لا خلاف بين المسلمين في نزول القرآن المبين بالمتعتين .
أمّا متعة الحجّ ، فقد قال عزّوجلّ :
(فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّام فِي الْحَجِّ وَسَبْعَة إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)(1) .
وأمّا متعة النساء ، فقد قال عزّوجلّ : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً)(2) .
وكان على ذلك عمل المسلمين ...
حتّى قال عمر بعد شطر من خلافته :
« متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما » .
فوقع الخلاف ...
وحار التابعون له ، الجاعلون قوله أصلا من الأُصول ، كيف يوجِّهونه وهو صريح في : قال الله ... وأقول ... ؟!
________________________
(1) سورة البقرة 2:196 .
(2) سورة النساء 4:24 .
متعة الحجّ
ومتعة الحجّ : أن ينشىء الإنسان بالمتعة إحرامه في أشهر الحجّ من الميقات ، فيأتي مكّة ، ويطوف بالبيت ، ثمّ يسعى ، ثمّ يقصِّر ، ويحلّ من إحرامه ، حتّى ينشىء في نفس تلك السفرة إحراماً آخر للحجّ من مكّة ، والأفضل من المسجد الحرام ، ويخرج إلى عرفات ، ثمّ المشعر ... إلى آخر أعمال الحج ...
فيكون متمتّعاً بالعمرة إلى الحجّ .
وإنّما سمّي بهذا الاسم لما فيه من المتعة ، أي اللذّة بإباحة محظورات الإحرام ، في تلك المدّة المتخلّلة بين الإحرامين.
وهذا ما حرّمه عمر وتبعه عليه عثمان ومعاوية وغيرهما.
موقف علي وكبار الصحابة من تحريمها
وكان في المقابل أميرالمؤمنين عليّ عليه السّلام الحافظ للشريعة المطهَّرة والذابّ عن السُنّة المكرَّمة .
أخرج أحمد ومسلم عن عبدالله بن شقيق قال ـ واللفظ للأوّل ـ : « كان عثمان رضي الله عنه ينهى عن المتعة ، وعليّ رضي الله عنه يأمر بها ، فقال عثمان لعليّ : إنّك كذا وكذا . ثمّ قال(1) علي رضي الله عنه : لقد علمت أنّا قد تمتّعنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم . فقال : أجل ولكنّا كنّا خائفين »(2) .
وعن سعيد بن المسيّب ، قال : « اجتمع عليٌّ وعثمان رضي الله عنهما بعسفان ، فكان عثمان رضي الله عنه ينهى عن المتعة والعمرة . فقال له عليٌّ رضي الله عنه : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تنهى عنها ؟! فقال عثمان رضي الله عنه : دعنا منك !(3) .
وعن مروان بن الحكم ، قال : « شهدت عثمان وعليّاً رضي الله عنهما ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما . فلمّا رأى عليٌّ أهلّ بهما : لبيّك بعمرة وحجّة ، قال : ما كنت لأدع سُنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لقول أحد »(4) . وعلى ذلك كان أعلام الصحابة :
* كابن عبّاس ... فقد أخرج أحمد أنّه قال : « تمتّع النبي صلّى الله عليه وسلّم ، فقال عروة بن الزبير : نهى أبوبكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عبّاس : ما يقول عُرَيّة(5) !! قال : يقول : نهى أبوبكر وعمر عن المتعة .
فقال ابن عبّاس : أراهم سيهلكون ، أقول : قال النبي صلّى الله عليه وسلّم ; ويقول : نهى أبوبكر وعمر ! »(6) .
* وسعد بن أبي وقّاص ... فقد أخرج الترمذي بأسناده : « عن محمّد بن عبدالله بن الحارث بن نوفل أنّه سمع سعد بن أبي وقّاص والضحّاك بن قيس ـ وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ـ فقال الضحّاك بن قيس : لا يصنع ذلك إلاّ من جهل أمر الله تعالى . فقال سعد : بئس ما قلت يا ابن أخي . فقال الضحّاك : فإنّ عمر بن الخطّاب قد نهى ذلك . فقال سعد : قد صنعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصنعناها معه .
قال : هذا حديث صحيح »(7) .
* وأبي موسى الأشعري ... فقد أخرج أحمد : « أنّه كان يفتى بالمتعة فقال له رجل : رويدك ببعض فُتياك ، فإنّك لا تدري ما أحدث أميرالمؤمنين في النسك بعدك ! حتى لقيه بعدُ فسأله ، فقال عمر رضي الله عنه : قد علمت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد فعله وأصحابه ولكنى كرهت أن يظلّوا بهنّ معرّسين في الأراك ، ثم يروحون بالحج تقطر رؤوسهم »(8) .
* وجابر بن عبدالله ... فقد أخرج مسلم وغيره عن أبي نضرة ، قال : « كان ابن عبّاس يأمر بالمتعة ، وكان ابن الزبير ينهى عنها . قال فذكرت ذلك لجابر بن عبدالله . فقال : على يديّ دار الحديث . تمتّعنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلمّا قام عمر(9) قال : إنّ الله كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء ، وإنّ القرآن قد نزل منازله ، فافصلوا حجّكم من عمرتكم ، وأبتّوا(10) نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأةً إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة »(11) .
* وعبدالله بن عمر ... فقد أخرج الترمذي : « أنّ عبدالله بن عمر سئل عن متعة الحجّ . فقال : هي حلال . فقال له السائل : إنّ أباك قد نهى عنها . فقال : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر أبي يتبع أم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟! فقال الرجل : بل أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم . فقال : لقد صنعها رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم »(12) .
* وعمران بن حصين(13) ـ وكان شديد الإنكار لذلك حتّى في مرض موته ـ فقد أخرج مسلم : « عن مطرف قال : بعث إليَّ عمران بن حصين في مرضه الذي توفّي فيه فقال : إنّي كنت محدّثك بأحاديث ، لعلّ الله أن ينفعك بها بعدي . فإن عشت فاكتم عنّي(14) وإن متّ فحدّث بها إن شئت . إنّه قد سُلّم عليَّ . واعلم أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم قد جمع بين حجّ وعمرة ، ثم لم ينزل فيها كتاب الله ، ولم ينه عنها نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم . فقال رجل برأيه فيها ما شاء »(15) .
قال النووي بشرح أخبار إنكاره : « وهذه الروايات كلّها متّفقة على أنّ مراد عمران أنّ التمتّع بالعمرة إلى الحجّ جائز ، وكذلك القِران ،وفيه التصريح بإنكاره على عمر بن الخطّاب رضي الله عنه منع التمتّع »(16) .
_________________________
(1) لقد أبهم الرواة ما قاله خليفتهم عثمان لعليّ عليه السلام ، كما أبهموا جواب الإمام عليه السّلام على كلمات عثمان وفي بعض المصادر : « فقال عثمان لعليّ كلمةً » .
(2) مسند أحمد 1/156 مسند علي بن أبي طالب الرقم 758 .
(3) صحيح البخاري 2/569 كتاب الحج باب التمتع والاقران والإفراد بالحج الرقم 1494 وصحيح مسلم 3/68 كتاب الحج باب جواز التمتع ذيل الرقم 1223 ، مسند أحمد 1/220 مسند علي بن ابي طالب الرقم 1150 .
(4) صحيح البخاري 2/567 كتاب الحج باب التمتع والإقران والإفراد الحج الرقم 1488 ، مسند أحمد 1/153 مسند علي بن أبي طالب الرقم 735 .
(5) تصغير « عروة » تحقيراً له .
(6) مسند أحمد 1/554 مسند عبدالله بن عبّاس الرقم 3111 .
(7) سنن الترمذي 2/224 كتاب الحجّ باب ماجاء في التمتع الرقم 824 .
(8) مسند أحمد 1/81 مسند عمر بن الخطاب الرقم 353 .
(9) أي بأمر الخلافة .
(10) أي : اقطعوا ، اتركوا .
(11) صحيح مسلم 3/56 كتاب الحج باب في المتعة بالحج والعمرة الرقم 1217 وذيله .
(12) سنن الترمذي 2/224 كتاب الحج باب ماجاء في التمتع الرقم 825 .
(13) ذكر كلّ من ابن عبدالبرّ في الاستيعاب 3/284 وابن حجر في الإصابة 4/584 أنّه كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم ، بل نصّ ابن القيّم في زاد المعاد على كونه أعظم من عثمان ، وذكروا أنّه كان يرى الملائكة وتسلّم عليه وهو ما أشار إليه بقوله : « قد سُلِّم عليَّ » . توفّي سنة 52 بالبصرة .
(14) لاحظ إلى أين بلغت التقيّة !!
(15) صحيح مسلم 3/70ـ71 كتاب الحج باب جواز التمتّع ذيل الرقم 1226 . وفي الباب من صحيح البخاري 2/569 كتاب الحج باب التمتع الرقم 1496 وسنن ابن ماجة 4/454 كتاب المناسك باب التمتع بالعمرة إلى الحج الرقم 2978 ، وهو عند أحمد في المسند 5/159 5/600 حديث عمران بن حصين الرقم 19394 .
(16) المنهاج ـ شرح صحيح مسلم 8/168 .
دفاع ابن تيميّة ثمّ إقراره بالخطأ
وذكر شيخ إسلامهم ابن تيميّة في الدفاع عن عمر وجوهاً ، كقوله : « إنّما كان مراد عمر أن يأمر بما هو أفضل » واستشهد له بما رواه عن ابنه من أنّه « كان عبدالله بن عمر يأمر بالمتعة ، فيقولون له : إنّ أباك نهى عنها . فيقول : إنّ أبي لم يرد ما تقولون » وحاصل كلامه ما صرّح به في آخره حيث قال : « فكان نهيه عن المتعة على وجه الاختيار ، لا على وجه التحريم ، وهو لم يقل : « أنا أُحرّمهما » .
قلت : أمّا أنّ مراده كان الأمر بما هو أفضل ، فتأويل باطل ، وأمّا ما حكاه عن ابن عمر فتحريف لِما ثبت عنه في الكتب المعتبرة ، وقال ابن كثير : « وكان ابنه عبدالله يخالفه فيقال له : إنّ أباك كان ينهى عنها ! فيقول : لقد خشيت أن يقع عليكم حجارة من السماء! قد فعلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، أفسُنّة رسول الله تتّبع أم سُنّة عمر بن الخطّاب ؟! »(1) .
والعمدة إنكاره قول عمر : « وأنا أُحرمّهما » . وسنذكر جمعاً ممّن رواه !
هذا ، وكأنّ ابن تيميّة يعلم بأن لا فائدة فيما تكلّفه في توجيه تحريم عمر والدفاع عنه ، فاضطرّ إلى أن يقول :
« فأهل السُنّة متّفقون على أنّ كلّ واحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلاّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، أنّ عمر أخطأ في مسألة ، فهم لا ينزّهون عن الإقرار على الخطأ إلاّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم »(2) .
لكنّه ليس « خطأ » من عمر ، بل هو « إحداث » كما جاء في الحديث المتقدّم عن أبي موسى الأشعري وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم :
« أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعنّ رجال منكم ثم ليختلجنَّ دوني ، فأقول : يا ربّ أصحابي ! فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ! »(3) .
ولقائل أن يقول : إنّ الغرض الأصلي من التحريم هو إحياء سُنّة الجاهليّة ، فإنّهم « كانوا يرون أنّ العمرة في أشهر الحجّ من أفجر الفجور في الأرض »(4) .
أخرج البيهقي عن ابن عبّاس : « والله ما أعمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عائشة في ذي الحجّة إلاّ ليقطع بذلك أمر أهل الشرك »(5) .
ولذا صحّ عنه صلّى الله عليه وسلّم : « لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أنّ معي الهدي لأحللت . فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله هي لنا أو للأبد ؟ فقال : لا ، بل للأبد » . أخرجه أرباب الصحاح كافّة ، وعقد له البخاري في صحيحه باباً .
__________________________
(1) تاريخ ابن كثير 5/159 .
(2) منهاج السُنّة 4/182ـ183 .
(3) أخرجه الحفاظ في باب الحوض منهم البخاري في الصحيح 5/2405 كتاب الرقاق باب في الحوض الرقم 6205 .
(4) أخرجه البخاري في الصحيح 2/567 كتاب النكاح باب التمتع والإقران والإفراد بالحج الرقم 1489 ومسلم في الصحيح 3/81ـ82 كتاب الحج باب جواز العمرة في أشهر الحج الرقم 1240 وغيرهما .
(5) سنن البيهقي 4/563 كتاب الحج باب العمرة في أشهر الحج الرقم 8732 .
متعة النساء
وهي أن تزوّج المرأة الحرّة الكاملة نفسها من الرجل المسلم بمهر مسمّىً إلى أجل مسمّىً ، فيقبل الرجل ذلك ، فهذا نكاح المتعة ، أو الزواج الموقّت ، ويعتبر فيه جميع ما يعتبر في النكاح الدائم ، من كون العقد جامعاً لجميع شرائط الصحّة ، وعدم وجود المانع من نسب أو سبب وغيرهما ، ويجوز فيه الوكالة كما تجوز في الدائم ، ويلحق الولد بالأب كما يلحق به فيه ، وتترتّب عليه سائر الآثار المترتّبة على النكاح الدائم ، من الحرمة والمحرمية والعدّة .
إلاّ أنّ الافتراق بينهما يكون لا بالطلاق بل بانقضاء المدّة أو هبتها من قبل الزوج ، وأنّ العدّة ـ إن لم تكن في سنّ اليأس الشرعي ـ قرءان إن كانت تحيض ، وإلاّ خمسة وأربعون يوماً ، وأنّه لا توارث بينهما ، ولا نفقة لها عليه ، وهذه أحكام دلّت عليها الأدلّة الخاصّة ، ولا تقتضي أن يكون متعة النساء شيئاً في مقابل النكاح مثل ملك اليمين .
ثبوتها بالكتاب والسُنّة والإجماع
وقد دلّ على مشروعيّة هذا النكاح وثبوته في الإسلام :
1 ـ الكتاب ، في قوله عزّوجلّ : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ ...)(1) وقد روي عن جماعة من كبار الصحابة والتابعين المرجوع إليهم في قراءة القرآن وأحكامه التصريح بنزول هذه الآية المباركة في المتعة ، حتّى أنّهم كانوا يقرأونها : « فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل ... » ، وكانوا قد كتبوها كذلك في مصاحفهم ، فهي ـ حينئذ ـ نصّ في المتعة ، ومن هؤلاء :
عبدالله بن عبّاس ، وأبي بن كعب ، وعبدالله بن مسعود ، وجابر ابن عبدالله ، وأبو سعيد الخدري ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والسدّي ، وقتادة(2) .
بل ذكروا عن ابن عبّاس قوله : « والله لأنزلها الله كذلك ـ ثلاث مرّات » .
وعنه وعن أُبي التصريح بكونها غير منسوخة .
بل نصّ القرطبي على أنّ دلالتها على نكاح المتعة هو قول الجمهور ، وهذه عبارته : « وقال الجمهور : المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام »(3) .
2 ـ السنّة : وفي السُنّة أحاديث كثيرة دالّة على ذلك ، نكتفي منها بواحد ممّا أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم عن عبدالله ابن مسعود قال :
« كنّا نغزو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس لنا نساء . فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ، ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثمّ قرأ عبدالله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(4) .
ولا يخفى ما يقصده ابن مسعود من قراءة الآية المذكورة بعد نقل الحديث ، فإنّه كان ممّن أنكر على من حرّم المتعة .
3 ـ الإجماع فإنّه لا خلاف بين المسلمين في أنّ « المتعة » نكاح . نصّ على ذلك القرطبي ، وذكر طائفةً من أحكامها ، حيث قال :
« لم يختلف العلماء من السلف والخلف أنّ المتعة نكاح إلى أجل ، لا ميراث فيه ، والفرقة تقع عند انقضاء الأجل من غير طلاق » ثمّ نقل عن ابن عطيّة كيفيّة هذا النكاح وأحكامه(5) .
وكذا الطبري ، فنقل عن السدّي : « فهذه المتعة ، الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمّى ... »(6) .
وعن ابن عبدالبرّ في « التمهيد » : « أجمعوا أنّ المتعة نكاح ، لا إشهاد فيه ولا وليّ ، وأنّه نكاح إلى أجل تقع فيه الفرقة بلا طلاق ولا ميراث بينهما »(7) .
وعن ابن عبدالبرّ في « التمهيد » : « أجمعوا أنّ المتعة نكاح ، لا إشهاد فيه ولا وليّ ، وأنّه نكاح إلى أجل ، تقع فيه الفرقة بلا طلاق ولا ميراث بينهما »(8) .
______________________
(1) سورة النساء : 24 .
(2) راجع التفاسير : الطبري والقرطبي وابن كثير والكشّاف والدرّ المنثور . كلّها بتفسير الآية . وراجع أيضاً : أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ 2/208 ، سنن البيهقي 7/335 ، المنهاج للنووي 9/153 ، المغني لابن قدامة 7/571 .
(3) تفسير القرطبي 5/130 .
(4) صحيح البخاري 5/1953 كتاب النكاح باب ما يكره من التبتل والخصاء الرقم 4787 و 4/1687 كتاب التفسير تفسير سورة المائدة الرقم 4339 ، صحيح مسلم 3/193 كتاب النكاح باب نكاح المتعة الرقم 1404 ، مسند أحمد 1/692 مسند عبدالله بن مسعود الرقم 3976 .
(5) تفسير القرطبي 5/132 .
(6) تفسير الطبري 5/18 .
(7) التمهيد 11/102 .
(8) التمهيد 11/102 .
تحريم عمر
وكانت متعة النساء ـ كمتعة الحجّ ـ حتّى وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وزمن أبي بكر ، وفي شطر من حكومة عمر بن الخطّاب ، حتّى قال :
« متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما » وقد وردت قولته هذه في كتب الفقه والحديث والتفسير والكلام . أُنظر منها : تفسير الرازي 2/167 ، شرح معاني الآثار 374 ، سنن البيهقي 7/206 ، بداية المجتهد 1/346 المحلّى 7/107 ، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ 1/279 ، شرح التجريد للقوشجي الأشعري ـ في مطاعن عمر ـ تفسير القرطبي 2/370 ، المغني 7/527 ، زاد المعاد في هدي خير العباد 2/205 ، الدرّ المنثور 2/141 ، كنز العمّال 8/293 ، وفيات الأعيان 5/197 .
ومنهم من نصّ على صحّته كالسرخسي ، ومنهم من نصّ على ثبوته كابن قيّم الجوزية . وفي المحاضرات للراغب الأصبهاني « قال يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة : بمن اقتديت في جواز المتعة ؟ قال : بعمر بن الخطّاب . فقال : كيف هذا وعمر كان أشدّ الناس فيها ؟! قال : لأنّ الخبر الصحيح قد أتى أنّه صعد المنبر فقال : إنّ الله ورسوله أحلاّ لكم متعتين وإنّي اُحرّمهما عليكم وأُعاقب عليهما ; فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه » .
وفي بعض الروايات : أنّ النهي كان عن المتعتين وَحيّ على خير العمل(1) .
وعن عطاء ، عن جابر بن عبدالله : « استمتعنا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر ، حتى إذا كان في آخر خلافة عمر استمتع عمرو بن حريث بامرأة ـ سمّاها جابر فنسيتها ـ فحملت المرأه ، فبلغ ذلك عمر ، فدعاها فسألها فقالت : نعم ، قال من أشهد ؟ قال عطاء : لا أدري قال : أُمّي أم وليّها . قال فهلاّ غيرها ؟!
فذلك حين نهى عنها »(2) .
ومثله أخبار أُخرى ، وفي بعضها التهديد بالرجم(3) .
فالذي نهى عن المتعة هو عمر بن الخطّاب ...
وفي خبر : أنّ رجلا قدم من الشام ، فمكث مع امرأة إلى ما شاء الله أن يمكث ، ثمّ إنّه خرج ، فأُخبر بذلك عمر بن الخطّاب ، فأرسل إليه فقال : ما حملك على الذي فعلته ؟ قال : فعلته مع رسول الله ، ثمّ لم ينهانا عنه حتّى قبضه الله . ثمّ مع أبي بكر فلم ينهانا حتى قبضه الله ، ثمّ معك ، فلم تُحدث لنا فيه نهياً . فقال عمر : أما والذي نفسي بيده لو كنت تقدّمت في نهي لرجمتك »(4) .
ومن هناترى أنّه في جميع الأخبار ينسبون النهي إلى عمر ، يقولون : « فلمّا كان عمر نهانا عنهما » و« نهى عنها عمر » و« قال رجل برأيه ما شاء » ونحو ذلك ، ولو كان ثمّة نهي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما كان لنسبة النهي وما ترتّب عليه من الآثار الفاسدة إلى عمر وجه كما هو واضح . وقد جاء عن أميرالمؤمنين عليه السّلام قوله : « لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي »(5) ، وعن ابن عبّاس : « ما كانت المتعة إلاّ رحمة من الله تعالى رحم بها عباده ، ولو لا نهى عمر ما زنى إلاّ شقي(6)
ومن هنا جعل تحريم المتعة من أوّليّات عمر بن الخطّاب(7) .
بل إنّ عمر نفسه يقول : « كانتا على عهد رسول الله ، وأنا أنهى عنهما » فلا يخبر عن نهي لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بل ينسب النهي إلى نفسه ويتوعّد بالعقاب . بل إنّه لم يكذّب الرجل الشامي لمّا أجابه بما سمعت ، بل لمّا قال له : « ثمّ معك فلم تُحدِث لنا فيه نهياً » اعترف بعدم النهي مطلقاً حتى تلك الساعة . ولا يخفى ما تدلّ عليه كلمة « تحدث » .
________________________
(1) كذا في شرح التجريد للقوشجي ، مطاعن عمر : 484 .
(2) صحيح مسلم 3/194 كتاب النكاح باب نكاح المتعة ذيل الرقم 1405 ، مسند أحمد 4/237 مسند جابر بن عبدالله الرقم 13856 سنن البيهقي 7/388 كتاب الصداق باب ما يجوز أن يكون مهراً الرقم 14368 ، والقصّة هذه في المصنّف لعبد الرزّاق 7/497 باب المتعة الرقم 14021 .
(3) بل عنه أنّه قال : « لا أوتى برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلاّ رجمته ولو أدركته ميّتاً لرجمت قبره ! » المبسوط ـ للسرخسي ـ 5/153 .
(4) كنز العمّال 16/218 كتاب النكاح باب المتعة الرقم 845718 .
(5) المصنّف ـ لعبد الرزّاق بن همام ـ 7/500 باب المتعة الرقم 1402 ، تفسير الطبري 5/19 ، الدرّ المنثور 2/251 ، تفسير الرازي 10/52 .
(6) تفسير القرطبى 5/130 . ومنهم من رواه بلفظ شفى ، أي قليل . اُنظر النهاية 2/437 وتاج العروس 19/578 وغيرهما من كتب اللّغة .
(7) تاريخ الخلفاء ـ للسيوطي ـ 137 .
موقف عليّ وكبار الصحابة من تحريمها
ثم إنّه وإن تابع عمر في تحريمه بعض القوم كعبدالله بن الزبير ، لكن ثبت على القول بحلّيّة المتعة ـ تبعاً للقرآن والسُنّة ـ أعلام الصحابة ، وعلى رأسهم مولانا أميرالمؤمنين وأهل البيت عليهم السّلام . قال ابن حزم :
« وقد ثبت على تحليلها بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جماعة من السلف رضي الله عنهم ، منهم من الصحابة رضي الله عنهم : أسماء بنت أبي بكر الصديق وجابر بن عبدالله وابن مسعود وابن عبّاس ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن حريث وأبو سعيد الخدري وسلمة ومعبد أبناء أُميّة بن خلف .
ورواه جابر بن عبدالله عن جميع الصحابة مدّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومدّة أبي بكر وعمر إلى قرب آخر عمر » .
وقال : « ومن التابعين : طاووس وعطاء وسعيد بن جبير وسائر فقهاء مكّة أعزّها الله ... »(1) .
ولم يذكر ابن حزم عمران بن حصين وبعض الصحابة الآخرين ، وذكر ذلك القرطبي وأضاف عن ابن عبدالبرّ : « أصحاب ابن عبّاس من أهل مكّة واليمن كلّهم يرون المتعة حلالا على مذهب ابن عبّاس ... »(2) .
ومن أشهر فقهاء مكّة المكرّمة القائلين بحلّيّة المتعة عبدالملك ابن عبدالعزيز ، المعروف بابن جريج المكّي ، المتوفّى سنة 149 ، وهو من كبار الفقهاء وأعلام التابعين وثقات المحدّثين ومن رجال الصحيحين ، فقد ذكروا أنّه تزوّج نحواً من تسعين امرأة بنكاح المتعة .
وذكر ابن خلّكان أنّ المأمون أمر أيّام خلافته أن يُنادى بحلّيّة المتعة . قال : فدخل عليه محمّد بن منصور وأبو العيناء ، فوجداه يستاك ويقول ـ وهو مغتاظ ـ : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعهد أبي بكر رضي الله عنه وأنا أنهى عنهما . قال : ومن أنت يا جُعَل حتى تنهى عمّا فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر رضي الله عنه ؟! فأراد محمّد بن منصور أن يكلّمه ، فأومأ إليه أبو العيناء وقال : رجل يقول في عمر بن الخطّاب ما يقول نكلّمه نحن ؟! ودخل عليه يحيى بن أكثم فخلا به وخوّفه من الفتنة ، ولم يزل به حتى صرف رأيه »(3) .
_______________________
(1) المحلّى 9/129 .
(2) تفسير القرطبي 5/133 .
(3) وفيات الأعيان 6/149ـ150 بترجمة يحيى بن أكثم .
الأقوال في الدفاع عن عمر
وجاء دور المدافعين والموجّهين الّذين يتعبون أنفسهم في هذا السبيل ... كما هو شأنهم في كلّ قضيّة من هذا القبيل ... حيث الحكم ثابت بالكتاب والسُنّة ... وبالضرورة من الدين ... والخليفة يخالف بكلّ صراحة ... حكم ربّ العالمين ...
لكنّهم اختلفوا إلى طوائف ... بين قائل بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي حرّمها ، وقائل بأنّ عمر هو الذي حرّمها وقائل بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي نسخ حكم الإباحة لكن لم يعلم به إلاّ عمر !!
أمّا القول الأخير فهو للفخر الرازي ، فقد قال :
« فلم يبق إلاّ أن يقال : كان مراده أنّ المتعة كانت مباحةً في زمن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأنا أنهي عنها لما ثبت عندي أنّه صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم نسخها »(1) .
وقال النووي بعد قولة عمر :
« هذا محمول على أنّ الذي استمتع في عهد أبي بكر وعمر لم يبلغه النسخ »(2) .
وأمّا القولان الأوّلان فقد ذكرهما ابن قيّم الجوزيّة(3) .
لكن اختلف أصحاب القول الأول في وقت تحريم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أقوال سبعة(4) .
1 ـ إنّه يوم خيبر . وهذا قول طائفة ، منهم الشافعي .
2 ـ إنّه في عمرة القضاء .
3 ـ إنّه عام فتح مكّة . وهذا قول ابن عيينة وطائفة .
4 ـ إنّه في أوطاس .
5 ـ أنّه عام حنين . قال ابن القيّم : وهذا في الحقيقة هو القول الثاني ، لاتّصال غزاة حنين بالفتح .
قلت : وسأذكر الحديث فيه .
6 ـ إنّه عام تبوك ، وسأذكر الحديث فيه .
7 ـ أنّه عام حجّة الوداع . قال ابن القيّم : « وهو وهم من بعض الرواة ، سافر فيه وهمه من فتح مكّة إلى حجّة الوداع وسفر الوهم من زمان إلى زمان ، ومن مكان إلى مكان ، ومن واقعة إلى واقعة ، كثيراً ما يعرض للحفاظ فمن دونهم »(5) .
وعمدة ما ذكره أصحاب القول الثاني في وجه تحريم ما أحلّه الله ورسوله وبقي الحكم كذلك حتى ذهاب رسول الله إلى ربّه جَلّ وعَلا ـ وقد تقرّر أن لا نسخ بعده صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ هو : « أنّ عمر هو الذي حرّمها ونهى عنها ، وقد أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باتّباع ما سنّه الخلفاء الراشدون »(6) .
فهذه هي الأقوال التي يستخلصها المتتّبع المنقّب من خلال كلماتهم المضطربة وأقوالهم المتعارضة .
_______________________
(1) تفسير الرازي 10/56 .
(2) المنهاج شرح صحيح مسلم 9/157 .
(3) زاد المعاد 2/184ـ185 وسنذكر عبارته .
(4) ذكر منها ابن القيّم أربعة هي : خيبر ، الفتح ، حنين ، حجّة الوداع . زاد المعاد 2/183 ، والثلاثة الاُخرى من فتح الباري 9/210 .
(5) زاد المعاد في هدي خير العباد 2/183 .
(6) زاد المعاد في هدي خير العباد 2/184 .
نقد القول بأنَّ النسخ من النبيّ ولم يعلم به إلاّ عمر
أمّا القول الثالث ـ وهو أنّ النسخ كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه ، ولكن لم يعلم به غير عمر ـ فقد كان الأولى بإمامهم !! الفخر الرازي أن لا يتفوّه به ! إذ كيف يثبت النسخ عند عمر فقط ولا يثبت عند عليّ عليه السّلام وجمهور الصحابة ؟! ولماذا خصّه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالعلم به دونهم ؟! وهلاّ أخبر هو عن هذا النسخ ـ الثابت عنده ! ـ حين قال له ناصحه ، وهو عمران بن سواد : « عابت أُمّتك منك أربعاً وذكروا أنّك حرّمت متعة النساء وقد كانت رخصةً من الله ، نستمتع بقبضة ونفارق عن ثلاث . قال : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحلّها في زمان ضرورة ، ثم رجع الناس إلى السعة ... »(1) .
ولماذا لم تقبل الأمّة منه ذلك وبقي الخلاف حتى اليوم ؟!
________________________
(1) تاريخ الطبري ـ حوادث سنة 23 ـ 3/290 .
1 ـ حديث التحريم عام الفتح
قلت : وهذا نصّ الحديث عند مسلم بسنده :
« حدّثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا يحيى بن آدم ، حدّثنا إبراهيم بن سعد ، عن عبدالملك بن الربيع بن سبرة الجهني ، عن أبيه ،عن جدّه ، قال : أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكّة ، ثمّ لم نخرج منها حتى نهانا عنها »(1) .
(1) صحيح مسلم 3/196 كتاب النكاح باب نكاح المتعة ذيل الرقم 1406.
2 ـ حديث التحريم في غزوة تبوك
ورووا حديث التحريم في غزوة تبوك عن :
1 ـ أميرالمؤمنين عليه السّلام .
2 ـ جابر بن عبدالله .
3 ـ أبي هريرة .
أمّا الحديث عن أميرالمؤمنين عليه السّلام ، فقد ذكره النووي قائلا :
« وذكر غير مسلم عن عليّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عنها في غزوة تبوك ، من رواية إسحاق بن راشد ، عن الزهري ، عن عبدالله بن محمّد بن عليّ ، عن أبيه ، عن عليّ »(1) .
وأمّا الحديث عن جابر ، فأخرجه الحازمي .
وأمّا الحديث عن أبي هريرة ، فأخرجه ابن راهويه وابن حبّان من طريقه ، وقد أوردهما ابن حجر(2) ، ولا حاجة إلى ذكرهما اكتفاءً بما سنذكره في نقدهما .
(1) المنهاج شرح صحيح مسلم 9/154 .
(2) فتح الباري 9/210ـ211 .
3 ـ حديث التحريم في غزوة حنين
ورووا حديث التحريم في غزوة حنين عن مولانا أميرالمؤمنين عليه السّلام كذلك ; فقد أخرج النسائي قائلا :
« أخبرنا عمرو بن عليّ ومحمّد بن بشّار ومحمّد بن المثنّى ، قالوا : أخبرنا عبدالوهّاب ، قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول : أخبرني مالك بن أنس أنّ ابن شهاب أخبره أنّ عبدالله والحسن ابني محمّد بن عليّ أخبراه أنّ أباهما محمّد بن عليّ أخبرهما أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن متعة النساء .
قال ابن المثنّى : يوم حنين ، وقال : هكذا حدّثنا عبد الوهّاب من كتابه »(1) .
(1) سنن النسائي 6/436 كتاب النكاح تحريم المتعة الرقم 3367 .
4 ـ حديث التحريم في يوم خيبر
ورووا في الصحاح وغيرها حديث التحريم في يوم خيبر عن أميرالمؤمنين عليه السّلام كذلك ، لكن باختلاف في اللفظ كما سترى ، ونكتفي هنا بما جاء عند البخاري ومسلم .
أخرج البخاري : « حدّثنا مالك بن إسماعيل ، حدّثنا ابن عيينة أنّه سمع الزهري يقول : أخبرني الحسن بن محمّد بن عليّ وأخوه عبدالله عن أبيهما إنّ عليّاً رضي الله عنه قال لابن عبّاس : إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر »(1) .
وأخرج مسلم : « حدّثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبدالله والحسن ابني محمّد بن عليّ ، عن أبيهما ، عن عليّ بن أبي طالب أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية .
وحدّثناه عبدالله بن محمّد بن أسماء الضبعي ، حدّثنا جويرية ، عن مالك بهذا الإسناد وقال : سمع عليّ بن أبي طالب يقول لفلان : إنّك رجل تائه ، نهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم . بمثل حديث يحيى بن يحيى عن مالك .
حدّثنا أبوبكر بن أبي شيبة وابن نمير وزهير بن حرب جميعاً ، عن ابن عيينة ، قال زهير : حدّثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن الحسن وعبدالله ابني محمّد بن عليّ ، عن أبيهما ، عن عليّ : أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية .
وحدّثنا محمّد بن عبدالله بن نمير ، حدّثنا أبي ، حدثّنا عبيدالله ، عن ابن شهاب ، عن الحسن وعبدالله ابني محمّد بن عليّ ، عن أبيهما ، عن عليّ إنّه سمع ابن عبّاس يلين في متعة النساء فقال : مهلا يا ابن عبّاس ، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية .
وحدّثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى ، قالا : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن الحسن وعبدالله ابني محمّد بن عليّ بن أبي طالب ، عن أبيهما أنّه سمع عليّ بن أبي طالب يقول لابن عبّاس : نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية »(2) .
أقول :
وفي جميع أحاديث الباب نقود مشتركة ، توجب القول ببطلانها جميعاً ، حتى لو صحّت كلّها سنداً .
فنذكر تلك النقود المشتركة بإيجاز ، ثمّ نتعرّض لنقد حديث فتح مكّة لكونه القول المشهور كما عرفت ، ولنقد حديث خيبر بالتفصيل لكونه المشهور عندهم عن أميرالمؤمنين عليه السّلام ، وهو من أحاديث الصحيحين !!
وإنّما تعرضنا ـ من بين الأحاديث الأخرى ـ لحديثي تبوك وحنين . لأنّهم رووهما عن أميرالمؤمنين عليه السّلام كذلك .
(1) صحيح البخاري 5/1966 كتاب النكاح باب نهي رسول الله عن نكاح المتعه آخراً الرقم 4825 .
(2) صحيح مسلم 3/198ـ199 كتاب النكاح باب نكاح المتعة الرقم 1407 وذيوله .
نقود مشتركة
وأوّل ما في هذه الأحاديث تكاذب البعض منها مع البعض الآخر ، الأمر الذي حار القوم واضطربوا وتضاربت كلماتهم في حلّه(1)فاضطرّ بعضهم إلى القول بأنّ المتعة أُحلّت ثم حُرّمت ثمّ أُحلّت ثمّ حُرّمت حتّى عنون مسلم في صحيحه : « باب نكاح المتعة وبيان أنّه أُبيح ثمّ نسخ ثم أُبيح ثم نسخ ، واستقرّ تحريمه إلى يوم القيامة »(2) .
لكن الأخبار لم تنته بذلك ، بل جاءت بالتحليل والتحريم حتى سبعة مواطن كما قال القرطبي(3) .
إلاّ أنّ ابن القيّم ينصّ على أنّ النسخ لا يقع في الشريعة مرّتين ، فكيف بالأكثر ؟! وهذه عبارته حيث اختار التحريم في عام الفتح : « ولو كان التحريم زمن خيبر لزم النسخ مرّتين ، وهذا لا عهد بمثله في الشريعة ألبتّة ولا يقع مثله فيها »(4) .
ثم تكذيب قولة عمر : « متعتان كانتا على عهد رسول الله ، وأنا أنهى عنهما ... » لجميعها ، فإنّه في هذا القول الثابت عنه معترف بأنّه هو الذي حرّم ما كان حلالا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم .
ثم قول الأصحاب ـ قبل عمر وفي زمانه وبعده ـ بحلّيّة المتعة ، وأنّ عمر هو الذي حرّمها ، وأنّه لولا تحريمه لما زنى إلاّ شقي .
(1) راجع إن شئت الوقوف على طرف منها : المنهاج للنووي 9/155 ، وفتح الباري ـ لابن حجر ـ 9/212 .
(2) صحيح مسلم 3/192 .
(3) تفسير القرطبي 5/131 .
(4) زاد المعاد في هدي خير العباد 2/183 .
نقد حديث عام الفتح
أمّا حديث عام الفتح ، فقد عرفت من كلام ابن القيّم عدم صحّته ، قال : « فإنّه من رواية عبدالملك بن الربيع بن سبرة ، عن أبيه ، عن جدّه ، وقد تكلّم فيه ابن معين ، ولم ير البخاري إخراج حديثه في صحيحه » .
اقول : نكتفي هنا من ترجمة الرجل بما ذكره ابن حجر العسقلاني وأشار في كلامه إلى هذا الحديث ، وهذا نصّ عبارته : « قال أبو خيثمة : سئل يحيى بن معين عن أحاديث عبدالملك بن الربيع عن أبيه عن جدّه فقال : ضعاف . وحكى ابن الجوزي عن ابن معين أنّه قال : عبدالملك ضعيف . وقال أبو الحسن بن القطّان : لم تثبت عدالته ، وإن كان مسلم أخرج له فغير محتجّ به إنتهى . ومسلم إنّما أخرج له حديثاً واحداً في المتعة متابعةً . وقد نبّه على ذلك المؤلّف »(1) .
(1) تهذيب التهذيب 6/345 .
نقد حديث حنين
وأمّا حديث التحريم يوم حنين الذي رواه النسائي عن أميرالمؤمنين عليه السلام ، فسنتكلّم عليه عندما نتعرّض لما رووه عنه عليه السّلام .
قلت : هذا مضافاً إلى أنّهم رووا عن الربيع بن سبرة نفسه أنّ التحريم كان في حجّة الوداع .
أخرج أبو داود : « حدّثنا مسدّد بن مسرهد ثنا عبدالوارث ، عن إسماعيل بن أميّة ، عن الزهري ، قال : كنّا عند عمر بن عبد العزيز ، فتذاكرنا متعة النساء . فقال ]له[ رجل يقال له ربيع بن سبرة : اشهد على أبي أنّه حدّث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عنها في حجّة الوداع »(1) .
(1) سنن أبي داود 2/92 كتاب النكاح باب في نكاح المتعة الرقم 2072 .
نقد حديث غزوة تبوك
وأمّا حديث غزوة تبوك فالذي عن أميرالمؤمنين عليه السّلام سنذكره كذلك .
وأمّا الذي عن جابر بن عبدالله ، فقد نصّ ابن حجر العسقلاني على أنّه « لا يصح ، فإنّه من طريق عبّاد بن كثير ، وهو متروك »(1) .
أقول : ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب : « عبّاد بن كثير الثقفي البصري » و« عبّاد بن كثير الرملي الفلسطيني » وكلاهما « متروك » « يروي أحاديث موضوعة » ، « كذّاب » . وعن أبي حاتم بترجمة الثاني : « ظننت أنّه أحسن حالا من عبّاد بن كثير البصري فإذا هو قريب منه ،ضعيف الحديث »(2) .
هذا ، وكأنّ واضعه وضعه ليقابل به الحديث الصحيح الثابت عنه الدالّ على بقائه على الإباحة حتى آخر لحظة من حياته .
كما وضعوا الأحاديث العديدة في رجوع ابن عبّاس كما سنشير .
وكما وضعوا عن أميرالمؤمنين عليه السّلام كما ستعلم ! .
والذي عن أبي هريرة قال ابن حجر : « إنّ في حديث أبي هريرة مقالا ، فإنّه من رواية مؤمّل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمّار ، وفي كلّ منهما مقال »(3) .
أقول : فإن شئت تفصيل ذلك فراجع ترجمتهما(4) .
________________________
(1) فتح الباري 9/211 .
(2) تهذيب التهذيب 5/90 ـ 92 .
(3) فتح الباري 9/211 .
(4) تهذيب التهذيب 10/339ـ340 و 7/226ـ277 .
نقد حديث يوم خيبر
وأهمّ أحاديث المسألة ... ما وضع على لسان أميرالمؤمنين عليه السلام ... لأنّ أميرالمؤمنين أهمُّ المعارضين ... فلتبذل الهمم من الّذين أُشربوا في قلوبهم ... حسبةً ... وتزلّفاً إلى الحكّام والولاة المتسلّطين .
لكن الأحاديث الموضوعة على لسانه متكاذبة متهافتة ، لتكثّر القالّة عليه وتعدّد الأيدي المختلقة ... وهذه آية من آيات علوّ الحقّ ...
لقد وضعوا الحديث على لسان أحفاده عن ابنه محمّد بن الحنفيّة ... ولم يضعوه على لسان أولاد الحسنين ... عنهما ... عن أمير المؤمنين ... لأنّهم يعلمون أنّ مثل هذه التهمة لا تلتصق بهم ...
وضعوه ... على لسانه عليه السلام . يخاطب ابن عمّه عبدالله ابن العبّاس ... وقد بلغه أنّه يقول بالمتعة ... يخاطبه بلهجة حادّة .
ولقد كان بالإمكان أن تنطلي الحقيقة على خواصّ الناس فضلا عن عوامّهم لو لا اختلاف الاختلاق !
فلنشرع في شرح القضيّة ببعض التفصيل في فصول :
1 ـ تعارض الحديث عن عليّ في وقت التحريم
لقد روي هذا الحديث عن الزهري ، عن الحسن بن محمّد بن عليّ وأخيه عبدالله بن محمّد بن عليّ ، عن أبيهما ، عن عليّ عليه السّلام أنّه قال لابن عبّاس : « نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية »(1) .
قال ابن المثنى : يوم حنين .
وقال : هكذا حدثّنا عبد الوهّاب من كتابه .
وعن الزهري ، عنهما ، عن أبيهما ، عن عليّ « يوم حنين »(2) . وعن الزهري ، عن عبدالله بن محمّد بن عليّ ، عن أبيه ، عن عليّ : « إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عنها في غزوة تبوك »(3) .
وعن ... محمّد بن الحنفيّة أنّه قال عليه السّلام لابن عبّاس :
« إنّك إمرؤ تائه ، إنّ رسول الله صلّى الله عليه ]وسلّم نهى عن متعة النساء في حجّة الوداع »(4) .
وعن الشافعي عن مالك بإسناده عن عليّ رضي الله تعالى عنه :
« إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية » ولم يزد على ذلك ، وسكت عن قصّة المتعة ... »(5) .
فهذه أخبارهم بالسند الواحد عن أميرالمؤمنين عليه السّلام حول أمر واحد ... !!
فإن قلت : ليس كلّها بصحيح عندهم .
قلت : أمّا الأول ، فقد اتّفقوا على صحّته واستندوا إليه في بحوثهم .
وأمّا الثاني ، فهو عند النسائي وكتابه من صحاحهم .
وأمّا الرابع الذي رواه الطبراني ، فقد أورده الهيثمي وقال : « رجاله رجال الصحيح »(6) .
نعم ، الثالث ذكره النووي ثم قال نقلا عن القاضي عياض : « لم يتابعه أحد على هذا وهو غلط منه »(7) .
وقال ابن حجر : « وأغرب من ذلك رواية إسحاق بن راشد عن الزهري عنه بلفظ : نهي في غزوة تبوك عن نكاح المتعة وهو خطأ أيضاً »(8) .
أمّا الخامس فتتعلق به نقاط :
إنّه لو كان قد ثبت عنده نهي عن المتعة يوم خيبر ، لما سكت عن القصّة ، لأنّه تدليس قبيح كما لا يخفى .
لكنّ الشافعي نفسه ممّن يرى أنّ التحريم من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي يوم خيبر(9) .
مضافاً إلى أنّ الحديث عن مالك ، وهو يروي في الموطّأ عن الزهري ، عن عبدالله والحسن ، عن أبيهما محمّد بن الحنفية ، عن أبيه علي أنّه قال : « أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن متعة النساء يوم خيبر »(10) .
_______________________
(1) صحيح مسلم 3/199 كتاب النكاح باب نكاح المتعة ذيل الرقم 1407 .
(2) سنن النسائي 6/436 كتاب النكاح تحريم المتعة الرقم 3367 .
(3) المنهاج شرح صحيح مسلم 9/154 .
(4) مجمع الزوائد 4/487 كتاب النكاح باب نكاح المتعة الرقم 7391 .
(5) عمدة القاري 17/247 .
(6) مجمع الزوائد 4/487 كتاب النكاح باب نكاح المتعة الرقم 7391 .
(7) المنهاج ـ شرح صحيح مسلم ـ 9/154 .
(8) فتح الباري 9/209 .
(9) زاد المعاد في هدي خير العباد 2/183 .
(10) الموطّأ 2/542 كتاب النكاح باب نكاح المتعة الرقم 41 .
2 ـ تلاعب القوم في لفظ حديث خيبر
وإذ عرفت أنّ الصحيح عندهم ممّا رووا عن أميرالمؤمنين عليه السّلام في هذا الباب حديث التحريم يوم خيبر ، وعمدته حديث الزهري عن ابني محمّد بن الحنفية عنه عليه السّلام فلا بأس بأن تعلم بأنّ القوم قد رووه بألفاظ مختلفة .
قال ابن تيميّة : « رواه الثقات في الصحيحين وغيرهما عن الزهري ، عن عبدالله ، والحسن ابني محمّد بن الحنفيّة عن أبيهما محمّد بن الحنفيّة ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قال لابن عبّاس رضي الله عنه ]لمّا أباح المتعة[ : إنّك امرؤ تائه ! إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرّم المتعة ولحوم الحمر الأهلية ]عام خيبر[ . رواه عن الزهري أعلم أهل زمانه بالسُنّة وأحفظهم لها ، أئمّة الإسلام في زمنهم ، مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وغيرهما ممّن اتّفق المسلمون على علمهم وعدلهم وحفظهم ، ولم يختلف أهل العلم بالحديث في أنّ هذا حديث صحيح متلقّى بالقبول ، ليس في أهل العلم من طعن فيه »(1) .
وفي البخاري ومسلم والترمذي وأحمد عن الزهري : « أخبرني الحسن بن محمّد بن عليّ وأخوه عبدالله ، عن أبيهما أنّ عليّاً قال لابن عبّاس : إنّ النبي نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهليّة زمن خيبر » .
وفي مسلم : « سُمع عليّ بن أبي طالب يقول لفلان : إنّك رجل تائه » .
وفيه : « سمع ابن عبّاس يلين في المتعة فقال : مهلا يا ابن عبّاس » .
وفي النسائي : « عن أبيهما أنّ عليّاً بلغه أنّ رجلا لا يرى بالمتعة بأساً فقال : إنّك تائه ، إنّه نهاني رسول الله عنها وعن لحوم الحمر الأهليّة يوم خيبر » .
وفي الموطّأ رواه عن عليّ بلفظ : « نادى منادي رسول الله يوم خيبر » .
أمّا الشافعي فروى حديث خيبر ، لكن سكت عن قصّة المتعة لما علم فيها من الاختلاف !
وأمّا الطبراني فروى الحديث بلفظ : « تكلّم عليّ وابن عبّاس في متعة النساء فقال له عليّ : إنّك رجل تائه ، إنّ رسول الله نهى عن متعة النساء في حجّة الوداع » فروى الحديث لكن جعل زمن التحريم حجّة الوداع !
_______________________
(1) منهاج السُنة 4/189 .
3 ـ نظرات في دلالة حديث خيبر
ثمّ إنّ هذا الحديث في متنه ودلالته صريح في الأمور التالية :
أولا : إنّ أميرالمؤمنين عليه السّلام كان يرى حرمة نكاح المتعة ، حتى أنّه خاطب ابن عبّاس القائل بالحليّة بقوله : « إنّك رجل تائه » .
وهذا كذبٌ ، فالكلّ يعلم أنّ الإمام عليه السّلام كان على رأس المنكرين لتحريم نكاح المتعة ، كما كان على رأس المنكرين لتحريم متعة الحجّ ، ولكن لا غرابة في وضع القوم الحديث على لسانه في باب النكاح المتعة كما وضعوه في باب متعة الحجّ ... وهو أيضاً عن لسان ولدي محمّد عن أبيهما عنه ... فقد روى البيهقي : « عن عبدالله والحسن ابني محمّد بن علي عن أبيهما : عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنّه قال : يا بني أفرد بالحجّ فإنّه أفضل »(1) .
وثانياً : إنّ تحريم متعة النساء كان يوم خيبر وهذا ما غلّطه وكذّبه كبار الحفّاظ ، ثمّ حاروا في توجيهه .
قال ابن حجر بشرحه عن السهيلي : « ويتّصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال ، لأنّ فيه النهى عن نكاح المتعة يوم خيبر ، وهذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر »(2) .
وقال العيني بشرحه « قال ابن عبدالبرّ : وذكر النهي عن المتعة يوم خيبر غلط »(3) .
وقال القسطلاني بشرحه « قال البيهقي : لا يعرفه أحد من أهل السير ولارواة الأثر »(4) .
وقال ابن القيّم : « قصّة خيبر لم يكن فيها الصحابة يتمتّعون باليهوديّات ، ولا استأذنوا في ذلك رسول الله ، ولا نقله أحد قطّ في هذه الغزوة ، ولا كان للمتعة فيها ذكر ألبتّة لا فعلا ولا تحريماً »(5) .
وقال ابن كثير : « وقد حاول بعض العلماء أن يجيب عن حديث عليّ رضي الله عنه بأنّه وقع فيه تقديم وتأخير وإلى هذا التقرير كان ميل شيخنا الحافظ أبي الحجّاج المزي ... ومع هذا ما رجع ابن عبّاس عمّا كان يذهب إليه من إباحة الحمر والمتعة »(6) .
وثالثاً : إنّ ابن عبّاس كان على خلاف أميرالمؤمنين عليه السّلام في مثل هذه المسألة .
وهذا ممّا لا نصدّقه ، فابن عبّاس كان تبعاً لأميرالمؤمنين عليه السّلام لا سيّما في مثل هذه المسألة التي تعدّ من ضروريّات الدين الحنيف .
ولو تنزّلنا عن ذلك ، فهل يصدّق بقاؤه على رأيه بعد أن بلّغه الإمام عليه السلام حكم الله ورسوله في المسألة ؟!
كلاّ والله ، ولذا اضطرّ الكذّابون إلى وضع حديث يحكي رجوعه . قال ابن تيميّة : « وقد روى ابن عبّاس أنّه رجع عن ذلك لمّا بلغه حديث النهي »(7) .
لكنّه خبر مكذوب عليه ، قال ابن حجر العسقلاني عن ابن بطّال : « وروي عنه الرجوع بأسانيد ضعيفة »(8) ولذا قال ابن كثير : ومع هذا ما رجع ابن عبّاس عمّا كان يذهب إليه من إباحتها كما تقدم .
نعم ، لم يرجع ابن عبّاس حتى آخر لحظة من حياته :
أخرج مسلم عن عروة بن الزبير أنّ عبدالله بن الزبير قام بمكّة فقال : « إنّ ناساً أعمى الله قلوبهم ـ كما أعمى أبصارهم ـ يفتون بالمتعة ، يعرّض برجل . فناداه فقال : إنّك لجلف جاف ، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتّقين ـ يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ . فقال له ابن الزبير : فجرّب بنفسك(9) ، فوالله لئن فعلتها لأرجمنّك بأحجارك »(10) .
وابن عبّاس هو الرجل المعرَّض به ، وقد كان قد كُفّ بصره ، فلذا قال : « أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم » . وقد وقع التصريح باسمه في حديث أبي نضرة الذي أخرجه مسلم أيضاً وأحمد .
فهذا حال ابن عبّاس وحكمه في زمن ابن الزبير بمكّة فابن عبّاس كان مستمرّ القول على جواز المتعة ، وتبعه فقهاء مكّة كما عرفت ، ومن الواضح عدم جواز نسبة القول بما يخالف الله ورسوله والوصيّ إلى ابن عبّاس ، لو كان النبيّ قد حرّم المتعة وأبلغه الإمام به حقّاً ؟
________________________
(1) سنن البيهقي 5/8 كتاب الحج باب من اختار الإفراد ورآه أفضل ، الرقم 8818 .
(2) فتح الباري 9/210 .
(3) عمدة القاري 17/246 .
(4) إرشاد الساري 11/397 و 9/232 .
(5) زاد المعاد في هدي خير العباد 2/184 .
(6) تاريخ ابن كثير 4/220 .
(7) منهاج السُنّة 4/190 .
(8) فتح الباري 9/216 .
(9) رواه بعضهم بلفظ : « فجرت نفسك » .
(10) صحيح مسلم 3/197 كتاب النكاح باب نكاح المتعة ذيل الرقم 1406 .
4 ـ نظراتٌ في سند ما روي عن عليّ عليه السّلام
هذا ، وقد رأيت أنّ الأحاديث المتعارضة المرويّة عن أميرالمؤمنين عليه السلام في تحريم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نكاح المتعة مروية كلّها بسند واحد ... فكلّها عن الزهري عن ابني محمّد عن أبيه ...
وبغضّ النظر عمّا ذكروا بترجمة عبدالله والحسن ابني محمّد بن الحنفيّة ... وعمّا جاء في خبر الحسن بن محمّد عن سلمة بن الأكوع وجابر ابن عبدالله من « أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتانا فأذن لنا في المتعة » من الدلالة على عدم قولهما بالحرمة ، إذ لا يعقل أن يروي الرجل عن هذين الصحابيين حكم التحليل ولا يروي عنهما ـ أو لم يخبراه ـ النسخ بالتحريم لو كان .
بغضّ النظر عن ذلك ...
وبغّض النظر عن التكاذب والتعارض الموجود فيما بينها ...
فإنّ مدار هذه الأحاديث على « الزهري » .
موجز ترجمة الزهري
وهذا موجز من ترجمة « الزهري » الذي وضع الأحاديث المختلفة المتعارضة على مولانا أميرالمؤمنين عليه السّلام :
1 ـ كان من أشهر المنحرفين عن أميرالمؤمنين عليه السّلام ، وكان يجالس عروة بن الزبير فينالان منه .
2 ـ كان يرى الرواية عن عمر بن سعد بن أبي وقّاص ، قاتل الإمام الحسين بن عليّ عليهما السّلام .
3 ـ كان من عمال الحكومة الأمويّة ومشيّدي أركانها ، حتّى أنكر عليه كبار العلماء ذلك .
4 ـ قدح فيه الإمام يحيى بن معين حين قارن بينه وبين الأعمش .
5 ـ كتب إليه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام يوبّخه ويؤنّبه على كونه في قصور الظلمة ... ولكن لم ينفعه ذلك !!
وإن شئت التفصيل فراجع رسالتنا حول صلاة أبي بكر ;
نتيجة البحث في نكاح المتعة
ويتخلّص البحث في خصوص نكاح المتعة في خطوط :
1 ـ إنّه من أحكام الإسلام الضرورية بالكتاب والسُنّة والإجماع ،وكان على ذلك المسلمون قولا وفعلا .
2 ـ وإنّ عمر بن الخطاب حرّمه بعد شطر من حكومة .
3 ـ واختلف القوم ـ بعد الإقرار بالأمرين المذكورين ـ واضطربوا في توجيه تحريم عمر فمنهم من قال بأنّ النسخ كان من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يعلم به غير عمر ، وهذا من البطلان بمكان .
ومنهم من قال بأنّ التحريم كان من عمر نفسه لكن يجب اتّباعه ، لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : « عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الرشدين » . ولكن هذا الحديث من أحاديث سلسلتنا !!
ومنهم من قال بأنّ المحرِّم هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نفسه ; ثمّ اختلفوا في وقت هذا التحريم على أقوال ، واستندوا إلى أحاديث لكنّها أحاديث موضوعة .
4 ـ وإذا كانت حليّة المتعة من أحكام الإسلام ، والأحاديث في تحريم النبي موضوعة ، وإنّ عمر هو الذي حرّم ، وأنّ الحديث المستدلّ به لوجوب اتّباعه يشكّل الحلقة السادسة من سلسلتنا .
فما هو إلاّ « حدث » وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم « إيّاكم ومحدثات الأمور ... » .
أقول :
هذا ما توصّلت إليه في هذا البحث الوجيز الذي وضعته في حدود الأحاديث والأقوال الواردة فيه ، من غير تعرّض للأبعاد المختلفة والجوانب المتعدّدة التي طرحها الباحثون من فقهاء ومتكلّمين في كتبهم المفصّلة المطوّلة .
والله أسأل أن يوفّقنا لتحقيق الحقّ واتّباعه ، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم ، وأن يحشرنا في زمرة محمّد وآله وأشياعه ، إنّه هو البرّ الرحيم .