عاش الإمام علي الهادي عليه السلام معظم حياته في سرّ من رأى، وقد فرضت عليه السلطة العبّاسيّة الإقامة الجبرية فيها، فكان شبيهاً بالمعتقل، فقد أحاطت بداره مباحث الأمن العبّاسي وهي ترصد جميع تحرّكاته، وتراقب كلّ مَن يتّصل به، أو يحمل له المال، وقد عانى الإمام من الضغط السياسي أشدّ ما تكون المعاناة أيّام الطاغية المتوكّل العبّاسي الذي لم يألُ جهداً في ظلم العلويّين والتنكيل بهم، وقد كابدوا في عهده الأسود صنوفاً مرهقة من الكوارث والخطوب.
لقد كان الإمام أبو الحسن عليه السلام مقيماً في يثرب التي هي مسقط رأسه، وبلد آبائه، وقد احتفّ به العلماء والفقهاء والرواة، فكانوا ينتهلون من نمير علومه التي استمدّها من آبائه الذين أضاءوا حياة الإنسان بنور العلم والإيمان، وكما كان مصدراً خصباً للحياة الفكرية والعلمية في يثرب.
فلم يقتصر الإمام على برّه وإحسانه إلى أهالي يثرب، وإنّما شمل جميع مناحي حياتهم، فكان يواسيهم في السرّاء والضرّاء، ويعود مرضاهم، ويشيّع جنائزهم، ويعطف على الصغير والكبير منهم، ولم يبق لونٌ من ألوان الخير والمعروف إلا أسداه عليهم.
لكن المدينة المنورة لم تخلُ من الحاقدين والظالمين لآل محمد عليهم السلام، فقد حقد على الإمام الهادي عليه السلام بعض من لا حريجة له في الدين، من الممسوخين والحاقدين على ذوي الأنساب الشريفة، فقد ساءهم ما يتمتع به الإمام من الفضائل.
وكان من أشد أعدائه وأخبثهم عبد الله بن محمد، وكان قد أقامه المتوكل من قبله في يثرب والياً على إقامة الصلاة، وسائر الشؤون الحربية.
وكان هذا اللعين يقصد الإمام بالسوء والأذى، وقد سعى به عند المتوكل وكانت سعايته تحمل أموراً خطيرة، وهي:
التفاف الجماهير حول الإمام مما يشكل خطراً على الدولة.
ورود الأموال الطائلة إلى الإمام من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ولا يؤمن أن يشتري بها السلاح لمقاومة الدولة العباسية.
إنه لا يؤمن أن يقوم بثورة عارمة للإطاحة بالحكومة العبّاسيّة.
وطلب من المتوكل العباسي المبادرة لإلقاء القبض على الإمام لئلاّ تقوى شوكته، ويعظم أمره، فلا تتمكّن الدولة من مقاومته.
ولما علم الإمام عليه السلام بوشاية هذا اللعين ومؤامرته ضدّه خاف أن يتخذ المتوكل معه الاجراءات القاسية، وذلك لعلمه بانحرافه عن أهل البيت عليهم السلام وشدّة عدائه لهم، فكتب عليه السلام له رسالة يشكو فيها أحقاد عامله عليه، وسوء معاملته له، وقيامه بما يسوءه، كما أحاطه علماً بكذب وشايته، وأنه لا يبغي للمتوكل سوءاً، ولا يرى الخروج على الحكومته.
فأرسل المتوكل إلى الإمام رسالة أجاب فيها عن رسالته، وقد عزل فيها عامله الباغي اللئيم، كما دعا الإمام إلى الحضور في سرّ من رأى للإقامة الجبرية فيها ليكون تحت مراقبته وهذا نص رسالته:
أمّا بعد، فإن الأمير عارف بقدرك، راع للقرابتك، موجب لحقك، مقدر من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يصلح الله به حالك، ويثبّت به عزّك وعزّهم، ويدخل الأمن عليك وعليهم يبتغي رضى ربه، وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم.
وقد رأى الأمير صرف عبد الله بن محمد عما كان يتولاه من الحرب والصلاة بمدينة الرسول صلى الله عليه – وآله – وسلم إذا كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك، واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك به ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه، وصدق نيّتك في برّك وقولك، وإنك لم تؤهّل نفسك لما قرفت بطلبه، وقد ولّى الأمير ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك، والانتهاء إلى أمرك ورأيك، والتقرّب إلى الله وإلى الأمير بذلك، والأمير مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك، والنظر إليك، فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما أحببت شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت، وتسير كيف شئت.
وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى الأمير ومن معه من الجند يرحلون برحلك، ويسيرون بسيرك، فالأمر في ذلك إليك، وقد تقدّمنا إليه بطاعتك، فاستخر الله حتّى توافي الأمير، فما أحد من إخوانه وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة، ولا أحمد له إثرة، ولا هو لهم أنظر، ولا عليهم أشفق وبهم أبرّ، وإليهم أسكن منه إليك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فسافر يحيى إلى يثرب، وأخذ يجدّ في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى إليها، ولما علم المدنيون بمهمته فزعوا أشد ما يكون الفزع، وخافوا عل الإمام من بطش الطاغية به، فقد كانوا يحبّون الإمام أشدّ ما يكون الحبّ، لأنه كان ملازماً لمسجد جده صلى الله عليه وآله وسلم وكان يغذّي علماءهم بعلمه، ويحسن إلى فقرائهم، ولم يكن عنده أي ميل إلى الدنيا.
وقام يحيى بتفتيش دار الإمام الهادي عليه السلام، ففتّشها تفتيشاً دقيقاً، فلم يجد فيها شيئاً سوى المصاحف وكتب الأدعية، وتبيّن له كذب ما نُسب إلى الإمام من أن داره مليئة بالأسلحة والأموال.
وأكره الإمام عليه السلام على مغادرة يثرب والشخوص إلى سامراء، وقد صحبه في سفره أفراد عائلته، وقد قام يحيى بنفسه بخدمة الإمام، وقد أعجب بهديه وورعه وتقواه، وأخذ الركب يطوي البيداء حتى انتهوا إلى بغداد.
ويذكر اليعقوبي أن الإمام لما وصل إلى الياسرية تلقاه إسحاق بن إبراهيم، فرأى تشوق الناس إليه، واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة.
وانطلق يحيى إلى زيارة حاكم بغداد إسحاق بن إبراهيم الظاهري، فأحاطه علماً بالأمر، فقال له إسحاق: إن هذا الرجل يعني الإمام الهادي عليه السلام قد ولده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد عرفت انحراف المتوكل، فإن بلغته عنه كلمة قتله، ويكون النبي صلى الله عليه وآله خصمك يوم القيامة.
ثم غادروا بغداد واتّجهوا إلى سامرّاء، وحينما انتهوا إليها بادر يحيى بزيارة وصيف التركي، وهو من كبار رجال الدولة، فعرّفه بوصول الإمام عليه السلام معه، فبادر وصيف فحذّره من أن ينقل إلى المتوكل ما يسوء الإمام قائلاً: يا يحيى، والله لئن سقط منه أي من الإمام شعرة لا يطالب بها سواك.
وبهر يحيى من توافق إسحاق ووصيف من التوصية بالإمام عليه السلام، وتأكيدهما على لزوم المحافظة عليه.
وقد أمر المتوكل بإنزال الإمام عليه السلام في خان الصعاليك للحط من شأنه والتقليل من أهمّيّته أمام الرأي العام، وقد زاره صالح بن سعيد، فتألّم وراح يقول: جعلت فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك، والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك.
فنظر الإمام إليه بعطف ولطف، وشكر عواطفه، وخفّف عليه من الألم والوجد، فأراه المعجز الذي أمدّ الله به أولياءه وأنبياءه، وسكن روع صالح، وذهب ما في نفسه من الحزن.
وبادر يحيى إلى المتوكلّ فأخبره بحسن سيرة الإمام وزهده، وأنّه فتّش داره فلم يجد فيها سوى المصاحف وكتب الأدعية، وأنه بريء مما نسب إليه من عزمه على الثورة على حكومته، وقد أزال ما في نفسه من الوجد والنقمة على الإمام، وأمر المتوكّل بإدخاله عليه، ولما مثل عنده قابله بمزيد من الحفاوة والتكريم، وأجزل له الصلة، وألزمه بالإقامة في سرّ من رأى ليكون تحت المراقبة.
ولما فرض المتوكّل الإقامة الجبرية على الإمام بادر فاشترى داراً من دليل بن يعقوب النصراني فسكنها مع أفراد عائلته، وأقام فيها حتى توفّي سلام الله عليه ودفن فيها.