول المعارف به للوجه الذي له وجبت بغير شبهة ، ومقتض لاستحقاق الثواب بما فعله من النظر وتولد عنه من المعرفة . وإن نظر في الشبه ، فهو غير منفك من الخوف واستحقاق العقاب وفوت الثواب بترك النظر في أدلة المعارف . وإذا لم ينفك من الخوف منها والحال هذه ، فإنما ينظر في شبه المبطلين ليعلم هل هي شبه أم أدلة ؟ فمتى وفي النظر حقه كشف له عن كونها شبها ، واضطره الخوف إلى النظر في الأدلة ، وأفضى به إلى العلم بمدلولها .
فبان لحوق هذه الطريقة في وجوب النظر بالأوليين في وقوعه موقعه ، وحصول المعارف عنه لوجهها ، وإن كان ترتيبها مخالفا لترتيبها.