عدم جواز تكفير من سبّ الصحابة
  • عنوان المقال: عدم جواز تكفير من سبّ الصحابة
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 23:20:45 1-9-1403

قال ابن تيميّة: كما أنّ طائفة أُخرى زعموا أنّ من سبّ الصحابة لا يقبل الله توبته وإن تاب، ورووا عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أنّه قال: " سبّ أصحابي ذنب لا يغتفر "، وهذا الحديث كذب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتبهم المعتمدة وهو مخالف للقرآن، لأنّ الله تعالى قال: (إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) (1) ، هذا في حقّ من لم يتب.
وقال في حقّ التائبين: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنّ الله يغفر الذنوب جميعاً إنّه هو الغفور الرحيم) (2) .
فثبت بكتاب الله وسُنّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنّ كلّ من تاب تاب الله عليه(3) . ونقل ابن عابدين بعد أن ذكر قول ابن المنذر وابن الهمام قول ابن أمير حاج الحلبي في " شرح منية المصلّي ": إنّ سابّ الشيخين ومنكر خلافتهما ممّا بناه على شبهة لا يكفّر(4) .
ويؤيّده ما رواه أبو داود، والنسائي من سبع طرق، وأحمد، والحاكم من طريقين، والبيهقي، والقاضي عياض، عن أبي برزة الأسلمي، قال: كنت عند أبي بكر (رض) فتغيّظ على رجل فاشتدّ عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام فدخل فأرسل إليّ فقال: ما الذي قلت آنفاً؟ قلت: إئذن لي أضرب عنقه، قال: أكنت فاعلا لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا والله ما كانت لبشر بعد محمّد (صلى الله عليه وسلم) . قال: أبو داود: هذا لفظ يزيد.
قال أحمد بن حنبل: أي: لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلا إلاّ بإحدى الثلاث التي قالها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس، وكان للنبيّ (صلى الله عليه وسلم) أن يقتل.
وفي لفظ: إنّ رجلا سبّ أبا بكر (رض) فقلت: ألا أضرب عنقه يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: لا ليست هذه لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
وفي لفظ: فقال: ليس هذا إلاّ لمن شتم النبيّ (صلى الله عليه وسلم) (5) .
وروى البيهقي بإسناده عن أبي هريرة (رض) قال: لا يقتل أحد بسبّ أحد إلاّ بسبّ النبيّ (صلى الله عليه وسلم) (6) .
وقال القاضي عياض بعد رواية حديث أبي برزة: قال القاضي أبو محمّد بن نصر: ولم يخالف عليه أحد، ثمّ قال: ومن ذلك كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة، وقد استشاره في قتل رجل سبّ عمر (رض) ، فكتب إليه عمر: إنّه لا يحلّ قتل امرئ مسلم بسبّ أحد من الناس إلاّ رجلا سبّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فمن سبّه فقد حلّ دمه(7) .
ويحقّ لنا أن نسأل من كفّر سابّ الصحابي واستباحَ دمه ما هو سرّ استثناء عليّ بن أبي طالب من هذه القاعدة وقد تواتر سبّه على منابر الشرق والغرب ثمانين سنة حتّى أصبح سبّه سُنّة بين العباد؟!
هذا ما وصل إلينا من أقوال وفتاوى أئمّة المسلمين على اختلاف مذاهبهم ونحلهم، والمتحصّل منها إجماعهم بالحكم على إيمان مطلق أهل التوحيد ونجاة جميع أهل القبلة، وعدم تكفير من سبّ الصحابة.
إلاّ أنّه شذّ عن هذا الإجماع خوارج القرن الأوّل، وخوارج القرن الثاني عشر (الوهّابية) أو ما يسمّى بـ (السلفية) ، وبعض مشايخ السوء من وعّاظ السلاطين، كالشيخ نوح الحنفي صاحب " الفتاوى الحامدية "، والآلوسي صاحب " روح المعاني "، فكفّروا المسلمين خصوصاً أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) .
أمّا بالنسبة للخوارج المتقدّمين فآراؤهم ومعتقداتهم في تكفير من خالفهم وإباحة دمائهم وأموالهم معروفة، وهي مبثوثة في أكثر مصادر الحديث وكتب التاريخ، وقد طلبوا الحقّ فأخطأوه، إذ استحوذ عليهم الخبيث، ومن ديار بني حنيفة ومسيلمة الكذّاب ظهر محمّد بن عبد الوهّاب بعقيدة جديدة يؤازره عليها محمّد بن سعود وأعراب نجد الجفاة الحفاة، متّبعين كلّ الوسائل المشبوهة في سبيل تحقيق عقيدتهم، وتنحصر أُصول عقيدتهم في أُمور خمسة:
1 ـ توحيد الألوهية والربوبية والإفراط في اعتبار موجبات الشرك.
2 ـ تشبيه الله سبحانه بخلقه، من تجسيم ورؤية ونزول وغيرها.
3 ـ الجبر ونفي الاختيار.
4 ـ عدم احترام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وبقيّة الأنبياء والأولياء والصالحين.
5 ـ تكفير جميع المسلمين، وعدّهم مشركين وأنّهم هم المسلمون، وبالتالي استباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم، معتمدين على ظواهر الكتاب، وما تشابه من آياته الكريمة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم، ومتى كان أعراب نجد الأجلاف من الراسخين في العلم؟! ومتى كان حكم الله في كرب النخل؟!
قال ابن عابدين: قوله (ويكفّرون أصحاب نبيّنا (صلى الله عليه وسلم) ) علمت أنّ هذا غير شرط في مسمّى الخوارج، بل هو بيان لمن خرجوا على سيّدنا علي (رض) ، وإلاّ فيكفي في اعتقادهم كفر من خرجوا عليه، كما وقع في زماننا في أتباع عبد الوهّاب الذين خرجوا من نجد وتغلّبوا على الحرمين وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنّهم اعتقدوا أنّهم هم المسلمون وأنّ من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السُنّة وقتل علمائهم حتّى كسر الله تعالى شوكتهم وخرّب بلادهم وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومئتين وألف(8) .
ولكن بعد الهياط والمياط(9) جاءهم من طلى أستاهم بالزيت، وبعثهم من جديد، حيث وجدوا تمرة الغراب.
________________________
(1) سورة النساء 4: 48 و 116.
(2) سورة الزمر 39: 53.
(3) مجموعة الرسائل ج 5 ص 384.
(4) حاشية ردّ المحتار ج 4 ص 450.
(5) سنن أبي داود ج 4 ص 127 ح 4363، سنن النسائي ج 7 ص 109 ـ 111، مسند أحمد ج 1 ص 9، مستدرك الحاكم ج 4 ص 394 ـ 395 ح 8045 و 8046، سنن البيهقي ج 7 ص 60، الشفا ج 2 ص 222.
(6) سنن البيهقي ج 7 ص 60.
(7) الشفا ج 2 ص 223.
(8) حاشية ردّ المحتار ج 4 ص 449.
(9) الشدّة والأذى.