أدوار الفقه الإسلامي الإمامي
  • عنوان المقال: أدوار الفقه الإسلامي الإمامي
  • الکاتب: الشيخ محمد إبراهيم الجناتي
  • مصدر: مجلة الفكر الإسلامي / العدد الثامن
  • تاريخ النشر: 19:43:36 1-9-1403

لقد تطور الفقه الإسلامي من زمن ظهوره في المدينة المنورة تطورات مختلفة وشهد أدوارا عديدة (۱) يمكن ان نذكرها في ضمن الأبواب الاتية :

 

الدور الأول : دور التشريع والبيان :

وقد بدأ هذا الدور من يوم بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة المكرمة حينما كان عمره أربعين سنة الى يوم وفاته في المدينة المنورة في عام ۲۳ بعد البعثة ، وكانت مدة هذا الدور ثلاثا وعشرين سنة وانتهى في العام العاشر من الهجرة ، حيث انه اقام في مكة المكرمة بعد ان بعثه الله تعالى الى عباده ما يقارب ثلاث عشرة سنة ثم هاجر منها الى المدينة المنورة ودخل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فيها يوم الاثنين الحادي عشر من ربيع الأول بعد ان اختفى في الغار ثلاثة أيام وكانت هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) مبدأ التاريخ الإسلامي الهجري القمري ، وبقي النبي في المدينة نحو عشر سنين ، ثم دعي فلبى الدعوة يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر صفر المظفر عام احد عشر من الهجرة ، فكان مجموع هذا الدور هو ما اشرنا اليه .

ويعنينا من هذا ان نشير الى ان الفقه الإسلامي قد نشأ في هذا الدور تدريجا لا دفعة ، حيث ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يبلغ الفقه والأحكام الإلهية الى المسلمين دفعة واحدة بل كان بالتدريج ، لانه كان يواجه أتباعه بين فترة واخرى بالفقه الإسلامي والأحكام الإلهية التي أمره الله تعالى بابلاغها اليهم وكان أتباعه ايضا يراجعونه عند الحاجة لأخذ الأحكام الدينية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها بدون توسط أي إنسان وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يجيبهم أما من الكتاب ويشير اليه قوله تعالى : ( وهو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ) (۲) أو يجيبهم بالسنة من قوله أو فعله أو تقريره ( فان هذه تسمى في اصطلاح الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم بالسنة نقلا من معناها اللغوي الذي كان بمعنى الطريقة ) فالمسلمون كانوا في هذا الدور من ادوار الفقه الإسلامي في سعة من حيث تلقي الفقه لتلقيهم الفقه من الرسول الأعظم بخطاب شفهي مباشر .

نعم في هذا الدور كان يحيلهم احيانا الى علي ( عليه السلام ) وهم يراجعونه ويأخذون الجواب عنه .

وفي بعض الاحيان كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يرسل اصحابه الى بعض المناطق الإسلامية لبيان المسائل الفقهية والأحكام الدينية كإرسال معاذ الى اليمن ولم يتجاوز الامر في الدور المشار اليه هذا الحد .

وهنا ينبغي التنبيه على أمور :

 

الأول ـ في هذا الدور كان النبي يأمر كتابه أن يدونوا بين يديه ما يتلقاه من الوحي الإلهي :

وامتثلوا أمره فكتبوا جميع ما أوحي اليه .

 

الثاني ـ مصدر الفقه والتشريع في هذا الدور :

المعروف ان مصدر الفقه والتشريع في هذا الدور هو الوحي المنزل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) لا غيره ومع ذلك فقد وقع الخلاف بين فقهاء المسلمين في اجتهاد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مقام بيان الأحكام وعدمه .

ذهبت الامامية الى عدم كون أحكامه عن اجتهاد ووافقهم على هذه النظرية أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم ، وذهب كثير من فقهاء السنة الى جواز الاجتهاد في مقام بيان الأحكام ، ولكن وقع الخلاف بينهم في وقوعه وعدم وقوعه منه .

ذهب جماعة منهم الى وقوعه منه وهم الأكثر منهم العلامة سيف الدين الحنفي (م۶۳۱) والامدي صاحب الأحكام في اصول الأحكام وابن الحاجب جمال الدين عثمان المالكي (م۶۴۶) صاحب كتاب منتهى السؤال والامل وابن تيمية الحراني الحنبلي (م۷۲۷) وقال صاحب فيض الباري (۳) : ( ان النبي كان يجتهد عند الحاجة ) ، وذهب آخرون منهم الى التوقف عن القول بوقوع الاجتهاد منه ، منهم العلامة ابو حامد محمد الغزالي (م۵۰۵) وفخر الرازي ، وخص بعض اهل السنة محل البحث بما يتعلق بامر الحروب ونحوها لا الأحكام الشرعية لعدم جواز الاجتهاد للنبي فيها ، ولكن قال ابن همام : ( ان الرسول مأمور بالاجتهاد مطلقا في الأحكام الشرعية والحروب والامور الدنيوية من دون تقييد بشي منها ) ولكن الحق انه لم يصدر من النبي حكم من الأحكام الشرعية باجتهاده لان مصدر الفقه والتشريع هو الله لا غيره .

أما أولا : فلوجود الآيات المتنوعة في القرآن الكريم على خلافه .

منها : ( وما ينطق عن الهوى ، ان هو الا وحي يوحى ) (۴) .

ومنها : ( ان اتبع الا ما يوحى الي ) (۵) .

ومنها: ( ولو تقول علينا بعض الاقاويل ، لاخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين ) (۶) .

ومنها : آية المجادلة الواردة في قضية الظهار الذي لم ينزل حكمه الى اربعين يوما وهي : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير ) (۷) .

ومنها : ( قل لا أجد فيما أوحي الي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فانه رجس أو فسقا اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان ربك غفور رحيم ) (۸) .

وأما ثانيا : فلعدم الاحتياج اليه لا في مكة المكرمة ولا في المدينة المنورة ، اما في مكة المكرمة فلان الايات نزلت فيها وتقرب من ثلثي القرآن وسميت مكية وهي في مجموعها لا تكاد تتعرض لشئ من الأحكام بل تقتصر على الأصول الاعتيادية كالإيمان بالله ورسوله والمعاد ومحاربة الشرك والإلحاد والأمر بالمعروف والاتصاف بالصفات الخلقية ، والنهي عن الأعمال السيئة والتطفيف في الكيل والميزان ونظائر ذلك .

وأما في المدينة المنورة فلان الايات التي نزلت فيها وتقرب من ثلث القرآن وسميت مدنية وان كانت تتعرض للاحكام ، الا انها كانت تنزل تدريجا ، وكان الرسول ايضا يتحدث بها وبما تنطوي عليه من الأحكام المتعلقة بالحوادث والوقائع والمعالجة لما يحصل من مشاكل في ابعاد الحياة تدريجا حتى كمل التشريع .

ومهما يكن من امر فلا شارع سوى الله ولا حكم الا ما حكم الله به فأساس التشريع هو الله ( ان الحكم الا للّه ) (۹) واذا اطلق في بعض عبارات الفقهاء على النبي الكريم اسم الشارع فما كان ذلك الا تجوزا بلحاظ انه المبلغ عنه واذا كان ابو اسحاق ابراهيم الشاطبي الغرناطي (م ۷۹۰) صاحب كتاب الموافقات قد سمى عمل المجتهد في بعض المواضيع تشريعا فما كان ذلك منه الا تساهلا فالنبي ( صلى الله عليه وآله ) كاشف للتشريع ومظهر له لا انه مشرع فسلطنة التشريع له ولم يفوضه الى احد من عباده ، لا الى رسوله ولا الى الإسلامي ولا الى مجتهد ، فلا يجوز لهم ان يشرعوا للعباد من الأحكام ما يريدون وان يحكموا بينهم بما يرون من عند انفسهم ، والنبي الكريم نزل عليه الوحي في الامور كلها حتى بالنسبة الى ارش الخدش ولم يكن محتاجا في بيان احكام المسائل الى الاجتهاد .

وكيف كان فنحن فصلنا الكلام عن عدم اجتهاد النبي في مقام بيان الأحكام ومن احب الاطلاع عليه فليراجع كتابنا ( ادوار الاجتهاد على ضوء المذاهب الإسلامية ) .

ومن المناسب هنا ذكر ما دل من الاحايث على تطهير التشريع من طرف الله في زمان النبي يقول رسول الله في ضمن حديث لسعد بن عبادة : ( ان الله عز وجل قد جعل لكل شي حدا وجعل لمن تعدى ذلك الحد حدا ) (۱۰) .

ونحوه في موثق سماعة عن الصادق ( عليه السلام ) : ( ان لكل شي حدا ومن تعدى ذلك الحد كان له حد (۱۱) وفي الاية : ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) (۱۲) .

وفي رواية موثقة أخرى : ( كل شي في كتاب الله وسنة نبيه أو تقولون فيه قال بل كل شي في كتاب الله وسنة نبيه ) (۱۳) .

 

الثالث ـ زمان الوحي ومكانه :

كان زمان الوحي في ۲۷ رجب المرجب عند الخاصة وفي ۱۷ من شهر رمضان عند العامة ، ونزل الوحي على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الموضع الذي كان محل عبادته بضواحي مكة المكرمة في غار حراء ، فقال له : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الاكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ) (۱۴) ، فارتعدت فرائصه ورجفت جوانبه وعاد الى اهله قائلا : زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الفزع والروع .

 

الرابع ـ كيفية دعوة النبي :

كانت دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) سرا بعد بعثته الى مدة ثلاث سنوات وبعدها جهر بها لامره تعالى به بقوله : ( فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين ، انا كفيناك المستهزئين ) (۱۵) واستمرت دعوته نحو ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة كما اشرنا اليه وقد نزل عليه من القرآن فيها ما يقارب ثلثيه ، ثم ذهب الى الطائف بعد بعثته بعشر سنين ، وفي سنة ۱۱ من بعثته وقع الاسراء والمعراج وفي سنة ۱۳ هاجر من مكة المكرمة الى المدينة المنورة وبقي فيها نحو عشر سنين ، ثم دعي فلبى الدعوة في ۲۸ من شهر صفر المظفر كما اشرنا اليه في صدر المبحث .

 

الخامس ـ تدوين الفقه والشريعة :

كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يأمر كتابه ان يدونوا بين يديه ما يتلقاه من الوحي الإلهي وامتثلوا أمره وكان القرآن الكريم ينزل عليه من عند الله شيئا فشيئا في ظروف مناسبة حتى اكتمل خلال ثلاث وعشرين سنة ثم ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد نصب وصيه بأمر من الله تعالى بالاية المباركة : ( يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ان الله لا يهدي القوم الكافرين ) (۱۶) .

فكمل الدين وانقطع الوحي بالاية الشريفة : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (۱۷) وكان نزول هذه الاية في حجة الوداع قبل وفاة الرسول بثلاثة أشهر ولم تنزل بعدها آية من آيات الأحكام .

 

السادس ـ إطلاق كلمة الفقه في هذا الدور والمرحلة :

كانت كلمة ( الفقه ) في هذا الدور تطلق على فهم الأحكام الشرعية جميعها ، أي فهم كل ما شرعه الله لعباده من الأحكام سواء كانت متعلقة بأصول العقائد أو بالفروع أو بالأخلاق أو بالقوانين وغيرها فكان اسم الفقه في ذلك العهد متناولا لجميع هذه المسائل على السواء ولم يكن مختصا بواحدة منها وكان مرادفا في هذه المرحلة لكلمات : شريعة ، شرعة ، شرع ، دين ، التي كان يفهم من كل منها أصول العقائد والفروع العملية وما يرتبط بهما ثم تغير هذا الاستعمال وانشاء اصطلاح للفقهاء والاصوليين باختصاصه بالفروع الشرعية والأحكام الدينية .

 

السابع ـ كلمة الفقيه في هذا الدور :

لم تكن كلمة ( الفقيه ) تطلق في هذا الدور على من عرف الأحكام الشرعية وانما كانت تطلق كلمة ( القارئ ) على من حفظ آيات من القرآن الكريم أو عرف معانيها وناسخها ومنسوخها ومتشابهها ومحكمها خاصها وعامها ومقيدها ومطلقها ففي هذا الدور كانوا يسمون الفقهاء بالقراء أي الذين يقرؤون الكتاب باعتبار ان هذا امر يميزهم عن عامة الناس لانتشار الأمية فيما بينهم ، ولما كمل علم الفقه بابعاده المختلفة في المدينة المنورة أبدلت اسماؤهم بالفقهاء .

 

الثامن ـ إطلاق كلمة الفقه على نفس الأحكام :

اسم الفقه كما كان يطلق على فهم الأحكام الشرعية كان يطلق على الأحكام نفسها ، ومن ذلك قوله : ( رب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه الى من هو افقه منه ) ، ويرشدنا الى هذا المعنى ما افاده بعض من ان الفقه هو : معرفة النفس ما لها وما عليها ، وما هذه المعرفة الا معرفة احكام الله بنوعيها ، ثم تقيد هذا الاستعمال ودخل التخصيص على اسم الفقه ونشاء اصطلاح جديد له عند الاصوليين والفقهاء .

ولفظ الفقه من المصادر التي تؤدي معناها ، وكثيرا ما يرادفها متعلق معناها كالعلم بمعنى المعلوم والعدل بمعنى العادل .

ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي في أول شرح نهج البلاغة : ( ان واضع تمام العلوم الإسلامية هو علي ( عليه السلام ) ، وهو أول من دون الحديث وكتب جميع الحقائق التي جرت على لسان النبي ) .

 

التاسع ـ مدة نشر الفقه في هذا الدور :

كانت مدة نشر الفقه والأحكام الدينية والأخلاقية وغيرها في هذا الدور في المدينة المنورة كما أشير اليه ، عشر سنوات ونزل فيها من القرآن ما يقارب ثلثيه ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) في هذه المدة يبين لهم الحلال والحرام ويرشدهم الى المعارف الالهية والأحكام الدينية والآداب الإسلامية ، ويشرح لهم ما تحتاج اليه الامة ، ولم يترك النبي ( صلى الله عليه وآله ) في هذا الدور في المدينة المنورة صغيرة أو كبيرة الا وبين حكمها حتى ارش الخدش وكان الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) يكتب جميع ما يصدر عن الرسول الأعظم محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله ) سواء ما يتعلق بتفسير القرآن أو ما يتعلق بالسنة أو غيرهما بل ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) أملى عليه جميع الشرائع والأحكام ، وأمر بكتابته وحفظه وتسليمه الى الائمة من ولده ، فكتبه ( عليه السلام ) بخطه وأودعه عند أهله والأخبار بذلك كثيرة ، ولا باس بذكر بعضها من باب التيمن والتبرك ، منها :

۱ـ ما اخرجه الحموي بسنده عن الإمام الباقر( عليه السلام ) عن ابيه عن جده أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول الله : يا علي اكتب ما أملي عليك ، قلت : يا رسول الله أتخاف علي النسيان ؟ قال : لا وقد دعوت الله عز وجل ان يجعلك حافظا ، ولكن اكتب لشركائك الائمة من ولدك بهم تسقى أمتي الغيث وبهم يستجاب دعاؤهم وبهم يصرف الله عن الناس البلاء وبهم تنزل الرحمة من السماء وهذا أولهم وأشار الى الحسن ( عليه السلام ) ثم قال : وهذا ثانيهم وأشار الى الحسين ( عليه السلام ) ، قال : والائمة من ولده (۱۸) .

۲ـ ما رواه قيس الهلالي وفيه قول علي ( عليه السلام ) : ( وإذا أتاني ( رسول الله ) للخلوة معي في منزلي ، لم تقم عني فاطمة ولا احد من بني ، وكنت اذا سألته أجابني وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله آية من القرآن الا أقرانيها وأملاها علي فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها ) (۱۹) .

۳ـ ما رواه علي بن خنيس عن ابي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ( ان الكتب كانت عند علي فلما سار الى العراق استودع الكتب أم سلمة فلما مضى ( عليه السلام ) كانت عند الحسن فلما مضى الحسن كانت عند الحسين فلما مضى الحسين كانت عند علي بن الحسين ثم كانت عند ابي ) (۲۰) .

۴ـ ما رواه عبد الملك قال : ( دعا ابو جعفر بكتاب علي ( عليه السلام ) فجاء به جعفر ( عليه السلام ) مثل فخذ الرجل مطويا فاذا فيه ان النساء ليس لهن من عقار الرجل اذا هو توفي عنها شئ ، فقال ابو جعفر : هذا والله املاء رسول الله وخطه علي بيده ) (۲۱) .

۵ـ ما رواه عذافر الصيرفي قال : ( كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر( عليه السلام ) فجعل يسأله وكان أبو جعفر له مكرما فاختلفا في شي فقال أبو جعفر : يا بني قم فاخرج كتاب علي فاخرج كتابا مدروجا عظيما ففتحه وجعل ينظر حتى اخرج المسالة فقال ابو جعفر : هذا خط علي ( عليه السلام ) وأملاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واقبل على الحكم وقال : يا ابا محمد اذهب انت وسلمة وابو المقدام حيث شئتم يمينا وشمالا فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل ) (۲۲) .

۶ـ ما رواه محمد بن مسلم قال سالته عن ميراث العلم ما بلغ اجوامع هو من العلم أم يفسر كل شي من هذه الامور التي يتكلم فيها الناس من الطلاق والفرائض فقال ( عليه السلام ) : ( ان عليا ( عليه السلام ) كتب العلم كله والفرائض فلو ظهر امرنا لم يكن من شي الا وفيه سنة يمضيها ) (۲۳) .

ومن هذه الاحاديث يستفاد ان ما عند الامام علي ( عليه السلام ) من علم الحلال والحرام والشرائع والأحكام نزل به جبرئيل ، واخذه من رسول الله ، ولذا امر النبي الكريم امته التمسك بهم والاخذ من علومهم والاقتداء بسيرتهم والاخذ من احاديثهم ، لان ما عندهم أوثق مما عند غيرهم فعلى جميع المسلمين ان ينقطعوا اليه في اخذ الفقه والأحكام الدينية والمعارف الإسلامية لا الى غيره ومن المؤسف انهم لم ينقطعوا جميعا اليه بل انقطعت طائفة خاصة خلفا عن سلف في ذلك اليه ، لذلك فهم من بين المسلمين يدينون لله ويتقربون اليه بمذهب اهل البيت لا غيرهم وقد اخذ الفروع والاصول عن كل واحد منهم جم من ثقات هذه الطائفة ، ورووا ذلك لمن بعدهم على سبيل التواتر القطعي ومن بعدهم رواه لمن بعده على هذا السبيل وهكذا كان الامر في كل جيل من الاجيال المتأخرة فالطائفة الامامية في الفروع والاصول على ما كان عليه الائمة ( عليه السلام ) من آل الرسول ، وقد اقتبسوها من نور ائمة الهدى من آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) واغترفوها من بحورهم ، سمعوها من افواههم ، واخذوها من شفاههم ومن المؤسف انه ظهر في الأونة الاخيرة من يبادر الى تضعيف احاديث هذه الطائفة بحجة ان ما يرويه الامامية يرجع الى الضعفاء من الرواة مع ان كثيرا من اصحاب الحديث في هذه الطائفة من الموثقين المعتمد عليهم عند كثير من ابناء السنة كابان بن تغلب وغيره الى نحو مائة نفر وهنا تنبغي الاشارة الى امور :

الأول : ان الكتاب الذي الفه الامام علي ( عليه السلام ) باملاء رسول الله كان يسمى بالجامعة ويبلغ ستين ذراعا لما رواه ابو عبيدة (۲۴) قال : سال ابا عبد الله بعض اصحابنا عن الجفر ؟ فقال هو جلد ثور مملوء علما ، قال له فالجامعة ؟ قال تلك صحيفة طولها سبعون ذراعا في عرض الاديم مثل فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج الناس اليه ، وليس من قضية الا وهي فيها حتى ارش الخدش (۲۵) .

الثاني : ان النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله ) أملى هذا العلم على علي بن ابي طالب فقط ولم يطلع في عصره غيره احد ، وأوصى اليه ان يكون هذا الكتاب بعده عند الائمة الاحد عشر ، وعمل الامام علي ( عليه السلام ) بما أوصى به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ايداعه بعده عند عترته وهم الائمة ( عليه السلام ) من بعده وكان كل واحد من الائمة ( عليه السلام ) يستحفظه السلف للخلف فيستودعه من انتهى اليه الامر .

الثالث : ان هذا الكتاب كان موجودا عند الائمة ( عليه السلام ) واراه الامامين الباقر والصادق ( عليهما السلام ) جماعة من اصحابهما الامامية وغيرهم من الجمهور ، لحصول الاطمئنان أو الاحتجاج على ما كانا يتفردان به من الفتاوى والاراء والنظريات عن سائر العلماء والفقهاء ، ويقسمان بالله انه املاء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وخط علي بن ابي طالب .

الرابع : ان هذا الكتاب اشتهر في ذلك الوقت بكتاب علي ، وقد روى عنه البخاري في صحيحه في باب كتابة الحديث وباب ( اثم من تبرأ من مواليه ) .

الخامس : ان هذا الكتاب لم يكن معروفا عند الخاصة فقط بل كان معروفا عند العامة في عهد الصادقين ( عليه السلام ) ، لانهما كثيرا ما يقولان في جواب استفتاأت الجمهور : ان في كتاب علي كذا ، كما جاء كذلك في جواب استفتاء غياث بن ابراهيم وطلحة بن زيد والسكوني وسفيان بن عيينة والحكم بن عتيبة ويحيى بن سعيد وغيرهم وكذا في جواب مسائل اصحابنا الامامية كزرارة ومحمد بن مسلم وعبد الله بن سنان وابن بكير وابي حمزة ونظائرهم (۲۶) .

 

الدور الثاني ـ دور البيان والتدوين :

بدأ هذا الدور على رأي الامامية من زمان التشريع الى زمان علي بن الحسين بن بابويه والد الصدوق (م۳۲۸) وشيخ الامامية الكليني (م۳۲۸) وابن قولويه (م۳۶۸) في ايام غيبته الصغرى الى أوائل الغيبة الكبرى في عام (۳۲۸) لصاحب الامر والزمان الامام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، ولكن على راي العامة لم يدون الفقه والحديث الى أواسط هذا الدور وهو منتصف القرن الثاني ، ويظهر ذلك عند نقل كلماتهم في ذيل هذا الدور وقد كان بيان الفقه والحديث وتدوينه في هذا الدور من مهمة الصحابة والتابعين لحاجة المسلمين فيه الى من يجمع متفرقات الفقه والأحكام الدينية من مصدريهما الكتاب والسنة للرجوع اليها عند مشاكلهم الدينية والعلمية والاجتماعية والفردية وغيرها لانتها الدور الأول ، وهو دور التشريع بوفاة الرسول الاعظم محمد ( صلى الله عليه وآله ) .

وقد كان المسلمون بعد وفاة الرسول الكريم يعملون بالكتاب والسنة النبوية من القول والفعل والتقرير ، وعند ابتلائهم بالمشاكل العملية والاجتماعية أو الفردية والمسائل الدينية والوقائع المستحدثة كانوا يرجعون في حلها الى الامام علي ( عليه السلام ) ، حيث كان باب علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكذا يرجعون الى سائر الصحابة الذين صحبوا النبي واخذوا عنه وفي هذا الدور كان الحديث وسنة النبي الكريم من اهم اسس التشريع بعد كتاب الله الذي جاء فيه : ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (۲۷) وكيف كان فقد قام علي ( عليه السلام ) وتابعوه بهذا الدور خير قيام على حسب ما تقتضيه المصلحة ، وكان جمع من اتباعه قد حفظ السنة ونقلها الى الاجيال بعدهم بامانة وصدق ،حتى جا في ميزان الاعتدال (۲۸) : ( فهذا ، أي التشيع : كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق فلو رد حديث هؤلاء لذهبت جملة الاثار النبوية ) .

 

ما يمتاز به فقه الخاصة :

ظهر مما تقدم ان الفقه الامامي يمتاز عن غيره بما ياتي :

۱ـ اشتماله على السعة والتكامل في فروعه ، والشمول والتحقيق والعمق في الاستدلال والدقة فيها حيث لم ير مثلها في فقه الاخرين وهذا بفضل ما تمتع به من الاجتهاد بمعناه الصحيح وهو استنباط الحكم من منابعه ومصادره الشرعية التي منها الكتاب والسنة ، ورد الفروع الجديدة الى الاصول ، وتطبيق القواعد الكلية على المصاديق الموجب للتوسع في دائرة التشريع من ناحية المصاديق لا من ناحية اصله ، لا بمعناه الباطل وهو استنباط الحكم من الراي والتفكر الشخصي الموجب للتوسع في دائرة اصل التشريع .

۲ـ سعة منابعه بفضل معطيات الامام وولده واتباعه الصادقين ذلك العطاء الذي استمر (۲۵۰) سنة بعد وفاة النبي الكريم .

۳ـ استناده بعد الكتاب الكريم الى السنة الماثورة من زمان حياة الرسول الاعظم وتشريع الفقه والأحكام الدينية بواسطة اهل بيت الوحي : الامام علي ( عليه السلام ) وأولاده واتباعه الصادقين وليس لغيره هذه الميزة في مدى اكثر من قرن ، ولذلك اضطر غير الامامية في استخراج الأحكام الدينية والفروع الفقهية الى التمسك بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وشرع من قبلنا الى غير ذلك من الاسباب المخترعة غير المقبولة عند الشرع ، وذلك لقلة اخبارهم .

۴ـ نقاء مصدره الذي اخذ منه الفقه والحديث الذي كان يشكل الركيزة الاساس بعد كتاب الله تعالى لما تمتع به الامام علي وولده الصادقون الناقلون للسنة ووالمبينون للاحكام الدينية من العصمة عن الخطا والنسيان والغفلة والاثم ، ولم يكن هذا ثابتا لفقه الاخرين .

 

الخلاف في تدوين الفقه والحديث في هذا الدور :

قد وقع الخلاف في هذا الدور بين الصحابة والتابعين بعد وفاة النبي الاكرم في اباحة كتابة الحديث وعدمها على قولين :

الأول : الاباحة ، وهو الذي اختاره الامام علي وخلفه الامام الحسن السبط ( عليه السلام ) وجماعة من الصحابة كانس وعبد الله بن عمر .

الثاني : الكراهة ، واختاره عمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة كعبد الله بن مسعود وابي سعيد الخدري .

وكان الامر على هذا المنوال عند اهل السنة الى أواسط القرن الثاني من الهجرة في آخر عصر التابعين وعند ذلك اجمع علماؤهم على لزوم جمعه لحفظ الحديث من الضياع والتلف ويظهر لك ذلك عند نقل كلمات المحدثين منهم كما يظهر الامر الذي صار سببا لتأخير كتابة الحديث عندهم اما الامام علي ( عليه السلام ) وتابعوه فقد تصدى لتدوين الفقه والحديث في هذا الدور ، كما تصدى لذلك في الدور الأول وما الفه الامامية في هذا الدور من الفقه والحديث عبارة عما ياتي :

 

۱ـ جمع القرآن :

أول شي دونه الامام علي ( عليه السلام ) كتاب الله الذي هو المصدر الأول للفقه ، فانه بعد فراغه من تجهيز النبي ( صلى الله عليه وآله ) آلى على نفسه ان لا يرتدي الا للصلاة أو يجمع القرآن حيث قال : لما قبض رسول الله اقسمت وحلفت ان لا اضع ردائي على ظهري حتى اجمع ما بين اللوحين فما وضعت ردائي حتى جمعت القرآن فجمعه مرتبا على حسب النزول واشار الى عامه وخاصه ومطلقه ومقيده ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وعزائمه ورخصه وسننه وآدابه ، ونبه على اسباب نزول آياته البينات ، وأوضح ما عساه يشكل من بعض الجهات وكان ابن سيرين يقول ـ على ما نقله عنه عن ابن حجر في صواعقه ـ : ( لو اصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم ) وقد عني غير واحد من قرا الصحابة بجمع القرآن ، غير انه لم يتسن لهم ان يجمعوه على تنزيله ، ولم يودعوه شيئا من الرموز التي سمعتها فاذن كان جمعه ( عليه السلام ) للتفسير اجمع وهو أول من جمع القرآن وفسره عن ابن عباس قال : ضمن الله لمحمد ان يجمع القرآن بعده علي بن ابي طالب فجمع القرآن في قلب علي بعد موت محمد رسول الله قال السيوطي في الاتقان : واما علي فروي عنه التفسير الكثير وقد روى معمر عن وهب بن عبد الله عن ابي الطفيل قال : شهدت عليا يخطب وهو يقول : سلوني فوالله لا تسالوني عن شي الا اخبرتكم وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية الا وانا اعلم ابليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل .

واخرج ابو نعيم في الحلية عن ابن مسعود قال : ان القرآن انزل على سبعة احرف مامنها حرف الا وله ظهر وبطن ، وان علي بن ابي طالب عنده من الظاهر والباطن واخرج ايضا من طريق ابي بكر بن عباس عن نصير بن سليمان الاحمس عن ابنه عن علي قال : والله ما نزلت آية الا وقد علمت فيما نزلت واين نزلت ، ان ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولا .

 

۲ـ مصحف فاطمة :

ان الامام علي ( عليه السلام ) بعد فراغه من كتاب الله الف لسيدة نساء العالمين كتابا كان يعرف عند ابنائها بمصحف فاطمة يتضمن امثالا وحكما ومواعظ وعبرا واخبار أو نوادر توجب لها العزاء عن ابيها قال العلامة الطهراني (۲۹) : مصحف فاطمة من ودائع الامامية عند مولانا وامامنا صاحب الزمان كما روي في عدة احاديث عن الائمة منها ما في بصائر الدرجات ، وقد حكى ذلك العلا مة المجلسي في أول البحار .

 

۳ـ كتاب الصحيفة :

ان الامام الف ايضا كتاب الديات وسماه بالصحيفة ، وقد ذكرها البخاري ومسلم ، ورويا عنها في عدة مواضع من صحيحهما ، كما روى عنها احمد بن حنبل في مسنده اقتداء ثلة من تابعي الامام علي ( عليه السلام ) له في التاليف .

لقد اقتدى بالامام علي ( عليه السلام ) في هذا الدور ـ كما مر ـ ثلة من اتباعه فالفوا على عهده كتبا ولا باس بان نذكر بعضا منها :

۱ـ سلمان الفارسي : حيث انه الف على ما ذكره الشيخ في الفهرست كتاب حديث الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) الى الخليفة لاخذ الجواب عن اسئلته التي وجهها اليه فيه ، وهو لم يقدر على الجواب وذهب سلمان الى الامام علي وقال له : يا علي ادرك امة محمد فذهب الى المسجد واجاب عنها .

۲ـ ابو ذر الغفاري : حيث انه الف كتابا يشتمل على الخطبة التي يشرح فيها الامور الواقعة بعد النبي الكريم ، وقد ذكره الشيخ في الفهرست وله ايضا كتاب وصايا النبي الذي شرحه العلامة المجلسي وسماه عين الحياة .

۳ـ ابو رافع مولى رسول الله وصاحب امير المؤمنين : حيث انه الف كتابا في السنن والأحكام والقضاء وجمعه من حديث علي خاصة .

۴ـ علي بن ابي رافع : له كتاب في الوضوء والصلاة وفنون الفقه على مذهب اهل البيت ، وهذا الكتاب كان من الكتب المهمة عند الائمة ( عليه السلام ) ، وكانوا يرجعون الشيعة اليه .

۵ـ ربيعة بن سميع : له كتاب في زكاة النعم من حديث علي عن رسول الله ، ذكره النجاشي في كتابه .

۶ـ عبد الله بن الحر الفارسي : له لمعة في الحديث جمعها عن علي عن رسول الله وغيرهم من المؤلفين وقد تصدى اصحابنا لذكر جميع من الف من تابعي الامام علي ( عليه السلام ) ومن اراد الوقوف على ذلك بالتفصيل فليراجع فهارسهم ، كفهرست النجاشي ، ومنتهى المقال في احوال الرجال للشيخ ابي علي ، وتراجم رجالهم كمنهج المقال في تحقيق احوال الرجال وغيره .

واما عمر وتابعوه من الصحابة وغيرهم فلم يتصدوا لتدوين الفقه والحديث لا في الدور الأول من ادوار الفقه ولا في أوائل الدور الثاني من ادواره بل دونوه في أواسط الدور الثاني وهو منتصف القرن الثاني نعم أول من اراد من فقها السنة ان يكتب السنن ويدونها بعد وفاة الرسول هو عمر بن الخطاب ولكنه بعد ما استشار فيه الصحابة واشاروا اليه بفعله تردد واستخار الله شهرا فعزم الله له بتركه فتركه أو نهى عنه ، ولذلك لم يقدم احد من تابعيه والخلفاء من بعده على تدوينه وكتابته ، فبقيت السنة النبوية في صدور الصحابة والتابعين يتناقلونها حتى زمان خلافة عمر بن عبد العزيز ، فانه لما راى موت العلماء وخاف دروس العلم وضياع الحديث وتلفه ، امر بتدوين الفقه والحديث وجمعه حيث كتب من الشام الى ابي بكر بن حزم وهو من كبار المحدثين بالمدينة :

( انظر من حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فاكتبه فانني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ) (۳۰) ولكنه مات قبل حصول ذلك في راس المائة الثانية ولذلك لم يكن عند أخواننا السنة مجموعة في السنن والفقه والحديث الى منتصف القرن الثاني ولا بأس هنا ببيان كلمات المحدثين منهم حتى يظهر سبب تاخير كتابة الحديث عندهم ، واليك نص عباراتهم :

قال السيوطي : في تنوير الحوالك في شرح موطا مالك ( اخبرني عروة بن الزبير ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه اراد ان يكتب السنن واستشار فيها اصحاب رسول الله فاشار اليه عامتهم بذلك فلبث عمر بن الخطاب شهرا يستخير الله تعالى في ذلك شاكا فيه ثم اصبح يوما وقد عزم الله تعالى له فقال : اني كنت ذكرت لكم من كتابة السنن ماقد علمتم ثم تذكرت فاذا اناس من اهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا فاكبوا عليها وتركوا كتاب الله واني والله لا البس كتاب الله شيئا فترك كتابة السنن ) .

قال ابن سعد في الطبقات : عن الزهري قال : ( اراد عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه ان يكتب السنن فاستخار الله شهرا ثم اصبح وقد عزم له فقال ذكرت قوما كتبوا كتابا فاقبلوا عليه وتركوا كتاب الله ) .

واخرج الهروي في ذم الكلام من طريق يحيى بن سعد عن عبد الله بن دينار قال : ( لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الحديث انما كانوا يؤدونه لفظا وياخذونه حفظا الا كتاب الصدقات والشي اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس واسرع في العلماء الموت فامر امير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ابا بكر الحضرمي فيما كتب اليه ان انظر ما كان من سنته أو حديث عمر فاكتبه ) وقال مالك في الموطا رواية محمد بن الحسن : ( حدثنا يحيى بن سعيد ان عمر بن عبد العزيز كتب الى ابي بكر محمد بن عمرو بن حزم : ان انظر ما كان من حديث رسول الله أو سنته أو حديث عمر أو نحو هذا فاكتبه لي فاني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ) .

قال ابن حجر في المقدمة : ( اعلم ان آثار النبي لم تكن في عصر اصحابه وكبار تابعيهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة لامرين احدهما : انهم كانوا في ابتداء الحال نهوا عن ذلك كما ثبت في صحيح مسلم خشية ان يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم وثانيهما : سعة حفظهم وسيلان اذهانهم ولان اكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الاثار وتدوين الاخبار لما انتشر العلماء في الامصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الاقدار .

ولا يخفى انه كما ترى يستظهر من كلام عمر بن الخطاب الذي تقدم ذكره في كلام السيوطي خصوصا من قوله : ( ثم تذكرت فاذا اناس من اهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا فاكبوا عليها وتركوا كتاب الله عدم تجويزه كتابة السنن مطلقا لا في زمانه ولا فيما بعده للمحذور المذكور مع انه من الواضحات ان عدم الاهتمام بجمع السنن وكتابتها يوجب دروس الأحكام الدينية والعلم الذي هو الغاية والغرض من بعثة نبينا الكريم ، فهل كان بقاء السنن والفقه والحديث عند المسلمين بعد مضي قرون أو قرن ممكنا بدون الكتابة ام لا ؟ والجواب : لا ، مع العلم بان حفظ السنن وابقائها في الاسلام من اهم الواجبات عقلا وشرعا فان ما في الكتاب اي كتاب الله من شرائع الاسلام لم تذكر فيه الأحكام الدينية والمسائل الشرعية والمعارف الالهية الا على سبيل الجملة ، ومعرفتها على وجه التفصيل لا يمكن الا بالرجوع الى السنة النبوية ، فكان حفظها من اهم الواجبات ومن الواضح ان مع عدم كتابة السنن تقع معرضا للضياع والزوال والتلف ، ولذلك امر عمر بن عبد العزيز في أول القرن الثاني ابا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بكتابتها لما راى موت العلماء وخاف دروس العلم .

ومن العجيب ان عمر بن الخطاب نسب ترك كتابة السنن والفقه والحديث الى عزم الله له مع ان حسنها غير خفي على احد بل كونها من اعظم الواجبات عقلا وشرعا ، فلعل الوجه في ذلك كان امرا آخر لم ير مصلحة في اظهاره ، واما المحذور الذي جافي كلام ابن حجر من كتابة السنن وهو خشية (اختلاط) الحديث بالقرآن ففيه ما لا يخفى .

ثم انهم ذكروا لعدم كتابة الحديث وجها آخر وهو ما نسبوه الى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : من قوله : لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه (۳۱) .

وفي هذا الوجه ما لا يخفى من المناقشة والاشكال ، لان ما نسبوه الى رسول الله مما لا يقبله الجاهل فضلا عن العالم والباحث خصوصا بعد ثبوت امره الامام علي ( عليه السلام ) بكتابة جميع ما يصدر منه ( صلى الله عليه وآله ) فعلى ذلك لا يبقى مجال لتوجيه وتسويغ قول عمر بن الخطاب بان : ( من كتب حديثا فليحرقه ) بما نسبوه الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فتحصل ان الاحاديث لم تكن عند اخواننا السنة الى منتصف القرن الثاني من الهجرة وعند ذلك اتفق علماؤهم على لزوم جمعها وتدوينها ، ولكن عند الامامية كانت مدونة باملاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخط علي ( عليه السلام ) وفيه جميع سنن النبي ( صلى الله عليه وآله ) .

 

الدور الثالث : دور التهذيب والتبويب :

بدأ هذا الدور من يوم الغيبة الكبرى الامام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف سنة (۳۲۹) الى زمان الفقيه الكبير والزعيم الديني شيخنا المفيد (ره) (م۴۱۳) وينتهي بوفاته وكانت مدة هذا الدور اكثر من سبعين سنة وقد اهتم العلماء والفقهاء في هذا الدور بحفظ آثار الائمة ( عليه السلام ) من الدس والتحريف مع كثرة عمل الاعداء والمخالفين والمعاندين ليلا ونهارا جهرا واخفاء على ايجاد الخلاف والشقاق ووضع الاحاديث وتغيير الأحكام عما كانت عليها ولذلك كله شرعوا في هذا الدور بتهذيب الاخبار وتبويبها حتى لا تختلط الاخبار المجعولة مع الاخبار المروية عنهم ( عليه السلام ) ، اذ ان المصادر الاصلية كانت موجودة والاصول كانت معمولة بها عندهم كما ان الفقهاء في هذا الدور جاهدوا بدورهم في تهذيب الاخبار وتبويبها تسهيلا لرواد العلم وطلابه لاجل الوصول الى الواقع ثم ان فقهانا رضوان الله تعالى عليهم في هذا الدور لم يكتفوا بذكر الاحاديث وتبويبها فقط بل توجهوا الى تهذيبها وتنقيحها من حيث السند والمتن ، ولذا اهتموا بعلم الحديث وهو علم يبحث فيه عن سند الحديث ومتنه وكيفية تحمله وآداب نقله وقد كتبت بعد هذا الدور من الادوار المتأخرة للفقه في هذا العلم مؤلفات قيمة ، سنذكرها في كل دور ان شاء الله تعالى ثم ان علماءنا في هذا الدور اهتموا بضبط الرجال والراوي حتى تعرف كلمات الاصحاب رضوان الله تعالى عليهم واستنباط الأحكام وتمييز المقبول والصحيح والموثق من الاخبار ليعمل به والمردود والضعيف من الاخبار ليجتنب عنه والذي لا ينبغي الشك فيه ان خدمة الفقها في هذا الدور كانت عظيمة ومهمة جدا لا تعادل ولا تقدر بشي اذ كانوا هم الاساس في حفظ الركائز لبناء الفقه المتطور الى يومنا هذا وفي الادوار المتاخرة استفادوا من آثارهم القيمة استفادة كبيرة ولولا جهودهم في هذا السبيل لكانوا يقعون في مشاكل كثيرة عند المسائل الفقهية والأحكام الدينية واستنباطها ومن رواد هذا الدور كما ذكرنا شيخ الشيعة ومحيي الشريعة ابو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الشيخ المفيد (ره) (۳۳۸ـ۴۱۳) وهو الذي انتهت اليه الزعامة الدينية ، فقد كان أوثق أهل زمانه بالحديث واعرفهم بالفقه وكل من تأخر عنه استفاد منه ، قال الشيخ في الفهرست في حقه :

( انه كان فقيها متقدما فيه وله قريب من مائتي مصنف كبار وصغار ) ومن مؤلفاته كتاب المقنعة والاركان في الفقه ومن رواد هذا الدور ابن ابي عقيل ابو محمد حسن بن علي العماني الحذاء كما شهد بذلك بحر العلوم ، وكان شيخ الشيعة وفقيهها حيث انه أول من بذل كمال جهده في هذا الدور في تهذيب الفقه في جميع ابعاده وجوانبه والتحقيق في العلوم الشرعية والتدقيق في العلوم النقلية ، ولذلك يعبر عنه وعن ابن الجنيد ب( القديمين ) لعدم رواية الصدوق والمفيد عنه واما ابن الجنيد فقد روى عنه المفيد ، وهذا الشيخ العظيم وان كانت له مؤلفات ومصنفات كثيرة في جميع الفنون الإسلامية الا انه اشتهر بالفقه والتفريع اي رد الفروع الى الاصول ، والتطبيق اي تطبيق الأحكام على المصاديق الخارجية واستعمال الراي والنظر في استخراج الأحكام واستنباطها ، ومن جهة استعماله القياس والراي والنظر في مقام الاستنباط فقد اهملت كتبه وذكره وهو أول من صنف في الفقه كتابه المعروف وهو ( كتاب المستمسك بحبل آل الرسول )

قال النجاشي : ( وهو كتاب مشهور في الطائفة ) وهو أول من ذهب الى القول بعدم انفعال الماء القليل وتبعه على ذلك جمع من فقهائنا المعاصرين كالمير معز الدين محمد الصدر الاصفهاني والمحدث الكاشاني ، ومال اليه شارح الدروس ، ويظهر من صاحب الرياض انه الف رسالة في نصرة هذا القول ومن رواد هذا الدور ابن الجنيد ابو علي محمد بن احمد الكاتب الاسكافي (م۳۸۱) المعاصر لعلي بن الحسين بن بابويه والكليني وحسين بن روح السفير الثالث الامام المنتظر كما شهد بذلك بحر العلوم ، فهو كابن ابي عقيل بذل جهده في تهذيب الفقه في هذا الدور مبنيا على القواعد والاجتهاد لكونه من بعد ابن عقيل أول من دون الفقه والاجتهاد بصورة علمية وياتي الحديث عنه عند البحث عن ادوار الاجتهاد وقد كتب (ره) كثيرا في المسائل الفقهية والأحكام الدينية وهذبها وعقد لها الابواب وقسم فيها المسائل ، وجمع بين النظائر واستوفى في ذلك غاية الاستيفاء ، وذكر الفروع التي تعرض لها الفقهاء ، واذا كان الفرع ظاهرا اقتنع فيه بمجرد ذكر الفتوى ، وان كان غريبا أو مشكلا اشار الى مدركه وعلته ، واذا كان مما فيه اقوال الفقهاء ذكرها وبين عللها والصحيح منها والاصح والقوي منها والاقوى والظاهر منها والاظهر ، ومن كتبه كتاب تهذيب الشيعة لاحكام الشريعة وكتاب الاحمدي للفقه المحمدي وغيرهما من الكتب ونقل عن ابي جعفر بن معد الموسوي وهو متاخر عن الشيخ الطوسي : انه وقف على كتاب ابن الجنيد الفقهي واسمه التهذيب : فذكر انه لم ير لاحد من الطائفة كتابا اجود منه ولا ابلغ ولا احسن عبارة ولا ارق معنى منه ، وقد استوفى فيه الفروع والاصول وذكر الخلاف في المسائل واستدل بطريق الامامية وطريق مخالفيهم ، انتهى واما كتابه المختصر الاحمدي في الفقه المحمدي فقد كان الى عصر العلامة الحلي (ره) موجودا ، ويعبر عنه كما ذكرنا مع ابن ابي عقيل ب( القديمين ) وروى المفيد عنه واما ترك كتبه وذكره فانما كان لاجل ذهابه الى استعمال القياس والراي في استخراج الحكم كابن ابي عقيل .

ومن اعلام أواخر هذا الدور السيد الشريف المرتضى تلميذ شيخنا المفيد صاحب كتاب الانتصار والناصريات (۳۵۵ـ۴۳۶) ولكن لم يكن السيد في المبحث الفقهي كابن ابي عقيل وابن الجنيد اللذين اعتمدا غالبا على القواعد والاجتهاد والتفريع ، ولا مثل شيخنا المفيد الذي اعتمد غالبا على الروايات ، وهو الذي انتهت اليه رئاسة الامامية في الدين والدنيا ولم يتفق لاحد من فقهائنا ما اتفق له من بسط اليد وطول الباع في احيا مدارس المذهب وكان يدرس في جميع العلوم الإسلامية لا سيما الكلام والفقه والحديث وتخرج على يده اعلام علماء الاسلام وائمة الفقه ، والف كتبا في اكثر العلوم وقيل انه كانت له كرامات .
الكتب التي دونت في الحديث في هذا الدور :

وقد ظهر في هذا الدور من الكتب الحديثية :

كتاب الكافي لثقة الاسلام وشيخ الامامية الكليني (ره) (م۳۲۸) كما وظهر كتابا التهذيب والاستبصار لشيخ الطائفة على الاطلاق (م۴۶۰) ، وكتاب من لا يحضره الفقيه لابي جعفر محمد بن علي بن الحسين القمي عام ۳۸۱ وهو المعروف بالصدوق وهذه الكتب والجوامع لها اهمية كبيرة عند الامامية ، وعليها المعول ، وتعرف عندهم بالكتب الاربعة كالصحاح الستة عند اهل السنة وقد كتب غيرها من نفائس الكتب امثال كتب المحاسن للبرقي في هذا الدور ايضا
.الدور الرابع : دور التوسعة في التفريع :

بدأ هذا الدور من زمان المجتهد الكبير شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (ره) صاحب كتاب المبسوط وغيره (۳۸۵ـ۴۶۰) الى زمان الفقيه المبدع ابن ادريس صاحب كتاب السرائر المولود (۵۵۵ـ۵۹۸) وكانت مدة هذا الدور اكثر من مائة سنة وقد نشأ الفقه الإسلامي في هذا الدور بصورة رائعة من حيث التوسعة في الفروع لابتناء الفقه فيه على الاجتهاد ورد الفروع الى الاصول وتطبيق القواعد الكلية على المصاديق الخارجية وفي هذا الدور كثرت الفروع الفقهية ونظمت ابوابها ونضجت موضوعاتها ومسائلها ولم يكتف فقهاؤنا رضوان الله تعالى عليهم في هذا الدور ببيان الابحاث الفقهية والأحكام الدينية بذكر ما ورد من الاخبار من الكليات والاصول ، بل اهتموا بذكر تفريعاتها ومصاديقها وتفصيلاتها التي تستفاد من تلك الادلة وصار الفقه كما قلنا في هذا الدور جامعا لجميع المسائل والفروع مع الاشارة الى دليلها فيما لم تكن هذه الطريقة معهودة قبل ذلك وفي طليعة فقهائنا في هذا الدور بل القائد لهذا الاسلوب هو شيخنا الطوسي (ره) حيث انه الف كتبا كثيرة في الابحاث الفقهية مع الخصوصية المذكورة بشكل لم يسبقه احد في الاسلام الى مثلها ،

ومنها : كتابه ( المبسوط ) حيث انه ذكر فيه بصورة مفصلة اصول كل المسائل ومعطيات الاحاديث بصورة مباشرة ، وذكر فروعها فيه وعقد له الابواب وقسم فيه المسائل وجمع بين النظائر واستوفى الفروع فيه مع الاشارة الى ادلتها وتنقيحها نسبيا ومنها كتاب الخلاف على ترتيب باقي كتبه ، ولكن ذكر فيه الفروع المختلف فيها عند فقهاء الاسلام من الامامية والحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية مع تنقيحها وبيان قول الحق فيها بالدليل على طبق مذهب الامامية ولعل من افضل الوثائق التاريخية التي تصف زمان قبل الطوسي من حيث قلة الفروع وازديادها بواسطته هو ما ذكره في مقدمة كتابه الفقهي العظيم المبسوط واليك بعض عبارته : اني ما ازال اسمع معاشر المخالفين من المتفقهة والمنتسبين الى علم الفروع يستخفون بفقه اصحابنا الامامية وينسبونهم الى قلة الفروع وهذا الكلام منه كما ذكر سيدنا الشهيد آية الله الصدر تغمده الله برحمته واسكنه الفسيح من جنته يعتبر من الوثائق التاريخية التي تتحدث عن المراحل البدائية من تكون الفكر الفقهي التي مر بها علم الشريعة لدى الامامية ونما من خلالها حتى انتج امثال الطوسي من النوابغ الذين نقلوه الى مستوى أوسع واعمق ويظهر من كلامه كما افاده الشهيد ان البحث الفقهي الذي سبقه وادركه وضاق به ، كان يقتصر في الغالب على استعراض المعطيات المباشرة للاخبار المروية عن الائمة ( عليه السلام ) وهي ما سماها الشيخ باصول المسائل ويتقيد في استعراض تلك المعطيات بنفس الصيغ التي جات في مصادرها من تلك الاحاديث ومن المعلوم ان البحث الفقهي حين يقتصر على اصول المسائل المعطاة بصورة مباشرة في الاحاديث ويتقيد بصيغتها الماثورة يكون بحثا منكمشا لا مجال فيه للابداع والتعمق الواسع النطاق وكتاب المبسوط كان محأولة ناجحة وعظيمة في مقاييس التطور العلمي لنقل البحث الفقهي من نطاقه الضيق المحدود في اصول المسائل الى نطاق واسع يمارس الفقيه فيه التفريع والتفصيل والمقارنة بين الأحكام وتطبيق القواعد العامة ويتتبع احكام مختلف الحوادث والفروض على ضؤ المعطيات المباشرة للنصوص .

ولقد تم نقل الفكر الفقهي من دور الاقتصار على اصول المسائل والجمود على صيغ ‌الاخبار الى دور التفريع على يد شيخنا المجدد ( ره ) هنا تنبغي الاشارة الى امر :

وهو ان التطور الذي انجزه شيخنا الطوسي في البحث الفقهي لم يكن فجاة وبدون سابق اعداد ، بل كانت له بذوره التي وضعها في الدور الثاني من ادوار الفقه ائمتنا المعصومين ( عليه السلام ) بل والنبي ( صلى الله عليه وآله ) في الدور الأول من ادواره وهو زمن التشريع ، ومما يدل على ذلك ما ترويه كتب الاخبار والاحاديث من اسئلة ترتبط بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاجتهاد والاستنباط وجهها عدد من الرواة الى الامام الصادق وغيره من الائمة وتلقوا جوابها منهم ، فان تلك الاسئلة تحكي لنا عن وجود بذرة الاجتهاد ورد الفروع الى الاصول عندهم وتفصيل الكلام عن ذلك يطول به المقام هنا .

ولقد نمت تلك البذور في الدور الثالث من ادوار الفقه في زمان ابن عقيل وابن الجنيد ، ثم زادت في نموها من بعدهما في هذا الدور في زمان الشيخ المفيد والسيد المرتضى ثم نمت فيما بعدهما بالمقدار اللازم حتى آتت اكلها في الدور الرابع من ادوار الفقه على يد الطوسي في كتابه المبسوط وهذا الكتاب كما ذكر سيدنا الشهيد الصدر لم يكن الا تجسيدا للتوسع والتكامل للبحث الفقهي والفكر الاصولي الذي كان قد بدا بالتوسع والنمو والتفريع والتفصيل وتطبيق القواعد على يد ابن ابي عقيل ومن بعده على يد ابن الجنيد ومن بعده على يد السيد المرتضى علم الهدى .
الوقوف والركود النسبي للبحث الفقهي في هذا الدور :

ان هذا التوسع والنمو للبحث الفقهي الذي حصل على يد شيخنا الطوسي في الدور الرابع من ادوار الفقه توقف عن السير الى الكمال في جميع جوانبه من بعد وفاته طيلة قرن كامل وفي طول هذا الدور كان النهج المتبع عند العلماء والفقهاء هو طريقة الشيخ ‌في التفريع وتطبيق القواعد الكلية واستنباط الأحكام واستخراجها من منابعها ، حتى انهم كانوا لا يقولون على خلافه في قليل ولا في كثير ، مع انه كان من المترقب ان يكون ما حققه الشيخ من الاسلوب في التفريع والتفصيل وتطبيق القواعد قوة دافعة لعلم الفقه وابحاثه ، وان يفتح لمن يخلفه من الفقهاء آفاقا رحبة للابداع والتجديد والتوسع الكامل ومواصلة السير في الطريق الذي بداه الشيخ .
أسباب الركود النسبي للفقه بعد الشيخ :

ولهذا الركود اسبابه ، منها : كما ذكر سيدنا الشهيد الصدر ما اسنده جماعة من العلماء الى ما حظي به الشيخ الطوسي من تقدير عظيم في نفوس تلامذته رفعه في انظارهم عن مستوى النقد وجعل من آرائه ونظرياته شيئا مقدسا لا يمكن ان ينال باعتراض أو يخضع لتمحيص ففي المعالم كتب الشيخ حسن بن زين الدين ناقلا عن ابيه (ره) : ( ان اكثر الفقهاء الذين نشأوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى تقليدا له لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنهم ) .

وروى عن الحمصي وهو ممن عاصر تلك الفترة انه قال : ( لم يبق الامامية مفت على التحقيق بل كلهم حاك ) وهذا يعني ان رد الفعل العاطفي لتجديدات الشيخ قد طغى متمثلا في تلك النزعة التقديسية على رد الفعل الفكري الذي كان ينبغي ان يتمثل في درس القضايا والمشاكل التي طرحها الشيخ والاستمرار في تنمية الفكر الفقهي وقد بلغ من استفحال تلك النزعة التقديسية في نفوس الاصحاب انا نجد فيهم من يتحدث عن رؤيا امير المؤمنين ( عليه السلام ) شهد فيها الامام بصحة كل ما ذكره الشيخ في كتابه الفقهي ( النهاية ) وهو يشهد عن مدى تغلغل النفوذ الفكري والروحي للشيخ في اعماق نفوسهم .

ومن الوثائق التاريخية التي تصف تلك الفترة ما ذكره المجتهد الشاب المبدع محمد بن احمد بن ادريس الذي ادرك تلك الفترة ، فقد كتب في مقدمة كتابه السرائر : ( اني لما رايت زهد اهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية والأحكام الإسلامية وتثاقلهم عن طلبها وعداوتهم لما يجهلون وتضييعهم لما يعملون ورأيت ذا السن من اهل دهرنا هذا لغلبة الغباوة عليه وملكة الجهل لقياده مضيعا لما استودعته الايام مقصرا في البحث عما يجب عليه علمه حتى كانه ابن يومه ونتيج ساعته ورايت العلم عنانه في يد الامتهان وميدانه قد عطل من الرهان تداركت منه الذما الباقي وتلافيت نفسا بلغت التراقي ) .

فهذا الفقيه المبدع كان له دور مهم في مقاومتها ، حيث بث روحا جديدا في البحث الفقهي كما ستعرف بعد قليل .

وقد انتهى زمان الوقوف والركود النسبي للبحث الفقهي في زمان ابن ادريس كما قلنا ومن هذا التاريخ تغير الوضع والاسلوب ، وزاد الاستدلال في الابحاث الفقهية ، وتحرر البحث الفقهي من اسلوبه التقليدي القديم الى الاسلوب الاستدلالي الحديث ، وعندئذ تفتحت له الابواب الجديدة ، حيث لم يكن الامر كذلك قبل ذلك التاريخ وكان كتابه السرائر شاهدا على ذلك ودالا على وصول الفكر العلمي والبحث الفقهي في مدرسته الى مستوى التفاعل مع آراء ونظريات شيخنا الطوسي ونقدها وتمحيصها كما ستعرف بعد لحظات .
الدور الخامس : دور الاستدلال والاستنباط :

بدأ هذا الدور من زمان الفقيه محمد بن ادريس الحلي الى زمان المحقق صاحب شرائع الاسلام في احكام الحلال والحرام (م ۶۷۶) وكان مجموع هذا الدور اكثر من مائة سنة وقد نشا الفقه في هذا الدور بصورة رائعة من حيث الاستدلال في الابحاث الاجتهادية الفقهية والفروع العملية .

وكان الفقهاء في هذا الدور يبذلون جهودهم في الاستدلال الصحيح عند بيان المسائل الشرعية والفروع الفقهية الاجتهادية فيما لم يكن حكم المسالة من الأحكام الضرورية ، فكانوا يذكرون المسالة ثم يعقبونها بدليلها ومدركها ، واذا كانت المسالة من المسائل الخلافية ، يذكرون فيها الاقوال ومداركها ، ثم يختار واحد منها بالدليل واذا كانت الاقوال فيها متعارضة ولم يكن في البين دليل على الترجيح يحكمون فيها بالتخيير أو التوقف وفي طليعة رواد هذا الدور بل القائد لهذه الفكرة العلمية ـ كما ذكرنا ـ الفقيه الشاب والمجتهد المبدع ابن ادريس (رض) حيث انه بث في الفقه روحا جديدة لشروعه بالبحث الاستدلالي حول الابحاث والفروع الفقهية بصورة لم يسبقه احد من الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم وقد الف الكتب الفقهية الكثيرة بهذا الاسلوب ومنها كتاب السرائر الجامع لتمام ابواب الفقه المشحون بالتحقيقات الطريفة واستنباطا لمسائل الشرعية عن ادلتها الشرعية من الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، ويرجع هذا الى ان ابن ادريس هو الذي فتح باب الطعن لأول مرة ، على الشيخ الطوسي وقد حدث هو بنفسه في مقدمة كتابه المذكور بعد الشكاية عن اهل زمانه عن منهجه الخاص في الكتاب بقوله : ( فاعتقادي فيه انه اجود ما صنف في فنه واسبقه لابنا ما سنه واذهبه من طريق البحث والدليل والنظر لا الرواية الضعيفة والخبر فاني تحريت فيه التحقيق وتنكبت ذلك كل طريق فان الحق لا يعدو اربع طرق اما كتاب الله أو سنة رسوله المتواترة أو الاجماع أو دليل العقل ، فاذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحققين الباحثين عن ماخذ الشريعة التمسك بدليل العقل فيها فانها مبقاة عليه وموكولة اليه فمن هذا الطريق توصل الى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل اهل الفقه فيجب الاعتماد عليها والتمسك بها فمن تنكب عنها عسف وخبط خبط عشواء وفارق قوله من المذهب ) ولكن هذه الطريقة من ابن ادريس كانت غير مستحسنة بل كانت مبغوضة لدى فقهاء اهل عصره ولذا قيل في حق ابن ادريس : انه كان شيخ الفقهاء بالحلة متقنا للعلوم الكثيرة ، كثير التصنيف والتاليف ، لكنه اعرض عن الاخبار المروية عن الائمة ( عليه السلام ) .

ولكن الانصاف ان ابن ادريس (رض) لا يستحق هذا الكلام لعدم اعراضه عن الاخبار المعتبرة والمعتمدة ، وانما اعرض عن الاخبار الضعيفة واعتمد على اخبار الثقات كما صرح بذلك بنفسه في كلامه المتقدم في وجه اعراضه عن الاخبار التي لا يمكن الاعتماد عليها وعلى كل حال فهذا الفقيه المبدع له الفضل في فتح ابواب التطور للبحث الفقهي من حيث الاستدلال ، فقد دعا الى التمسك بالادلة العقلية كما عرفته في كلامه المتقدم بينما كان الاعتماد في الادوار السابقة على معطيات النصوص والاحاديث المباشرة ومن المناسب هنا ذكر ما افاده سيدنا آية الله الشهيد الصدر في مقام المقايسة بين السرائر والمبسوط واليك نص عبارته : ( وبدراسة كتاب السرائر ومقارنته بالمبسوط يمكننا ان ننتهي الى النقاط الاتية :

۱ـ ان كتاب السرائر يبرز العناصر الاصلية في البحث الفقهي وعلاقتها به بصورة أوسع مما يقوم به كتاب المبسوط بهذا الصدد فعلى سبيل المثال نذكر ان ابن ادريس ابرز في استنباطه لاحكام المياه ثلاث قواعد اصولية وربط بحثه الفقهي بها بينما لا نجد شيئا منها في احكام المياه من كتاب المبسوط وان كانت بصيغتها النظرية العامة موجودة في كتب الاصول قبل ابن ادريس .

۲ـ ان الاستدلال الفقهي لدى ابن ادريس أوسع منه في كتاب المبسوط وهو يشتمل في النقاط التي يختلف فيها مع الشيخ على توسع في الاحتجاج وتجميع الشواهد حتى ان المسالة التي لا يزيد بحثها في المبسوط على سطر واحد قد تبلغ في السرائر صفحة مثلا ومن هذا القبيل مسالة طهارة الما المتنجس اذا تمم كرا بما متنجس ايضا ، فقد حكم الشيخ الطوسي في المبسوط ببقاء الماء على النجاسة ولم يزد على جملة واحدة في توضيح وجهة نظره ، واما ابن ادريس فقد اختار بطهارة الماء في هذه الحالة ، وتوسع في بحث المسالة ثم ختمه قائلا : ( ولنا في هذه المسالة منفردة نحو من عشر ورقات فقد بلغنا فيها اقصى الغايات وحججنا القول فيها والاسئلة والادلة والشواهد من الايات والاخبار ) .

ولا باس هنا بذكر اقوال المسالة فنقول : ان لفقهائنا ( رضوان الله تعالى عليهم ) في هذه المسالة ثلاثة اقوال :

الأول : عدم زوال النجاسة عن الماء المتنجس اذا تمم كرا بماء متنجس ايضا ، وهو مختار الشيخ في الخلاف والمبسوط والعلامة (ره) في كتبه وكذا الشهيد .

الثاني : زوال النجاسة عنه اذا تمم كرا بواسطة ماء طاهر ، نسبه الشهيد في الذكرى الى بعض الاصحاب .

الثالث : زوال النجاسة عنه باتمامه كراً سواء كان ذلك بما طاهر أو بماء متنجس ، وهو الذي اختاره محمد بن احمد بن ادريس وادعى عليه في السرائر الاجماع واستدل عليه بقوله ( صلى الله عليه وآله ) : اذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا ورده المحقق بانا لم نعثر عليه في كتب الاصحاب وعند ملاحظة النقاط التي يختلف فيها ابن ادريس مع الشيخ الطوسي نرى اهتماما كبيرا منه باستعراض الحجج التي يمكن ان تدعم وجهة نظر الطوسي وتفنيدها ، وهذه الحجج التي يستعرضها ويفندها اما ان تكون من وضعه وابداعه يفترضها افتراضا ثم يبطلها لكي لا يبقى مجال لشبهة في صحة موقفه أو انها تعكس مقأومة الفكر التقليدي السائد لاراء ابن ادريس الجديدة اي ان الفكر السائد استفزته هذه الاراء واخذ يدافع عن آراء الطوسي فكان ابن ادريس يجمع حجج المدافعين ويفندها ، وهذا يعني ان آراء ابن ادريس كان لها رد فعل وتاثير معاكس على الفكر العلمي السائد الذي اضطره ابن ادريس للمبارزة ، ونحن نعلم من كتاب السرائر ان ابن ادريس كان يجابه معاصريه برائه ويناقشهم ولم يكن منكمشا في نطاق تاليفه الخاص ، فمن الطبيعي ان يثير ردود الفعل وان تنعكس ردود الفعل هذه على صورة حجج لتاييد راي الشيخ فمن مجابهات ابن ادريس تلك ما جاء في المزارعة من كتاب السرائر اذ كتب عن رأي فقهي يستهجنه ويقول : ( والقائل بهذا القول السيد العلوي ابو المكارم ابن زهرة الحلبي شاهدته ورايته وكاتبته وكاتبني وعرفته ما ذكره في تصنيفه من الخطأ فاعتذر (رض) باعذار غير واضحة ) .

ونلمح في بحوث ابن ادريس ما كان يقاسيه من المقلدة الذين تعبدوا برأي الشيخ ‌الطوسي وكيف كان يضيق بجمودهم ، ففي مسالة تحديد المقدار الواجب نزحه من البئر اذا مات فيها كافر ، يرى ابن ادريس نزح جميع ما في البئر بدليل ان الكافر اذا باشر ما البئر وهو حي وجب نزح جميعها اتفاقا فوجوب نزح الجميع اذا مات فيها أولى واذا كان هذا الاستدلال بالأولوية يحمل طابعا عقايا جريئا بالنسبة الى مستوى العلم الذي عاصره ابن ادريس فقد علق عليه يقول : ( وكاني بمن يسمع هذا الكلام ينفر منه ويستبعده ويقول من قال هذا ومن ينظره في كتابه ومن اشار من اهل هذا الفن الذين هم القدوة في هذا اليه ؟ ) واحيانا نجد ان ابن ادريس يحتال على المقلدة فيحاول ان يثبت لهم ان الشيخ الطوسي يذهب الى نفس رايه ولو بضرب من التأويل فهو في مسالة الماء المتنجس المتمم كرا بمثله يفتي بالطهارة ويحاول ان يثبت ذهاب الشيخ الطوسي الى القول بالطهارة ايضا فيقول : ( فالشيخ ابو جعفر الطوسي الذي يتمسك بخلافه ويقلد في هذه المسالة ويجعل دليلا يقوي القول والفتيا بطهارة هذا الماء في كثير من اقواله وانا ابين ان شاء الله ان ابا جعفر تفوح من فيه رائحة تسليم هذه المسالة بالكلية اذا تؤمل كلامه وتصنيفه حق التامل وابصر بالعين الصحيحة واحضر له الفكر الصافي ) .

۳ـ وكتاب السرائر من الناحية التاريخية يعاصر الى حد ما كتاب الغنية الذي قام فيه حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي بدراسة مستقلة لعلم الاصول لان ابن زهرة هذا توفي قبل ابن ادريس ب(۱۹) عاما ، فالكتابان متقاربان من الناحية الزمنية ونحن اذا لاحظنا اصول ابن زهرة وجدنا فيه ظاهرة مشتركة بينه وبين فقه ابن ادريس تميزها عن عصر التقليد المطلق للشيخ ، وهذه الظاهرة المشتركة هي الخروج على آراء الشيخ والاخذ بوجهات نظر تتعارض مع موقفه الاصولي أو الفقهي وكما راينا ابن ادريس يحاول في السرائر تفنيد ما جاء في فقه الشيخ من ادلة كذلك نجد ابن زهرة يناقش في الغنية الادلة التي جات في كتاب العدة ويستدل على وجهات نظر معارضة بل يثير احيانا مشاكل اصولية جديدة لم تكن مثارة من قبل في كتاب العدة بذلك النحو ، وهذا يعني ان الفكر العلمي كان قد نما واتسع بكلا جناحيه الاصولي والفقهي حتى وصل الى المستوى الذي يصلح للتفاعل مع آراء الشيخ ومحاكمتها الى حد ما على الصعيدين الفقهي والاصولي الى ان يقول سيدنا الشهيد : واستمرت الحركة العلمية التي نشطت في عصر ابن ادريس تنمو وتتسع وتزداد ثراء عبر الاجيال وبرز في تلك الاجيال نوابغ كبار صنفوا في الاصول والفقه وابدعوا ) (۳۲) ومن رواد هذا الدور كما مرت الاشارة نجم الدين المحقق الحلي (۶۰۰ـ۶۷۶) حيث انه حقق مباني الفقه واحكم قواعده الراسية في كتابه المعتبر وغيره ومن ثم لقب بالمحقق وكان موفقا في هذا المضمار .
الدور السادس : دور التوسعة في البحث والاستدلال في الفروع الفقهية :

بدا هذا الدور من زمان آية الله العلامة الحلي (۶۴۸ـ۷۲۶) الى زمان الاستاذ الاكبر المجدد الوحيد البهبهاني (ره) (م۱۲۰۵) فقد بدأ هذا الدور بالبحث الاستدلالي الوسيع والنقد والتحليل في آراء الفقهاء ونظرياتهم في الابحاث الفقهية على طرز وكيفية خاصة فجرى النقض والابرام فيها .

ان فقهانا رضوان الله تعالى عليهم لم يكتفوا في هذا الدور بالتوسعة في الاستدلال والنقد والتحليل في نظريات الفقهاء في الابحاث الفقهية فقط بل كانوا في السابق يلاحظون الاخبار من حيث السند والادلة وكونها معمولا بها عند الاصحاب أو لم تكن كذلك فبدت بذلك كله آراء جديدة في كيفية استخراج الأحكام الشرعية واستنباطها ، فتطور الفقه من حيث التوسعة في الاستدلال في أواخر هذا الدور بصورة رائعة جامعة ، اذ اتعبوا نفوسهم في شرح كتب القدماء وتنقيح مبانيهم وبيان مداركهم في كتب قيمة كانت وما تزال مرجعا للعلماء والفقهاء من زمانهم الى زماننا هذا ومن رواد هذا الدور بل القائد لهذا الاسلوب والمنهج كما ذكرنا هو العلامة (ره) حيث انه جد واجتهد في البحث والجمع والمقارنة والتحقيق والتوسعة في الاستدلال ، والف كتبا في الابحاث الفقهية مع المزايا المذكورة بشكل لم يسبقه احد قبله ، منها : كتاب القواعد في الفروع الفقهية الذي لم يصنف في الاسلام مثله في علم التفريع ، ومنها كتاب التذكرة في مسائل الخلاف الذي لم يصنف مثله في الاسلام من حيث السعة والمقارنة وتطور منهج البحث الى زماننا هذا ،

ومنها : كتاب التحرير، والنهاية ، والمنتهى : المشتملة على الابحاث الفقهية في غاية من التوسعة والبسط في الاستدلال ، وسلك بهذا المسلك نجله فخر المحققين صاحب ايضاح القواعد (۶۸۲ـ۷۷۱) الذي بذل جهده كوالده العلا مة (ره) في التوسعة والتفريع والتفصيل وتطبيق القواعد الكلية على المصاديق وممن حذا حذوه الشهيد الأول محمد بن مكي جمال الدين صاحب الذكرى والدروس وغيرهما (۷۳۴ـ۷۸۶) الذي بحث في هذه الكتب عن امهات ابحاث الفقه بشكل استدلالي مبسط وممن تبعه المحقق الثاني نور الدين علي بن عبد العالي الكركي صاحب جامع المقاصد (م۹۴۰) ، حيث انه شرح القواعد للعلامة ، وصنف كتبا بحث فيها عن مسائل الفقه بشكل وسيع حيث جاء بنظريات مهمة في هذا الميدان وممن حذا حذوه آية الله الشيخ علي بن عبد العالي اميني (م۹۳۸) صاحب شرح الجعفرية وشرح رسالة صيغ ‌العقود والايقاعات وممن سلك هذا المسلك الشهيد الثاني زين الدين الجبعي صاحب مسالك الافهام في شرح شرائع الاسلام (۹۱۱ـ۹۶۵) الذي كرس جهوده في بيان الابحاث الفقهية في مؤلفاته بصورة وسيعة وبشكل استدلالي مبسط في جميع ابعادها ، واخذ في رد الفروع الى الاصول بالاسلوب المتقدم وممن سلك هذا المسلك العلامة الشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ محمد المعروف بالشيخ البهائي (۹۱۸ـ۹۸۴) صاحب شرح قواعد العلامة وحاشية الارشاد ، وهو الذي اختار الوجوب العيني لصلاة الجمعة في زمان الغيبة الكبرى الامام المنتظر وممن حذا حذوه آية الله السيد محمد صاحب مدارك الأحكام في شرح شرائع الاسلام (م۱۰۰۹) .
الكتب التي دونت في الحديث في هذا الدور :

وفي هذا الدور كتبت جوامع أوسع من الجوامع التي كتبت في الدور الثالث منها : كتاب وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة لمحمد بن الحسن الحر العاملي (۱۰۳۳ـ ۱۱۰۴) الذي طبع اخيرا في ۲۰ مجلدا ، ومنها كتاب : الوافي في الاصول والفروع والسنن والأحكام للفيض الكاشاني ، (۱۰۰۷ـ۱۰۹۱) وهو يشتمل على الاحاديث التي جات في الكتب الاربعة ، ويقع في ثلاث مجلدات من القطع الكبير ومنها بحار الانوار للشيخ محمد باقر المجلسي (۱۰۳۷ـ۱۱۱۰) الذي طبع مؤخرا في ۱۱۰ مجلدات وهو اكبر موسوعة للحديث عند الشيعة وعليه تدور اليوم رحى الامامية ، ولا اجمع منه في جوامع الشريعة .
الدور السابع : دور التكامل :

بدا هذا الدور من زمان الاستاذ الاكبر ومعلم البشر مجدد المذهب في القرن الثالث عشر الشيخ محمد باقر بن محمد الوحيد البهبهاني (۱۱۱۶ـ۱۲۰۵) المطابق للتاريخ ‌الذي عينه حفيده الشيخ احمد الى زمان الشيخ الاعظم الشيخ مرتضى الانصاري الدزفولي (م ۱۲۸۱) وقد شهد هذا الدور حركة فقهية واسعة متكاملة في جميع الابعاد بلغت غاية ازدهارها ، حيث ان الفقيه في هذا الدور يجسد اعلى مرتبة من البحث والنظر والاستدلال والتحقيق الكامل ، لان الفقهاء في هذا الدور كانوا يتوجهون أولا : الى نفس المسائل الموجودة وفروعها بكثير من النقد والتحليل ، وثانيا : في نفس الوقت يلاحظون في كل مسالة الادلة الاجتهادية من الكتاب والسنة فالفقيه في هذا الدور يلاحظ اقوال الفقهاء القدماء من جهة النقض والابرام كما يتوجه الى الادلة الاجتهادية وقد جمع في هذا الدور جميع محاسن الادوار التي مرت على الفقه وان لم يكن حائزا على خصوصية كل دور بصورة تامة فهذا الدور كان له الاثر العظيم في تقدم الفقه ، ولا يزال طلاب العلم ورواد الفضيلة الى يومنا هذا يعتمدون في الابحاث الفقهية على مدرسة هذا الدور ويستقون من نمير تحقيقاته .

وقد سبق ان اشرنا الى ريادة الوحيد البهبهاني حيث انه كان محورا لهذا التكامل في الابحاث الفقهية وله آراء ونظريات عميقة ومتكاملة وهو الذي جدد النظر والبحث في اصول معرفة الرجال والاسناد واخرجها عن اسلوبها ومنهجها التقليدي الى اسلوب تحقيقي متحرر صحح بها كثيرا من روايات كانت قواعد لامهات المسائل والابحاث الفقهية في مختلف ابوابها وازدهر هذا الدور بكبار الفقها ما لم يشهده اي دور سابق .

وسلك هذا المسلك الذي كان الوحيد البهبهاني قائدا له جملة من تلامذته منهم آية الله الفقيه الاكبر السيد علي الطباطبائي ابن اخت الوحيد صاحب رياض المسائل في بيان احكام الشرع بالدلائل (۱۱۶۱ـ۱۲۳۱) وكتابه هذا أول موسوعة اكتملت فيها دورة الفقه المستدل من أول ابواب الطهارة الى آخر الديات ، وبحث فيه عن مسائل الفقه بشكل كامل في جميع الجوانب ، وابدع في ترتيبه وتنظيمه ، واتى فيه برأونظريات لم يسبق لها نظير .

ومنهم المولى ابو القاسم المعروف بالميرزا القمي (ره) صاحب كتاب القوانين (م۱۲۲۷ أو ۱۲۳۱) الذي كان بحرا زاخرا في ميادين التحقيق ، حيث انه حقق من مباني اصول الفقه ما تبهر به العقول ومنهم آية الله العظمى السيد محمد مهدي بحر العلوم صاحب الفوائد الرجالية (۱۱۵۵ـ۱۲۱۲) ، ومنهم المحقق الاكبر والاستاذ الشيخ جعفر كاشف الغطاء صاحب كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء (۱۱۵۶ـ۱۲۲۸) ، وهذا الشيخ العظيم أودع كتابه هذا قواعد هي اساس الاجتهاد والاستنباط للعصور المتاخرة وكان الشيخ الاعظم مرتضى الانصاري يقول : ( من اتقن القواعد الاصولية التي أودعها الشيخ في كشفه فهو عندي مجتهد ) ومنهم آية الله الشيخ اسد الله التستري (م ۱۲۳۴) ، ومنهم آية الله العظمى الاستاذ الاكبر شريف العلماء (م ۱۲۴۵) وهذا الشيخ العظيم وان كان لم يخلف كتابا فقهيا مع غزارة علمه وكثرة احاطته بالفقه ،الا انه تخرج على يديه اكثر من الف مجتهد في فن الفقه والاصول وله كتاب مختصر في مبحث امر الامر مع علمه بانتفاء شرطه وهو من مباحث علم اصول الفقه ومنهم آية الله العظمى السيد محمد المجاهد نجل صاحب كتاب رياض المسائل وسبط الوحيد البهبهاني صاحب كتاب المناهل في الفقه (م ۱۲۴۲) وهذا الكتاب عظيم نافع جدا جامع للادلة والاقوال حاو للفروع والاراء حتى قيل : انه لم يكتب في الفقه كتاب مثله ومنهم آية الله الملا مهدي النراقي الكاشاني صاحب كتاب معتمد الشيعة في احكام الشريعة واللوامع في الفقه (م۱۳۰۹ ) ومنهم آية الله والفقيه العظيم ملا احمد النراقي صاحب مستند الشيعة في احكام الشريعة (۱۱۸۵ـ۱۲۴۵) وكتابه هذا يعطينا دروسا كاملة عن مدى تبحره وتسلطه على الابحاث الفقهية ، ومنهم آية الله العظمى الشيخ محمد حسن النجفي (۱۱۹۲ـ۱۲۶۶) صاحب جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام ، وهو صاحب هذه الموسوعة القيمة التي لم يحفل بمثلها تاريخ التدوين الفقهي في السعة والشمول والتحقيق وقوة الاستدلال وفي هذا الدور رفع فقهاؤنا رضوان الله تعالى عليهم راية التحقيق والتوسعة في البحث والاستدلال المتكامل بشكل جديد بلغ غايته ، وأودعوا في كتبهم المطالب التي صارت اساسا للاجتهاد والاستنباط للعصور المتاخرة ، ولا شك ان مساهمة العلماء والفقهاء في هذا الدوركانت مهمة اذ كانوا هم الاساس في تكامل الفقه ، حيث استفادت الادوار المتاخرة منهم استفادة كبيرة .
الدور الثامن : دور التدقيق الكامل في الأبحاث الفقهية :

قد بدا هذا الدور من زمان شيخ الفقهاء والإسلامي المدققين الشيخ الاعظم الانصاري (ره) (۱۲۱۴ـ۱۲۸۱) الى زمان مربي العلماء والمجتهدين الاخوند ملا محمد كاظم الخراساني (۱۲۵۵ـ۱۳۲۹) وقد شهد هذا الدور حركة فقهية دقيقة مهمة واسعة ومتكاملة بلغت ذروتها، فالفقيه في هذا الدور كان في اعلى درجات من الدقة والنظر في الابحاث الفقهية ، بحيث تطور الفقه من حيث الدقة في الاستدلال بصورة رائعة ليس لها نظير ورائد هذا الدور بل القائد لهذا الاسلوب كما ذكرنا هو الشيخ ‌الانصاري ، اذ بث في الابحاث الفقهية روحا جديدة لما له من آراء دقيقة وكاملة ،واحرز مقام القيادة الكبرى في هذا الاسلوب والمنهج ، وكتابه الفقهي المكاسب خير شاهد على ذلك بصفته مشحونا بالاراء والنظريات الدقيقة والمطالب المهمة ، فقد مارس فيه وفي غيره من مؤلفاته مستويات دقيقة من الاستدلال في المسائل الشرعية والأحكام الدينية ، حيث عدل في كتاب مكاسبه باسلوبه الخاص عن طريق الاقناع البدائي لفحوى الادلة الاجتهادية الى طريقة الاستدلال المتعمق والدقيق والاخذ باطراف الادلة ودراسة متفرقاتها بالدقة الكاملة وجمعها للتخلص من الاشكال والنقض وهو كما ترى في مكاسبه يعنون المسالة فيحللها أولا تحليلا علميا ويثبت لهاحكما ثم يناقشها بذكر مقدمات ويركزها في اذهان رواد العلم والفضيلة ببيان عذب وكلام سلس بحيث يتخيلون انها تامة وخالية من الاشكال ، ثم بعد ذلك يشكل على تلك المقدمات التي ذكرها بعنوان المناقشة للمسالة التي حللها أولا علميا فيبطلها بالادلة ، ثم ياتي بالادلة الاخرى على تماميتها ، ويثبت للمسالة حكما خلاف ما اثبته لها أولا ، مؤيدا رأيه الجديد باقوال الاخرين من الفقهاء ، ثم بعد ذلك ثانيا يناقش في تلك المقدمات التي بنى عليها حكم المسالة مناقشة دقيقة بادلة قوية اخرى لا تشابه الأولى ولا الثانية ، ثم يذكر حكم المسالة مستشهدا بادلة من الكتاب والسنة ، مؤيدا باقوال جمع من الفقهاء واللغويين ، وهذا الاسلوب والابداع منه في ابحاثه الفقهية صار سببا لاعجاب معاصريه وغيرهم به ، وعجزوا من بعده عن الاستزادة عليه ، حتى اعترف كثير منهم بنبوغه وتفوقه في هذا الاسلوب على من كان قبله وبعده ، ولذلك اصبح كتاب المكاسب محط انظار الفقهاء من يوم صدوره الى زماننا هذا ، حيث يدرسه فقهاؤنا الافذاذ ، ويعرضون نظرياته الدقيقة في محاضراتهم كما ان البلوغ الى مطاوي مطالبه الدقيقة صار محطا للمشتغلين يختبر به بلوغهم درجة الاجتهاد ، ومن هنا اقبل رواد العلم على دراسته في جميع الحوزات العلمية ، وقال كثير من الفقهاء في اهمية هذا الكتاب : ان كل من كان عالما بنظريات الشيخ الدقيقة التي أودعها هذا الكتاب فهو مجتهد وهذا الكتاب نظرا للدقة في معانيه والعمق في مضامينه قد استدعى التوضيح والبيان والشرح ولذا شرع كثير من فقهائنا في شرحه وتوضيحه وبذلوا جهودهم في هذا السبيل .

وقد استمرت الحركة الفقهية بهذا الاسلوب والمنهج تنمو وتتسع حيث برز في هذا الدور نوابغ كبار منهم :

۱ـ الامام المجدد الميرزا محمد حسن الشيرازي .

۲ـ مربي العلماء والمجتهدين الاخوند ملا كاظم الخراساني (م۱۳۲۹) .

۳ـ آية الله العظمى السيد محمد كاظم اليزدي (م۱۳۳۷) .

۴ـ آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم (م۱۳۵۵ ) .

۵ـ آية الله العظمى الميرزا محمد تقي الشيرازي (م۱۳۳۸) .

الى غيرهم من الفقهاء الذين بهم دارت رحى التحقيق والتدقيق في مباني الفقه واسس الاستنباط في الدور الاخير .
الدور التاسع : دور التلخيص :

بدا هذا الدور من زمان مربي العلماء والمجتهدين الاخوند محمد كاظم الخراساني (ره) (۱۲۵۵ـ۱۳۲۹) ومن بعده الى زماننا هذا وقد شهد هذا الدور اسلوبا جديدا ومنهجا بديعا من حيث التلخيص في الابحاث الفقهية وبلغ غاية الازدهار ، وقد كان الفقهاء في هذا الدور يبذلون جهودهم في تلخيص ما في الكتب الفقهية واستخراج زبدتها وتزيينها برائع تحقيقاتهم وتدقيقاتهم الملفتة للنظر وبطل هذا الدور بل القائد لهذا الاسلوب والمنهج كما ذكرنا الاخوند الخراساني (ره) حيث انه جد واجتهد في تحقيق مباني الفقه على اسس متينة وعبارات موجزة وملخصة جامعة بين عمق الاستدلال والتوسعة في التحقيق والدقة الكاملة وبث بهذا الاسلوب روحا جديدا في الابحاث الفقهية ، والف كتابه ( اللمعات النيرة في شرح تكملة التبصرة ) الزاخر بغرر احكام العترة الطاهرة في احسن تبويب واجمل ترتيب لكنه لم يكتمل حيث وافاه الاجل ، وحاشية المكاسب المشتملة على كتاب البيع والخيارات وبحث فيها عن امهات مسائل الفقه بشكل دقيق في أوجز كلام وكانت حياة الشيخ العظيم من اهم نقاط تحول طرح الابحاث الفقهية والاصولية الى هذا الاسلوب والى جانب ذلك اتى برا جديدة ودقيقة ولا تزال نظرياته الدقيقة في الفقه وغيره محط نظر الفقهاء ومحتفظة باهميتها على مر الاجيال الاخيرة .

وشيخنا العظيم كان ذا قدرة جبارة في مجلس درسه في رد الفروع الى الاصول وتطبيق القواعد الكلية على المصاديق ، وتخرج على يديه اكثر من الف مجتهد في فن الفقه والاصول ، وممن حذا حذوه في هذا الاسلوب آية الله العظمى فقيه اهل بيت العصمة السيد محمد كاظم اليزدي (ره) (م۱۳۳۷) حيث انه جد واجتهد في تنقيح مباني الفقه وتحقيقها بكلام عذب وبيان سلس والف كتاب شرح المكاسب المشتمل على آراء دقيقة ونظريات عميقة في عبارات موجزة ولا تزال نظرياته محط نظر الفقهاء وممن سلك هذا المسلك آية الله العظمى المحقق العظيم والمدقق الكبير الشيخ ‌ضياء الدين العراقي ( م۱۳۶۱ ) حيث انه جد بدوره واجتهد في تحقيق وتدقيق مباني الفقه بهذا الاسلوب وكان موفقا في هذا المضمار ، والف كتاب شرح تبصرة المتعلمين المشتمل على ابحاث فقهية دقيقة جامعة بين التحقيق وعمق الاستدلال في عبارات موجزة وملخصة وممن حذا حذوه في هذا الاسلوب آية الله العظمى الفقيه الفيلسوف العظيم الشيخ محمد حسين الاصفهاني (۱۲۹۶ـ۱۳۶۱) حيث انه حقق مباني الفقه على اسس متينة وبشكل عميق في عبارات موجزة ايضا والف كتاب الاجارة وحاشية المكاسب وغيرهما المشتملة على التحقيق والدقة وقوة الاستدلال والتلخيص متجنبا فيه جانب الاطناب الممل والايجاز المخل وممن سلك هذا المسلك زعيم الطائفة والمرجع الاعلى السيد محسن الحكيم (ره) (۱۳۰۶ـ۱۳۹۰) صاحب مستمسك العروة الوثقى الموسوعة الفقهية القيمة التي لم يسمع بمثلها في هذا الدور من حيث الترتيب والتنظيم والتحقيق والدقة وقوة الاستدلال والتلخيص هو أول كتاب فقهي ظهر للملأ العلمي بهذا الشكل الكامل في جميع الابعاد ولم يسبقه احد من فقهائنا الافذاذ في هذا الدور واحرز مؤلفه (ره) بهذا التاليف مقام القيادة الكبرى لركب المحققين حيث انه يرجع كل تحقيق في شرح العروة الوثقى من بعد صدور هذا الكتاب ( المستمسك ) الى ما حققه المؤلف فيه وكل ما جا بعده من شروح العروة الوثقى فقدوجد طريقا معبدا فسار عليه بسهولة ولذلك كله اصبح موضع اعجاب الفقهاء في هذا الدور ، واصبحت مطالبه ومحتوياته موضع عناية الدارسين والباحثين والمحققين والمدرسين ونقاشهم وقبولهم وردهم ثم ان هذا الكتاب طبع لحد الان خمس مرات لكثرة طالبيه .
كتابة الحديث في هذا الدور :

وفي هذا الدور ظهر مستدرك الوسائل للعلامة النوري المازندراني (م ۱۳۲۰) وزاد مؤلفه على ابواب كتاب وسائل الشيعة شيئا كثيرا وقد كتب ايضا في هذا الدور كتاب جامع احاديث الشيعة الذي الف تحت اشراف سيدنا الاكبر والمرجع الاعلى والفقيه العظيم الحاج حسين البروجردي حيث انه قام بتشكيل لجنة من ذوي الفضل لجمع احاديث الشيعة بترتيب خاص وكيفية مخصوصة وكان موفقا في هذا المضمار وقد خرج منه لحد الان ۱۲ جزاء ، ونسال من الباري عز اسمه ان يوفق القائمين بهذا العمل العظيم لاخراج بقية الاجزاء الى عالم الطبع والنشر حتى يعم نفعه وتكمل ثمرته .
علماء هذا الدور :

وقد حظى هذا الدور بعلماء وفقهاء جهابذة ازدهرت بهم معاهد التحقيق في الحوزات العلمية في الفقه والاصول منهم الاستاذ العظيم والمحقق الاكبر آية الله العظمى الشيخ محمد حسين النائيني (ره) (م ۱۳۵۵) هذا الاستاذ العظيم كان جهبذا في الابحاث الفقهية والاصولية ، وكان من النوادر الذي يضن به الزمان الا في فترات متباعدة ومنهم آية الله العظمى شيخ الشريعة الاصفهاني (م ۱۳۰۰) ومنهم زعيم الطائفة ومرجعها الديني الاعلى السيد ابو الحسن الاصفهاني (م ۱۳۶۵) ، ومنهم آية الله العظمى والمرجع الديني الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم (م۱۳۵۵) ، وغيرهم من الفقهاء وكذا من تخرج على يد بعض هؤلاء منهم آية الله العظمى الاستاذ الكبير المرحوم السيد محمود الشاهرودي الذي كان آية في الدقة في الجمع بين الاخبار المتعارضة واستخراج الأحكام واستنباطها ، ومنهم آية الله العظمى الاستاذ المرحوم الميرزا السيد عبد الهادي الشيرازي الذي كان آية في البيان والذوق والتحقيق ، ومنهم آية الله العظمى الاستاذ المرحوم محمد الميرزا باقر الزنجاني الذي كان آية في البيان والتحقيق ومن كبار الاساتذة في النجف الاشرف ، ومنهم آية الله العظمى الاستاذ المرحوم الشيخ حسين الحلي الذي كان من كبار الاساتذة والمحققين ، ومنهم القائد العظيم والمرجع الديني آية الله العظمى الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية في ايران الذي كان آية في الذكاء ودقة النظر وقوة الاستدلال والتعمق ، ومنهم آية الله العظمى السيد محمد رضا الگلپايگاني الذي كان آية في دقة النظروالتحقيق والتعمق ومنهم آية الله العظمى الاستاذ السيد ابو القاسم الخوئي الذي كان آية في البيان وقوة الاستدلال والتحقيق وغيرهم من العلماء والفقهاء (ره) .

هكذا يسير ركب الفقاهة في طريقه الى التقدم والازدهار على ايدي العلماء والفقهاء اذ بلغوا الغاية المشرقة والقيمة وخلفوا موسوعات فقهية ضخمة ومؤلفات جليلة زخرت بها المكاتب العلمية في مختلف المعاهد العلمية والدينية على متنوع اساليبها في التخريج والاستنباط وقد اصبح تراثنا الفقهي الراهن في الدور الاخير من اغنى التراثات الإسلامية العريقة في جميع جوامعه بفضل جهود بذلها فقهاؤنا الابرارعبر تاريخ الاسلام شكر الله مساعيهم وجزاهم الله تعالى عن الاسلام واهله خير جزاء المحسنين .

ـــــــــ
۱ـ ادوار الفقه تسعة وادوار كيفية بيان الفقه ستة وادوار الاجتهاد ثمانية واساليب الاجتهاد ستة كما ياتي تفصيلها .
۲ـ الجمعة : ۲ .
۳ـ ۱ : ۲۲ .
۴ـ النجم : ۳ و۴ .
۵ـ الانعام : ۵۰ ، ويونس : ۱۵ .
۶ـ الحاقة : ۴۴ ـ ۴۶ .
۷ـ المجادلة : ۱ .
۸ـ الانعام : ۱۴۵ .
۹ـ الانعام : ۵۷ .
۱۰ـ و (۳) فروع الكافي ۷ : ۱۷۴ ، ۱۷۵ .
۱۱ـ
۱۲ـ البقرة : ۲۲۹ .
۱۳ـ اصول الكافي ۱ : ۶۲ .
۱۴ـ العلق : ۱ ـ ۵ .
۱۵ـ الحجر: ۹۵ .
۱۶ـ المائدة : ۶۷ .
۱۷ـ المائدة : ۳ .
۱۸ـ ينابيع المودة .
۱۹ـ جامع احاديث الشيعة : ۱۶ .
۲۰ـ بصائر الدرجات : ۴۳ .
۲۱ـ بصائر الدرجات : ۴۴ .
۲۲ـ رجال النجاشي : ۲۵۵ .
۲۳ـ بحار الانوار ۲ : ۱۶۹ ، الباب ۲۲ ، كتاب العلم .
۲۴ـ الكافي ۱ : ۲۴۱ .
۲۵ـ الاديم : الجلدن والفالج : الجمل العظيم ذو السنامين .
۲۶ـ اعيان الشيعة ۱ : ۳۹۰ .
۲۷ـ الحشر : ۷ .
۲۸ـ ۱ : ۵ .
۲۹ـ الذريعة ۲۱ : ۱۲۶ .
۳۰ـ صحيح البخاري ، باب كيف يقبض العلم : ۳۳ .
۳۱ـ رواه الدارمي في مقدمة سننه .
۳۲ـ المعالم الجديدة للاصول : ۷۳ .