معرفة الله تعالى أكبر قيمة في الحياة
القضية الأكبر في الإسلام ، أو قضية الإسلام من أعظم زواياها : أن الله تعالى رب العالمين وخالق الأكوان والإنسان ، قد تجلى لرجل من أبناء إبراهيم من ذرية إسماعيل صلى الله عليه و آله وأرسل له سيد ملائكته عليه السلام وأنزل عليه رسالة ، فأظهر معجزاته ، لكن قبائل قريش اتحدوا ضده وكذبوه ، وآمن به بعض عشيرته الأقربين وبعض الناس ، وآمنت به مدينة يثرب فهاجر إليها ، وحاربته قريش فانتصر عليها وعلى العرب وكوَّن أمةً ومداً حضارياً في مدة قياسية .
هذه الحقيقة أثارت في نفوس الشعوب التي دخلت في الإسلام قضية الله تعالى وعبادته ، وولَّدت الإتجاه إلى طلب رضا الله تعالى والنجاة من عذابه والخلود في جنات النعيم ، فصارت القضية الأولى المعاشة للناس يومها ، وتعامل معها بجدية أصحاب النفوس الصافية من مثقفي تلك الشعب وعوامها . فانفتح باب الإجتهاد على مصراعيه في كيفية معرفة الله تعالى وعبادته ، ونشأ التصوف وصار موجة شعبية تعددت فيها الإجتهادات وتأثرت بثقافات الأديان والوثنيات !
وعقيدتنا نحن أتباع أهل البيت عليهم السلام أن الله تعالى لا يجوز في حكمته أن يترك الأمر للناس ليجتهدوا في معرفته وعبادته ، وأن القرآن لا يكفي لذلك لأنه حَمَّال وجوه ، والسنة لا تكفي لأن رواتها مختلفون ومفسروها أكثر اختلافاً ، بل لا بد من تعيين أئمة معصومين بعد النبي صلى الله عليه و آله ليكونوا قدوات للناس ، يشرحون لهم معرفة الله تعالى في النظرية ، ويجسدونها التطبيق !
فلم يترك عز وجل أمر معرفته وعبادته مجملاً عائماً ، ولا أوكله إلى اجتهاد الناس وظنونهم ، بل أمر نبيه صلى الله عليه و آله فأخبر الأمة أن الله جعل لها قدوات بعده اثني عشر ربانياً من عترته عليهم السلام وأمرها باتِّباعهم .
لكن قريشاً سارعت إلى أخذ خلافة النبي صلى الله عليه و آله وعزلت عترته ، وحجبتهم عن الناس ، فلم تعرف الشعوب الجديدة أن إمامة العترة النبوية عليهم السلام جزءٌ لا يتجزأ من الإسلام ، وأن الله تعالى جعل معرفته وعبادته عن طريقهم حتى لا يختلف الناس ويقعوا في الضلال .
إن القليل من الناس من شعوب البلاد المفتوحة استطاع أن يعرف عقيدة الإمامة ، من بعض الصحابة الذين كانوا يبلغونها على تخوف ، لأنها تعني تخوين النظام واتهام قسم من الصحابة بغصب الخلافة !
وفي غياب خط أهل البيت عليهم السلام كثرت اجتهادات الناس في معرفة الله تعالى وعبادته ، خاصة من مثقفي البلاد الذين يعتبرون أنهم أكثر حضارة ومدنية من العرب ، وأنهم إن فهموا لغتهم فهم أقدر منهم على فهم نصوص الدين الذي نزل عليهم ، وفهم أغراضه وأهدافه !
ولذلك برز وُعَّاظٌ وعُبَّادٌ وقراءٌ ومُنَظِّرُون لمعرفة الله وعبادته كلهم من الشعوب غير العربية ، وكان مستواهم الذهني متفوقاً على غيرهم فاتبعهم العرب أتباع الخلافة ، وجعلوهم مشايخ طرق صوفية !
التصوف وحب أهل البيت عليهم السلام
كان من الطبيعي أن يبحث شيوخ التصوف عن شخصيات عارفة لله عابدة ليتخذوها قدوة وأن يجدوا أهل البيت عليهم السلام في طليعتها .
ولذلك تجد أكثر أصحاب الطرق الصوفية نسبوا طرقهم إلى أويس القرني رحمه الله ثم إلى أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين عليهم السلام ، وزعموا أنهم أخذوا منهم أفكارهم في معرفة الله تعالى وعبادته !
ولهذا دخل التشيع بمعنى حب أهل البيت عليهم السلام إلى ثقافة الصوفية عموماً ، ودخلت مدائح علي عليه السلام في أناشيدهم وأذكارهم وأورادهم .
وساعد على ذلك أن كبار شيوخهم رأوا كرامات ومعجزات مدهشة لأهل البيت عليهم السلام ،كما روى ثابت البناني قال : ( كنت حاجاً وجماعة عباد البصرة مثل أيوب السجستاني وصالح المري وعتبة الغلام وحبيب الفارسي ومالك بن دينار ، فلما أن دخلنا مكة رأينا الماء ضيقاً ، وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث ، ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألوننا أن نستسقي لهم ، فأتينا الكعبة وطفنا بها ثم سألنا الله خاضعين متضرعين بها ، فمُنعنا الإجابة .
فبينما نحن كذلك إذْ نحن بفتى قد أقبل وقد أكربته أحزانه وأقلقته أشجانه ، فطاف بالكعبة أشواطاً ثم أقبل علينا فقال : يا مالك بن دينار ويا ثابت البناني ويا صالح المري ويا عتبة الغلام ويا حبيب الفارسي ويا سعد ويا عمر ويا صالح الأعمى ويا رابعة ويا سعدانة ويا جعفر بن سليمان ، فقلنا : لبيك وسعديك يا فتى . فقال : أما فيكم أحد يُحبه الرحمن ؟ فقلنا : يا فتى علينا الدعاء وعليه الإجابة ، فقال : أبعدوا عن الكعبة ، فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمن لأجابه !
ثم أتى الكعبة فخر ساجداً ، فسمعته يقول في سجوده : سيدي بحبك لي إلا سقيتهم الغيث ! قال : فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه القرب ! فقلت : يا فتى من أين علمت أنه يحبك ؟ قال : لو لم يحبني لم يستزرني ، فلما استزارني علمت أنه يحبني ، فسألته بحبه لي فأجابني . ثم ولى عنا وأنشأ يقول :
من عرف الرب فلم تُغْنِهِ *** معرفةُ الرب فذاك الشقِي
ما ضر ذو الطاعة ما ناله *** في طاعة الله وماذا لقِي
ما يصنع العبدُ بغير التقى *** والعز كـل العز للمتقِي
فقلت يا أهل مكة من هذا الفتى ؟ قالوا : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ) 1 .
وفي مناقب آل أبي طالب : 3 / 419 : ( قال شقيق البلخي : وجدت رجلاً عند فِيد ( في طريق الحج ) يملأ الإناء من الرمل ويشربه ! فتعجبت من ذلك واستسقيته فسقاني ، فوجدته سويقاً وسكراً . . القصة . . ) .
ورواها ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول / 448 : ( قال هشام بن حاتم الأصم ، قال لي أبو حاتم ، قال لي شقيق البلخي : خرجت حاجاً في سنة تسع وأربعين ومائة ، فنزلت القادسية فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم ، فنظرت إلى فتى حسن الوجه شديد السمرة ضعيف فوق ثيابه ثوب من صوف ، مشتمل بشملة في رجليه نعلان وقد جلس منفرداً فقلت في نفسي : هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلاً على الناس في طريقهم ، والله لأمضين إليه و لأوبخنه ! فدنوت منه فلما رآني مقبلاً قال : ﴿ ... اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ... ﴾ 2، ثم تركني ومضى ! فقلت في نفسي : إن هذا الأمر عظيم قد تكلم بما في نفسي ونطق باسمي وما هذا إلا عبدٌ صالح لألحقنه و لأسألنه أن يحالَّني فأسرعت في أثره فلم ألحقه وغاب عن عيني . فلما نزلنا واقصة إذْ به يصلي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تجري فقلت : هذا صاحبي أمضي إليه واستحله ، فصبرت حتى جلس وأقبلت نحوه ، فلما رآني مقبلاً قال لي : يا شقيق أتل : ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ ﴾ 3. ثم تركني ومضى فقلت : إن هذا الفتى لمن الأبدال ! لقد تكلم على سري مرتين . فلما نزلنا زُبَالة إذا بالفتى قائمٌ على البئر وبيده رَكْوَةٌ يريد أن يستقي ماء فسقطت الركوة من يده في البئر ، وأنا أنظر إليه فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول :
أنت ربي إذا ظمئتُ إلى الماء ***وقُوَّتي إذا أردتُ الطعاما
اللهم سيدي مالي سواها فلا تحرمنيها ، قال شقيق : فوالله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها فمد يده فأخذ الركوة وملأها ماء فتوضأ وصلى أربع ركعات ، ثم مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحركه ويشرب . فأقبلت إليه وسلمت عليه فرد عليَّ السلام فقلت : أطعمني من فضل ما أنعم الله به عليك . فقال : يا شقيق لم تزل نعمه علينا ظاهرة و باطنة ، فأحسن ظنك بربك . ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكر ! فوالله ما شربت قط ألذَّ منه ولا أطيب ريحاً ، فشبعت ورويت وأقمت أياماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً ، ثم لم أره حتى دخلنا مكة فرأيته ليلة إلى جنب قُبَّة الشراب في نصف الليل قائماً يصلي بخضوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلما رأى الفجر جلس في مصلاه يسبح ثم قام فصلى الغداة ، وطاف بالبيت أسبوعاً وخرج ، فتبعته وإذا له غاشية وموالٍ ، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس من حوله يسلمون عليه ! فقلت لبعض من يقرب منه : من هذا الفتى ؟ فقال : هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب . فقلت : قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد ! ولقد نظم بعض المتقدمين واقعة شقيق معه في أبيات طويلة ، اقتصرت على ذكر بعضها فقال :
سلْ شقيقَ البلخيّ عنه و ما شا *** هد منـه وما الذي كان أبصرْ
قال لما حججت عاينتُ شخصاً *** شاحب اللون ناحلَ الجسم أسمرْ
سائراً وحـده و ليس لـه زادٌ *** فمـا زلأت دائمـاً أتـفكـر
وتوهمتُ أنـه يسـأل النـاس *** ولم أدر أنـه الحـجُّ الاكـبـر
ثم عـاينـتهُ ونحـنُ نـزولٌ *** دون فيـدٍ على الكثـيب الاحمر
يضع الرمل في الإنـاء ويشربْهُ *** فـنـاديـتـه و عـقلي محـير
إسقني شربـةً فـناولـني منه *** فعايـنـته سَـويـقاً وسُـكـر
فسألت الحجـيج من يكُ هذا *** قيـلَ هذا الإمامُ موسى بن جعفر
فهذه الكرامات العالية الأقدار الخارقة العوائد هي على التحقق جلية المناقب وزينة المزايا وغرر الصفات ، ولا يؤتاها إلا من فاضت عليه العناية الربانية أنوار التأييد ، ومرت له أخلاف التوفيق ، وأزلفته من مقام التقديس والتطهير ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ 4) . انتهى .
أهل البيت عليهم السلام دعوا إلى معرفة الله تعالى
قال أمير المؤمنين عليه السلام : ( أولُ الدين معرفته ، وكمالُ معرفته التصديق به ، وكمالُ التصديق به توحيدُه ، وكمالُ توحيده الإخلاصُ له ، وكمالُ الإخلاص له نفيُ الصفات عنه ، لشهادة كلِّ صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ) 5 .
الكافي : 8 / 247 : ( عن جميل بن دراج ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عز وجل ما مدوا أعينهم إلى ما متع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها ، وكانت دنياهم أقلَّ عندهم مما يطوونه بأرجلهم ، ولنَعِمُوا بمعرفة الله عز وجل وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله .
إن معرفة الله عز وجل أنْسٌ من كل وحشة ، وصاحبٌ من كل وحدة ، ونورٌ من كل ظلمة ، وقوةُ من كل ضعف ، وشفاءٌ من كل سقم . ثم قال عليه السلام : وقد كان قبلكم قوم يُقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير وتضيق عليهم الأرض برحبها ، فما يردهم عما هم عليه شئ مما هم فيه ، من غير تِرَةٍ وُتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى ، بل ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، فاسألوا ربكم درجاتهم ، واصبروا على نوائب دهركم ، تدركوا سعيهم ) .
وفي علل الشرائع : 1 / 9 : ( عن سلمة بن عطاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال : خرج الحسين بن علي عليهما السلام على أصحابه فقال : أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه ، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه ) .
وفي علل الشرائع : 1 / 13 : ( عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ 6، قال : خلقهم ليأمرهم بالعبادة ، قال : وسألته عن قول الله عز وجل : ﴿ ... وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ... ﴾ 7؟ قال : ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم ) . ( أي خلقهم ليتكاملوا بعطائه حسب جهدهم ) .
شكوى الشيخ الأنصاري قدس سره من مُدَّعي العرفان
بحث علماؤنا رضوان الله عليهم الحد الأدنى الواجب على المسلم من المعرفة ، واتفقوا على أنه قليل مُيَسَّر ، وأنه يكفي للمسلم معرفة الله تعالى بقدر معنى سورة التوحيد ، وكذلك معرفة النبي والأئمة صلوات الله عليهم ، وبقية العقائد التي جاء بها النبي صلى الله عليه و آله من العدل والمعاد والآخرة والجنة والنار . ففي الكافي : 1 / 91 : ( عن عبد العزيز بن المهتدي قال : سألت الرضا عليه السلام عن التوحيد فقال : كل من قرأ قل هو الله أحد ، وآمن بها ، فقد عرف التوحيد ، قلت : كيف يقرؤها ؟ قال : كما يقرؤها الناس ) . انتهى .
فالصعوبة إذن ليست في المعرفة النظرية ، بل في العمل والتطبيق !
وقد ناقش شيخ الطائفة الأنصاري قدس سره ما ذكره العلامة الحلي قدس سره ويفهم منه أنه يجب على المسلم أكثر من ذلك ، وبثَّ الشيخ الأنصاري بمناسبته شكواه من مدعي العرفان والعلم ، الذين يغُشُّون الناس باسم معرفة الله تعالى ومعرفة النبي وآله صلى الله عليه و آله ، وهم جهلاء لا يعرفون الفاعل والمفعول ولا البديهي من الكسبي !
قال قدس سره في الرسائل : 1 / 275 : ( وقد ذكر العلامة في الباب الحادي عشر فيما يجب معرفته على كل مكلف ، من تفاصيل التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد ، أموراً لا دليل على وجوبها كذلك ، مدعياً أن الجاهل بها عن نظر وإستدلال خارج عن ربقة الإيمان مستحق للعذاب الدائم ، وهو في غاية الإشكال . نعم يمكن أن يقال : إن مقتضى عموم وجوب المعرفة مثل قوله تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ 6، أي ليعرفون . وقوله صلى الله عليه و آله : وما أعلم بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس ، بناء على أن الأفضلية من الواجب ، خصوصاً مثل الصلاة ، تستلزم الوجوب . وكذا عمومات وجوب التفقه في الدين الشامل للمعارف بقرينة استشهاد الإمام عليه السلام بها لوجوب النفر لمعرفة الإمام بعد موت الإمام السابق عليه السلام وعمومات طلب العلم ، هو وجوب معرفة الله جل ذكره ومعرفة النبي صلى الله عليه و آله والإمام عليه السلام ومعرفة ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله على كل قادر يتمكن من تحصيل العلم ، فيجب الفحص حتى يحصل اليأس ، فإن حصل العلم بشئ من هذه التفاصيل اعتقد وتدين به ، وإلا توقف ولم يتدين بالظن لو حصل له .
ومن هنا قد يقال : إن الإشتغال بالعلم المتكفل لمعرفة الله ومعرفة أوليائه صلوات الله عليهم أهم من الإشتغال بعلم المسائل العلمية ، بل هو المتعين ، لأن العمل يصح عن تقليد ، فلا يكون الإشتغال بعلمه إلا كفائياً بخلاف المعرفة .
هذا ، ولكن الإنصاف ممن جانب الإعتساف يقتضي الإذعان بعدم التمكن من ذلك إلا للأوحدي من الناس ، لأن المعرفة المذكورة لا تحصل إلا بعد تحصيل قوة استنباط المطالب من الأخبار وقوة نظرية أخرى ، لئلا يأخذ بالأخبار المخالفة للبراهين العقلية ، ومثل هذا الشخص مجتهد في الفروع قطعاً فيحرم عليه التقليد .
ودعوى جوازه له للضرورة ليس بأولى من دعوى جواز ترك الإشتغال بالمعرفة التي لا تحصل غالباً بالأعمال المبتنية على التقليد .
هذا إذا لم يتعين عليه الإفتاء والمرافعة لأجل قلة المجتهدين . وأما في مثل زماننا فالأمر واضح . فلا تغتر حينئذ بمن قصر استعداده أو همته عن تحصيل مقدمات استنباط المطالب الإعتقادية الأصولية والعلمية عن الأدلة العقلية والنقلية ، فيتركها مبغضاً لها لأن الناس أعداء ما جهلوا ، ويشتغل بمعرفة صفات الرب جل ذكره وأوصاف حججه صلوات الله عليهم ، بنظرٍ في الأخبار لا يعرف به من ألفاظها الفاعل من المفعول ، فضلاً عن معرفة الخاص من العام . وبنظرٍ في المطالب العقلية لا يعرف به البديهيات منها ، ويشتغل في خلال ذلك بالتشنيع على حملة الشريعة العملية واستهزائهم بقصور الفهم وسوء النية ، ﴿ ... فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ 8.
هذا كله حال وجوب المعرفة مستقلاً ، وأما اعتبار ذلك في الإسلام أو الإيمان فلا دليل عليه ، بل يدل على خلافه الأخبار الكثيرة المفسرة لمعنى الإسلام والإيمان . ففي رواية محمد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام المروية في الكافي : إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه و آله وهو بمكة عشر سنين ، ولم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، إلا أدخله الله الجنة بإقراره وهو إيمان التصديق ، فإن الظاهر أن حقيقة الإيمان التي يخرج الإنسان بها عن حد الكفر الموجب للخلود في النار لم تتغير بعد انتشار الشريعة . نعم ظهر في الشريعة أمور صارت ضرورية الثبوت من النبي صلى الله عليه و آله فيعتبر في الإسلام عدم إنكارها . لكن هذا لا يوجب التغيير ، فإن المقصود أنه لم يعتبر في الإيمان أزيد من التوحيد والتصديق بالنبي صلى الله عليه و آله وبكونه رسولاً صادقاً فيما يبلغ . وليس المراد معرفة تفاصيل ذلك ، وإلا لم يكن من آمن بمكة من أهل الجنة أو كان حقيقة الإيمان بعد انتشار الشريعة غيرها في صدر الإسلام . وفي رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السلام : إن أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أن يعرفه الله تبارك وتعالى إياه فيقر له بالطاعة ، ويعرفه نبيه فيقر له بالطاعة ويعرفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة . فقلت له : يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلا ما وصفت قال : نعم . وهي صريحة في المدعى ) . انتهى .
أقول : وبهذه الشكوى البليغة من مرجع الطائفة الكبير الشيخ الأنصاري قدس سره ننبه شبابنا وبناتنا إلى خطأ تصورهم وخطأ من يُصور لهم أنه يجب عليهم معرفة الله تعالى بأكثر مما يفتي به مراجع تقليدهم ! وخطأ تصورهم أن ذلك لا بد أن يكون بواسطة أستاذ يوجههم ويربيهم تربية الشيخ لمريديه ، والآمر لمأموريه !
وفي عصرنا زادت أبواب الضلال بخروج أشخاص يَدَّعُون الإرتباط بالإمام المهدي أرواحنا فداه ، وبعضهم يدعي أنه أمره أن يكون سفيره أو ينصب نفسه مرجع تقليد وقائد ثورة! وبعضهم ادعى أنه ابنه ووصيه وسفيره إلى العالمين . . الخ . وقد وجدوا لهم بعض الأتباع بسبب موجة التدين القوية في الأمة ، وجهل الناس بدينهم !
العرفان حق لكن صاحبنا ليس هو المطلوب
حدثني يوماً أستاذي في النجف عن العرفان والعارفين ، وأن بعضهم أهل كرامات ومكاشفة ، وسمى لي منهم أشخاصاً بعضهم من أهل العلم وبعضهم من الكسبة ، وأخبرني أنه يحضر أسبوعياً عند أحدهم ، وأني أستطيع الحضور ، فشكرته .
وفي الموعد في بيت أحدهم حضر الأستاذ فرأيت أستاذي والحاضرين احترموه وهابوه ، وتأدبوا بين يديه وأصغوا بكلهم إليه .
كان درسه أو حديثه في شرح آية الكرسي ، وقد اعتمد على التصوير والتذكير أكثر من المطلب العلمي ، فاستفدنا وتأثرنا والحمد لله . وتضمن درسه التالي وما بعده توجيهات مفيدة ، كقوله : كل مشكلات الإنسان من الوهم والخيال ، والوهم هو الخوف غير الشرعي ، والخيال هو الأمل غير الشرعي . وقوله : أنظر أمامك في الصلاة عند محل سجودك ، وأرْخِ عينيك ولا تحدق ، مع ما استفدناه منه رحمه الله من أفكار عن مراقبة النفس ومجاهدتها إن طمحت إلى الحرام أو المكروه ، وإجبارها إن استعصت على فعل الخير وقيام الليل . . . الخ . وكانت فترة نافعة بما فيها تكاليف الأستاذ في مراقبة النفس ، وكان أنفعها برامج العبادة اليومية ، والإعتكاف في مسجد الكوفة ثلاثة أيام ، وزيارة الإمام الحسين عليه السلام سيراً على الأقدام .
ومضت الأيام لأكتشف في هذا الأستاذ ما لا أحب ، رأيته يأكل دائماً بنَهَمٍ ، ويتخير أنواع الأطعمة ، ويتحدث عنها بلهفة وإسهاب ، ورأيته يأكل المال أكلاً لمّا ، وبعض ما يأخذه برأيي حرام ، ثم رأيته لا يتحمل إشكالاً حتى لو كان علمياً ، وأشكل شخص عليه فكرهه كرهاً غليظاً ، ولم يغفر له ( ذنبه ) بل لم يكن يترك فرصة إلا وانتقده وطعن عليه ، بما فيه وما ليس فيه ! وآخر ما وصلت إليه من التأمل في حالة هذا الأستاذ : أن طريق العرفان ومراقبة النفس حق ، لكن صاحبنا ليس هو المطلوب !
غير أنك ستعتبر صاحبنا قديساً بالنسبة إلى بعض من يدعي العرفان ! عندما تجد فيهم قاتل النفس المحترمة بالمعنى الحقيقي للقتل! وتجد فيهم الكذاب المزيف ، وصاحب الدكان ، وناصب الفخ لصيد بسطاء العوام !
فالعرفان عند هؤلاء البؤساء ليس أكثر من تعلم لقلقة اللسان ، فهو طريقٌ لتحقيق الذات ، ونيل الشهرة ، وكسب السحت من المال !
وهؤلاء ليسوا أبناء اليوم ، فهم ظاهرة قديمة من مطلع الإسلام ، وقبل الإسلام في المسيحية واليهودية ! ولو ألَّفْتَ فيهم كتاباً لملأته بطرائف قصصهم وغرائبها ، لكنه يضر أكثر مما ينفع ، لأن بعض قرائه سيفرط في الحكم ويكفر بكل العرفان والعارفين ، مع أن فيهم أخياراً أبراراً أهل حق وصدق ، وفيهم أولياء الله ، لو أقسم أحدهم على الله لأبرَّ قسمه !
وأبلغ ما قرأت في تحليل شخصياتهم ما علمنا إياه الإمام زين العابدين عليه السلام فقال : ( إذا رأيتم الرجل قد حَسَّنَ سَمْتَه وهَدْيَه ، وتَمَاوَتَ في منطقه ، وتَخَاضَعَ في حركاته ، فَرُوَيْداَ لا يَغُرَّنَّكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجُبن قلبه ، فنصب الدين فخّاً لها ، فهو لا يزال يَخْتِلُ الناس بظاهره ، فإن تمكن من حرام اقتحمه .
وإذا وجدتموه يَعِفُّ عن المال الحرام ، فرويداً لا يغرنكم ، فإن شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من يَنْبُو عن المال الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه على شَوْهاء قبيحة فيأتي منها مُحَرَّماً .
فإذا وجدتموه يَعِفُّ عن ذلك فرويداً لا يَغُرَّنَّكُم ، حتى تنظروا ما عَقَدَهُ عقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ، ثم لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله .
فإذا وجدتم عقله متيناً ، فرويداً لا يغركم ، حتى تنظروا أمع هواه يكون على عقله ، أو يكون مع عقله على هواه ، وكيف محبته للرئاسات الباطلة وزهده فيها ؟ فإنَّ في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا ! ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة حتى إذا قيل له اتَّقِ الله أخذته العزَّةُ بالإثم ، فحسبه جهنم ولبئس المهاد ! {{{{{ الآية 2 / 256 لكن فيها "واو" فهي وإذا قيل ...}}}}} فهو يخبط خبط عشواء ، يقوده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة ، ويمدُّه ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه ! فهو يُحِلُّ ما حَرَّم الله ويُحَرِّم ما أحل الله ، لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها ! فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً مهيناً .
ولكن الرجل كلَّ الرجل نعمَ الرجل ، هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله ، وقواه مبذولةً في رضا الله ، يرى الذلَّ مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العز في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تَبيد ولا تَنْفَد ، وأن كثير ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا زوال . فذلكم الرجل نعم الرجل ، فبه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا ، وإلى ربكم به فتوسلوا ، فإنه لا تُرَدُّ له دعوة ولا تَخِيبُ له طَلِبَة ) 9 .
وفي الكافي : 1 / 49 ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : ( طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم : صنفٌ يطلبه للجهل والمراء ، وصنف يطلبه للإستطالة والختل ، وصنف يطلبه للفقه والعقل . فصاحب الجهل والمراء مُوذٍ مُمَارٍ متعرضٌ للمقال في أندية الرجال ، بتذاكر العلم وصفة الحلم ، قد تسربل بالخشوع وتخلى من الورع! فدق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه !
وصاحب الإستطالة والختل ذو خب وملق ، يستطيل على مثله من أشباهه ، ويتواضع للأغنياء من دونه ، فهو لحلوائهم هاضم ، ولدينه حاطم فأعمى الله على هذا خبره ، وقطع من آثار العلماء أثره !
وصاحب الفقه والعقل ، ذو كآبة وحزن وسهر ، قد تحنك في بُرْنُسه وقام الليل في حَندسه ، يعمل ويخشى ، وجلاً داعياً مشفقاً ، مقبلاً على شانه ، عارفاً بأهل زمانه ، مستوحشاً من أوثق إخوانه ، فشدَّ الله من هذا أركانه ، وأعطاه يوم القيامة أمانه ) .
خطر الدعوة إلى معرفة الله بمعرفة النفس
كان التصوف في الأمة وما زال تياراً قوياً وجذاباً ، وبسبب بُعده عن أهل البيت عليهم السلام كان الخطأ فيه أكثر من الصواب ، والكذابون أكثر من الصادقين ، ولقلقة اللسان أكثر من عقد الجنان .
أما دليله العلمي فأشهره منهج معرفة الله تعالى عن طريق معرفة النفس وقد نظَّرَ له المتأثرون بالفلسفة اليونانية وكتبوا فيه واستدلوا لها بآيات وأحاديث ، وهو الطريقة الأكثر رواجاً في قم والنجف وغيرهما .
ومن أعلامه السيد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان رحمه الله وهذه فقرات من كلامه المطول في تفسيره : 6 / 169 : ( في الغرر والدرر للآمدي عن علي عليه السلام قال : من عرف نفسه عرف ربه . أقول ورواه الفريقان عن النبي صلى الله عليه و آله أيضاً وهو حديث مشهور ، وقد ذكر بعض العلماء أنه من تعليق المحال ومفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الإحاطة العلمية بالله سبحانه . ورُدَّ أولاً ، بقوله صلى الله عليه و آله في رواية أخرى : أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه . وثانياً ، بأن الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى : ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ... ﴾ 10. وفيه عنه عليه السلام : قال الكيِّس من عرف نفسه وأخلص أعماله . . .
وفيه عنه عليه السلام قال : المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين . أقول : الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالآيات الأنفسية والمعرفة بالآيات الآفاقية ، قال تعالى : ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ 11. وقال تعالى : ﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ 12. وكون السير الأنفسي أنفع من السير الآفاقي لعله لكون المعرفة النفسانية لاتنفك عادةً من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الآفاقية . . . . وهذا موقف علمي يهدي الإنسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الآخرة ، وهي التي نسميها بالدين . . .
فتلخص مما ذكرنا أن النظر في الآيات الأنفسية والآفاقية ومعرفة الله سبحانه ، بها يهتدي الإنسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الإلهية . . . .
وفي الدرر والغرر عن علي عليه السلام قال : العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزهها عن كل ما يبعدها . أقول : أي أعتقها عن إسارة الهوى وَرِقِّية الشهوات . وفيه ، عنه عليه السلام قال : أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه . . .
وأما سائر الفرق المذهبية ، من الهنود كالجوكية أصحاب الأنفاس والأوهام ، وكأصحاب الروحانيات ، وأصحاب الحكمة ، وغيرهم ، فلكل طائفة منهم رياضات شاقة عملية لا تخلو عن العزلة وتحريم اللذائذ الشهوانية على النفس . . . وأما البوذية فبناء مذهبهم على تهذيب النفس ومخالفة هواها وتحريم لذائذها عليها ، للحصول على حقيقة المعرفة . . .
وأما الصابئون ، ونعني بهم أصحاب الروحانيات ، فهم وإن أنكروا أمر النبوة ، غير أن لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانية طرقاً لا تختلف كثيراً عن طرق البراهمة والبوذيين . . .
وهؤلاء وإن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الإختلاف في العقائد العامة الراجعة إلى الخلق والايجاد ، لكنهم متفقوا الرأي في وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة وسعادة النشأة .
وأما المانوية من الثنوية ، فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلوي وهبوطها إلى هذه الشبكات المادية المظلمة المسماة بالأبدان ، وأن سعادتها وكمالها التخلص من دار الظلمة إلى ساحة النور ، إما اختياراً بالترويض النفساني ، وإما اضطراراً بالموت الطبيعي المعروف .
وأما أهل الكتاب ونعني بهم اليهود والنصارى والمجوس ، فكتبهم المقدسة وهي العهد العتيق والعهد الجديد وأوستا ، مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس وتهذيبها ومخالفة هواها . . .وأما الفرق المختلفة من أصحاب الإرتياضات والأعمال النفسية ، كأصحاب السحر والسيمياء ، وأصحاب الطلسمات وتسخير الأرواح والجن ، وروحانيات الحروف والكواكب وغيرها ، وأصحاب الإحضار وتسخير النفوس ، فلكل منهم ارتياضات نفسية خاصة تنتج نوعاً من السلطة على أمر النفس . . . .
وجملة الأمر على ما يتحصل من جميع ما مرَّ : أن الوجهة الأخيرة لجميع أرباب الأديان والمذاهب والأعمال هو تهذيب النفس بترك هواها ، والإشتغال بتطهيرها من شوب الأخلاق والأحوال غير المناسبة للمطلوب . .
فالأعمال والمجاهدات والإرتياضات الدينية ترجع جميعاً إلى نوع من الإشتغال بأمر النفس . . . فظهر بهذا البيان أن الأديان والمذاهب على اختلاف سننها وطرقها تروم الإشتغال بأمر النفس في الجملة ، سواء علم بذلك المنتحلون بها أم لم يعلموا . . .
إياك أن يشتبه عليك الأمر فتستنتج من الأبحاث السابقة أن الدين هو العرفان والتصوف ، أعني معرفة النفس كما توهمه بعض الباحثين من الماديين . . . . والتأمل العميق في جميع الأديان والنحل يعطي أنها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحي حتى الوثنية والثنوية ، وإنما وقع الإختلاف في تطبيق السنة الدينية على هذا الأصل والإصابة والخطأ فيه . . .
واعلم أن عرفان النفس بغيةٌ عملية لا يحصل تمام المعرفة بها إلا من طريق السلوك العملي دون النظري . . . ) . انتهى .
نقد هذه الدعوة
ما ذكره قدس سره من الطريقين لمعرفة الله تعالى : النظر في الآفاق والنظر في الأنفس ، مطلبٌ شائع بين العرفانيين والمتصوفة ، والظاهر أنهم أخذوه من قوله تعالى : ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ... ﴾ 11. والبحث فيه متشعب ، نكتفي منه بملاحظات :
1 ـ مما يدل على أن معرفة الله تعالى لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق الأئمة المعصومين عليهم السلام : أن الله تعالى عندما أرسل نبيه صلى الله عليه و آله وأنزل عليه كتابه ، فقد حدد طريق معرفته وعبادته بما أنزله على رسوله صلى الله عليه و آله . وعندما بلغ النبي صلى الله عليه و آله أمته فقال : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، وأنهما لا يفترقان الى يوم القيامة ، فقد حدد طريق معرفة الله تعالى وعبادته بهما . فالقرآن هو الأصل وأئمة العترة عليهم السلام هم الشرح . والقرآن هو الدستور وهم المفسرون الشرعيون له القُوَّام على تطبيقه . وبذلك انتهى الأمر ولم يبق مجال للفذلكة والفلسفة !
ودليل آخر على أن أهل البيت عليهم السلام بهم يُعْرفُ الله تعالى وبهم يُعبد : أن معرفته وعبادته تحتاج إلى علم وتجسد عملي ، ولن تجد العلم الصحيح بالله إلا عندهم ، ولا التجسيد الصحيح لمعرفته تعالى وعبادته إلا فيهم . وقد رأيت أن الذين تركوهم افتقروا من العلم فالتجؤوا إلى الحاخام كعب الأحبار ، فشبهوا الله تعالى وجسدوه ، ولم يقفوا في انحدارهم حتى جعلوا ربهم شاباً أمرد وعبدوه ! فأي فكر هذا ، وأي معرفة لخالق الكون ، وأي عبادة لرب العالمين ؟!!
2 ـ بحثَ فقهاؤنا الحد الأدنى الواجب من معرفة الله تعالى ، ولم يذكر أحد منهم أن من طرقه التأمل في النفس ! بل نصَّت الأحاديث الصحيحة على أن المعرفة من صنع الله تعالى ، ففي الكافي : 1 / 163 : ( عن محمد بن حكيم قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : المعرفة من صُنْع من هي ؟ قال : من صُنع الله ليس للعباد فيها صنع ) .
3 ـ سند حديث : "من عرف نفسه فقد عرف ربه"غير تام ، وهو مروي عن النبي صلى الله عليه و آله ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام ، وأقوى ما يستدل به لتصحيحه أن بعض علماء الحديث تلقاه بالقبول .
وعلى فرض صحته فهو يدل على أن الإنسان كلما عرف نفسه بالإمكان والنقصان ، عرف ربه بالوجوب والكمال ، فهو يدعو إلى تركيز النظر على محدودية النفس ومحاسبتها ومكافحة العجب والغرور ، ولا يدل على أن معرفة النفس طريق معرفة الله تعالى .
بينما يريدون له أن يكون منهجاً للمعرفة ، وأن الإنسان يصل به إلى مقامات ودرجات كدرجات الأولياء والأنبياء صلوات الله عليهم ! لأن الإنسان كما يدعون موضع تجلي الله تعالى وخليفته في أرضه . .الخ . وهم بذلك ينفخون في ذاتيته ويوهمونه أنه ولي كبير لله تعالى ، أو إلهٌ صغير! وهذا نقيض معنى الحديث !
4 ـ لو سلمنا أن مقولة معرفة الله تعالى عن طريق معرفة النفس ، صحيحة وقطعية ، لكن الكلام فيما يحدث عندما ندعو اليها الناس !
إن الذي حدث وسيحدث أنك تقدم لعوام الناس ومتعلميهم باسم الدين ، دعوةً مبهمةً إلى معرفة الله تعالى عن طريق معرفة أنفسهم والتأمل فيها ، وسرعان ما يجدوا فيها مشروعاً لتحقيق الذات وتضخيمها وادعاء صاحبها أنه بالإستغراق في نفسه سيملك طاقات عظيمة ، ويبلغ مقامات خيالية ! كما ترى في نماذجهم مع الأسف !
جاءني مجموعة شباب وكهول قالوا إنهم من ( أهل السلوك والعرفان ) ومن عاشقي الإمام المهدي عليه السلام الذين يأملون بالفوز بلقائه روحي فداه ، وأن يكونوا من أصحابه الخاصين ! فسألتهم عن دراستهم فأخذ يجيبني شيخهم بأنه درَّسهم عدداً من كتب العرفان لفلان وفلان ، ومطالب من كتب ابن عربي ! وتعمدت أن أسمع منهم فسمعت كلام عوام متحفزين لتحقيق ذواتهم بهذا الحزب الجديد الذي دلهم عليه شيخهم! وقدَّرت أنهم أقرب إلى المقاتلين والحرامية منهم إلى المتدينين! لكن ( شيخهم ) لم يسمح لي أن أواصل الإستماع إليهم ، فطرح مطلبه مني أن أعطيهم برنامجاً لمعرفة الإمام المهدي عليه السلام بالنورانية ، حيث أكملوا معرفته بالولاية وبالطريقة الفلانية والفلانية ، ووصلوا الى معرفة الإمام عليه السلام بالنورانية ، فهم يريدون أن يروه صلوات الله عليه بالتجلي النوراني !
فأجبتهم : لا بأس ، لكن أول البرنامج أن تمضي عليكم ستة أشهر لا تتركوا فيها واجباً ولا ترتكبوا فيها حراماً في عمل ولا قول ، وأن تتورعوا عن كل ما لا يليق بالأخيار ! وشرحت لهم خطأ أن يكون هدف الإنسان من العرفان مشاهدة منامات وعلامات وآيات عن المقام الذي وصل اليه ، أو اللقاء بأولياء الله العظماء كالإمام المهدي أرواحنا فداه ، فإن صاحب هذه النية يعمل للدنيا وليس لله تعالى !
طبعاً لم يرتاحوا مني ! ولا أقول إنهم ضحايا دعوة العرفان عن طريق معرفة النفس ، بل ضحايا أنفسهم الأمارة ، وقد وجدوا في هذه الدعوة خصوبة لهواهم فتلبسوها !
عندما أقول لرجل أو امرأة : إنك تستطيع أن تكون من أهل السلوك والعرفان ، ولا يكلفك ذلك إلا أن تعرف نفسك وتتأمل فيها فتُفَجِّر بذلك طاقاتها العظيمة! فعليَّ أن أدرك إلى أين دفعت هذا الشخص!
إن حب الذات أقوى غرائز الإنسان ، واعتقاده بحصول العرفان ومقاماته بدون تحديد الوسائل والأهداف ، يجعله أمام خطر عبادة الذات وتعظيمها ، فيتخيل أنه وصل إلى الله تعالى وصار صاحب أسرار إلهية ! ويزين له الشيطان عالماً من نسج خياله ، ويدفعه إلى الإدعاءات الباطلة ، أعاذنا الله وجميع المؤمنين .
أمَا كان الأحرى بدل ذلك أن توجهه الى العمل ، وترك المحرمات وأداء الواجبات ، وأن يدقق في مكسبه ومأكله ومشربه هل هو حلالٌ زكيّ أم خبيثٌ رديّ ؟ وفي سلوكه مع من هم تحت يده ، هل هو لهم أبٌ رفيق ، أو أخٌ شفيق ، أم عليهم كالسبع الضاري ؟!
وفي عقائده بربه عز وجل ونبيه صلى الله عليه و آله وما أنزل الله عليه ، وأئمته عليهم السلام وسيرتهم ومناقبهم . وإيمانه بآخرته ويقينه بها ، ومعايشته لعوالم عقيدته وأجوائها ؟! ونظرته الى لناس ورحمته لهم عامة ، وحبه لمن كان له في رسول الله وآله صلى الله عليه و آله نصيب . وعمله لخدمتهم . . الخ .
ومن جهة أخرى ، تنطوي دعوة الناس لمعرفة الله عن طريق التأمل بالنفس ، على خطر أن تصير أداةً لتعذيب الذات وسوء ظن الإنسان بنفسه والناس ، ثم تتحول حالة تعذيب الذات عند صاحبها أداة لقمع الآخرين وتعذيبهم باسم العرفان وتزكية النفس! وبإمكانك أن تجد في مدعي الإشتغال بالعرفان وتزكية النفس نماذج من القساة الذين يشتمون الناس في مواعظهم ، وكأنهم يثأرون منهم !
وفي كلتا الحالتين حالة تعظيم النفس وحالة تعذيبها ، يتضمن هذا السلوك خطورة أن ينسى أصحابه أولوية تطبيق أحكام الشريعة ! وينسى التعرف على طريقة أهل البيت عليهم السلام في معرفة الله تعالى .
5 ـ من الأدلة الواضحة على أن دعوتهم عائمة مبهمة ، أنها تتسع للضد والنقيض في الأساليب والأهداف والقدوات ! فبعض دعوات معرفة الله عن طريق معرفة النفس تتبنى العزلة والرهبنة ، وبعضها يتبنى إصلاح النفس والمجتمع والعمل لتسلم السلطة ، وبعضها يدعو إلى التقيد بأحكام الشريعة حسب هذا المذهب أو ذاك ، وبعضها يدعو إلى تقليد الأستاذ شيخ الطريقة أو أستاذ الأخلاق ، ويدعي له أنه متعمق في العرفان متصلٌ بالله تعالى فيُلهم العقائد والأحكام ولا يحتاج إلى شريعة ! وبعضهم لا يحتاج إلى نبوة !
وبعض الدعوات تجعل قدوتها بعض الصحابة أو الأولياء الذين لم يجعلهم الله ولا رسوله صلى الله عليه و آله قدوة ! وبعضهم يجعل قدوته عرفاء ومتصوفة غير مسلمين . . إلى آخر أنواعهم .
ولهذا ، لو قلنا لإنسان إعرف الله تعالى عن طريق معرفة نفسك ، فمن حقه أن يسألنا : كيف ؟ بجهادها و تعذيبها ؟ أو بتعظيمها ونفخها ؟
أما عندما نقول له : إقتدِ بأستاذك حتى تصل إلى الله تعالى ثم تصير أنت أستاذاً ! فنحن ندعوه الى معرفة الله تعالى بطاعة شخص والتحزب له ، وما أيسر أن يدخل الشيطان في هذا الحزب !
5 ـ لاشك أن النظر في ملكوت السماوات والأرض ، أي فيما يمكن للإنسان فهمه من خلقهما وقوانيهما ويأخذ العبرة منه ، أمرٌ محبوب شرعاً ، يؤثر زيادة الإيمان بالله تعالى ومعرفته . قال تعالى : ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ 13، لكن لم أجد سنداً للحديث الذي ذكره رحمه الله : "المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين" ، وأستبعد أن يكون حديثاً أصلاً !
ثم إن نفس الإنسان جزءٌ من الملكوت والآفاق لا قسيمها ولا مقابلها ، فلماذا لا يكون مقابل معرفة الله بالنفس معرفة الله بالله تعالى ، أو معرفته بأنبيائه وأوليائه ، وآياته الأخرى ، فلا وجه لحصر المقابلة بالتأمل بالآفاق .
وإذا شملت المعرفة بالسير الآفاقي معرفة الله بالله تعالى وبأوليائه عليهم السلام ، فلا يصح تفضيل معرفته عن طريق النفس عليها ؟!
6 ـ ما دامت معرفة النفس طريقاً إلى عبادة الله ، وما دامت عبادته عز وجل غاية الخلق وطريق التكامل الوحيد ، ولا تحصل إلا بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام . فالدعوة إلى تطبيق الشريعة مقدم رتبةً على التأمل في النفس ، وكذلك الإقتداء بالنبي وآله صلى الله عليه و آله ، فلا بد في الدعوة إلى العرفان من دعوة المسلم إلى إطاعة الأحكام الشرعية حسب فتوى مرجع تقليده ، وأن يتخذ من النبي وآله صلى الله عليه وعليهم قدوة وأئمة في المسلك والسلوك . ولذا أجاب أحد الفقهاء الكبار شخصاً سأله : ما هو العرفان وكيف يكون الإنسان عارفاً ؟ فقال : هذه الأحكام الشرعية التي تطبقها يومياً فتصلي وتصوم وتقوم بالواجبات وبعض المستحبات ، وتترك المحرمات ، هي العرفان ، وأنت بسلوكك هذا تمارس المعرفة .
هذا ، وقد بينا عقيدة أهل البيت عليهم السلام في الله تعالى مقارنة بعقائد الآخرين البائسة ، في كتاب الوهابية والتوحيد ، وكتاب ألف سؤال وإشكال على المخالفين لأهل البيت الطاهرين عليهم السلام وكتاب الإنتصار .
وبحثنا بعض مسائل الموضوع في المجلد الأول من العقائد الإسلامية ،
وناقشنا بعض أتباع هذا الإتجاه في شبكات النت :
العقائد الإسلامية ج : 1http : / / www .alameli .org / Library / Aqaed1 / index .asp
موضوع : من المشكل أن ندعو الناس الى معرفة الله عن طريق معرفة النفس :
http : / / www .hajr .us / forum / showthread .php?s=22233404fb16e0b10533de604bc444f4 رحمه الله t=402779407
معنى قول أمير المؤمنين عليه السلام : من عرف نفسه فقد عرف ربه :
http : / / www .hajr .us / forum / showthread .php?s=22233404fb16e0b10533de604bc444f4 رحمه الله t=402780094 رحمه الله highlight=%DD%DE%CF قدس سره %DA%D1%DD قدس سره %E4%DD%D3%E5 {{{{{ كل الروابط المذكورة لا تعمل فلعلها تحذف و يأخذ مكانها توضيح و كلام أو إضافة منكم.}}}}}
ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك
قال أمير المؤمنين عليه السلام في مناجاته : إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك ، ولا رغبةً في ثوابك ، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك ) .
وقد روته مصادرنا وشرحه علماؤنا ، قال ابن ميثم البحراني رحمه الله في شرح مائة كلمة لأمير المؤمنين عليه السلام / 219 : ( قد حَذَفَ كلَّ ما سوى الحق تعالى عن درجة الإعتبار ولم يلحظ معه غيره ، وذلك هو الوصول التام ) .ونسبه السيد الخوئي قدس سره بنحو الجزم ،فقال في البيان / 477 : ( قال أمير المؤمنين وسيد الموحدين صلوات الله عليه : ما عبدتك خوفاً من نارك . . الخ . ) .فلا عبرة بمن نسبه الى رابعة العدوية ، المتأخرة عن عصر علي عليه السلام قرناً ونصفاً ، حيث توفيت سنة 180 14 .
وقد أخطأ بعضهم في فهم معنى حديث أمير المؤمنين عليه السلام ، فتصور أنه عليه السلام ينفي أن يكون عنده خوفٌ من عذاب الله تعالى ، أو طمعٌ في جنته ، مع أنه لا ينفي ذلك ، بل يقول إنه يوجد معهما دافع أقوى منهما في شخصيته عليه السلام هو أن الله سبحانه أهل للعبادة ، وأن هذا الدافع أقوى المحركات في نفسه . وتوضيحه : أن الذي يريد الصلاة مثلاً ، يوجد عنده عادةً أحد ثلاثة دوافع لها : دافعُ الخوف من عذاب الله ، والطمع في ثوابه ، أو دافعُ الرياء . ويوجد عند أفراد نادرين دافعٌ رابع ، هو أنه يحب ربه ويراه أهلاً لأن يصلي له . والحرام هو الصلاة رياء للناس ، والمقبول أن يصلي لله تعالى ، بأي دافع يرجع اليه ، كامتثال أمره أو طلب رزقه أو جنته أو حباً له . . الخ .
وعندما يتحرك الإنسان للعمل بأحد هذه الدوافع فليس معناه عدم وجود الدوافع الأخرى ، بل معناه أن أحدها كان فعالاً ، والباقي موجود مساعد أو غير فعال .
قال الشهيد الثاني قدس سره في روض الجنان / 27 : ( ويجب في الوضوء النية وهي لغة مطلق العزم والإرادة . . .وغاية الجميع التقرب إلى الله تعالى ، بمعنى موافقة إرادته أو طلب الرفعة عنده تعالى ، بواسطة نيل الثواب تشبيهاً بالقرب المكاني ، وكلتاهما محصلة للإمتثال مخرجة عن العهدة ، وإن كان بين المنزلتين بعد المشرقين . وفي حكم الثانية الخوف من العقاب . وإلى الأولى أشار أمير المؤمنين علي عليه السلام بقوله : ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك ) .
والنتيجة : أن عمله عليه السلام بدافع حب الله تعالى واستحقاقه للعبادة ، عملٌ بدافع فوق خوف العذاب وطمع الثواب ، ولا ينفي وجود الخوف والرجاء في نفسه بأعلى درجاتهما ، وإن لم يتحرك بهما .
نقد بعض المثقفين نية التقرب إلى الله تعالى
ما الذي لا يعجب المثقفين المتغربين من اشتراط الإسلام في عمل الإنسان نية التقرب إلى الله تعالى ، ويقبل أن يكون التقرب طمعاً في جنته ، وخوفاً من عقابه ؟
يقولون : إن الموعودات الإسلامية في القرآن والسنة ، تجعل عمل الخير تجارياً ، خوفاً من السوط وعذاب النار ، أو طمعاً في الجنة وقصورها وحورها . بينما العقل يقول : إعمل الخير لأنه خير ، لأنه يرضي ذاتك ويحقق إنسانيتك ، فهذا مستوى أعلى من تجارة المتدينين السوقية ! وهو كلام ظاهره حسن ، لكنه في التحليل خاطئ لأنه طوبائي غير عملي ، فهو يجعل الدافع للعمل تحقيق الذات الدنيوية ، والدنيا لا تتسع لتحقيق ذوات الناس ورغباتهم وطموحاتهم فيقع بينها التعارض والتضارب لا محالة ، لأنه كثيراً ما يكون تحقيق الذات بالإضرار بالآخرين ومنعهم من تحقيق ذواتهم .
وها نحن نرى أن تحقيق الذات بالإضرار بالآخرين حالة سائدة في مجتمعات العالم ومنها المجتمعات الغربية ! وبسببها يكثر في الناس الشر ويقل الخير .
إنه لا حلَّ لهذا التضارب إلا بتطوير مفهوم حب الذات ، وتوسيع حقل تحقيقها ليشمل الآخرة ، وهذا ما يفعله الدين فيجعل عمل الخير والإيثار تحقيقاً للذات في الآخرة الخالدة .
إن نية القربة التي تتسع لخوف العقاب والطمع بالجزاء ، دعوةٌ إلى تحقيق الذات في الآخرة ، وهو أمرٌ مقدس خال من صراعات الدنيا .
إن غريزة حب الذات في الإنسان أقوى الغرائز ، ولا يمكن إزالتها ولا حل إلا تطويرها ووضع قانون التعويض والجزاء في مستقبل الإنسان في حياته الثانية ، وبدون ذلك لا يمكن تحريكه لعمل الخير ولا منعه من عمل الشر .
قد يقال : إن فطرة الإنسان وعقله تكفيان لدفعه إلى الخير ومنعه من الشر .
والجواب : أنه لا يمكن المراهنة على ذلك وإقامة مجتمع عليه ، خاصة وأن نوازع الشر بقدر نوازع الخير : ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ 15. وما دام الدافع الذاتي غير مضمون فلا بد من دافع مضمون يعود على صاحبه بالنفع من عمل الخير للآخرين وكف شره عنهم ، وهذا هو قانون الجزاء الإسلامي بالثواب والعقاب .
ثم ، إن منتقدي الحالة التجارية في عمل الخير ، يدَّعون أنهم يعيشون مشاعر السمو الإنساني ، ويقولون إنا إنسانيون نعمل الخير بدافع تحقيق ذاتنا وإنسانيتنا ، ولا نريد عليه جزاءً ولا شكوراً ، لا من الناس ولا من الله تعالى !
فهل هم كذلك واقعاً ، أم هي لقلقة لسان ، كمدعي العرفان ؟
ولو سلمنا وجود هذا الدافع ( الإنساني ) فيهم ، فهل يُضمن بقاؤه في كل الحالات ؟ ولو سلمنا بقاءه ، فهل المجتمع الذي يراد دفعه إلى الخير كله مثلهم ؟! ثم ، أليس تحقيق ذاتهم الإنسانية وإرضاءها جزاءً معنوياً ، يشبه الجزاء الديني ؟
إن الإسلام دينٌ عملي واقعي ، فكما أنه لا يترك الدعوة لعمل الخير للدوافع المثالية غير المضمونة ! كذلك لا يتخوف من تعبير التجارة والربح والخسارة ، فكل حياة الإنسان وأعماله مبنيةٌ على حساب الربح لوجوده والخسارة !
لذلك جاء نداء الله تعالى لعباده المؤمنين ، بواقعية ووضوح :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ 16.
ويقول عز وجل : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ 17.
تم ، والحمد لله رب العالمين 18 .
____________
1. الإحتجاج : 2 / 48 ، والصحيفة السجادية : 2 / 108 ، ومستدرك الوسائل : 6 / 209 .
2. القران الكريم: سورة الحجرات (49)، الآية: 12، الصفحة: 517.
3. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 82، الصفحة: 317.
4. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 35، الصفحة: 480.
5. نهج البلاغة : 1 / 14 .
6. a. b. القران الكريم: سورة الذاريات (51)، الآية: 56، الصفحة: 523.
7. القران الكريم: سورة هود (11)، الآية: 118 و 119، الصفحة: 235.
8. القران الكريم: سورة الشعراء (26)، الآية: 6، الصفحة: 367.
9. الإحتجاج : 1 / 54 .
10. القران الكريم: سورة الحشر (59)، الآية: 19، الصفحة: 548.
11. a. b. القران الكريم: سورة فصلت (41)، الآية: 53، الصفحة: 482.
12. القران الكريم: سورة الذاريات (51)، الآية: 20 و 21، الصفحة: 521.
13. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 185، الصفحة: 174.
14. سير الذهبي : 8 / 243 .
15. القران الكريم: سورة الشمس (91)، الآية: 7 و 8، الصفحة: 595.
16. القران الكريم: سورة الصف (61)، الآيات: 10 - 13، الصفحة: 552.
17. القران الكريم: سورة فاطر (35)، الآية: 29 و 30، الصفحة: 437.
18. معرفة الله ، العلامة الشيخ علي الكوراني العاملي ، مركز المصطفى للدراسات الإسلامية ، برعاية المرجع الديني الأعلى السيد السيستاني ، الطبعة الأولى 1427 ، الناشر دار الهدى ـ قم ، ص 65 ـ 104 .