إنّ سيد الشهداء عليه السلام باختياره قد تحمّل كلّ تلك المصائب والمحن، الشهادة وأسر الأهل والعيال. لأنّه وبشكل مستمر، حتّى يوم عاشوراء. كان قد عرض عليه أن يختار إمّا النصر والظفر أو لقاء الله والعهد والميثاق المأخوذ مع الله، لكنّه عليه السلام اختار بنفسه تلك المقامات العالية.
(الرحمة الواسعة) هي تجلٍّ لاتّحاد العقل والحب في قلوب رجال نفخ الله حّبه في عقولهم، كما ينفخ الروح في الجسد.
فكانوا في الصبر كالجبال الرّاسيات وفي الرّضا بقضاء ربّهم ذوي هِمَم عاليات.
وفي بذل النفس في سبيل إعلاء كلمة الحق وراية الهدى كالليوث الضاريات، قد أحكموا عَقْدَ الطاعة فأصبحوا كالبنيان المرصوص الذي لا تهزّه العواصف ولا تُهيبُهُ القواصف.
فهي الّتي قد منحتِ العظمة لواقعة عاشوراء وكانت سبباً للظهور الّذي لا مثيل له لفضائل أهل البيت عليهم السلم ومكارم أخلاقهم في مقابل أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وآله الذين كانت الدنيا أكبر همّهم ومبلغ علمهم.
فقد أصبحت هذه الواقعةُ العظيمةُ متميّزةً عن باقي الوقائع العالمية الكبرى من عدّة وجوه، فالمصيبة التي يشارك في عزائها ملائكةُ الله والأنبياءُ والأوصياء عليهم السلام قبل وبعد وقوعها، ويقوم أئمة الهدى عليهم السلام بذكر تلك المصيبة العظمى والرزية الكبرى ويقيموا لها مجالس العزاء في الأرض كما قامت بذلك الملائكة في السّماء، فهي المصيبة التي أدمت عيون صاحب العصر والزّمان أرواح العالمين له الفداء حيث جعلته يندب من أجلها صباحاً ومساءً، وأصبح يبكي حسرةً بدل الدموع دماً.
وقد اقتدى أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام أيضاً بأئمتهم على مرّ القرون الفائتة وعلى نحو الدوام، وقاموا ببيان عظمة مقام الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام الذي هو من أهمّ شعائر الدين وبيان مصائبه هو وأهل بيته وأنصاره عليهم السلام الذين قدّموا التضحيات في سبيل إعلاء كلمة الله وإحياء دينه القويم.
وخلال كل هذه المدة كان علماء الشيعة الأتقياء هم الواجهة في هذا الميدان، ويتبعهم في هذا كافّة محبّي أهل البيت عليهم السلام أداءً لأجر النبوّة والمكتوب في الكتاب ووفاءً لعهد الله المأخوذ في الأصلاب، عسى أن يحوزوا بذلك معرفة من أوجب الرحمن ودّهم عليهم السلام وجعل من حبِّهِ حبَّهُم عليهم السلام وارتضى للخلائق دينهم عليهم السلام وقرن بمعرفته معرفتَهُم عليهم السلام.
وأنّى للخلائق الوصول إلى كنه معرفة من هم نور الأنوار وحجج الجبار وسلالة الأبرار؟ إذ ليس من السهل أن يدرك المرء عظمة المقام الذي منحه الله لأهل البيت عليهم السلام وأن يعرفهم حقّ معرفتهم، وإنّما يحتاج ذلك لوفيرِ تهذيبٍ وناجِعِ سُلوكٍ وقوّة دينٍ وخشوع عبادةٍ، فحينها تهبّ النفحات الطيبة من حظيرة القدس الأعلى لتهبط على العِلِّيِّين وما أدراك ما العلّيّون، الّذين اشتروا الآخرة بالحياة الدنيا فكانوا هم المنصورين، وتاجروا مع الله بأحسن المعاملة فرحبت تجارتهم وكانوا هم المهتدين، وعشقوا آلَ الله وورثة رسوله صلى الله عليه وآله بالنحو الذي خطّه الله لهم وأراده في كتابه الكريم {لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}.[الشورى:٢٣]
وحينها تأخذ المودّةُ للقربى شَطْرَ عُمُرِ من اكتسى حلية الصالحين وتجلب زينة المتّقين، إذ تصبح العترة ونيل رضاها شغله النضيد وهمّه الوحيد ويُعدّ لذلك طريقة هي في الندرة كالعقد الفريد.
فهذه شيمة من أحب الاتحاد بين العقل والحب، حب أهل الكرامة والغيرة، حب أبي الأحرار وأهل بيته وأصحابه عليهم السلام.