الطريق الي خراسان
  • عنوان المقال: الطريق الي خراسان
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 20:0:24 1-9-1403

الطريق الي خراسان

     ليست البداية

    كانت ثلوج « بهمن » ذلك العام تهطل بغزارة، وقد أوى السيد محمد إلى حجرته. صَفَق الباب خلفه، فيما ظلّت الرياح تعصف بشدّة، وعندما يتزامن هطول الثلج مع هبوب الريح يكون الـ « كُولاك »(1) شديد البرودة.. لهذا انصرف السيّد محمد عن فكرة الذهاب إلى منزله مفضّلاً البقاء في حجرته الصغيرة القريبة من باب القِبلة..

    كان يمكنه الانصراف إلى منزله والتبكير في العودة إلى « حرم » السيدة فاطمة.. إذ يتعيّن عليه أن يضيء القناديل في منائر الحرم...

    كان السيد محمد وهو رجل متوسط العمر قد عوّد أسرته ألاّ ينتظروا عودته، فقد يخطر في باله أن يُمضي ليلته في مرقد السيّدة للصلاة والتهجد، فيجد في ذلك حلاوة الإيمان في تلك الظلال الوارفة المفعمة بالسلام.

   كانت الريح الهائجة ذلك المساء وهي تلفح العابرين والمسافرين بالبرد والثلج، قد بذرت في قلب محمد فكرة البقاء واللجوء إلى حجرته الصغيرة الدافئة.

وكانت المدفأة العتيقة تبعث ضوً خافتاً، وتنشر فيما حولها دفئاً.. أسرج قنديلاً صغيراً وجلس في فراشه... وقعت عيناه على بعض الكتب القديمة.. فيها كتب أدعية وبعض كتب التاريخ.. ويظهر في مكان مستقل من الرف المصحف الشريف ملفوفاً بمنديل أخضر.

    وكان من عادته وقد ختم القرآن عدّة مرّات أنه إذا أراد التلاوة أن يُغمِض عينيه ويهمس خاشعاً بالصلاة على محمد وآله، ثم يفتح المصحف الشريف ويقرأ الصفحتين.

   استفتح محمد كعادته في ليالي الشتاء.. فظهرت له سورة « فُصّلت »، وكانت أول آية في أعلى اليمين من الصفحة تحمل الرقم 39.. راح محمد يرتّل بصوت شجي الآيات متأمّلاً ترجمتها باللغة الفارسية.. لأنّه كان يحرص على تدبّر ما يقرأ:

    ومِن آياتهِ أنّكَ تَرى الأرضَ خاشعةً فإذا أنزَلْنا علَيها الماءَ اهتَزَّتْ ورَبَتْ، إن الذي أحياها لَمُحْيِي الموتى إنّه على كلِّ شيء قدير ...

الرياح لا تزال تُزمجر وهي تجوس خلال أزقّة « قم » الملتوية الضيقة، وكان صوت الريح يمتزج مع صوت محمّدٍ وهو يرتّل القرآن ترتيلا:

    ولَو جَعَلناهُ قُرآناً أعجَميّاً لَقالوا لَولا فُصّلَت آياتُه أاعجَميٌّ وعَرَبيٌّ قُل هو للذينَ آمَنوا هُدىً وشِفاء... .

    ولقد آتَينا موسى الكتابَ فاختُلِفَ فيه ولولا كلمةٌ سَبَقَت مِن ربّكَ لَقُضيَ بينهم وإنّهم لَفي شكٍّ منهُ مُريب.. .

    كانت الريح ما تزال تعصف ومحمد يرتّل بصوتٍ شجي آياتِ القرآن... حتى وصل إلى الآية الأخيرة في صفحة اليسار:

    سَنُريهِم آياتِنا في الآفاقِ وفي أنفُسِهِم حتّى يَتبيَّنَ لَهُم أنّهُ الحقُّ أوَ لَم يَكْفِ بربِّكَ أنّه على كلِّ شيءٍ شهيد.. .

    قبّل محمد المصحف بخشوع ووضعه في مكانه.

    دفء الفراش، وزمهرير الرياح وهي تُوَلول في أزقّة المدينة الصغيرة جعلته يستسلم إلى الرقاد مبكّراً..

    الثلوج ما تزال تهطل بغزارة لتغطي كلّ شيء... الأزقة والشوارع والأشجار... أصبحت المدينة أكواماً من القطن المندوف ولم يَعُد يُرى من معالمها شيء.

    لا يدري محمد كم مضى من الوقت عندما هبّ من نومه.. وقد التمعت حبّاتُ عَرَق فوق جبينه! نظر إلى ساعته الفضية القديمة.. كانت عقارب الزمن تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل.. ما يزال الصوت الذي سمعه في عالم الأطياف جليّاً في أعماقه:

    ـ قُم! وأسرِج قناديلَ المنائر..

    نهض من فراشه.. وراح ينظر إلى الثلج المتساقط بغزارة..

    وقد بَدَت مآذنُ الحرم صامتةً تنتظر طلوعَ الفجر..

   انتابه هاجس في أن مارآه في نومه لا يعدو أن يكون أضغاث أحلام.. لهذا عاد إلى فراشه الدافئ لينام..

    مرّة أخرى رأى في عالم الطيف ذاتَ الفتاة وهي تأمره بالنهوض... ولم يَرَ وجهها.. كانت تقف وراء ستائر بيضاء مغمورة بالنور.

   هبّ من فراشه.. كان الصوت يملأ اعماقه، وقد نفَضَ عنه كل أثرِ للنعاس.

   ارتدى معطفه الصوفي وحمل معه القنديل متجهاً إلى السلام.

   انبعث الضوءُ من قلب المنائر.. كينابيع للنور.. وقد بدت من بعيد كما لو كانت فَناراتٍ في مرافئ تعصف بها الريح.

   عادَ محمد إلى حجرته، وكان قد بقي على طلوع الفجر ثلاث ساعات.. شعر بأنّ ذهنه المتيقظ يأبى النوم، وقد هزّته الرؤيا واشعلت في أعماقه آلاف القناديل.. الفتاة التي رآها من خلف الستائر البيضاء المغمورة بالنور، ما تزال تهيمن على ذهنه، ولأول مرّة في حياته اجتاحته مشاعر لا تقاوَم في معرفة المزيد عن تلك العذراء التي ألقَت برحلها في قمّ منذ ألف عام.. الكتب العتيقة المرصوفة فوق الرف وكأنها تدعوه إلى رحلة في عمق التاريخ! وهكذا بدأ محمد رحلته لسبر أغوار زمن سحيق فلّعله يرى عن قرب عذراء قم.

   التاريخ ذاكرة الجنس البشري.. ذلك الشيخ الغارق في السنين والحوادث يفرك جبينه المليء بالغضون ليضيء شمعة في هذا العصر أو ذاك، وفي هذه النقطة من دنيا الله الواسعة أو تلك.. ترى ماذا يحكي عن تلك الفتاة التي جاءت إلى قمّ على قَدَر ؟!

   الرياح الباردة ما تزال تهبّ بشدة، والثلجُ ما يزال يهطل بغزارة وقد غَفَت المدينة الصغيرة.. وحدهم المسافرون في تلك الأرض الغارقة في الليل والثلج، يفتحون أعينهم بصعوبة لينقلوا خطاهم في معالم الطريق... ومحمد جالس في حضرة الشيخ يصغي إلى صمته المدويّ:

 

* * *

    موسى.. وفرعون

    مثلما هبّ موسى بن عمران في وجه الفرعون.. مثلما هبّ في وجه هامان وقارون؛ هبّ موسى بن جعفر في وجه هارون.. هارون الذي قال جدّه من قبل: إنّما أنا سلطان الله في الأرض.. إنه ظلّ السماء في الأرض.. إنه مشيئة الله وإرادته.!

   من أجل هذا نهض موسى بأمر الله ليقول لهارون: لا. جاء ليطالب بفدك.. فدك التي كانت يوماً ما بقعة صغيرة فوهبتها السماء إلى فاطمة لتكون نِحلةً لها.. لتكون إرثاً.. ولتكون فيما بعد رمزاً للميراث المغتصَب والحق المقهور.. رمزاً لكل الأرض الإسلاميّة.

    من أجل هذا نهضت فاطمة بنت محمد... لتطلب حقها في فدك.

    ما اصغر فدكاً فوق الأرض.. وفي الجغرافيا.. وما أوسعها في خارطة التاريخ ؟!

   اهتزت المدينة من اقصاها إلى اقصاها، فقد جاء موسى يطلب ميراث جدته البتول... جاء يسترد فدكاً بحدودها العجيبة: مِن عَدَن إلى سَمَرقند إلى أفريقيا إلى سِيف البحر مما يلي الجزر وأرمينيا...

    اشتعل هارون حقداً. إن موسى يهدد عرشَه.. كنوزَه.. وقصورَه وسلطانه ودولته...

    وقفت فاطمة بِسِنيها الستّ تترقب عودةَ أبيها الذي خرج عند الفجر ولم يَعُد. ليست فاطمة وحدها كانت تنتظر عودة الرجل الأسمر الذي يحمل في وجهه طيوف النبوّات.. بل المدينة بأسرها كانت تترقب ما يريد هارون من موسى.

    كانت تنظر إلى شقيقها عليّ وقد بدا وجهه سماءً تموج بغيوم حزينة. أدركت فاطمة أن أباها سيغيب ولعلّه لن يعود.. ربّما لن تراه ولن تسمع صوته الدافئ.. شعرت فاطمة بالبرد.. بالخوف يملأ أعماقها.. امتلأت عيناها بالدموع حزناً.

    إن موجات الحزن أعمق تأثيراً من هزّات الفرح.. إنّها تحفر أماكنها عميقاً في الذاكرة.. ولا شيء أخلَد في دنيا الطفولة البريئة من مشاهد اليُتم..

لقد فقدت فاطمة أمّها وهي ما تزال طفلةً صغيرة، وها هي تشهد العاصفة.. عاصفة القدر عندما تنتزع الأيدي الغليظةُ أباها الرحيم من أهله وبنيه، لتثقله بالقيود والأغلال.

نظرت فاطمة إلى اخيها.. خُيّل إليها أنها ترى سماءً مُثقَلة بالغيوم... الله وحده الذي يعرف أغوار الحبّ الذي تتدفق ينابيعه الصافية في قلب فاطمة.. فاطمة التي شهدت بأمّ عينيها عاصفة الزمن المرير.

    لقد بدأ زمن الشَّتات.. زمن التشرّد... زمنٌ تصبح تهمةُ الزندقة فيه أهونَ بكثير من أن يقال: هذا من أبناء علي.. من أحفاد محمد.!

    هارون يخشى موسى.. يخشى كلماته... إنّها صدى لكلمات محمد.. لخُطَب علي.

    وقفت فاطمة تودّع من بعيد قافلةً أخذت طريقَ البصرة، وقد خفق قلبها إلى قُبّة تحفّها سيوفٌ ورماح.. إن قلبها لا يُخطئ.

    غابت القافلة في الأفق البعيد.. وكانت السماء ما انفكّت تمطر على هون.

   عادت فاطمة مع شقيقها علي.. عادت تجرجر نفسها وخطاها إلى منزل بدا في ذلك الصباح الغائم خيمة مزّقتها رياح الزمهرير. لقد رحل الاب.. انهار عمود الخيمة.. رحل السلام.. وربما دون عودة. نظرت فاطمة إلى السماء المثقلة بالغيوم والمطر.. انبجست دموع طفولية من عينيها.. دموع تشبه مطراً حزيناً راحت تتساقط بصمت.

   يا لَوعةَ اليُتم في قلوب اليتامى.. ويا لَقسوة الزمهرير، زمهرير الخوف... الخوف من المجهول.

عندما يرحل الأب تصبح الدنيا برداً وصَقيعاً.. تصبح بلا شمس.. بلا دفء ولا نور.

 

* * *

     هواجس هارون

    مضى التاريخ يشعل الحوادث هنا وهناك في دنيا الناس.

    وتمرّ الأيام متتابعة كأمواج نهرٍ تتدافع باتجاه نقطة ما.

    وفي بغداد عاصمة الشرق تربّع هارون، يقود أزمّة الأيّام... يحاول دفع الأيام في الاتجاه الذي يريد، ويأبى التاريخ. جلس هارون يفكّر ويدبِّر، وبدت آثار الإرهاق على وجهه المكدود لَكأنه يصارع قَدَراً لا مفرّ منه.

    ولو قُدّر للمرء أن يجوس خلال القصر تلك الليلة لرأى كيف يسعى الإنسان بكل ما أوتي من قدرة إلى تغيير مسار التاريخ.

   ها هو الرشيد تجتاحه موجة من الأرق المدمّر، الأرق الذي لا يمكن مواجهته برحلة في مياه دجلة ولا ارتياد قصور البرامكة وعبّ كؤوس اللذة.. لقد اندثر البرامكة إلى الأبد، ولم يَعُد الرشيد يستمتع بالليالي الحمراء، فقد غزا جسدَه مرض لا يُعرف دواؤه! واستولى عليه هاجس الخوف على ملكه العريض الممتد من سَمَرقَند إلى حدود إفريقيا؛ وما برحت الغيوم المسافرة تهطل في تلك الاراضي المترامية لتتدفق بعد حين ذهباً وفضة؛ وهارون غارق حتّى هامة رأسه في بحر من اللذائذ فكأنه ( عادٌ ) الذي أراد أن يبني جنته في الأرض!

   ولكن ما باله هذه الليلة مكدّر الخاطر، تعصف برأسه آلاف الهواجس كخنازير وحشية ؟!

   اشار إلى حارس يقف كتمثال:

   ـ علَيّ بالأصمَعي!

   وما أسرع أن جاء فجلس قريباً منه، وأدرك الاصمعي أن هارون يصارع هواجس في أعماقه.. هواجس لا نهاية لها!

   وطال الانتظار، لشدّما يتغيّر الكائن البشري... أين دماء العافية التي كانت تموج في وجهه، لقد غادره ذلك الألق الوردي وحلّت مكانه صُفرة رجل يَحثّ الخُطى نحو رَمسِه.

   غَمغم أمبراطور الشرق:

   ـ ألا تحبّ أن ترى محمداً وعبدالله(2).

   ـ أجل يا أمير المؤمنين، إني لأحبّ ذلك.

   قال الأصمعي ذلك وحاول النهوض.

   تمتم الرشيد:

   ـ مكانك يا أصمعي.. سيأتيان.

  إشارة خفيفة، وانطلق حارس يدعوهما.

  راح الاصمعي بعد أن حضرا يدير الحديث بلباقةِ أديبٍ يعرف كيف ينفذ إلى نفوس الملوك والأمراء.

  تساءل الرشيد وقد ذهب شطرٌ من الليل:

  ـ كيف رأيتهما ؟

  ـ ما رأيت مثلهما في ذكائهما وجَودة ذهنهما، أطال الله بقاءهما، ورزق الأمة من رأفتهما.

ضمَّ الرشيد ولدَيه إلى صدره، وكتم في أعماقه عَبرةً حَرّى.. وعاد الانتظار والترقّب، ونهض الأمين، والمأمون، وهما يتفنّنان في أدبِ مَن يريد مغادرةَ مجلسٍ ملوكي ويوحي لمن يراهما أنهما يَليقان بولاية العهد.

  تداعت مشاهدُ قديمة في ذاكرة الاصمعي.. تذكّر لقاءه الأول بهارون منذ سنين بعيدة... كان الفضل البرمكي يومها رجلاً له نفوذ السلاطين، ولكن يا لَدَورةِ الزمان!

ها هو هارون الذي مَخَر عُبابَ اللذائذ يُهيمن عليه قلقٌ على مستقبل عرشه، تطارده نبوءةُ رجلٍ من أبناء محمد..

سوف تتهدم القصور ويستحيل دجلة إلى نهر من دم، ها هو هارون يقف عاجزاً مستسلماً أمام قَدَرٍ غامض..

وتذكّر الاصمعي تلك الليلةَ الرهيبة التي رأى فيها رأسَ جعفر البرمكي.. ما تزال صورة هارون المتحفزة كالوحش ترعبه.. كانت ليلة رهيبة.. الكلمات المُترَعة تُلهب كيانه:

ـ إلحَقْ بأهلك يا أصمعي!

وخانته قدماه وهو يتقهقر منحيناً إلى الباب ومشى من دون « بَرذونه »، ولكنه عندما تذكر ذلك في منتصف الطريق رفض العودة، فقد يُلقى القبضُ عليه ويلحق بجعفر. وعندها ادرك سرّ وقوف السِّندي بن شاهك ورجال شرطته عند جسر الرُّصافة ذلك الصباح الغائم.. تصوّر في تلك الحِقبة الهائجة أن بغداد ستثور، فالبرامكة ليسوا حمقى عندما كانوا يبعثرون الأموال بمناسبةٍ وغير مناسبة.

ولكن كل شيء عاد إلى طبيعته، واختفى رجال الشرطة من جسر الرصافة، وكانت مياه دجلة تجري تتدافع امواجها كما كانت منذ مئات السنين.. حتّى جثمان جعفر بشقّيه والذي ظلّ عاماً كاملاً اختفى وأضحت جثته رماداً تذروه الرياح.. رياح التاريخ(3).

إن هواجس هارون التي تَقضّ مضجعه تتجسد في الخطر العَلَوي.. فهؤلاء المشرَّدون منذ أكثر من قرن هم مشاريع للثورة.. في كل مكان تطأه أقدامُ علوي تشتعل الثورة، ويتألق حلم الحرّية.

غمغم الرشيد كمَن يُحدّث نفسه:

ـ كيف بك يا أصمعي إذا ظهر تَعاديهما وبدت البغضاء بينهما، ووقع بأسهما بينهما حتّى تُسفك الدماء، ويَودّ كثير من الاحياء أنهم كانوا موتى ؟!

أعادت الكلماتُ الغامضة الأصمعيَّ إلى نفسه، وهتف مأخوذاً بما يسمع:

ـ أهذه نبوءة مُنجمّ يا أمير المؤمنين؟!

قال هارون وفي عينيه حزن ويأس:

ـ بل نبوءة عن الاوصياء.. عن الانبياء!

وأدراك الأصمعي أن هارون يؤمن بكل ما يقوله موسى بنُ جعفر الصادق.

أطرق هارون يفكر، وكمَنْ يحاول تغيير مسار الأقدار.. رفع رأسه وأشار إلى حارس قريب:

ـ علَيّ بالعباسي!

انطوى وقت ما عندما رأى الفضلَ بن الربيع الذي بنى مجده على أحلام زبيدة وتدمير البرامكة.

قال الرشيد قبل أن يستقر في جلسته:

ـ أنت تعرف محمداً وعبدالله، عبدالله أكبر وفيه حزم المنصور ودهاؤه، ولكن محمداً منهمك في ملذّاته منصرف إلى ملاهيه، فان تولّى الخلافة ضاعت البلاد وتبدّد مابنيتُه من الأمجاد.

قال الفضل وهو يعرف كيف يستحوذ على عقل هارون:

ـ يا أمير المؤمنين، إن هذا أمر خطير.. الزلّة فيه لا تُغتفر وللكلام فيه مكان غير هذا.

نهض الاصمعي، ليجلس في زاوية بعيدة من زوايا القصر المُنيف، فيما ظلّ الرجلان يُخطّطان لمستقبل الأيام.

قال الفضل:

ـ لا تنسَ يا سيدي أن أُمّه عربية هاشمية.. أن زبيدة لا تنافسها امرأة في المجد.. ولقد تولّى السفاحُ الخلافة قبل أخيه المنصور وهو اصغر منه لأن أمّه عربية وأم المنصور امرأة من البربر.

إن أهل بغداد وقادة الجيوش والعرب لا يَعدِلون بالأمين أحداً.

ـ والمأمون ؟!

ـ لتكن خلافته بعد أخيه.

ـ إن الأمين سوف يفكّر في إقصائه وتولية العهد لغيره.. لقد رأى بعينيه كيف نَنقُضُ العهود!

ـ لا أظن ذلك يا سيدي، فالعهد مُودَع في جوف الكعبة، ولن يجرؤ أحد على نقض ما يؤسسه الرشيد.

سكت هارون على مضض، وحانت منه التفاتة فرأى نور الفجر(4) يخترق ظلمة الفضاء... وسكتت شهر زاد عن الكلام المباح.

 

* * *

    سقوط الأمين

    مضى التاريخ يُشعل الحوادث، مات الرشيد بعد ربع قرن من الحياة اللاهية، حياة حافلة بكل لذائذ الدنيا الفاتنة، ومات الفضل البرمكي في السجن، مات الرشيد ودفن في طوس، قبل أن يخمد ثورة اشتعل أُوارُها في خراسان.

المأمون في خراسان يترقب ما تتمخض عنه الأيام.. الأمين يعتلي عرش الخلافة، ويبدأ بتحريضٍ من الفضل بن الربيع وزبيدة ومن نفسه الأمّارة بالسوء بتنفيذ خططه في إقصاء أخيه عن ولاية العهد.. ويعلن تنصيب ابنه موسى ويمنحه لقب « الناطق بالحق »!

ويردّ المأمون بإلغاء العُملة التي تحمل اسم الأمين، ويرفض دعوات متكررة للحضور في بغداد.

مئات العمّال ينهمكون ببناء ميادين للصيد حول قصور الخلافة في بغداد، وعمال السفن يبدأون صنع سفن الخليفة الجديد... سفن تشبه سفن الأحلام.

ومياه البحر المتوسط تحمل سفناً إسلامية متوجهة لاسترداد جزيرة « قبرص ».

سيوف الإسلام في الإندلس تسترد « طرطوشة » من « لويس »، ومعارك ضارية على الحدود، وجفاف يبشر بقحط شديد.

ثورة في « حِمْص » ضد الأمين، ثورات في « إفريقية » ضد « الأغالبة » والعيون التي تحلم بالحريّة تبحث عن علَوي مشرّد يفجّر فوهة البركان القادم.

كل شيء يتزلزل تحت الأقدام... لم يكن هناك من شيء ثابت منذ رحيل السلام.

العقول تسقط صريعة تحت بروق المطامع، ورجال من الشيعة يَنفون وفاة الإمام موسى، ويرفضون إمامةَ ابنه عليّ.. يغتالون الحقيقة من أجل حُطامٍ رخيصٍ.. دراهمَ معدودة.

وعلي بن موسى يعلن إمامته لوقف حالة التداعي، ويربك خطط « الواقفية »(5) في تصفية مذهب أهل البيت عليهم السّلام.

ها هو التاريخ يشعل الحوادث هنا وهناك..

وقد انفجر الصراع بين الأخوين الأمين والمأمون.

الأمين يحرّك جيشاً جرّاراً لاحتلال خراسان، فيردّ المأمون بإعداد جيش تحت قيادة « طاهر بن الحسين » فتدور ملحمة رهيبة جنوب طهران ويُهزم جيش الأمين.

وفيما كانت الحرب تدور رَحاها، اشتعلت ثورة في « دمشق » بقيادة « السفياني » مستنصراً بقبائل يمانية.

جيش آخر يغادر « بغداد » تحت قيادة « الأنباري » يصطدم بقوام المأمون في هَمَدان... وينتصر المأمون مرّة أخرى فيعلن خلافته رسمياً.

أصبح مصير بغداد على كفّ عفريت، الجيوش الخراسانية تزحف باتجاه بغداد.. تتساقط المدن، كتفّاحات في موسم قطاف.

جيوش الامين تتراجع إلى بغداد للدفاع عن عاصمة الرشيد.

مئة الف أو يزيدون من اللصوص والمحتالين يتطوّعون ويشتركون في عملية الدفاع عن المدينة المهدّدة.

وطلائع من قوات طاهر بن الحسين تصل إلى بغداد، وتأخذ مواقعها.

المجانيق تبدأ قصفَها المدينةَ المحاصرة وتدكّ مواقع المدافعين. بغداد بين نارين نار في الشمال ونار في الجنوب، ودجلة يجري غير مكترث بما يجري، ونسائم أيلول تبشّر بشتاء قارص، والرياح تجري بغير ما تشتهي « حَرّاقات » الأمين(6).

أرخى المساء ستائره على بغداد، وقذائف المجانيق تشتعل في سماء المدينة المحاصرة كشُهُب العذاب.

الأمين في قصره على ضفاف دجلة، وألحان موسيقية تنساب كمياه دجلة، كانت القذائف الملتهبة تسقط قريباً، وتفرّ بعض فتيات القصر مذعورات، وكانت زبيدة تراقب قلقةً ابنَها الذي سينطفئ.

سقطت قذيفة مشتعلة، وتطايرت الشظايا لتسدل الستار على آخر حفل ملوكي للأمين.

نهض الخليفة المهزوم ليواجه قَدَره، لقد فرّ وزيرُه الفضل بن ربيع وتركه وحيداً.

سوف تسقط بغداد في يد « ابن مراجل »، وسينعم بلذائذ لا نهاية لها.

أمر الخليفة بنقل أُسرته إلى قلعة المنصورة، وكانت حلقة الحصار تشتد.

وفي غمرة الليل البهيم اشتعلت النار في قصور الخلافة.. قصور بناها المنصور والمهدي، والرشيد، تلتهمها النار... الأمين ينظر من فوق « المنصورة » إلى الحرائق، فتحترق معها أحلامه.

ابن الرشيد تموج في أعماقه رغبات مجنونة، وحملته ذاكرته إلى مشاهد من حياة أبيه اللاهية، وما رَوَته له زبيدة من أقاصيص هارون، وحكاياته، وها هي المجانيق تُحرق كل شيء.. أحلامَه وآماله ورغباته التي لا تنتهي و... حياتَه وهو بعدُ لم يبلغ الثلاثين.

وفي لحظةِ يأس مرير، وفيما كان قادته يفرّون تحت جنح الظلام.. كتب الأمين إلى « هَرثمة » قائد القوّات الشمالية يسأله التوسط لدى أخيه، مقابل التنازل عن الخلافة.

وجاء الجواب: لقد « بَلَغ السَّيلُ الزُّبى »، و « شَغَلَ الحليُ أهلَه أن يُعارا »، مع ذلك فاني مجتهد في الاصلاح وسآخذ لك عهداً وثيقاً يحفظ لك حياتك، ولكن توجه إليّ ليلاً لنتباحث في الأمر »(7).

حل المساء تلك الليلة من أُخريات « المحرّم »، ونسائم أيلول الباردة تحمل رائحة النخيل الذي يحف بدجلة كأهدابِ حورية.

ارتدى الخليفة ثياباً بيضاء وارتدى فوقها طيلساناً اسود اللون لإضفاء الصفة الرسمية كملك عباسي.

وشهدت النخيل موكباً صغيراً فيه شُبّان وفتيات يتجهون نحو « الحرّاقة الأسد » في مرساها بدجلة.

لقد فضل الأمين ركوب زورقه الملكي، فربما يكون له هيبة الليث وحصّة الأسد.

وبدأ أسد البحر يشق أمواج دجلة صوب الشمال، وأشار إلى جارية أن تغنيه أبيات «أبي نؤاس » التي دشّن بها زورقه العجيب، وراحت الكلمات الشاعرة تتناثر فوق ضفاف دجلة:

سَـخّـر اللهُ لـلأمـيـن مطايـا                لم تُسخّـَر لصـاحبِ المحـرابِ

فـإذا ما ركـابُـه سِـرنَ بـرّاً                 سـار في المـاء راكباً ليثَ غابِ

عَجِب الـنـاسُ إذ رأوك علـيـهِ                         كيفَ لو أبصروك فوق العُقابِ ؟!

ذات ظُفـر ونَسـر وجنـاحيـن              تشـق العُبـابَ بعـد العبـابِ(8)

 

    اشتعلت في اعماقه رغبة في أن يعانق غلامَه الأثير(9)، ولكنه ترك ذلك لحين عودته.

    توقفت المجانيق عن قصفها، وساد الهدوء تلك الليلة المتوتّرة، وخامر زبيدةَ شعورٌ بأنّ المحادثات قد اسفرت عن نتائج طيبة، ولكن قلقاً مدمّراً يعصف بقلبها، إن قلب الأم لا يخطئ!

كان الأسد النهري ما يزال يشق طريقه وسط الأمواج المتدافعة صوب البصرة، فجأة من قلب الليل والمياه المتدافعة اندفعت اشباحٌ مخيفة كالتي يرويها البحارة القادمون من المحيط الهندي.. حدث كل شيء بسرعة فقد اهتز المركب الاسطوري.. ووجد الخليفة الشاب نفسه في قبضة عمالقة أولي بأس شديد.

انبعثت صرخات مذعورة من الفتيات، وأُلقي القبض على الخليفة الذي شُدّ وثاقه بغلظة؛ واستدار الزورق منحدراً باتجاه الجنوب إلى حيث تربض قوّات طاهر بن الحسين وتترقب لحظة الاقتحام بشهوةِ مَن يريد استباحةَ آلاف الجواري الحِسان.

وفي لحظة يأس القى الخليفة العابث نفسَه وسط أمواج دجلة لتبتلعه المياه، ولكن عمالقة الانس انتشلوه، حتى لا تُنسَج حوله الاساطير.

وفي غمرة تلك الليلة العاصفة سقط رأس الخليفة العباسي السادس ليصلب على برج بغداد(10).

 

* * *

     فاطمة.. تُحدِّث

     ليس هناك ما هو اكثر مرارة من أن يشهد الإنسان لحظات الانهيار.. انهيار الاشياء.. اهتزاز ثوابت الزمن.

كل شيء بات يهتز.. وخَفَت صوتُ الانسان لتنبري عشراتُ الاصوات الغامضة.. الاصوات التي تستمد قوّتها من غرائز كامنة في النفس البشرية في اللحظة التي يسقط فيها العقل أمام بريق الاطماع.

    الدنيا دوّامة تدور بأهلها، إِعصار فيه نار... في ذلك الزمن الرديء حيث يهتز كل شيء تحت وَقْع سنابك خيلٍ مجنونة، وقف الرجل الذي ناهز الخمسين من عمره... عيناه تسافران في سماء لا انتهاء لها، وكفّاه ممدودتان إلى حيث تتجه القلوب في اللحظات التي توشك فيها الأمواج أن تحطّم سفينة تائهة... كلمات هادئة متضرعة متوسلة إلى الله:

ـ « يا مَن دَلّني على نفسه، وذلّل قلبي بتصديقه.. أسألك الأمنَ والايمان »(11).

دخلت فاطمة.. جلست قرب شقيقها تستشعر الطمأنينة في عالم يموج بالرعب، تتشرّب الخير في عالم يعج بالشرور...

يتألق في عينيها حزن مرير.. حزن يمتد إلى رُبع قرن هو كل حياتها المفعمة بالحزن.

ما تزال تتذكر منذ عشرين سنة اللحظات التي أخذوا فيها أباها الطيّب إلى بغداد... لم تَرَه منذ ذلك الوقت، هل تنسى اللحظة التي فارقت أمُّها الحياة ؟! كانت ليلة شتائية أيضاً.. ليلة قارسة البرد لم تجد فيها دفءً إلاّ قرب شقيقها عليّ.

وها هو عليّ في قلب الإعصار.. تماماً في المنطقة الساكنة.. في النقطة المركزية حيث تنعدم الحركة الإعصارية.

وكانت فاطمة التي لم تجد كُفءً لها منذ أمد بعيد.. ترنو إلى الإنسان الذي تشعر بحضرته أنها أكثر قرباً من الملكوت.. ملكوت السماوات البعيدة، ففي حضرته تشعر فاطمة بتجاوز حدود الذات، لتستحمّ روحها في بُحيرة من ذلك النور الذي يسطع في القلوب.

لَكأنّ آلاف القناديل تُسرَج في أعماقها.

هكذا تعيش فاطمة لحظاتٍ قربَ شقيقها الوحيد.

 

* * *

    البركان الذي انفجر بمكّة تصل هزّاته إلى مدينة الرسول.. لقد ثار محمد بن جعفر(12) وقُمعت الثورة في مهدها، وها هي خيول المأمون الخليفة السابع تتجه إلى المدينة للانتقام من العلويين.

« الجَلودي »(13) الرجل الغليظ القلب يقود جنوده لنهب دُور الطالبيين في المدينة الخائفة.

الخيول الغازية تدخل المدينة وهدفها نهب بيوت الطالبيين ومصادرة كل ما يملكون، وفي رأس الجلودي الغليظ أوامر شخصية من الخليفة العباسي السابع تقضي بسلب النساء الحلل والحليّ فلا يَدَع لهن إلاّ ثوباً واحداً يرتدينه.

وعمّ الرعب... كل شيء يهتز، الخيول الغازية لا تعرف المقدسات، والجَلودي يمضي في تنفيذ مهمته.

نهض عليّ لمواجهة الرعب القادم، جَمعَ النسوةَ في حجرة واحدة، ووقف لمواجهة السلاّبين.

قلب فاطمة هو القلب الوحيد الذي وسِعَ كلَّ ما يموج في تلك الحجرة من آلام. وذاكرتها مشحونة بكل الملاحم الخالدة، بكل ذلك التاريخ المثقل بالحزن.. بكل اللحظات المريرة التي عانتها المرأة: آلام خديجة، هجرة فاطمة، وأحزان زينب.

ما تزال العاصفة الهوجاء تصفر بغيظٍ تريد أن تجتثّ شجرةً طيبة أصلُها ثابت وفرعها في السماء.

وسمعت فاطمة وهي مستغرقة في تداعيات الزمن الراحل حواراً عند باب الدار:

قال صوت فيه غلظة الجلاّدين:

ـ إنني أنفّذ أمر الخليفة.

أجاب صوت هادئ:

ـ إذا كان هدفكم سلب النسوة فسأقوم نيابة عنكم بذلك.

قال الصوت الغليظ:

ـ ومن يضمن لي أنك تفعل ذلك.. إن أوامر الخليفة تقضي بسلب النساء حُلَلهنّ وحليّهن إلاّ ثوباً واحداً.

قال الصوت الملائكي:

ـ أقسم لك أنني سأفعل ذلك.

نظر « الجَلودي » إلى الرجل العلَوي.. رأى في عينيه إصراراً وثباتاً أين منه الجبل، أدرك أنّه إذا اقتحم المنزل عُنوةً فإنّه سيدفع ثمن ذلك باهضاً، قد يتفجر الوضع... إنه لم يقابل في حياته انساناً يقف هادئاً في مواجهة سيوف مُصلَتة، رأى كثيراً من الرجال ينحنون أمامه، يطلّ من عيونهم رعب وخوف.

أمّا الآن فإنه يقف أمام انسان آخر.. انسان تطلّ عيناه على أعماق مغموره بالسلام!

أشار الجَلودي إلى جنوده بالانسحاب، والتَفتَ إلى الرجل الذي ناهز الخمسين قائلاً:

ـ سأنتظر.

دَلَف عليّ إلى باحة الدار ثم إلى حجرة في زاوية منه، ونظر إلى نسوة وفتيات.

القلوب الصغيرة تخفق.. تصغي إلى صهيل خيول مجنونة. أدركت فاطمة ما يموج في قلب أخيها... إن اصعب شيء على رجل أن يسلب امرأة حليّها.. أن ينتزع قُرطَيها وقلادتها وأساورَ من يدها.. من أجل هذا تقدّمت فاطمة لتحطّم تلك اللحظات المفعمة بالمرارة.

انتزعت قُرطَيها وقلادتها وأخرجت ما في كفّيها من أساور من فضة وقدّمتها إلى أخيها، وسرعان ما انتقلت هذه الخطوة إلى سائر النسوة، فتجمعت في كفَّي عليّ المبسوطتين الحُليّ والحُلَل، فانطلق بها إلى الذئاب المتربصة عند عتبة الباب.

وهكذا مرّت العاصفة الصفراء، تحسب نفسها قد اجتثّت كل ما يقف في طريقها، لم تعبأ بزهر البنفسج المبثوث هنا وهناك من الأرض، يبعث بشذاه في الفضاء الواسع دون أن يلتفت إليه أحد.

وفي تلك الليلة الشتائية، وفيما كان الجلودي يبتعد عن الدار.. جلست فاطمة تحدّث مَن اجتمعن حولها التماساً لدفء الكلمات المقدسة... قالت فاطمة:

ـ حدّثتني فاطمة بنت علي بن الحسين قالت:

حدثتني فاطمة بنت الحسين بن علي قالت:

حدثتني أم كلثوم عن أمها فاطمة بنت النبيّ صلّى الله عليه وآله قالت:

« أنَسِيتم قولَ رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم غدير خمّ: مَن كنتُ مولاه فعليّ مولاه... وقولَه عليه السّلام: أنت مني بمنزلة هارون من موسى »(14).

والتفتت فاطمة إلى فتاة صغيرة تتألّق في عينيها النَّجلاوَين أقمارٌ ونجوم:

ـ اكتُبي يا ابنةَ أخي. اكتُبي حتى لا يَضيع ميراثُ الانبياء.

سكتت فاطمة.. كانت تدرك أن هذا الاعصار القادم من ( مَرْو ) يريد اجتثاثَ عليّ.. عليّ الذي ما يزال يقاوم عواصف الزمن... عليّ الذي يخفق في قلوب الأحرار والمقهورين.

من أجل هذا قالت:

ـ حدّثتني فاطمة بنت جعفر الصادق قالت:

حدّثتني فاطمة بنت محمد الباقر قالت:

حدثتني فاطمة بنت علي بن الحسين قالت:

حدثتني فاطمة بنت الحسين قالت:

حدثتني زينب بنت فاطمة قالت:

حدثتني فاطمة بنت رسول الله قالت:

سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول:

« لَمّا أُسري بي إلى السماء دخلتُ الجنة، فإذا أنا بقصر من دُرّة بيضاء مُجَوّفة، وعليها باب مُكلّل بالدر والياقوت، وعلى الباب سِتر، فرفعتُ رأسي فإذا مكتوب على الباب: لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله، علي وليّ القوم. وإذا مكتوب على الستر: بَخٍ بَخٍ مَن مِثلُ شيعةِ علي ؟!

فدخلتُه فإذا أنا بقصر من عقيق أحمر مُجوّف، وعليه باب من فضة مكلّل بالزبرجد الأخضر، وإذا على الباب ستر، فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الباب: محمد رسول الله، عليّ وصيّ المصطفى. وإذا على الستر مكتوب: بَشِّرْ شيعةَ علي بطِيبِ المولد.

فدخلته فإذا بقصر من زمرّد أخضر مُجوّف لم أرَ أحسنَ منه، وعليه باب من ياقوتة حمراء مُكلّلة باللؤلؤ، وعلى الباب ستر، فرفعت رأسي فإذا مكتوب على الستر: شيعةُ عليّ هم الفائزون.

فقلت: يا حبيبي جبريل، لمن هذا ؟!

فقال: يا محمد، لابن عمّك ووصيّك عليّ بن أبي طالب..

يُحشَر الناس كلهم يوم القيامة حُفاةً عُراة إلاّ شيعةَ علي، ويُدعى الناسُ بأسماء أمّهاتهم إلاّ شيعة عليّ، فانّهم يُدعَون بأسماء آبائهم.

فقلت: يا حبيبي جبريل، وكيف ذاك ؟

قال: لأنّهم أحَبّوا عليّاً فطابَ مَولدهُم »(15).

وانبثق شلاّل من حبّ إلهي يملأ القلوب بهجةً والنفوسَ شفافية.. إن الدنيا ستصبح جحيماً لا يطاق إذا اختفى ذلك الأمل الحقيقي بغدٍ أفضل.. غدٍ آخر مليء بالنور والربيع.

 

   هواجس دفينة

   جلس « الفَضلُ بن سَهل »(16) مسترخياً بين الأرائك الوثيرة مستمتعاً بدفء شمسٍ خريفية، ويحتسي على مهلٍ وتلذذ عصيرَ الرمّان بعد تلك الرحلة الممتعة في مراعي « مَرْو ».. مرو التي غَدَت عاصمة الدولة المترامية الأطراف.

وفي كل مرّة يتناول فيها عصير الرمّان يشعر بحيوية شابٍّ في الثلاثين بالرغم من إطلالته على الستّين.

أوقد خادمٌ تركي النارَ في الموقد لإشاعة الدفء، فنسائم الخريف تبشّر بشتاء قارس.

راح الفضل يحدّق في ألسنة النار، وداخله شعور بالرهبة والخضوع!

أعاده صوتُ الحارس إلى نفسه:

ـ إنّ أمير المؤمنين ينتظر.

نهض بسرعة.. لا يريد أن يتأخر، فالمأمون ينوي الذهاب إلى الحمّام على التقاليد الفارسية، وقد تقرّر أن يتخلّى المأمون اليوم عن الزِّيّ الأسود مستبدلاً به الأخضر، وسيكون لهذه الخطوة صداها ليس في مرو وحدها بل في البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وقد يبقى صداها في التاريخ أيضاً!

شعر بالغرور وهو يُلقي نظرةً على صَفّين من الحرس وقفوا كالتماثيل، سوف يضرب ضربته بهؤلاء الذين لا يعرفون سوى الطاعة.. السمع والطاعة. إن الفشل البرمكي لن يتكرر هذه المرّة... ومرو ليست بغداد.

والفضل بن يحيى(17)، ليس كالفضل بن سهل...

في الطريق كان يفكر في المناسبة التي يمكنه أن يثير فيها الحديث عن فكرة المعتزلة في خلق القرآن(18) التي بدأت أفكارُها تهبّ شرقاً وغرباً.

إن الهاء الأمّة بمعارك فكرية يسهّل السيطرة عليها واقتيادها.

غادر المأمونُ الحمّامَ في موكبٍ مهيب، وبدا بزِيّه الاخضر مَلِكاً فارسياً جليلاً، واحتفّت الجماهير حوله تتطلع.

كان الفضل يتطلّع إلى الخليفة السابع كما يتطلّع الصائغ إلى قلادة ذهبية صاغها قبل قليل، أو نحّات إلى تمثال ربّما سيُعبد غداً!

كل شيء يمضي على ما يُرام.. إن طائر السَّعد قد حطّ على كتفه وسوف تسقط الدولة كلّها في قبضته كتفّاحة ناضجة.

وفي تلك الليلة ـ وقد مضى شطر من الليل ـ جلس المأمون مجلسه المسائي مع وزيره ذي الرئاستين.

أحضرَ الخدمُ صندوقاً من خشب الأبنوس، يحوي بَيادقَ مصنوعة من عاجِ فِيَلة هندية.

كان المأمون يراقب الخادم وهو يصفّ الجنود والقلاع والفيلة وقد انتصب المَلِكان والوزيران استعداداً للمواجهة.

وبدا واضحاً منذ البداية أن الفضل كان يُجنّب وزير اللعبة المواجهة المباشرة، وكان يكتفي بتحريك بيادقه من فيلة وقلاع وجنود.

سعى المأمون أن تبدو لهجته عادية عندما قال:

ـ هل من أخبار جديدة ؟

قال الفضل متصنّعاً ابتسامة:

ـ ليس هناك إلاّ الخير يا أمير المؤمنين.. لقد استوسقت لك الخلافة.. كل شيء يمضي على ما يرام.

رمَقَه المأمون بطرف عينه:

ـ أنت لا تنتظر إلاّ إلى بغداد.

ـ إذا دانت لك بغداد يا سيدي دانت لك الدنيا.

ـ أنا لا أخشى بني العباس.. كل ما أخشاه هم أبناء عليّ.

ـ لقد أخمد الرشيدُ أنفاسَهُم.. وبالأمس رأيتَ محمد بن جعفر كيف يخلع نفسه ذليلاً في مكة ويعترف لك بالفضل.

ـ والمدينة ؟!

ـ ليس فيها أحد!

ـ وعليّ بن موسى ؟!

ـ لم أسمعه يتحدّث بشأن يُخيفنا.. إنّه ساكت.

قال المأمون وهو يحرّك وزيره:

ـ ان سكوته يرعبني!

ـ لا أفهم ما تقول!

ـ أنت لا تدري من هو!.. ما زلت أتذكّر كيف هبّ الرشيد لاستقبال أبيه.. لقد اعترف لي الرشيد بأنه أحقّ بالخلافة والمُلك منّا.

ـ ولكنّ هذا لا يعرفه أحد!

ـ كثيرون يعرفون ذلك.. نحن وهم وكثير من الناس.. حتّى هؤلاء المعتزلة الذين تُطريهم... يتقرّبون يوماً بعد يوم من القول بأفضلية عليّ بن أبي طالب وحقّه، وهذا يعني الكثير.

انتهت اللعبة كالعادة لا غالبَ ولا مغلوب. تثاءب المأمون ونهض الفضل مستأذناً، خَمَد بَريقُ عينيه، لكأنّ شيئاً يتهاوى في أعماقه. إن هذا الشاب الذي أعدّه سُلّماً لمجده يفاجئه هذه الليلة بعقل جبّار ودهاء أين منه دهاء أبيه الرشيد وجدّه المنصور ؟!

 

* * *

     ليلة قلَق

    لم ينم المأمون تلك الليلة، كان يفكّر.. يفكّر في أولئك المشرّدين من ابناء عليّ وفاطمة، كل رجل منهم يحمل مشروعاً للثورة، لكأنهم شظايا ملتهبة، تتناثر من بركان خفي.. بركان يشبه قلباً يتفجّر بعواطف لا نهاية لها..

ما يزال يتذكر ثورة «ابن طَباطَبا»(19)، التي كادت تطوي بساط العباسيين إلى الأبد.

هتف المأمون من أعماق نفسه:

ـ النار تحت الرماد!! ماذا أفعل.. يا لَلقدر.. يا لَقدَرالسابع من «ولد العباس»!

من يرى المأمون تلك الليلة وهو يطلّ من خلال النافذة على حدائق القصر يحسبه شبحاً من أشباح الليل.. كان يفرغ كأساً من النبيذ في أعماقه، وقد سرى دبيبُ خَدَر كقوافل من النمل لا نهاية لها...

تمتم كأنه يحدّث نفسه، ولعلّه كان يخاطب شخصاً يتخيّله:

ـ هؤلاء الحمقى لا يفهمون ما أفعله.. يظنون بغداد كل الدنيا لا يعرفون ماذا يجري في المدينة ومكّة والبصرة والكوفة وفي خراسان!!

لا أحد يعرف ماذا يموج في قلب المأمون... ذلك الشاب الذي وجد نفسه بالرغم من كثرة جيوشه وحيداً، لقد خسر الفوز بثقة العرب بعد مقتل الأمين، فالناس لا يغفرون لقاتل الأخ فكيف إذا كان المقتول ابن زبيدة العربية العباسية؟!

كان يعاني هواجس مدمّرة، فالبرغم من مصرع الأمين ولكن أحداً لا يعترف به خليفة، بغداد ما تزال غاضبة، والكوفة ترنو إلى ثائر علوي آخر، والمدينة ومكّة والبصرة مترددة، والشام يترقّب.

لقد اهتز الحق العباسي في الحكم وارتفعت همسات تدعو إلى أهل البيت... في ظلّهم تتحقق عزّة الإسلام والعرب.

لم تبق سوى خراسان أملاً، فهذا النسب الضعيف من أمّه قد ينفع في وقوف خراسان إلى جانبه..

خراسان مخزن الرجال الاشدّاء.

ولكنّ هؤلاء الفرس ذائبون في حبّ آل بيت الرسول، وقد بدأوا يدركون أكثر فأكثر مَن هم آل الرسول؟ ولد العباس عم النبي بفضائحهم؛ أم أبناء عليّ وفاطمة ابنة النبيّ عليه السّلام؟

ما تزال ذاكرة الأبناء عن الأجداد تحمل صوراً مشرقة عن رحمة عليّ وعدله.. عن إنسانيته.. وهاهم أولاده يحملون تراثه الانساني.. أفكاره، نُبله، وشجاعته.

وما تزال دعوة «الرضا من آل محمّد» تلوّن أحلام المقهورين في كلِّ شبر من الأرض الإسلامية.

فحبّ عليّ وابنائه أضحى عاطفة إسلامية، حتّى زبيدة كانت تتعاطف معهم فأقسم الرشيد أن يطلقها!(20)

نهض متجهاً إلى خزانة خاصة لا يفتحها غيره ولا يعرف ما فيها أحد سواه.. أخرج دواة وقرطاساً ليكتب.. لا يدري أحد لمن يكتب؟!

ـ «اخبرني الرشيد عن آبائه، وعمّا وجده في كتاب الدولة أنّ السابع من ولد العباس، لا تقوم لبني العباس بعده قائمة، ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته».(21)

وفي تلك الليلة الطويلة وعندما أغمض المأمون عينيه رأى في عالم الرموز والأطياف كثيراً من الأشياء تخطف أمامه كالأشباح الغامضة أمّا هو فكان يهوي في متاهات غارقة في ظلمة كثيفة... ظلمة تشبه بحراً لا قرار له ولا انتهاء.

ورأى نفسه في قارب متهرّئ الأشرعة تعصف به الريح من كل مكان، ورأى حبلاً من السماء إلى الأرض فتعلّق به ليتجه به لا إلى السماء ولكن إلى الشاطئ الصخري القريب... وانتبه من نومه على شمس أيلول ترسل اشعتها من وراء التلال البعيدة.

فكان أول شيء خطر في ذهنه المتيقظ، وهو يحشر نفسه في عالم يضجّ بالوقائع، اسم عليّ.. عليّ بن موسى..

هتف المأمون بصوت فيه آثار سهر طويل:

ـ ألم يحضر هرثمة بعد؟

وجاء جواب حارس من وراء ستائر مخملية:

ـ هو ينتظر منذ الفجر.

ـ عليَّ به!

ـ الآن يا سيّدي؟!

صرخ متضايقاً:

ـ أجل الآن!

وبرقت عينا المأمون حتّى شعر هرثمة أن أشعة نفّاذة تغوص في عظامه، قال متخاذلاً:

ـ السلام على أمير المؤمنين عبدالله المأمون...

ـ... ماذا يُغضب سيدي؟

ـ كفى هراءً.. إنّني اعرف كل ألاعيبك.

ـ لا أدري ماذا تقول؟

ـ تظنّني غافلاً عنك.. ان لي عيوناً تبحلق في الظلام.. أم تظنّني لا أعرف ما قلته للمخلوع (22)؟ وهل أن أبا السرايا قد ثار لوحده.. إنّها دسيستك.(23)

شعر هرثمة أن وراء هذه الاتهامات مؤامرة يحوكها الفضل بن سهل فقال مدافعاً.

ـ أن لهذه الاتهامات جواباً يا سيّدي.

صرخ وهو يشير إلى الحرس:

ـ لا أريد أن اسمع كلمة واحدة.. خذوه.

سقطت الذبابة في بيت العنكبوت، ليس هناك من أمل في الخلاص، سار هرثمة في خطى متخاذلة إلى سجن حقير في «مرو» ليقضي في زواياه المظلمة آخر أيّام حياته.

وبرقت في خاطره صور ملوّنة يوم كان حاكماً في افريقيا، ويوم كان أميراً لخراسان، ويوم وقف الخليفة الأمين أمامه بخضوع يطلب منه التوسط لدى أخيه في انقاذ حياته.. وها هو الآن اسيرٌ في بيت العنكبوت.. لن يهبّ لنجدته أحد ولن ينقذه أحد..

وصادفه الفضل في طريقه إلى قصر المأمون فأراد أن يبصق في وجهه ولكنه تظاهر بالشجاعة فرفع رأسه عالياً.

 

* * *

   التحضير

   دخل الفضل قصر الخليفة السابع وقلبه يرقص فرحاً. لقد انتهى أمر هرثمة وبقي طاهر بن الحسين. إن له يوماً ليس ببعيد وبعدها يضرب ضربته القاضية.

منذ شهور وهو يفكر في خطّة سرّية لا يعرفها حتّى أخوه «الحسن»(24) وها هو المأمون يفكّر فيما يسهّل عليه مهمته..

انبعث بريق مخيف من عينيه سرعان ما تبدد مع أول ابتسامة يتصنّعها أمام المأمون.

هبّ الخليفة الشابّ لاستقباله بابتسامة متصنّعة أيضاً لا تقلّ عن ابتسامة الوزير مكراً.

وعندما أخذ الفضل مجلسه قرب الخليفة بدأت اللعبة، وكلاهما ماهر فيها.

قال المأمون لينفذ في قلب وزيره:

ـ كفيتُك أمر هرثمة وهو الآن في السجن.

ـ أنه لا يخلص لك كما قلت.. أعرف نوايا هؤلاء القادة.

ـ ولكنّ العلويين لا يكفّون عن اثارة القلاقل.. وقد سمعت أن إبراهيم بن موسى الكاظم قد ثار بمكّة، ونقل لي الجواسيس أنه في طريقه إلى اليمن.

وبعد صمت استأنف المأمون حديثه حذِراً:

ـ لقد فكرت كثيراً في الأمر.. إن الخطر الحقيقي يكمن هنا.. في هؤلاء العلويين.. الناس يحسبونهم انبياء ويتناقلون قصصاً عجيبة عن زهدهم.. اتعرف لماذا يا فضل؟

ـ؟!.

ـ لأنّهم يعيشون في الخفاء.. لأنّهم يعيشون بعيداً عن الانظار... فلو ظهروا اكتشف الناس عيوبهم، ولعرفوا أنّهم لم يرفضوا الدنيا إلاّ لأن الدنيا رفضتهم.

تظاهر الوزير بالبراءة:

ـ ولكن يا أمير المؤمنين انهم لن يظهروا، وكيف يظهرون وقد فعل الرشيد بهم ما فعل.. شرّدهم في بقاع الأرض وها نحن نحصد ما زرعه الآباء.

ركّز المأمون نظره:

ـ أعرف كيف اجعلهم يظهرون.. أمنحهم الأمان.

ـ أنهم لن ينخدعوا بذلك ولن يصدّقوا أبداً.

ـ فإذا جعلت أحدهم وليّ عهدي؟

انتفض الوزير كمن لسعته عقرب.

ـ ماذا ؟! ماذا أسمع ؟

ـ أجل لقد قررتُ أن اجعل أحدهم وليّاً لعهدي، فإذا فعلت ذلك اطمأنوا وظهروا.

ـ ولكن هذا يا سيّدي ينطوي على كثير من المخاطرة. إن بني العباس لم يغفروا لك قتلك أخاك فكيف تريد أن تقضي على مُلكهم وخلافتهم ؟!!

ـ إنني افعل ذلك من أجلهم.. ألا ترى العلويين يثورون في كل مكان.. الناس معهم.. ثمّ ألا ترى عواطف أهل خراسان ؟ انهم يحبوننا لأنهم لا يفرّقون بيننا وبين بني عمّنا... أتنسى مناحات خراسان على يحيى بن زيد ؟ ألم تستمر سبعة أيّام بلياليها ولم يولد مولود ذكر ذلك العام إلاّ سمَّوه يحيى(25)!!

سكت الفضل فيما كان المأمون يتحدث بلا انقطاع:

ـ إنني اصطاد عشرة غزلان بسهم واحد.. وهذا يتوقف أيضاً على فطنتك.

تطلّع الفضل حذِراً:

ـ ؟!!

ـ ألا ترى الخليفة كيف يزهد في الدنيا.. يُسند ولاية العهد إلى أحد أبناء عليّ ؟!..

أجاب الفضل وقد اكتشف خطته:

ـ أجل أرى ذلك!

ـ ألا ترى الخليفة كيف نظر لمصلحة الأمّة واحترم مشاعرها ؟!

ـ أجل أرى ذلك!

ـ ثمّ ألا ترى كيف أن الخليفة عرف الحق وهو يريد إعادته لأهله ؟!

ـ أجل أرى ذلك!!

توقف عقل سهل لكأنما أُصيب بشلل مفاجئ. لم يعد يبرق ذهنه.. انطفأت افكاره في حفرة ابن الرشيد وحفيد المنصور.. ولكنه قال حتى لا يظهر بصورة الاحمق:

ـ ومن سينتخب الخليفة لولاية عهده يا ترى ؟!

ـ عليّ بن موسى بن جعفر الصادق بن ...

انتفض ملدوغاً:

ـ ماذا ؟؟ عليّ بن موسى ؟! الرجل الذي قتل أبوك أباه ؟!

ـ وما في ذلك ؟

اعتصم الفضل بالصمت فوجئ... إنه لا يعرف ماذا يقول... كان يودّ لو أن المأمون نفّذ خطته مع غير عليّ بن موسى، صحيح أنه لا يعرف عنه شيئاً ولكن جهله بهذا الرجل جعله يتوجس مما يقدم عليه المأمون.

قال الخليفة قاطعاً خيوط افكاره0:

ـ إذا لم نفعل ذلك فان كثيراً من (آباء السرايا) سيظهرون هنا وهناك ما دام يوجد علويّ يرفع راية الثورة.

ـ!!!

ـ ماذا يا فضل ؟! ما عهدت عنك السكوت ؟!

ـ الخليفة المأمون يعرف ماذا يفعل!!

ـ وإذن فأنت موافق يا وزيري العزيز ؟!

ـ أن هذا يُثقل أوزاري عند أهل بيتك في بغداد!

ـ ولكنّه يزيد في شأنك لدى أهل خراسان.. لا تنسَ هذا يا ابن سهل!

استغرق المأمون في بحر من أفكار لا نهاية له، فأطرق ينظر إلى سجّادة فارسية زاخرة بالنقوش والألوان، وأدرك الفضل أن عليه أن ينسحب تاركاً الخليفة مع غزله الجديد!

ولم ينقضِ ذلك اليوم حتى أدرك رجاء بن الضحّاك(26) طبيعة مهمته القادمة في المدينة المنورة!

منذ مصرع «الجَعْد»(27) الذي ذُبح في عيد الاضحى، وحركة التأويل والتفسير تأخذ طريقاً جديداً.. طريقاً بعيداً عن روح الكلمات... وراح الذين جاءوا بعده يستنطقون ظاهر القرآن وحده أمّا روحه.. أمّا الاعماق... فقد ظلت بعيدة عمّن يسبرها، ويغوص فيها.. وتلك محنة النص القرآني. إنّ الذين تلقَّوا كلمات الله تلقَّوها شرارة للروح وجمرة متوقدة في الذهن، ومضت أجيال وأجيال، وجاء جيل لم يرَ من القرآن سوى كلمات وحروف، لا روح، ولا جوهر ولا مكنون.

وجاء ابن الجهم(28) ذلك المساء الخريفي إلى منزل في المدينة جاء يحمل اسئلة العصر الجديد، وقد سطع نجم المعتزلة في سماء الفكر حيث التفسير بالرأي والاستناد إلى الاعتبارات العقلية(29) والاستنطاق الظاهري هو القاعدة.

 

* * *

    الحجرة الطينية تفوح برائحة الأرض المرشوشة بمطر ربيعي، وفي زاوية من الحجرة جلس عليّ بن موسى وقد أطلّ وجهه الاسمر الوضيء كقمر في ليلة صيفية... وفي الحجرة رجال عديدون جاءوا من أصقاع متعددة وكل يحمل اسئلته واسئلة غيره.

ونظر الإمام إلى رجل قادم من الحدود مع الروم، اعتدل الرجل في جلسته وسأل:

ـ قوم من العدوّ صالحوا ثمّ نقضوا الصلح، فهاجمهم حرس الحدود، وسَبَوا نساءهم وأطفالهم، هل يجوز شراؤهم ؟

سأل الإمام عن بواعث نقضهم الصلح:

ـ ولمَ نقضوا ؟ أحقداً وعداءً للإسلام، أم انهم ظُلِموا وقُهروا فثاروا ؟

«إن كان من عدوّ قد استبان عداوتهم فاشترِ منه، وإن كان قد نفروا وظُلموا فلا يباع من سبيّهم».(30)

وسأل آخر ربما كان قادماً من بغداد:

ـ إن أُختي أوصت قبل موتها بمال أقسّمه على قوم من النصارى، فأردت أن أصرف ذلك إلى قوم مسلمين ؟

أجاب الإمام:

ـ أمضِ الوصية على ما أوصَتْ به، قال الله تعالى: فإنّما إثمُهُ على الّذينَ يُبَدّلونَهُ (31)

وسأل شاب:

ـ أيّ الاوقات أنسب في التزويج ؟

ـ من «من السنّة التزويج بالليل، لأنّ الله جعل الليل سَكَناً، والنساء إنّما هنّ سَكَن»(32).

وسأل رجل متوسط العمر:

ـ هل يجوز للرجل أن ينظر إلى شعر أخت زوجته ؟

ـ لا، إلاّ أن تكون من القواعد.

ـ أخت امرأته والغريبة سواء ؟!!

ـ نعم(33).

وسأل رجل من الكوفة:

ـ هل يحلّ للرجل التمتّع باليهودية والنصرانية ؟

ـ يتمتع الحرّة المؤمنة، وهي أعظم حرمة.

وسأل آخر:

لصّ دخل على امرأة وهي حبلى، فعمدت المرأة إلى سكّين فوَجَأتْهُ فقتلَتْه ؟

ـ هَدرٌ دمُ اللص(34).

وقال آخر:

ـ أيجوز التعرّب بعد الهجرة ؟

ـ «حرّم الله التعرّب بعد الهجرة للرجوع عن الدين، وتركِ المؤازرة للانبياء والحُجَج، وما في ذلك من الفساد وإبطال حق كل ذي حق لعلّة سكن البدو، ولذلك لو عَرَف الرجلُ الدينَ كاملاً لم يَجُز له مُساكنة أهل الجهل، والخوف عليه لأنه لا يؤمَن أن يقع منه تركُ العلم والدخول مع أهل الجهل والتمادي في ذلك»(35).

ونهض رجل ليقدّم إليه سؤاله مكتوباً على رقعة:

ونظر الإمام لحظات ثمّ التفت إلى السائل الذي عاد إلى مكانه قائلاً.

ـ إنّ ذلك عديل للكفر.. إلاّ إذا واسيتَ الفقراء، ودفعت الظلم عن المظلومين(36).

وهيمَن صمت مهيب والعيون تتجه إلى وجه تتألق فيه أنوار النبوّات.

ونطق الإمام دون سؤال فقال:

ـ «إنّ رجلاً سأل أبي: ما بالُ القرآن لا يزداد عند النَّشر والدراسة إلاّ غَضاضَة ؟

فقال: لانّ الله لم يُنزله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل

قوم غضّ إلى يوم القيامة»(37).

تنحنح ابن الجهم وغيّر من جلسته استعداداً لجدل طويل، قال متسائلاً:

ـ يا بن رسول الله، أتقول بعصمة الانبياء ؟

ـ نعم.

ـ كيف نفهم قول الله:

وعصى آدمُ ربَّهُ فغوى ؟ إنهم كسائر البشر في عصيانهم لله، فهذا آدم قد عصى ربّه، وذك يونس يظن أن الله لن يَقْدِر عليه، ويوسف يهمّ بامرأة العزيز، وهذا نبيّه محمّد يُخفي في نفسه ما الله يبديه، أليس هذه كلمات الله تحكي ذلك ؟

بَدَت غيمة حزن فوق الجبين الأسمر، وانسابت كلمات الإمام هادئة مؤثرة مفعمة بحزن سماوي:

ـ لا تَنسِبْ إلى انبياء الله الفواحش، ولا تتأوَّلْ كتاب الله برأيك. إنّ الله عزّوجلّ يقول: ولا يَعلمُ تأويلَهُ إلاّ اللهُ والراسِخونَ في العِلمِ ... إن للقرآن ظاهر وباطن، فأمّا قوله تعالى: وعصى آدمُ ربَّهُ فغوى خَلق آدم ليكون حجّة في أرضه، وخليفة، لم يخلقه للجنّة. وكانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض، وعصمته يجب أن تكون في الأرض ليتمّ أمر الله، فلمّا هبط إلى الارض عُصِم من الخطأ بقوله تعالى: إنّ اللهَ اصطفى آدمَ ونوحاً وآلَ إبراهيمَ وآلَ عِمرانَ علَى العالَمين .

وأمّا قوله عزّوجلّ: وذا النُّونِ إذ ذَهَبَ مُغاضِباً فظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِر علَيهِ (38) فهو إنّما ظنّ بمعنى استيقن أن الله لن يضيق عليه رزقه، أما قرأت قوله تعالى: وأمّا إذا ما ابتلاهُ [ربُّه] فَقَدَر عليهِ رِزقَهُ ؟ أي ضيّق عليه رزقه، ولو ظن أن الله لا يقدر عليه فقد كفر. وأمّا قوله تعالى في يوسف: ولقد هَمَّتْ بهِ وهَمَّ بها (39) فانّها همّت بالمعصية وهمّ يوسف بقتلها أن أجبرَتْه لعظم ما تَداخَلَه، فصرف الله عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله عزّوجلّ: وكذلكَ لِنَصْرِفَ عَنهُ السُّوء والفَحشاءَ (40) يعني القتل والزنا.

أطرق ابن الجهم كأنه يعالج همّاً، ثمّ رفع رأسه قائلاً:

ـ فما تقول في داود وقوله تعالى: وظنَّ داودُ أنّما فتنّاه ، والمفسرون يقولون: إنه كان في محرابه يصلّي فتصوّر له ابليس على صورة طير أحسن ما يكون الطيور، فقطع داود صلاته وقام ليأخذ الطير، فخرج الطير إلى الدار ثمّ إلى السطح، فصعد في طلبه، فسقط في دار «أوريا» فإذا بامرأة أوريا تغتسل فلما نظر إليها هواها، وكان أوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أنْ قدِّم أوريا إلى التابوت، فقدّمه فقُتل أوريا، فتزوّج داود بامرأته»!

وتأثر الإمام بشدّة وتألقت في عينيه الدموع:

ـ إنا لله وانا إليه راجعون، لقد نسبتم إلى نبيّ من أنبياء الله الاستخفافَ بصلاته حتى

خرج في إثر طير، ثمّ بالفاحشة، ثمّ بالقتل ؟!

ـ فما كانت خطيئته يابن رسول الله ؟

ـ إن داود ظن أنه ما خلق الله عزّوجلّ خلقاً هو أعلم منه، فبعث الله إليه ملَكين فتسوّرا المحراب فقالا: خَصْمانِ بَغى بَعضُنا على بعضٍ فاحكُمْ بينَنا بالحقِّ ولا تُشْطِطْ، واهْدِنا إلى سَواء الصِّراطِ، إنّ هذا أخي لَهُ تِسْعٌ وتِسعونَ نَعجَة، ولي نَعجَةٌ واحِدَةٌ فقال أكْفِلْنيها وعَزَّني في الخِطاب فعجّل داود على المدّعى عليه بالحكم فقال: لَقَد ظَلمَكَ بسؤالِ نَعجَتِكَ إلى نِعاجهِ ولم يسأل المدعي البيّنة على ذلك ولم يسأل المدّعى عليه فيقول له: ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم، ألم تسمع قوله تعالى: يا داودُ إنّا جَعَلناكَ خليفةً في الأرضِ فاحكُمْ بينَ الناسِ بالحقِّ ولا تَتَّبِعِ الهوى » ؟

ـ فما قصته مع أوريا ؟

ـ إن المرأة في أيّام داود كانت إذا مات زوجها لا تتزوج بعده أبداً، وأول من أباح الله له أن يتزوّج بامرأة قُتل زوجها كان داود، فتزوّج بامرأة أوريا لما قُتل وانقَضَت عدّتها، فذلك الذي شقّ على الناس من مثل أوريا.

ـ يا سيّدي، فما معنى قوله تعالى يخاطب فيه محمّد صلّى الله عليه وآله وتَخْشَى الناسَ واللهُ أحَقُّ أنْ تَخْشاهُ ؟

ـ إن الله سبحانه عرّف نبيّه أسماء أزواجه في دار الدنيا وأسماء ازواجه في دار الآخرة، وانهنّ أمّهات المؤمنين، واحداهنّ من سمّى له زينب بنت جَحْش وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة، فاخفى اسمها في نفسه ولم يُبْدِه لكيلا يقول أحد المنافقين: انه قال في امرأة في بيت رجلٍ إنها إحدى ازواجه من أمّهات المؤمنين، وخشي قول المنافقين، فقال الله عزّوجلّ وتَخْشَى الناسَ واللهُ أحَقُّ أنْ تَخْشاهُ يعني في نفسك. وإن الله عزّوجلّ ما تولّى تزويج أحد من خلقه إلاّ تزويج حوّاء من آدم، وزينب من رسول الله، بقوله: فلمّا قَضَى زيدٌ مِنها وَطَراً زوَّجْناكَها (41)، وفاطمة من عليّ.

واجتاحت أعماقَ ابن الجهم مشاعر شفّافة، الحقائق تشرق كشموس باهرة، وامتلأت عيناه بدموع لا يعرف سرّها. إن الكلمات التي يسمعها تغسل قلبه وتطهر روحه:

ـ يا بن رسول الله، أنا تائب إلى الله من أن أنطق في أنبياء الله بعد يومي هذا إلاّ بما ذكرتَه.

وكانت فاطمة [بنت الإمام الكاظم عليه السّلام] تصغي من وراء حجاب إلى كلمات أخيها فتتشرّب روحها آيات السماء كزهرة تغمرها أنوار دافئة.

 

* * *

    الرسالة

    كان منظر الغروب سخيّاً بألوانه الشفافة، برتقالي ذهبي، وأحمر متوقّد كموقد شتائي يزخر بالجمر... والمشهد السماوي يبدو ساكناً غير أن السحب المتناثرة في سماء زرقاء كانت تتحرك على هون كزوارق غافية في بحيرة هادئة.

الرياح الخريفية تجوس خلال البيوت وتبشّر بشتاء قارس طويل.

كانت فاطمة تتأمل وجه شقيقها، إنها لم ترَه مهموماً كهذا المساء، لَكأنه ينوء بجبال من الحزن، لا تدري لماذا توهجّت مشاهد قديمة جداً، يوم أخذوا أباها، وأدركت حينها أنها لن تراه بعد اليوم... ربما عرفت ذلك في وجه شقيقها الذي بدا في تلك اللحظات سماءً مثقلة بمطر حزين.

كانت الرسالة التي استلمها الإمام أشبه شيء بعسل مُداف بسمّ، ملساء كأفعى مترعة بسموم قاتلة.

الفضل بن سهل يعرف كيف يَرُوغ بين السطور، ورسالة محيّرة من أكبر مسؤول في الدولة تطلب منه مغادرة يثرب على وجه السرعة لتسلّم مسؤوليته في الخلافة(42)!

وتساءلت فاطمة عن سرّ هذا الحزن ؟ كانت تعي لواعج الانسان الذي يفكّر في المَدَيات البعيدة حيث تتجسد كل آلام الانبياء وأحلامهم. إن المأمون ولا شك قد عرف مصدر التحدّي الحقيقي، فوجد في شخصية مثل الإمام سوف تكشف للرأي العام مدى الانحطاط الاخلاقي للحاكمين، كما ان بُعد المدينة المنورة عن «مَرْو» سيوفر للإمام قدراً من الحرّية، وفي هذا خطر على مؤسسات الحكم القلقة التي ما تزال تهتزّ تحت وقع الاضطرابات والثورات.

فاستدعاء الإمام إلى مَرْو يعني أن المأمون يضرب عشرات العصافير بحجر واحد.

تَمْتَم الإمام بصوت فيه حزن الميازيب في مواسم المطر:

ـ إن المأمون يريد أن يقول للناس أن عليّ بن موسى لم يزهد بالدنيا، وانما الدنيا هي التي زهدت به. أرأيتم كيف يسرع إلى «مَرْو» لما عُرِضت عليه الدنيا ؟!

ولكن هيهات لا أقبل شيئاً من عروضه!

أدركت فاطمة أن أخاها يواجه ثعلب بني العباس، ليس هناك من يفوقه مراوغة ومكراً.. عرفت ذلك من حزن الإمام، ومما تسمعه من الأخبار.

إن لأخيها من المحبة في خراسان وأطرافها ما ليست لغيره، فلو جعله المأمون في الحكم فان ذلك سيضمن له ولاء كثير من الاقاليم؛ وسيكون المأمون قد أثبت للأمّة أنه قد حقّق أعزّ أمانيها.

وطرق خادم باب الحجرة:

ـ إن رجلاً يقول إنه رجاء بن الضحّاك يروم لقاءك الساعة.

التفت الإمام إلى أخته:

ـ هذا رجل بعثه المأمون فيما لا أحب.. إنا لله وإنا إليه راجعون.

ونهض الإمام لاستقباله، ونهضت فاطمة لتغادر حجرة تفوح فيها رائحة الفردوس.

لم يَكَد رجاء يستوي في جلسته حتى قدّم رسالة مختومة من المأمون، فَضّها الإمام والقى نظرة، وعلت جبينه مسحة من الحزن. كان ضوء القنديل كافياً لكي يكتشف رجاء في وجه عليّ عمق محنته، تظاهر بالبِشر:

ـ هنيئأ لك يا سيدي.

أجاب الإمام وهو ينظر إلى الأفق البعيد:

ـ لا تفرح إنّه شيء لا يتمّ!

واعتصم رجاء بالصمت، فهذا العلوي يختلف كثيراً عما صادفه من أولئك الثائرين. إنّه أمام رجل يقرأ صفحات غامضة من المستقبل بل لعلّه يدرك ما يموج في نفسه، فرجاء يعرف نوايا المأمون وأسراراً كثيرةً من خطّته! من أجل هذا نهض على عجَل متظاهراً بالارتياح لأدائه مهمّته.

قال وهو ينحني إجلالاً:

ـ كل شيء سيكون جاهزاً بعد غد.

ـ إذا كان ولابدّ، فمكّة أوّلاً ثمّ مَرْو!

ـ كما تشاء يا سيدي!

واكتسى الوجه الاسمر مسحة من حزن سماوي، إن شيئاً ما يضطرم في أعماقه... شيء ينبئ عن تمزّق جذور وردة في أعماق تربة طيّبة.

ليس هناك ما هو أكثر مرارة من اجتثاث شجرة من جذورها... هكذا كان حزن الرجل الذي مسّته السماء، ان جذوره في هذه الأرض الطيبة تمتد إلى عشرات السنين إلى تلك اللحظة التي حطّ رسول السماء قدمه في يثرب..

ما تزال آثار جبريل في هذه الربوع.. مباركٌ نخلُها، ومسجدها وجبلها الحبيب(43).

وانطوى عليّ على فيجعته، وكان القنديل يلفظ آخر أنواره الواهنة.

لم يكن الرجل المدني قد انتبه من استغراقة عميقة عندما ولج الحجرة صبي في السابعة من عمره(44)؛ كان يحمل إناءً فيه زيت، فالقنديل على وشك أن يخبو وينطفئ، وراح «محمّد» يسكب الزيت في القنديل... وتنفّس الضوء، واتّسعت دائرة النور أكثر فأكثر.

وانتبه الأب الحزين إلى وجود ابنه، الذي ولج الحجرة على أطراف أصابعه احتراما لاستغراقة والده.

نهض الأب وقد تألقّت في سماء عينيه عشرات النجوم.

ـ مرحباً بأبي جعفر.

وانحنى الابن مقبّلاً يد والده، الذي لم يترك له الفرصة فاحتضنه كما تحتضن الأوراق برعماً يستقبل الربيع.

كان القنديل قد استعاد شبابه وراح يرسل نوره ويشيع قدراً من الدفء في الحجرة الصغيرة.

قال الأب وقد مضى شطر من الليل:

ـ تهيّأ يا ولدي للرحيل.

ـ إلى أين يا أبي ؟!

ـ إلى البيت العتيق.

وأراد الصبي أن يبدّد عن قلب أبيه همّاً يعتصره:

ـ أحجّ أم عمرة ؟

ـ لقد أُمرتُ بالرحيل.

ـ يا أبي افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.

ونهض محمّد كما دخل على أطراف أصابعه تاركاً أباه الذي عاد إلى استغراقته مرّة أخرى.

من يراقب عينيه المتألقتين، ويلاحق في غوريهما تكسّرات النور سيدرك سرّ ذلك الحزن السماوي؛ لَكأنّ ذهنه المتوقد يسبح في الآفاق البعيدة، إلى طوس حيث يستنشق «جابر» بن حيان الكوفي(45)آخر أنفاسه في المساء، وإلى حيث صُلب «أبو السرايا» على الجسر ببغداد، وإلى ضفاف دجلة حيث جلس «معروف الكرخي»(46) يتأمل الأمواج المتدافعة ويودّع الدنيا.

بل لعلّه يراقب «معركة النهر» على شواطئ «أرون» أو يهوي في بطون الأودية مع أخيه «إبراهيم» الذي فرّ إلى اليمن وانقطعت أخباره.

إنّ أحداً لا يعرف هموم الرجل المدني... هموم بثقل جبال «تِهامة» و «الحِجاز» و «نجد».

فهناك في مَرْو تنسج العنكبوت بيتاً هو أوهن البيوت(47).

 

* * *

 

    القافلة في غدير خُمّ

    بَدَت المدينة ذلك الصباحَ الغائم أشباحاً، فَقَدت البيوتُ ظلالَها، وغَمَرت الأزقة كآبة... خاصّة ذلك الزقاق حيث بَرَكت النُّوق لتحمل الذين أزمعوا الرحيل قهراً.

وَلَج الرجلُ الذي يخطو نحو الخمسين مسجدَ النبيّ ومعه ابنُه يتبعه كظلّه. كانت السماء تنوء بالغيوم، ودموع تتجمع في عينَي المَدَني.

وقف إزاء القبر الذي يضمّ آخر الأنبياء، مثل غيمة حزينة بدا الرجل الذي يرتدي ثياباً بيضاء.

الذين حضروا اللقاء بَهَرتهم دموعُ حفيدِ محمد! لَكأنّ الحزن ساقية تنساب في خريف الزمن... كان عليّ يستنشق عبير النبوّات. تَماسَك لينهض، وخطا خطوة للوراء ثمّ هوى إلى المكان الطاهر مرّة أخرى، لكأنّ جذوره في تلك التربة حيث أغمض عينيه محمد بسلام.

وتقدّم رجل مِن سجستان:

ـ هنيئاً لك يا سيّدي ما تصير إليه.

ـ ذَرْني.. فأني أخرج من جوار جدّي فأموت في غُربة(48).

وذُهِل الرجل، وانبعث في اعماقه قرار بأن يرافق الرجل ليرى بنفسه كيف تتحقق النبوءات.

وضع محمد كفَّه الصغيرة الدافئة على كتف أبيه، ونهض الأب لَكأنّ دماءً جديدة تنبعث في أعماقه، وأملاً يتجدّد في كيانه.

كانت فاطمة تراقب ما يجري، وشيءٌ ما يشدّها إلى شقيقها.. ليست مشاعر الأخوّة فقط، بل أنها تعيش فجيعة يُتْمها قبل عشرين سنة يوم أخذوا أباها ولم يَعُد، وتُوفّيت أمّها وهي لم تَزَل طفلة بعد.

وقفت فاطمة وقد تجسّدت أمامها فجائع الزمن الرديء كيف يُختَطف أحبّتها، لكأنّ السنين والأيام ذئابٌ مجنونة تتخطّف ماشيةَ أحلامها وهي ترعى في الوادي الأخضر بسلام.

وتفجّر غضب مقدّس في قلبها.. في ذلك الجزء النابض الذي يختصر العالم بأسره.

ونهض الإمام يَمسّ المرقد الطاهر بكفّه ويحتضن ابنه وقد آتاه الله الحكم صبياً:

ـ أمرتُ جميع وكلائي وحشمي بالسمع والطاعة لك، وقد عرّفتك لأوثق أصحابي(49).

نهضت النُّوق، وانتظمت القافلة، وقد يَمّمت سفنُ الصحراء وجوهَها جنوباً شطر المسجد الحرام.

وعندما اجتازت القافلة ثَنيّات الوداع قال الرجل المدني لابنه وهو يحاوره:

ـ « صديقُ كل امرئ عقله، وعدوه جهله »(50).

« أفضلُ العقل معرفة الإنسان نفسَه »(51).

« مِن علامات الفقه: الحِلم والعلم والصمت، إن الصمت باب من أبواب الحكمة... إن الصمت يُكسب المحبّة... إنه دليل على كلَّ خير »(52).

وتقدّم ياسر وكان يعمل خادماً فسمع الإمام يقول:

ـ « أوحَشُ ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواضع: يوم يولد إلى الدنيا ويخرج المولود من بطن أمّه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها، ويوم يُبعث فيرى أحكاماً لم يَرَها في الدنيا، وقد سلّم الله على يحيى في هذه المواطن وآمنَ روعته فقال: « وسلام عليه يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حياً »(53).

وهبّت نسائم شمالية حملت دندنةَ راعٍ يشكو الزمان.

وراحت القافلة تطوي الصحراء.. حتّى إذا وصلت إلى « غدير خُمّ » ألقى المسافرون رحالهم قريباً من عين ينبجس ماؤها من أسفل صخرة ثمّ يسيل في وادٍ فسيحٍ، وقد نبتت بعض أشجار النخيل إثر توقّف المسافرين وتناولهم التمر في الوادي(54).

أشرق القمر بدراً من فوق الرُّبى البعيدة، وأشار الرجل الذي يخطو نحو الخمسين باصبع سمراء:

ـ ذاك موضع قدم رسول الله حيث قال: « مَن كنتُ مولاه فعليّ مولاه، اللهمّ والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه »(55).

وانبعثت الذكريات.. وغمرت المسافرين حالة من الخشوع لكأنّهم يسمعون هُتافَ رسول السماء في هذا المكان. ما تزال الكلمات المقدّسة تدور في الفضاء، ما يزال شذى جبريل وهو يتلو كلمة الله: اليومَ أكملتُ لَكُم دِينَكُم وأتمَمتُ عليكم نعمتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِينا (56).

والتفت علي إلى شقيقته التي كانت تنظر إلى القمر وقد استقر فوق الروابي البعيدة:

ـ لقد سمعتُ أبي يروي عن جدّي الصادق: « إن للهِ حرماً وهو « مكّة »، وان للرسول حرماً وهو « المدينة »، وان لأمير المؤمنين حرماً وهو « الكوفة »، وان لنا حرماً وهو بلدة « قمّ »، وستُدفن امرأة من أولادي تسمّى فاطمة، من زارها فله الجنّة ».

ونظر الصبي إلى عمّته كانت ما تزال تتأمل القمر وقد استغرقت في حالة تشبه الصلاة، وقد جمدت في مكانها.. فيما كانت نسائم المساء تداعب اطرافَ ثوبها الذي يلامس سُمرةَ الصحراء.

وفي تلك البقعة المباركة من دنيا الله.. انبثق شلال من الصلاة، وكانت كلمات الحمد والثناء لله خالق الأرض والسما تتألق في ظلمة الغروب الحالمة، وشيئاً فشيئاً ظهرت النجوم في السماء.

وانصرف بعضهم إلى جمع الحطب، وكان صوت تكسّر الاغصان الجافّة يكسر معه صمتَ الليل.ولم يمضِ غير وقت قصير حتّى أضاء في الظلمة مَوقِدان؛ موقد للطبخ وآخر للنور والدفء، وانطلق صِبيةٌ إلى كثيب رملي نحتته الرياح، ليتخذوا منه مسرحاً للهوٍ بريء.

-----------------------------------

1 ـ العاصفة الثلجية.

2 ـ الدينوري، الاخبار الطوال 388.

3 ـ جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي وزير الرشيد من سنة 177 هـ وحتى 187هـ حيث لقي مصرعه فيما عرف في التاريخ بـ ( نكبة البرامكة ) وتمت تصفيته بطريقة بشعة، صلب جسده شقين كل شق على جسر من جسور بغداد ثم احرقت جثته بعد مرور عام. وقد أثار الحادث تساؤلات عديدة وما تزال، وكانت عليّة ( أخت الرشيد ) قد سألت أخاها عن ذلك فأجاب: لو علمت أن قميصي يعلم السبب لمزّقته تاريخ الطبري 287:8، تاريخ ابن الأثير 175:6، الوزراء والكتاب 189. وكان الاصمعي قد استُدعي من قِبل هارون الرشيد لاحاطته علماً بما حصل، وهو اجراء تحذيري فيما يبدو.»

4 ـ امتدّت المباحثات حتّى الفجر.الأخبار الطوال 389.

5 ـ تيار شيعي كان يظهر ويختفي عبر التاريخ لما رافق أئمّة أهل البيت عليهم السّلام من محن... وأساسه رفض الامامة الجديدة لأي من أئمّة أهل البيت عليهم السّلام والوقوف على الإمام السابق... وقد بلغت فكرة الوقف ذروتها بعد استشهاد الإمام الكاظم عليه السّلام وهو الإمام السابع من أئمّة أهل البيت في سجن « المطبق » الرهيب في بغداد... فقد رفضت ثلّة من الزعامات الشيعية فكرة وفاة الإمام الكاظم، وبالتالي رفضوا الانقياد لامامة علي بن موسى الرضا عليه السّلام.. وكانت الاطماع هي السبب الرئيس والباعث الاصلي؛ اضافة إلى خطط حكومية شجعت على ذلك لاستئصال مذهب أهل البيت عليهم السّلام... ولعلّ هذا دفع بالإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام إلى الاعلان عن امامته متحدّيا حكومة هارون قائلاً: إن خدشني هارون فأنا كذاب! وقد أعلن الرضا ذلك في وقت كان سيف هارون يقطر من دماء العلويين كما ورد في مصادر التاريخ. عيون أخبار الرضا للصدوق 219:2، اعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين 97:4، حياة الإمام الرضا لمحمّد جواد فضل الله 41:1.

6 ـ زوارق على شكل حيوانات أمر بصناعتها الامين للمتعة واللهو، وقد صنع منها خمسة على صور: الأسد، الفيل، العقاب، الافعى والحصان، وقد كلّفت صناعتها خزانة الدولة نفقات باهظة.تاريخ ابن الوردي 317:1.

7 ـ الأخبار الطوال 400.

8 ـ تاريخ ابن الوردي 317:1.

9 ـ عُرِف عن الأمين أنه رفض النساء واشتغل بالخصيان، ووجه إلى البلدان في طلب الملهين، واستخف حتى بوزرائه وأهل بيته.تاريخ الخلفاء للسيوطي 201.

10 ـ تاريخ ابن الوردي 317:1. وقد تضاربت الانباء حول الطريقة التي تمّت بها تصفية الأمين، ولكن من المؤكد أنّها وقعت في نهر دجلة.

11 ـ أصول الكافي للكليني 579:2 / ح 34.

12 ـ محمد بن جعفر الصادق عليه السّلام لقب بالديباج، كان من العلماء روى العلم عن أبيه الصادق عليه السّلام أقام في مكة وعندما اندلعت الحرب بين الأمين والمأمون أشعل الثورة في مكة المكرمة وبويع له بالخلافة، وبايعه سكان الحجاز وقد ارسل المأمون جيشاً لقمع الثورة، فسلم نفسه بعد أن منيت قوّاته بالهزيمة، وارتقى المنبر ليعلن اعتذاره الرسمي للمأمون.. أُرسل مخفوراً إلى « مرو » عاصمة المأمون آنذاك وتوفي في جرجان في طريق العودة إلى بغداد في ظروف غامضة واشترك المأمون في مراسم التشييع والدفن.مروج الذهب للمسعوديّ 439:3.

13 ـ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 113:2.

14 ـ اسنى المطالب 49.

15 ـ كتاب المسلسلات 250.

16 ـ من مدينة سرخس الإيرانية أقليم خراسان.. اتصل بالمأمون سنة 190 هـ واسلم على يديه، وكان مجوسياً.. عيّنه المأمون بعد احتدام الصراع مع أخيه الامين وزيراً له ( رئيساً للوزراء ) وقائداً عاماً لجيوشه، ومنحه لقب « ذي الرياستين » رئاسة الديوان ورئاسة الحرب..ويظن البعض أن الفضل كان يخطط للاستيلاء على السلطة، وقد أقنع المأمون في البقاء في مدينة « مرو » واتخاذها عاصمة للدولة، كما اقنعه بالتخلّي عن الزي الاسود شعار العباسيين واستبداله بالاخضر وهو زي فارسي. موسوعة أحداث التاريخ الإسلامي للترمانيني 161:1. وبعد تدهور الاوضاع في بغداد وقرار المأمون بالعودة إليها تمت تصفية الفضل في الطريق حيث اغتيل في حمام بمدينة سرخس مسقط رأسه. مروج الذهب 441:3، الأعلام للزركلي 354:5، تاريخ ابن الوردي 319:2، تاريخ بغداد 339:12.

17 ـ البرمكي وزير الرشيد وأخوه من الرضاع، كان الرشيد يدعوه يا أخي، أُقصي عن الوزارة سنة 177، ألّف جيشاً من نصف مليون جندي لأهداف غامضة واتخذ من خراسان مقراً لقيادته.. القي القبض عليه سنة 187 هـ في وزارة أخيه جعفر الذي لقي مصرعه بأوامر شخصية من الرشيد.. توفي الفضل في سجنه بالرقة سنة 193 هـ في نفس السنة التي توفي فيها الرشيد. اشتهر عنه دوره في انهاء ثورة يحيى بن عبدالله الحسن بعد مباحثات طويلة وكان الأخير قد ثار في بلاد الديلم ( اقليم الشمال الايراني ). ويبدو أن موقفه من العلويين وعدم التورّط بالمذابح التي كانت تنفذ بحقهم قد دفع الرشيد إلى اقصائه عن الوزارة واسنادها إلى أخيه جعفر حتّى مصرعه سنة 187 هـ. الاعلام 358:5، تاريخ الطبري 242:8، تاريخ بغداد 334:12.

18 ـ تبنى المأمون وبحماس فكرة خلق القرآن التي اعلنها المعتزلة وبلغ من شدّة حماسه انه جعلها أساساً في تقييم الفقهاء، واوصى خليفته المعتصم بالاستمرار في اجراء المحاكمات وامتحان الفقهاء، وعُرفت في وقتها بـ « محنة خلق القرآن » وقد لقي الكثير من الابرياء مصرعهم بسببها وفي طليعتهم المحدِّث أحمد بن نصر الخزاعي. موسوعة أحداث التاريخ الإسلاميّ 162:1، تاريخ الطبرني 645:8، تاريخ الخلفاء 335 ـ 340.

19 ـ بدأ التحضير للثورة منذ سنة 196 بعد انفجار الأزمة بين الأمين والمأمون، واندلعت الثورة سنة 198، وابن طباطبا هو محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. وكانت الفوضى والسياسية وتردّي الاوضاع الاقتصادية والحرمان الذي مُنيت به قطاعات واسعة من المجتمع في طليعة الاسباب التي دفعت بالشاب العلوي (24سنة) إلى طريق الثورة. ويعدّ لقاؤه بالزعيم العربي نصر بن شيث منعطفاً ودافعاً في التعجيل بالثورة والاطاحة بالطغمة العباسيّة. وتزامنت مع ثورة ابن طباطبا ثورة القائد المنشقّ السريّ بن منصور الشيباني المعروف بـ «ابي السرايا»، وقد احدث انضمام الأخير مع قوّاته إلى ألوية الثورة دوّياً كبيراً وقلب موازين القوى لصالح الثوّار. وقد مُنيت الجيوش العباسيّة بهزيمة ساحقة في أول اصطدام عسكري مصيري؛ كما اعقب ذلك انتصارات باهرة لقوّات الثورة، حتّى أيقن العباسيون بأنها النهاية. وقد بسط الثائرون نفوذهم على أرض واسعة من الدولة الاسلامية شملت: الكوفة، اليمن، الأهواز، واسط، ومكة المكرّمة. وعيّن ولاة جدد للأقاليم والولايات المحرّرة وضربت نقود جديدة حملت الآية الكريمة: إنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأنّهُم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ » شعاراً. وانتخبت مدينة الكوفة عاصمة ومعقلاً للثورة لزخمها التاريخي وثقلها العلمي ومواردها الاقتصادية، غير أن وفاة الزعيم العلوي ابن طباطبا قد أضعف فيما يبدو من قوى الثورة، اضافة إلى قيام العباسيين في تعبئة جيش جرار. (أحداث التاريخ الإسلامي 2/1146، مقاتل الطالبيين /518 ـ 533).

20 ـ وبسبب ذلك أُحرق قبرها وقبور آل بويه، إِضافة إلى مرقد الإمام الكاظم عليه السّلام خلال الفتنة الطائفية الكبرى التي عصفت ببغداد سنة 443هـ وذهب ضحيتها عشرات الأبرياء واحراق مكتبات تضم آلاف الكتب. (الكنى والالقاب 289:2).

21 ـ قاموس الرجال 356:10. (ينابيع المودّة:484).

22 ـ الخليفة الامين.

23 ـ يعتقد المأمون ان هرثمة بن أعيَن يقف أو يتعاطف مع ثورة أبي السرايا أو هكذا صوّر له الفضل بن سهل، ومن المعروف ان الفضل كان يتآمر على هرثمة وعلى طاهر بن الحسين. (الطبري 479:8، ابن خلدون 521:3).

24 ـ احداث التاريخ الإسلامي 160:1 ـ 161.

25 ـ يحيى بن زيد الشهيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب أحد أبرز الثوّار. فجّر الثورة بعد مصرع والده الشهيد سنة 122هـ ظل مطارداً حتى سنة 125 واستشهد بعد معركة غير متكافئة دارت بين قوّاته (70 مقاتلاً) والجيش الأموي (عشرة آلاف مقاتل)، حيث صُلب جسده وظل مصلوباً حتى سنة 132 وانتصار الثورة العباسية. (مقاتل الطالبين :152، الأعلام 179:9).

26 ـ من قادة المأمون.

27 ـ الجعد بن درهم من اصول فارسية «خراسان» سكن حرّان في سوريا، قال بخلق القرآن، ونسب الفعل الانساني إلى الله، وهي عقيدة الجبر التي تنفي الحرّية عن الانسان.تبنّى تربية مروان بن محمّد الحمار آخر خلفاء بني أمية، ومن أجل هذا يعرف مروان بالجعدي.القي القبض عليه ولقي حتفه على يد جلاد العراق خالد القسري في عيد الأضحى سنة 118هـ.(الاعلام 114:2، ابن الاثير 160:5).

28 ـ الميزان 166:11، عيون أخبار الرضا 192:1.

29 ـ حياة الإمام الباقر 181:1 باقر شريف.

30 ـ التهذيب 53:2 وفي موقفه الفقهي يفصل الإمام بين الثائرين على الحكومة بسبب الظلم، وبين الخارجين على أساس عدائي للإسلام.

31 ـ فروع الكافي 238:2.

32 ـ وسائل الشيعة 62:14.

33 ـ وسائل الشيعة 415:14.

34 ـ من لا يحضره الفقيه 122:4.

35 ـ من لا يحضره الفقيه 122:4.

36 ـ وكان السؤال عن جواز العمل في المؤسسات الحكومية مع الاعتقاد بعدم شرعيتها.(فروع الكافي 359:1).

37 ـ حياة الإمام الرضا 62:2.

38 ـ طه: الآية 121.

39 ـ الأنبياء: الآية 187.

40 ـ يوسف: الآية 24.

41 ـ الاحزاب: الآية 37.

42 ـ نص الرسالة: كما وردت في كتب التاريخ: بسم الله الرحمن الرحيم لعليّ بن موسى الرضا وابن رسول الله المصطفى، المهتدي بهديه، المقتدي بفعله، الحافظ لدين الله، الخازن لوحي الله.. من وليّه الفضل بن سهل الذي بذل في ردّ حقه إليه مهجته، ووصل ليله فيه بنهاره.. سلام عليك أيّها المهتدي ورحمة الله وبركاته... فإني أحمد إليك الله لا اله إلاّ هو، وأسأله أن يصلّي على محمّد عبده ورسوله. أمّا بعد.. فإني أرجو أن الله قد أدّى لك، وأذن لك في ارتجاع حقك ممن استضعفك، وأن يعظم مننه عليك، وأن يجعلك الإمام الوارث، ويري أعداءك ومن رغب عنك، منك ما كانوا يحذرون.. وإن كتابي هذا عن إزماع من أميرالمؤمنين عبدالله الإمام المأمون ومني.. على ردّ مظلمتك عليك، واثبات حقوقك في يديك، والتخلّي منها إليك، على ما أسال الله الذي وقف عليه: أن تبلغني ما أكون بها اسعد العالمين، وعند الله من الفائزين، ولحق رسول الله من المؤدّين، ولك عليه من المعاونين، حتى ابلغ في توليتك ودولتك كلتا الحسنتين. فإذا أتاك كتابي ـ جُعلت فداك ـ وأمكنك أن لا تضعه من يدك حتى تسير إلى باب أمير المؤمنين، الذي يراك شريكاً في أمره، وشفيعاً في نسبه، وأولى الناس بما تحت يده.. فعلت ما أنا بخيرة الله محفوفاً، وبملائكته محفوظاً وبكلاءته محروساً.. وإن الله كفيل لك بكل ما يجمع حسن العائده عليك، وصلاح الأمّة بك.. وحسبنا الله ونعم الوكيل، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. (الحياة السياسية للإمام الرضا :446، حياة الإمام الرضا 2:284).

43 ـ ورد في الحديث الشريف: «أُحُد جبل يحبّنا ونحبّه». (رسالة الإسلام :ك(1)، محمّد رسول الله :261، مصطفى طلاس).

44 ـ حياة الإمام عليّ بن موسى 278:2.

45 ـ جابر بن حيان الكوفي، ولد في طوس وقيل في طرسوس في حدود سنة 128هـ. برع في الكيمياء وتلقى علومها من استاذه الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام. وكان يبدأ مقالاته وكتبه وتجاربه في هذا المضمار بقوله: أمرني سيّدي جعفر بن محمّد، ففي كتابه «الحاصل» وهو كتاب فلسفي يقول جابر: «.. إنه من كتب الموازين، وهو من الكتب الموسومة بكتب الفلسفة وقد سميته: كتاب الحاصل وذلك ان سيّدي جعفر بن محمّد صلوات الله عليه قال لي: فما الحاصل الآن بعد هذه الكتب في الموازين وما المنفعة بها ؟ فقلت المنفعة علم التراكيب الكبار التي تنوب بقرب مدتها عن طول مدّة التدبر. وعملت كتابي هذا فسماه سيّدي بكتاب الحاصل، وهو من علم الموازين مشروح لا يحتاج إلى غيره، وبذلك أمرني سيدي صلوات الله عليه». ويبدو أنه غادر الكوفة في الأعوام بين سنة (180 ـ 186) وهي الفترة التي شهد العراق فيها وأقاليم أخرى حملة اضطهاد طالت العلويين وقواعدهم الشعبية. توفي جابر في مدينة طوس في تاريخ غير معروف ولكن بعض المصادر ذكرت وفاته سنة 200هـ. وقد أورد «ابن النديم» حوله ما يلي: «.. فقالت الشيعة إنه من كبارهم وأحد الابواب، وزعموا أنه كان صاحب جعفر الصادق عليه السّلام، وكان من أهل الكوفة، وزعم قوم من الفلاسفة أنه كان منهم، وله في المنطق والفلسفة مصنّفات، وزعم أهل صناعة الذهب والفضة أن الرئاسة انتهت إليه في عصره، وأن أمره كان مكتوما». (الفهرست لابن النديم /513، الذريعة إلى تصانيف الشيعة آغا بزرگ الطهراني 2/55 ، 6دراسات في تاريخ العلوم عند العرب /249 ـ 252).

46 ـ أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي، نسبة إلى كرخ بغداد. كان نصرانياً فأسلم على يد الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام، ثمّ اسلم أبواه. اشتهر بزهده وصلاحه، فكان الناس يقصدونه للتبرك به، وكان أحمد بن حنبل في جملة من كان يزوره تبركاً. (الإعلام 185:8، وفيات الاعيان 231:5، تاريخ بغداد 199:13).

47 ـ لم يرجع أي من العلويين الذين ذهبوا إلى مَرْو، ولقوا حتفهم في ظروف غامضة!

48 ـ اعيان الشيعة 4 ق 122:2.

49 ـ حياة الإمام الرضا 287:2.

50 ـ اصول الكافي 11:1، وسائل الشيعة للحرّ العاملي 161:11.

51 ـ أعيان الشيعة 4 ق 196:2.

52 ـ اصول الكافي 24:2.

53 ـ نور الابصار للشبلنجي140.

54 ـ الطريق إلى غدير خم : 9 كمال السيد.

55 ـ الطريق إلى غدير خم : 9 كمال السيد.

56 ـ مستدرك الوسائل للميرزا النوري 368:10 ح 1، بحار الأنوار للشيخ المجلسيّ 126:60 ح 41، عيون أخبار الرضا 267:2.

57 ـ وسائل الشيعة 92:18.

58 ـ حياة الإمام الرضا 84:1.