ذكر علماء أهل السنة بعضا من الأحاديث والحوادث التي استدلوا بها على خلافة أبي بكر ، ونحن سنذكر أهمها ، وسنبين ما فيها .
منها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما عن جبير بن مطعم ، قال : أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمرها أن ترجع إليه ، فقالت : أرأيت إن جئت ولم أجدك ؟ كأنها تقول : الموت . قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر ( 1 ) . استدل به على خلافة أبي بكر : ابن حجر في صواعقه ، وشارح العقيدة الطحاوية ، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة ( 2 ) وغيرهم . وهذا الحديث على فرض صحة سنده لا نص فيه على الخلافة ، بل ولا ظهور فيه أيضا ، إذ لعل تلك المرأة جاءت لأمر يتعلق بها يمكن لأي واحد من المسلمين أن يقضيه لها ،
فأمرها بأن ترجع لأبي بكر فيه ، إما لأنه سينجزه لها عاجلا ، أو لأنها من جيرانه وهو يعرفها ، فإن أهله بالسنخ ( 3 ) وهي كذلك ، أو لغير ذلك .
هذا مضافا إلى أن الأمر الذي جاءت له تلك المرأة لم يتضح من الحديث ، ومن الواضح أنه ليس أمرا لا يقوم به إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو خليفته من بعده كأمر الحرب أو ما شابهه ، بل هو أمر بسيط متعلق بامرأة عادية .
ومنها : ما أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه وأحمد وغيرهم عن حذيفة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر ( 4 ) .
استدل به على خلافة أبي بكر : الإيجي في المواقف ( 5 ) ، وابن حجر في صواعقه ( 6 ) ، وشارح العقيدة الطحاوية ( 7 ) ، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة ( 8 ) وغيرهم .
وهو على فرض صحة سنده لا يدل على خلافة أبي بكر وعمر أيضا ، لأن الاقتداء بينه وبين الخلافة عموم وخصوص من وجه ، فقد يكون خليفة عند أهل السنة ولا يجوز الاقتداء به ، وقد يكون مقتدى به وليس بخليفة ، وقد يكون خليفة ومقتدى به.
وعليه فالأمر بالاقتداء بأبي بكر وعمر لا يدل على خلافتهما بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ويؤيد ذلك ما ورد في بعض ألفاظ الحديث بعد ذلك : واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن مسعود ( 9 ) .
فإنهم لم يقولوا بدلالة هذا الحديث بهذا اللفظ على خلافة عمار من بعدهما ولا ابن مسعود ، مع أن الأمر بالاهتداء بهدي عمار ، أقوى دلالة على الخلافة من الاقتداء ، لأن الله جل شأنه وصف الأئمة في كتابه بأنهم هداة إلى الحق ، فقال عز من قائل ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) ( 10 ) .
وقال ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ) ( 11 ) .
وأما الأمر بالاقتداء فورد في آية واحدة من كتاب الله ، وهي قوله تعالى ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ), وهي مع ذلك اشتملت على ذكر الهدى ، فكل من كان على الهدى جاز الاقتداء به ، ولا عكس ، إذ يجوز أن يقتدى بشخص عند أهل السنة في الصلاة مع كونه فاسقا فاجرا ، أو في أي طريقة في أمور الدنيا نافعة مع كونه كافرا ، كالاقتداء بحاتم في كرمه ، وبالسموأل في وفائه ، أو ما شاكل ذلك . هذا مع أن بعض مفسري أهل السنة قالوا بأن قوله تعالى ( أولئك ) شاملة للأنبياء وغيرهم من المؤمنين .
قال ابن كثير : ( أولئك ) يعني الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم الأشباه ( 12 ) .
ومنه يتضح أن الآباء والذرية والإخوان إنما يقتدى بهم لإيمانهم ، لا لكونهم خلفاء ولا أئمة ، وعليه فلا دلالة للاقتداء في الحديث على الخلافة أو الإمامة .
هذا مع أن هذا الحديث لم يسلم سنده من كلام ، فإن الترمذي أخرجه في سننه بطريقين ، أحدهما سكت عنه فلم يصححه ، والآخر وإن حسنه ، إلا أنه قال : وكان سفيان بن عيينة يدلس في هذا الحديث ( 13 ) ، فربما ذكره عن زائدة عن عبد الملك بن عمير ، وربما لم يذكر فيه زائدة . وذكر له طريقا آخر من جملة رواته سفيان الثوري ، وهو أيضا مدلس ( 14 ) .
وأما الحاكم فإنه صحح رواية حذيفة بشاهد صحيح لها عنده ، وهو رواية ابن مسعود ، إلا أن الذهبي في التلخيص ضعف هذا الشاهد ، فقال : سنده واه . وعلى كل حال ، فأكثر أسانيد هذا الحديث مروية عن السفيانيين ، وهما مدلسان كما مر آنفا ، فكيف يقبل خبرهما في مسألة الخلافة التي هي أهم المسائل .
ومنها : ما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم ، عن أبي سعيد الخدري في حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ( 15 ) .
استدل به على خلافة أبي بكر : ابن حجر في صواعقه ( 16 ) ، وشارح العقيدة الطحاوية ( 17 ) ، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة ( 18 ) وغيرهم .
ولو سلمنا بصحة هذا الحديث فأكثر ما يدل عليه هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخذ أبا بكر خليلا ، ولو أراد أن يتخذ خليلا لاتخذ أبا بكر ، والخلة : هي الصداقة ، والخليل هو الصديق ( 19 ) .
وعليه ، يكون معنى الحديث : لو أردت أن أتخذ صديقا لاتخذت أبا بكر . وهذا لا دليل فيه على أفضليته على غيره فضلا عن خلافته ، لأنه يحتمل أن يكون اتخاذه خليلا للين طبعه ، أو حسن أخلاقه كما وصفوه به ، أو لقدم صحبته، أو لكونه من أتراب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المقاربين له في السن ، أو لمصاهرته، أو لغير ذلك من الأمور التي تراعى في اتخاذ الصديق
وإن كان غيره خيرا منه ، وربما يتخذ الرجل الحكيم خليلا ، إلا أنه لا يعتمد عليه في القيام بأموره المهمة ، بل يسندها إلى غيره ، وهو واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان .
ومنها : ما أخرجه مسلم ومسلم وأحمد وغيرهم عن عائشة ، قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه : ادعي له أباك وأخاك حتى أكتب كتابا ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ، ويقول قائل : أنا أولى . ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ( 20 ) .
استدل به على خلافة أبي بكر : ابن حجر في صواعقه ( 21 ) ، وشارح العقيدة الطحاوية ( 22 ) ، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة ( 23 ) .
وهذا الحديث لا يصدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنه مروي عن عائشة ، وأمر الخلافة لا يصح إيكاله للنساء ، لارتباطها بالرجال ، فإخبارهم بذلك هو المتعين ، دون عائشة أو غيرها من النساء . ومع الإغماض عن ذلك فهذا من شهادة الأبناء للآباء ، أو ما يسمى بشهادة الفرع للأصل ، وهي غير مقبولة عندهم ( 24 ) ، ولذا صححوا رد أبي بكر شهادة الحسن والحسين عليهما السلام لفاطمة عليها السلام في أمر فدك .
وعليه فلا مناص من رد شهادة عائشة لأبيها في هذه المسألة بالأولوية ، لأن مسألة الخلافة أعظم وأهم من فدك .
ثم إن عائشة كان بينها وبين أمير المؤمنين عليه السلام جفوة ، وربما صدر منها ما يصدر من النساء في عداواتهن مع غيرهن ، ولذا أعرضت عن ذكر اسم علي عليه السلام لما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه معتمدا عليه وعلى العباس فيما أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة وغيرهم ( 25 ) .
فإذا أخفت اتكاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أمير المؤمنين عليه السلام ، فما يتعلق بالخلافة أولى بالإخفاء .
فكيف يصح قبول قولها في مسألة كهذه ؟ !
ثم أين هذا الكتاب الذي أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عائشة أن تدعو أباها وأخاها ليكتبه لهم ؟
وما فائدة كتابة كتاب في أمر خطير كالخلافة لا يعلم به أحد من الناس إلا عائشة وأبوها وأخوها ؟
ثم إن الحديث لا نص فيه على الخلافة ، بل أقصى ما يدل عليه الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يكتب كتابا لأبي بكر ، حتى لا يتمنى متمن شيئا .
أما ماذا أراد أن يكتب لأبي بكر ؟ فهو غير ظاهر من الحديث ، فلعله كان يريد أن يهبه متاعا أو أرضا أو أمرا آخر ، أو لعله لما علم صلى الله عليه وآله وسلم بدنو أجله أراد أن يكتب كتابا يجعله به أميرا على سرية أسامة إذا ألم بأسامة ملم أو أصابه مكروه ، ويخشى أن يتمنى متمن في القوم ذلك .
وأما قوله : ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر فمعناه : أنني إذا كتبت له كتابا بالمتاع أو الأرض أو الإمرة على سرية أسامة من بعده ، فإن الله لا يرضى إلا بما كتبته ، وكذا المؤمنون . والله العالم .
ومنها : ما أخرجه البخاري عن عمر بن العاص : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل ، فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ فقال : عائشة . فقلت : من الرجال ؟ فقال : أبوها . قلت : ثم من ؟ قال : عمر بن الخطاب . فعد رجالا ( 26 ) .
استدل به على خلافة أبي بكر : شارح العقيدة الطحاوية ( 27 ) ، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة ( 28 ) وغيرهما .
وهذا الحديث معارض بحديث آخر رواه الترمذي وحسنه ، والحاكم في المستدرك وصححه عن عمير التيمي ، قال : دخلت مع عمتي على عائشة ، فسئلت : أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : فاطمة . فقيل : من الرجال ؟ قالت : زوجها ، إن كان ما علمت صواما قواما ( 29 ) .
وأخرج الحاكم في المستدرك ، والنسائي في الخصائص عن بريدة ، قال : كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة ، ومن الرجال علي ( 30 ) .
وعن عمر أنه دخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا فاطمة والله ما رأيت أحدا أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منك ( 31 ) .
فإن قالوا بدلالة الأحاديث الأول على خلافة أبي بكر ، فالأحاديث الأخر تدل على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام ، وإلا فلا دلالة في الكل .
ثم إن حديث البخاري مروي عن عمرو بن العاص ، وهو من أعداء أمير المؤمنين عليه السلام ، فلا يقدم على حديث عائشة ، وهو واضح . ثم إن تلك الأحاديث أيضا معارضة بما أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر : استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أسامة ، فقالوا فيه ، فقال النبي : قد بلغني أنكم قلتم في أسامة ، وإنه أحب الناس إلي ( 32 ) .
وبما أخرجه مسلم ، عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله قال وهو على المنبر : إن تطعنوا في إمارته - يريد أسامة بن زيد - فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله ، وأيم الله إن كان لخليقا لها ، وأيم الله إن كان لأحب الناس إلي ، وأيم الله إن هذا لخليق لها - يريد أسامة بن زيد - ، وأيم الله إن كان لأحبهم إلي من بعده ( 33 ) .
مع أنهم لا يقولون بأن فيها أدنى إشارة إلى خلافة أسامة بن زيد ، مع أن أسامة جعله النبي صلى الله عليه وسلم أميرا على سرية فيها أبو بكر وعمر وعثمان ، فكيف صارت باؤكم تجر ، وباء غيركم لا تجر ؟ ! على أنا لو صححنا تلك الأحاديث وسلمنا بأن أبا بكر كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فهم لا يسلمون بأن الحب يرتبط بالأهلية للخلافة فضلا عن الأولوية والأفضلية ، وذلك لأنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن الله أمرني بحب أربعة ، وأخبرني أنه يحبهم . قيل : يا رسول الله سمهم لنا . قال : علي منهم يقول ذلك ثلاثا وأبو ذر والمقداد وسلمان ، أمرني بحبهم ، وأخبرني أنه يحبهم ( 34 ) .
ومع ذلك رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يول أبا ذر إمارة لأنه رجل ضعيف ، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر ، قال : قلت : يا رسول الله ، ألا تستعملني ؟ قال : فضرب بيده على منكبي ، ثم قال : يا أبا ذر ، إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها ( 35 ) .
ومنها : ما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء ( 36 ) .
استدل به على خلافة أبي بكر : الإيجي في المواقف ( 37 ) ، وابن حجر في صواعقه ( 38 ) ، وشارح العقيدة الطحاوية ( 39 ) وغيرهم .
بتقريب أن خلافة أبي بكر خلافة نبوة فهي صحيحة وشرعية ، وإلا لما صح وصفها بذلك .
وقد تحدثنا فيما تقدم حول هذا الحديث مفصلا ، وأوضحنا بما لا مزيد عليه أن المراد بخلافة النبوة هي خلافة من استخلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصوص الثابتة ، وهي خلافة أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد استمرت ثلاثين سنة ، من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاته عليه السلام ، فراجعه . وعليه ، فهذا الحديث لا يصلح أن يتمسكوا به لتصحيح خلافة من تقدم على أمير المؤمنين عليه السلام كلا أو بعضا .
ومنها : ما رووه من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ، وهذا دليل على أنه كان أفضل صحابته صلى الله عليه وآله وسلم ، فيتعين أن يكون هو الخليفة من بعده .
واستدل به على خلافة أبي بكر : الإيجي في المواقف ( 40 ) ، وابن حجر في صواعقه ( 41 )، وشارح العقيدة الطحاوية ( 42 ) ، والصابوني في عقيدة السلف ( 43 ) ، وأبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة ( 44 ) وغيرهم .
وصلاة أبي بكر بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو سلمنا بوقوعها فهي لا تدل على الأفضلية ، فضلا عن دلالتها على الأولوية بالخلافة ، وذلك لأنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة ، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنا ( 45 ) . وفي بعضها : فإن كانوا في الهجرة سواء فأعلمهم بالسنة . . . وعند مسلم : أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، ثم ليؤمكم أكبركم ( 46 ) .
فلعل أبا بكر أم الناس لأنه أقدمهم هجرة ، أو لما تساووا في تلك الأمور وكان أبو بكر أكبرهم سنا أمره النبي بالصلاة بالناس . ثم إنهم لم يجعلوا مسألة الإمامة في الصلاة مرتبطة بالخلافة الكبرى في غير هذا المورد ، ولهذا لما ضرب عمر أمر صهيبا الرومي أن يصلي بالناس ( 47 ) ، ولما ضرب أمير المؤمنين عليه السلام أمر جعدة بن هبيرة أن يصلي بالناس ، ولم ير الناس ذلك نصا منهما على خلافة أو إمرة ، فكيف صارت صلاة أبي بكر نصا فيها ؟ ؟
ومنها : ما ذكره بعضهم من أن من لم ير صحة خلافة أبي بكر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ، إذ نسبهم إلى أنهم تمالأوا على الباطل ، وهم أنصار دين الله وحملة شريعته ، ونسبة ذلك إليهم لا تجوز .
قال النووي وحكاه عنه ابن حجر في الصواعق : من قال : إن عليا كان أحق بالولاية فقد خطأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار ، وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء ( 48 ) .
والجواب عن ذلك : أن تخطئة أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار لا غضاضة فيها مع موافقة الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنه لا دليل على وجوب التعبد بأقوال أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار في شئ من أمور الدين والدنيا أصلا .
وعليه ، فهل يجوز لمؤمن أن يترك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحيح الثابت عنه إلى قول أبي بكر وعمر ؟ ولهذا بادر أبو بكر إلى تخطئة كل الأنصار المجتمعين في السقيفة ، الذين عقدوا العزم على بيعة رجل منهم ، بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الأئمة من قريش . وبذلك أيضا يجوز تخطئة غيرهم .
ثم إن أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار إذا لم يكن لديهم نص في مسألة الخلافة كما تقدم النقل عنهم من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستخلف ، فاستخلافهم لأبي بكر إنما كان عن اجتهاد منهم ، فلا يجب على غيرهم أن يقلدهم في اجتهاداتهم في الوقائع غير المنصوصة ، فضلا عما إذا ثبت النص .
وأما مسألة الإزراء بالمهاجرين والأنصار فهذا من الخطابيات التي لا قيمة لها ، وذلك لأن تخطئتهم في بيعة أبي بكر لا يستلزم الإزراء بهم بالضرورة ، إذ لا يجب على المسلمين أن يصححوا اجتهادات الصدر الأول في الوقائع ، وإلا لكان علينا أن نقول بعصمتهم ، وهو باطل بالاتفاق .
ثم إنا لا نزري بالمهاجرين والأنصار كلهم بهذه البيعة ، بل نقول : إن من بايع أبا بكر من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان مكرها ، أو أراد أن يبايع أمير المؤمنين عليه السلام فلم يتمكن فهو معذور ، وأما من كان يريد أن يحوزها لنفسه بغير حق ، أو أراد أن يزحزحها عن أمير المؤمنين عليه السلام حسدا ، أو ضغنا ، أو خشية من أن يستأثر بها بنو هاشم ، أو كيدا للدين ، فهو آثم لا شك في ذلك ولا ريب ، ولا حرمة له عندنا ولا كرامة . ثم إن قولهم هذا معارض بمثله ، فنقول : إن من حكم بخطأ أمير المؤمنين عليه السلام وصحبه في ترك بيعة أبي بكر ، فقد أزرى بأمير المؤمنين عليه السلام وبطائفة من الصحابة الأجلاء كأبي ذر وعمار وسلمان والمقداد والعباس وغيرهم ، وهذا لا يجوز . فكيف جاز الإزراء بهؤلاء ولم يجز الإزراء بأولئك ؟
النتيجة المتحصلة :
والنتيجة المتحصلة من كل ما تقدم أن تلك الأحاديث التي استدل بها بعضهم على خلافة أبي بكر وإن كانت مروية من طرق أهل السنة ، ولا يصح الاحتجاج بها على غيرهم ، فهي مع ذلك لا دلالة فيها على ما أرادوه كما أوضحناه مفصلا .
ولذلك ذهب مشهور أهل السنة إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينص على أبي بكر ، ولو كانت خلافته منصوصا عليها لاحتج أبو بكر أو عمر على أهل السقيفة بالنص عليه ، واستغنى به عن الاحتجاج بحديث : الأئمة من قريش ، ولما قال عمر : إنها فلتة . ولما قال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستخلف . مع أنه كان أحوج ما يكون لإثبات النص على خلافة أبي بكر لتصحيح خلافته هو .
_________________________
(1) صحيح البخاري 3 / 1126 فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ب 5 ح 3659 . صحيح مسلم 4 / 1856 فضائل الصحابة ، ب 1 ح 2386 .
(2) الصواعق المحرقة 1 / 53 . شرح العقيدة الطحاوية ، ص 471 . كتاب الإمامة ، ص 252 .
(3) السنح : موضع في أطراف المدينة ، وكان بينها وبين منزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ميل ، وكان بها منزل أبي بكر .
(4) سنن الترمذي 5 / 609 ح 3663 ، 3663 . سنن ابن ماجة 1 / 37 ح 97 . مسند أحمد بن حنبل 5 / 382 ، 385 ، 399 . المستدرك 3 / 75 .
(5) المواقف ، ص 407 .
(6) الصواعق المحرقة 1 / 56 .
(7) شرح العقيدة الطحاوية ، ص 472 .
(8) كتاب الإمامة ، ص 253 .
(9) المستدرك 3 / 75 - 76 وصححه الحاكم ، وجلعه شاهدا للحديث السابق .
(10) سورة السجدة ، الآية 24 .
(11) سورة الأنبياء ، الآية 73 .
(12) تفسير القرآن العظيم 2 / 155 .
(13) وصفه بالتدليس : الذهبي في ميزان الاعتدال 2 / 170 ، وابن حجر في طبقات المدلسين ، ص 32 .
(14) ذكر ابن أبي حاتم في كتابه ( الجرح والتعديل ) 4 / 225 عن يحيى بن معين أنه قال : لم يكن أحد أعلم بحديث أبي إسحاق من الثوري ، وكان يدلس . وقال الذهبي في ميزان الاعتدال 2 / 169 : سفيان بن سعيد : الحجة الثبت ، متفق عليه ، مع أنه كان يدلس عن الضعفاء . وقال ابن حجر في طبقات المدلسين ، ص 32 : وصفه النسائي وغيره بالتدليس .
(15) صحيح البخاري 1 / 162 ، 163 ، الصلاة ، ب 80 ح 466 ، 467 ، 3 / 1125 - 1126 فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ب 3 ، 4 ، 5 ح 3654 ، 3656 - 3658 . صحيح مسلم 4 / 1854 - 1856 فضائل الصحابة ، ب 1 ح 2382 - 2383 .
مسند أحمد بن حنبل 3 / 18 .
(16) الصواعق المحرقة 1 / 57 .
(17) شرح العقيدة الطحاوية ، ص 472 .
(18) كتاب الإمامة ، ص 251 ، 252 .
(19) راجع النهاية في غريب الحديث 2 / 72 . لسان العرب 11 / 217 . الصحاح 4 / 1688 .
(20) صحيح البخاري 4 / 1814 المرضى ، ب 16 ح 5666 ، 4 / 2256 الأحكام ، ب 51 ح 7217 . صحيح مسلم 4 / 1857 فضائل الصحابة ، ب 1 ح 2387 . مسند أحمد بن حنبل 6 / 106 ، 144 .
(21) الصواعق المحرقة 1 / 58 .
(22) شرح العقيدة الطحاوية ، ص 472 .
(23) كتاب الإمامة ، ص 252 .
(24) قال الإيجي في المواقف ، ص 402 : فإن قيل : ادعت [ فاطمة ] أنه نحلها ، وشهد علي والحسن والحسين وأم كلثوم ، فرد أبو بكر شهادتهم . قلنا أما الحسن والحسين فللفرعين ، وأما علي وأم كلثوم فلقصورهما عن نصاب البينة . وقال ابن حجر في الصواعق 1 / 93 : وزعمهم أن الحسن والحسين وأم كلثوم شهدوا لها باطل ، على أن شهادة الفرع والصغير غير مقبولة . وقال الحلبي في السيرة الحلبية 3 / 488 : وأما زعم أنه شهد لها الحسن والحسين وأم كلثوم فباطل ، لم ينقل عن أحد ممن يعتمد عليه ، على أن شهادة الفرع للأصل غير مقبولة . وقال في رحمة الأمة ، ص 578 : وهل تقبل شهادة الوالد لولده ، والولد لوالده ، أم لا ؟ قال أبوحنيفة ومالك والشافعي : لا تقبل شهادة الوالدين من الطرفين للولدين ، ولا شهادة الولدين للوالدين : الذكور والإناث ، بعدوا أو قربوا . وعن أحمد ثلاث روايات : إحداها : كمذهب الجماعة . والثانية : تقبل شهادة الابن لأبيه ، ولا تقبل شهادة الأب لابنه . والثالثة : تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه ما لم تجر نفعا في الغالب .
(25) أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما أن عائشة قال : لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه ، استأذن أزواجه في أن يمرض في بيتي فأذن له ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بين رجلين ، تخط رجلاه في الأرض ، بين عباس ورجل آخر . قال عبيد الله : فأخبرت عبد الله بن عباس فقال : أتدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة ؟ قلت : لا . قال : هو علي بن أبي طالب . راجع صحيح البخاري 1 / 87 ح 198 ، ص 211 ح 665 ، 2 / 781 ح 2588 ، 3 / 1340 ح 4442 . صحيح مسلم 1 / 312 ح 418 : 91 ، 92 . سنن ابن ماجة 1 / 517 ح 1618 .
(26) صحيح البخاري 3 / 1127 ، 1129 فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ب 5 ، ح 3662 ، 3671 . صحيح مسلم 4 / 1856 فضائل الصحابة ، ب 1 ح 2384 ، 2385 .
(27) شرح العقيدة الطحاوية ، ص 472 .
(28) كتاب الإمامة ، ص 252 .
(29) سنن الترمذي 5 / 701 ح 3874 قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب . المستدرك 3 / 157 قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . ولم يتعقبه الذهبي بشئ . خصائص أمير المؤمنين للنسائي ، ص 127 ح 111 . وقال الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح 3 / 1735 : إسناده حسن .
(30) المستدرك 3 / 155 قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي .
(31) المستدرك 3 / 155 قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
(32) صحيح البخاري 3 / 1346 المغازي ، ب 87 ح 4468 .
(33) صحيح مسلم 4 / 1884 فضائل الصحابة ، ب 10 ح 2426 : 64 .
(34) سنن الترمذي 5 / 636 ح 3718 قال الترمذي : هذا حديث حسن . سنن ابن ماجة 1 / 53 ح 149 . المستدرك 3 / 130 قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه . مسند أحمد بن حنبل 5 / 356 .
(35) صحيح مسلم 3 / 1457 الإمارة ، ب 4 ح 1825 ، 1826 .
(36) سبق تخريجه وبيان مصادره .
(37) المواقف ، ص 407 .
(38) الصواعق المحرقة 1 / 58 .
(39) شرح العقيدة الطحاوية ، ص 473 .
(40) المواقف ، ص 407 .
(41) الصواعق المحرقة 1 / 59 .
(42) شرح العقيدة الطحاوية ، ص 472 .
(43) عقيدة السلف وأصحاب الحديث ، ص 290 .
(44) كتاب الإمامة ، ص 250 .
(45) صحيح مسلم 1 / 465 كتاب المساجد ، ب 53 ح 673 : 291 . سنن الترمذي 1 / 458 ح 235 قال الترمذي : حديث حسن صحيح . سنن النسائي 1 / 410 ح 779 . سنن أبي داود 1 / 159 ح 582 . سنن ابن ماجة 1 / 313 ح 980 .
(46) صحيح مسلم 1 / 466 كتاب المساجد ، ب 53 ح 674 .
(47) نص على ذلك ابن الأثير في أسد الغابة 3 / 41 ت 2538 . وابن حجر في الإصابة 3 / 366 ت 4124 . وابن عبد البر في الإستيعاب 2 / 732 ، قال : وهذا مما أجمع عليه أهل السير والعلم بالخبر .
(48) تهذيب الأسماء واللغات 2 / 189 . الصواعق المحرقة 1 / 44 .