على الجسر ببغداد (رواية)
  • عنوان المقال: على الجسر ببغداد (رواية)
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 14:27:48 3-9-1403

على الجسر ببغداد (رواية)

دنيا الأضداد
دجلة تتدافع أمواجه.. تتألق تحت أشعة شمس الغروب.. القباب والمنائر تغمرها غلالة ذهبية.. فبدت شفّافة موحية.. حتّى أشجار النخيل التي تنهض على ضفاف النهر بدت هي الأخرى كرموشِ حسناء ساحرة..
القصور المرمرية الأنيقة.. تتناثر فوق الشطآن كلالئ منثورة، وما يزال قصر الذهب بقبته الخضراء يهيمن على بغداد أجمل مدن الشرق.. وما يزال الفارس يشير برمحه الطويل إلى المَدَيات البعيدة.. حيث تشتعل الثورات(1).
انزلق القارب الصغير في المياه الباردة.. وراح ينساب مع تموجات النهر.. من بعيد بدا قصر « الخلد » متألقاً.. ما يزال فتيّاً رغم عقد من السنين.
جلس الفتى في قاربه يراقب الامتداد الرشيق لجبهة النهر حيث تغتسل بعض الأغصان المتدلّية.
غابت الشمس، توارت خلف ذُرى النخيل.. فبدت متّقدة بلون يشبه توهجات الجمر في المواقد الشتائية.
هبّت نسمة عليلة بدّدت شيئاً من حرّ آب. في دجلة لا يشعر المرء بلهيب آب، فالضفاف الخضراء والمياه الباردة القادمة من أقاصي الشمال، تبعث في النفس شعوراً بالحيوية..
غابت الشمس.. وانتشرت ظلمة خفيفة.. ومن بَعيد كان صوت الأذان ينساب كانسياب المياه..
ضرب الفتى بمجدافه المياه، فاتّجه القارب صوب قصر « الخُلد ».. وشيئاً فشيئاً تناهت له أصوات الموسيقى والغناء، وكان صوت الأذان يتلاشى في أُذنيه حتّى اختفى تماماً...
توقف القارب في الرمال الناعمة وبدا الشاطئ صفحة ملساء.. قفز الفتى الذي لم يبلغ العشرين بعد.. قفز إلى الشاطئ الرملي، وربط القارب بجذور شجرة معمَّرة.. وراح يشقّ طريقه بين أشجار النخيل..
تعالت أصوات الموسيقى، وارتفع غناء الجواري.. بدا القصر في تلك الليلة صَدَفة جميلة تتألق في الضوء.
مئات القناديل تضيء في الشرفات، والجواري في ثيابهن المزركشة.. شعر الفتى أنّه قد يعيش في عالم آخر.. منذ مدّة وهو يترقّب هذه اللحظة.. لقد سمع منذ أسابيع عن عزم الحاكم « المهدي »(2) على تزويج ابنه هارون من ابنة عمّه المدلّلة « زُبَيدة » أثرى فتيات بغداد.. وسيّدة بني العبّاس الأولى..
اقترب الفتى أكثر.. كان يتلصّص حذراً.. منتظراً فرصة مناسبة ليزجّ بنفسه مع جموع المدعوّين.. سوف تشفع له ثيابه الفاخرة التي جلبها له أبوه التاجر من الهند..
صدحت الموسيقى.. وظهرت عشرات الجواري.. الفتيات الجميلات يخطرن كالظباء.. يَرفَلْن بالحُلل الحريرية المزركشة بالذهب.. فتيات من بلدان عديدة.. فتيان من أرمينيا ومن الهند، والمغرب وإيران.
أروقة القصر مزيّنة بالسجاد الأرمني.. والبُسط الفارسية..
وجاء سِرب من الجواري يَحملنَ أطباقاً من الذهب ملأى بالفضة وأطباقاً من فضة ملأى بالذهب.. وجاء سرب آخر من الجواري يحملن أنواع الحلل.. وسرب من الفتيات يحملن صناديق تزخر بالمجوهرات.. وتلاهُنّ فتيات يحملن آنية العطر.. وأخيراً جاءت حسناوات يحملن أطباق الطعام.. وآنية الخمر.
شعر الفتى لوهلة أنّه في الجنّة.. تذكّر صديقه الفقير الذي مات في « الوباء »(3) قبل أيّام.. وفي غمرة ذهوله ظهرت « العروس ».. ظهرت « زبيدة » كأجمل ما تكون، تنوء بحلل الذهب، ورأى لأول مرّة تلك الحُلّة العجيبة التي طالما سمع عنها في الأحاديث والحكايات.. رأى شيئاً أُسطورياً..
كيف يُصاغ الثوب كلّه من الذهب فلا يدخل فيه من الغَزْل سوى القليل القليل من الحرير.
كان منظر اللآلئ وهي تُطرّز ثوب الذهب كنجوم في بركة تغمرها أضواء الشمس..
كانت زبيدة تخطر في مشيتها تحفّها عشرات الصبايا.. وقد استقرّ فوق رأسها تاج ملكي مرصّع بالجواهر النادرة..
وجاء « هارون »(4) بشبابه المتفجّر وطوله الفارع.. ووجهه الممتلئ نعمةً ودلالاً.
وبالرغم من أنّ الحاكم قد حرص على أن يظهر بمظهر الأُبهة، لكنّه ضاع إلى جانب زوجته « الخَيزُران » التي كانت تجلس كملكة، عيناها تتألقان بنفوذ قاهر..
أمّا الحاكم العبّاسي فقد بدت عيناه منطفئتين.. أذهب بريقَهما السُّكْر..
انتصف الليل.. واشتعلت حمّى الشهوات، وتعالت الضحكات الماجنة..
وانسلّ الفتى.. عاد من حيث أتى.. عاد قبل أن يدركه الصباح.. وقبل أن تسكت « شهرزاد » عن الكلام المباح!
ألفى قاربه في مكانه لَكأنه ينتظر.. شعر الفتى أنّه كان في عالم الأطياف.. وأنّه قد استيقظ ليجد نفسه في قاربه يجذف باتجاه الجانب الشرقي حيث تنهض أكواخ الفقراء. طفحت في أعماقه دهشة كفقاعات مليئة بالهواء سرعان ما تنفجر وتتبدد.. سمع نفسه يقول:
ـ بغداد، يا مدينةً عجيبة.. كيف أمكنكِ أن تحتضني كل هذا الترف والبذخ إلى جانب البؤس ؟!
كيف لدِجلتك أن تبقى هادئة وهي تمرّ بالقصور مقابل الأكواخ ؟! بغداد أنت حكاية عجيبة! الويل لك يا بغداد!
فجأة ظهر في قلب الظلمة قارب مليء بوجوه قاسية.. رجال يحملون الرماح. بدا أحدهم بطوله الفارع ووجهه القاسي وشواربه المفتولة كائناً مخيفاً كالذي يتحدّث عنه تجّار البحار..
قفز بعض الرجال إلى قاربه.. واستسلم الفتى.. عرف أن هؤلاء من حرس القصر.. وأنّه قد ارتكب جرماً بالاقتراب من قصر « الخلد ».
تركهم يفعلون ما يشاؤون، لم يعترضْ ولم يستعطف..
راح القاربان ينسابان وسط صمت مَريع.. سأل الرجلُ المفتول الساعدين والشارب:
ـ ما اسمك ؟
أجاب الفتى:
ـ عليّ.
وصل القاربان الى مرفأ صغيراً عند جسر الرُّصافة. نزل الرجال.. ونزل الفتى. اتّجهوا إلى باب الطاق.. وعبروا الخندق.. واجتازوا المَسناة.. فاستقبلهم حرس الطاقات في باب البصرة. وفي ضوء الشماعل تأمّل الفتى رجال الشرطة..
أدرك أنهم سوف يذهبون به إلى سجن « المِطْبَق »، فشعر بدوار يعصف برأسه المُثقَل بالهموم.
 

العَودة إلى المدينة
قصر الذهب تضيء أروقتَه القناديل.. انتصف الليل وخفّت حركة الحرّاس وخَبَت بعضُ المشاعل.. أوَت جواري القصر إلى مخادعهنّ الوثيرة. « الخليفة » يتقلب فوق سريره بين الوسائد.. تفوح من فمه رائحة الخمر.. من يراه في تلك اللحظات يحسبه نشواناً في خيالات الأحلام.. يقظته حلم لذيذ، ونومه أطياف ملوّنة.
ولكن ما بال وجهه يبدو كدراً.. حاجباه ينعقدان.. ولونه مخطوف، ما تزال الكوابيس تطارده ؟! وفي كل مرّة كان يرى خزائن والده في القَبو ملأى بالجماجم.. جماجم أبناء العمومة. فجأة انتفض النائم مذعوراً.. استوى على فراشه وجبينُه يتصبب عرقاً.
تلفّت حوالَيه قبل أن يتأكد من أنّه زعيم البلاد وخليفة العباد.. الذي تُجبى إليه الأموال من المشارق والمغارب..
كانت حسناء الروم تغطّ في نوم عميق.. غادرَ « الخليفة » فراشه..
وقف « الخليفة » في شرفة القصر يحدّق في الظلام.. وراح يردد بصوت شجيّ:
ـ « فهَل عسَيتُم إن تَولَّيتُم أن تُفسدوا في الأرضِ وتُقطِّعوا أرحامَكم... ».
كان « الربيع ين يونس »(5) « وزير الخليفة » غارقاً في الملاءات في تلك الليلة عندما هب على دويّ طرقات غليظة.. أدرك أنّهم رُسل « الخليفة ». ارتدى ثيابه على عجل، وانطلق مع الحرّاس إلى قصر « الذهب ».
ألفى الخليفة يذرع البهو، ويردد بصوت جميل آية من كتاب الله، هتف « الخليفة ».
ـ علَيَّ بموسى بن جعفر..
لم يكن هناك مجال للتأخير، فالأوامر واضحة وقويّة. انطلق الوزير يحفّه حرّاس غلاظ إلى سكّة المطبق. هناك وإلى يمين الطريق المؤدية إلى بوابة البصرة يقع السجن الرهيب.. زنازين صغيرة في أعماق الأرض تشبه القبور، حَفَرها « المنصور » لكل من يعارض « سلطان الله في الأرض »(6)! لكل من يعارض « الخليفة »!
لم تُفلح المشاعل في تبديد الظلمات المتراكمة في « المطبق »، وبدا الهواء المرطوب داخل السجن خانقاً...
اتّجه الوزير بخطىً واسعة إلى زنزانة يعرفها تماماً.. هنا ينزل الرجل المَدنيّ موسى بن جعفر...
كان الرجل المدنيّ ما يزال ساجداً كثوبٍ مطروح.. وقف الوزير مشدوهاً.. ومرّت لحظات صمت رهيب... فهذا الرجل الحجازيّ لا يعبأ بمَن حوله وبما حوله.. لم يسمعه أحدٌ يتضجّر من ظُلمة السجن.. من الزنازين الخانقة.. من القيود القاسية.
همس الوزير باحترام جمّ:
ـ يا أبا الحسن!
رفع الرجل الذي أطلّ على الأربعين رأسَه، تألقت عيناه تحت وهج المشاعل.. وبدا وجهه الأسمر مضيئاً بنور شفّاف..
العينان تُخفيان حزناً عميقاً... والشفتان تكمن وراءهما ابتسامة ملائكية.. والأنف الأشمّ يعكس كبرياء الإنسان الذي لا يسجد لغير الله..
شعر الوزير برهبة تستوعب وجوده.. وتساءل في نفسه عن سرّ هذا الرجل الغريب!
نهض أبو الحسن.. ابتسم الوزير وهو يزفّ له بشرى الحرّية:
ـ لقد استدعاني الخليفة وسمعتُه يقرأ آيةً من كتاب الله..
الوجه الأسمر يطفح بالطمأنينة.. تنعكس فوق ملامحه عوالم السلام..
فكّ الحارس قيداً يربط قدم السجين بصخرة قاسية..
في بوابة المطبق الصخرية.. رأى الفتى رجلاً يطلّ على الأربعين، وجهه الأسمر يطفح طمأنينة.. وجسمه النحيف يشبه نخلة مَيساء..
فاحت رائحة طيّبة.. لكأنّ الربيع قد حلّ في « المطبق » يمنح المقهورين الأمل.
توقّف الرجل المدني وقد مرّ بالفتى.. تأمل في وجهه قليلاً وهمس:
ـ زكاة السلطان الإحسان إلى الإخوان.
غادر الرجل المدني « المطبق »، لاحت له السماء وقد تناثرت آلاف النجوم كلالئ منثورة فوق عباءة كُحْليّةِ اللون.
تمتم الرجل المدني وهو يتطلع إلى السماء المرصّعة بالنجوم.
ـ يا مَن لا يعتدي على أهل مملكتِه!
رجف قلب الوزير، تذكّر دسائسه للإطاحة بالوزير السابق « يعقوب بن داود »(7)، ها هو الآن في ظلمات المطبق سيبقى فيها حتّى ينتقل إلى ظلمات القبر.
 

* * *

نهض « الخليفة » احتفاءً بالرجل المدني.. عانقه وقبّله وأخذ بعَضُده ليجلسه إلى جانبه..
مرّت لحظات صمت قطعها « الخليفة » قائلاً:
ـ يا أبا الحسن.. رأيتُ جدَّك أمير المؤمنين عليّاً.. كان حزيناً، قال لي: يا محمد! «فهَل عسَيتُم إن تولّيتُم إنْ تُفسِدوا في الأرضِ وتُقطِّعُوا أرحامَكم»..
ـ وها أنا أريد أن أصل رحمي.. أريد أن أردّك إلى أهلك.. ولكني أخشاك يا موسى.. أخشى أن تخرج علَيّ أو على أحد من ولدي!
أجاب الرجل المدني:
ـ واللهِ ما فعلتُ ذلك، ولا هو من شأني.
أجاب « الخليفة » وقد خامره شعور بالارتياح:
ـ صدقت.
والتفت إلى وزيره وقال:
ـ يا ربيع، أعطِه ثلاثة آلاف دينار، وردّه إلى أهله.
انتهى اللقاء.. ونهض الرجل المدني يودّع القصر والسجن، ويودّع بغداد..
في قلبه شوق للقاء الأحبّة.. هناك في مدينة جدّه أولاد وبنات ينتظرون.. يترقّبون عودة أبيهم...
كانت النجوم تشتدّ سطوعاً في الهزيع الأخير من الليل، لم تَغفُ بغداد بعد.. فبعض الكُوى والنوافذ ما تزال تتدفق نوراً.. وتتناهى لمن يمرّ على بعض بيوتها أصوات موسيقى وغناء..
كان الربيع يدرك تقلّبات « الخليفة ».. يعرف نزواته ويسبر مدى حقده على أبناء عليّ.. لهذا هيأ لوازم السفر للرجل المدني الذي غادر أسوار بغداد في طريق العودة إلى أرض الوطن..
إنّ من يريد العودة إلى المدينة عليه أن يطوي المسافات ويجتاز محطّات عديدة.. عليه أن يتجه أولاً إلى الفرات قريباً من قرى « نينوى » ثم يعبر النهر متّجهاً إلى « العُذَيب » ومنها إلى القادسية ثمّ إلى « الرُّهَيمية » ومنها إلى « البيضة » ومنها إلى عيون «شُراف» وإلى « بطن العَقَبة » فإلى « زُبالة ». وفي زُبالة كان رجل من أهلها ينتظر.. يترقب يوماً يعود فيه الغريب إلى أهله..
منذ الصباح و « أبو خالد » يترقّب المسافرين القادمين. لقد انصرمت الشهور والأيّام وما يزال أبو خالد يترقب يوماً يعود فيه « أبو الحسن ».
الشمس تسافر في بحر السماء.. وما يزال طريق القوافل مقفراً.. لا ناقة ولا جمل..
أبو خالد ما يزال يترقب.. ينتظر.. الشمس تجنح نحو الغروب تبهت أشعتها.. وأصعب شيء أن ينتظر المرء، لَكأنّ الزمن يتوقف.. فتصبح الساعة عاماً واللحظات شهوراً.
أصبح فؤاده خالياً.. بدأت الوساوس تطفو في قلبه كشياطين أيقظها الظلام.. وتساءل في نفسه: أيعود حقاً ؟! الشمس على وشك أن تغيب ولا شيء في الأفق..
غاصت الشمس في الأُفق لم يبق منها سوى ثلمة ضئيلة.. اهتزّ إيمانه كشُجيرة تحرّكها ريحٌ باردة.. فجأة ظهرت في الأفق نقطة.. وشيئاً فشيئاً كانت تكبر وتكبر.. قفز قلبه.. استيقظ في قلبه فرح طفولي، لعلّ في القادمين موسى.. أجل إنه موسى.. يتقدم « القطار » يمتطي حيواناً ينحطّ عن خُيَلاء الخيل ويرتفع عن ذلة الحمير..
هتف العائد:
ـ يا أبا خالد!
ـ لبّيك يا ابن رسول الله..
قال ابن النبيّ صلّى الله عليه وآله وهو يحاور رجلاً اهتزَّ إيمانه قبل الغروب:
ـ لا تشكّنّ.. وَدّ الشيطانُ أنّك شككت.
تمتم أبو خالد.
ـ الحمد لله الذي خلّصك منهم..
همس ابن النبيّ صلّى الله عليه وآله وهو ينظر إلى الأفق البعيد.. إلى الجهة التي تهب منها ريح الشمال:
ـ إنّ لي عودة لا أتخلّص منها.
وأمضى العائد إلى ربوع وطنه ليلته قبل أن يستأنف رحلته إلى المدينة التي أضاءت الدنيا.
 

بشائر في آفاق خانقة
مثلما تدلهمّ السُّحب في السماء، اكفهرّت الأجواء في المدينة المضيئة.. وبدا مسجد النبيّ كوكباً تحاصرة آلاف الغيوم.. رجال الشرطة يجوبون الأزقة، وهمسات عن موت « الخليفة » في بغداد في ظروف غامضة.. وها هو ابنه يتربّع على دَست الحكم فترتجف المدن. والذين يعرفون بواطن الأمور ربّما دُهشوا لمرأى « الخليفة الجديد »، ما أكثر شَبهَه بيزيد.. طيشه، غلظته قسوته خروجه على التقاليد والأديان والأخلاق.. وأعجب شيء فيه أنّه يحمل اسم « موسى » وهو في جوهره فرعون، وأنّه يُلقَّب بـ «الهادي»(8) وهو نقيض لذلك.
بدت الأجواء خانقة.. وأصعب شيء أن يعيش الإنسان مقهوراً.. فالحياة تكمن في الحرّية.. وعندما يشعر المرء أنّه فقد حرّيته تصبح حياته عبءً ثقيلاً.. إنه مستعد لأن يفقد رأسه من أجل نسمة حرّة تُنعش قلبه..
ليس هناك ما هو أفظع من قهر الأحرار، فقلوبهم التي تنبض بسلام، أو تتدفق رحمة.. تصبح في لحظةِ إذلالٍ براكينَ وشواظَّ من نار ونحاس..
وما الثورات التي تندلع كحرائق مجنونة إلاّ غضب مقدس يختار فيه الأحرار الفناءَ من أجل الكرامة..
أطلّ « الهادي » بوجهه القاسي.. بطيشه بحقده بكلّ عنجهيّته، فكشّرت شرطته في المدن الخائفة عن أنياب، أين منها أنياب الذئاب!
اتّبع « العُمريُّ »(9) وقد اصبح الحاكم بأمره في « المدينة » سياسةَ الإذلال لأبناء عليّ عليه السّلام..
بدأت النار تستعر تحت الرماد.. القلوب الحُرّة تكتوي بالآلام.. تتّقد وقد أزفت لحظة الانفجار..
مثلما تتحشّد الغيوم في السماء.. مثلما يصبح الفضاء مشحوناً بالبرق والرعود.. كانت نُذُر الثورة تتجمع.. والتاريخ يشير إلى بقعة بين مكّة والمدينة.. هناك سيحطّم الإنسان نفسه من أجل كرامته.. سيمزّق جسده من أجل أن تبقى روحه بيضاء.. سيقدّم الإنسان جزءه المادّي من أجل أن يبقى إنساناً.. الله وحده يراقب الأعماق.. وحده يدرك ماذا يدور في رأس « الحسين »(10) الجديد وهو يتجه إلى قصر الحاكم..
حشود العلويين تتجه إلى ميعادها اليومي أمام « الأمير » حاكم المدينة..
ها هو يتصفّح عشرات الوجوه.. عشرات الأسماء الحَسَن.. يحيى.. الحسين.. إدريس.. و.. و.. يُريهم أنه هو الحاكم.. بيده الأمر وبيده النهي وهو على كلّ شيء قدير!
صرخ « الحائك » في يوم الجمعة، والشمسُ في كبِد السماء:
ـ اين الحَسَن ؟
والتفت إلى الحسين ويحيى باستعلاء:
ـ لَتأتيانّي به أو لأحبسنّكما.. لقد تغيّب عن العرض ثلاثة أيّام.
قال يحيى:
ـ لقد ألهَبتْه سياطُكم.. وطوافكم به المدينة.. واتّهامكم له بشرب الخمر.
قال الحائك:
ـ إن هذا يُغضب الأمير!
ابتسم يحيى(11) ساخراً، وانفجر « الأمير » يهدد ويتوعد:
ـ لَسوف أُحرق بيوتكم.. وأُهرق الدماء.. إذا لم يأت الحسن..
لم يعد هناك من طريق آخر.. وعندما يُخيَّر الحرّ أيَّ الطريقين يسلك: طريق الحياة الذليلة أم طريق الفناء، لن يتردد في الاختيار.. سوف يختار « كربلاء ». وهكذا دوّت لحظة الانفجار.. لقد اختار الحسين طريق الثورة.. ها هو يصغي إلى صهيلٍ قادم من بعيد.. الحسين يمنح ابن اخيه اسمه وقلبه وجواده.. يمنحه سيفاً.. والقدر يمنح الثائر الجديد بقعة في الصحراء بين مكّة والمدينة..
شبّت نار الثورة في منتصف الليل.. تألقت المدينة المضيئة.. محمّد صلّى الله عليه وآله يمنح أسباطه خيلاً وبيارق.. وأمانيَّ خضراء. فرّ الوالي.. عادت شرطته فئراناً مذعورة تبحث عن جحور آمنة.
هبّ الوالي مذعوراً.. أيقظه الأذان.. كلمات بثّت في قلبه الذعر. كلمات تنساب كلحن يدور في الفضاء في غبش الفجر:
ـ حيَّ على خيرِ العمل..
لقد مر أكثر من قرن على اندثارها.. وها هي تعود تبشّر بفجر جديد. واستيقظ أهل المدينة على دويّ الكلمات الثائرة.. لقد نهض الحسين.. تحطّمت قضبان السجون.. وتنفّس المقهورون في ذلك اليوم الربيعي نسماتِ الحرّية..
كلمات الحسين تدوّي في جنبات المسجد النبوّي:
ـ أُبايعكم على كتاب الله..
وسُنّة نبيه..
وعلى أن يطاع الله..
وأدعوكم إلى الرضا من آل محمد.. وعلى أن نعمل فيكم بكتاب الله والعدل..
الكلمات تطوف منازل المدينة كفَراشات تبشّر بالربيع..
 

فاجعة أُخرى
توافد رجال الثورة.. جاء الحسين ومعه إدريس(12) ويحيى.. الرجل الأسمر تتألّق عيناه ببريق هادئ، بَدَتا كنافذتين تطلاّن على عوالم مفعَمة بالسلام.. تشعّ نظراته ممزوجة بحزن سماويّ..
ليس هناك من طريق ثالث.. لقد اختار الحسين طريقه.. قال الذي يَكظِم ثورةً منذ عشرين سنة:
ـ يا حسين! إنك مقتول.. فأحِدَّ الضِّراب..
سكت قليلاً وأردف:
ـ إنّ القوم فسّاق يُظهرون إيماناً ويُضمرون نفاقاً وشركاً..
بدا الحسين مستغرقاً في تفكير عميق.. ربّما تذكّر كلماتٍ قيلت منذ قرن مضى.
كلمات قالها الحسين على شاطئ الفرات: ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد..
نهض الحسين وفي عينيه تصميم على أن يقتفي خُطى الحسين.. من المدينة إلى مكّة.
الجيوش العباسية تغادر بغداد.. كرياح خريفيّة تطارد الربيع..
الحسين ومعه عُدّة أهل بدر في طريقه إلى مكّة وقد أطلّ موسم الحج الأكبر..
قافلة الحسين تطوي الصحراء وتهوي في بطون الأودية.. لم يبق بينها وبين مكّة سوى ستة أميال.. أرهَفَت النُّوق إلى أصواتٍ قادمة من بعيد.. سنابك خيل مجنونة تدكّ الأرض..
بدت السماء في ظلمة الوادي مرصعة بآلاف النجوم.. أحدقت الجيوش بالقافلة.. آلاف الذئاب فوق ذرى التلال تريد الانقضاض على الفجر الوليد..
تساءل « العباسي »:
ـ هل لهذا الوادي اسم ؟
ـ نعم اسمه فَخّ(13).
ردّد القائل « العباسي » بشيء من الدهشة:
ـ فَخّ ؟!
ـ أجل.. فَخّ..
هيمن صمت مدهش على الوادي تخلّله رُغاء نُوق أضناها السفر في الصحارى.
كذئاب مجنونة كانت الجيوش تنتظر مولد الفجر لتنهشه.. النجوم تشتد سطوعاً.. وقد أطلّت لحظة الفَلَق.. انبثق عمود الفجر كشلال من نور فضيّ.. فاندلعت آلاف السيوف كأفاعٍ منتفخة بالسم..
اليوم هو يوم التروية.. الحسين يقاتل.. يدفع غائلة العدوان، وأمواج الذئاب تتجه إلى عمق الوادي حيث حطّت القافلة رحلها.. في بقعة بكى فيها آخر الأنبياء..
لم يكن أمام الحسين سوى طريقين: الموت، أو الذل. ولم يتردد في الاختيار..
لم تكن الشمس لتشرق حتّى كانت أرض الوادي تهتزّ لهول معركة رهيبة.
ها هو الحسين يقاتل ليقول: من الممكن تحطيم المؤمن ولكن من المستحيل هزيمته..
أشرقت الشمس حمراء كعين تنتحب، وإذا الأرض مضمّخة بالدماء.
عشرات السيوف المغروسة في التراب، آلاف السهام المحطمة.. وعشرات الشهداء.. وعشرات الذئاب تعوي.. تحتفل بنصر « الخليفة »..
عشرات الرؤوس ترتفع فوق ذرى الرماح.. وعشرات الرؤوس تلتف حول رقابها حبال قاسية كأفاعٍ خرافية، ورأس الحسين فوق رمح طويل يتقدّم القافلة.. كربلاء تتألق من جديد.
والوادي يضجّ بصوت رهيب.. عشرات الأجساد المضمخة بالدماء بلا رؤوس.. ما خلا ريحاً خفيفة تدور في جنبات الوادي.. تُوَلْول كأمرأة ثكلى.
وهناك في ذرى التلال وقف يحيى وإدريس وراشد يتطلعون إلى ساحة المعركة.. غضب يتفجر في القلوب.. وعيون تتطلّع نحو الأفق البعيد..
يمّم إدريس وراشد وجههما شطر المغرب.. ومضى يحيى إلى الأرض التي تشرق منها الشمس.. وشيئاً فشيئاً غابا في الآفاق.. حيث تُلامس زُرقةُ السماء سُمرَة الصحراء.. فيما ظلّت الريح تولول وحدها في الوادي المخضب بالدماء.. دماء الأبرياء..
عيون المدينة تترقب قافلة عجيبة.. رؤوس على ذرى الرماح.. يتقدمها رأس الحسين بن علي.. لكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد. تساءل رجل من بغداد:
ـ رأس من هذا ؟
ـ رأس الحسين.
ـ الحسين ؟! ابن من ؟!
ـ إبن عليّ.
ـ إبن عليّ ؟!
قال الذي عنده علم الكتاب:
ـ أجل.. إنّا لله وإنا إليه راجعون.. مضى واللهِ مسلماً صالحاً صوّاماً.. آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر.. ما كان في أهل بيته مثله.
نهض الرجل الأسمر وعيناه تفيضان من الدمع حزناً.
وفي تلك الليلة شَبّت الحرائق في منازل الثائرين.. ألسنة الحرائق المجنونة تلتهم البيوت.. المصاحف، والنخيل.. وغفت المدينة ودخان الحرائق يدور في الأزقة.. فتدمع العيون.. لم يعد هناك كرامة للإنسان..
غادرت القافلة مدينة الرسول في طريقها إلى بغداد.. عشرات الأسرى.. وعشرات الرؤوس تقطع الفيافي إلى بغداد..
« تمّوز » يُلهب الصحراء.. يُحيلها إلى جمر متوقد.. الظمأ والحبال والسلاسل.. والصحراء تجعل من رحلة الأسرى إلى بغداد.. عذابات وآلاماً. أليس هناك في أعماق الكائن البشري بقايا للإنسان ؟! كيف استحال « العباسي » إلى وحش كاسر لا يرى شيئاً غير نفسه ؟!
 

ليلة حمراء
بغداد لاهية.. في سكرة.. غافلة عما يجري.. في منتصف الليل ولجت قافلة الأسرى.. تَقدمها عشرات الرؤوس فوق ذرى الرماح..
دخلت القافلة بغداد من باب الكوفة.. اجتازت « الطاقات » وقد اصطفّ عشرات الحراس وتوهجت عشرات المشاعل. ساقَ جنودٌ غلاظ الأسرى باتجاه اليمين تحت ضوء قمر شاحب.. بدت السكك المؤدّية إلى الدواوين والقصور كدهاليز مظلمة.. اجتاز الجنود سكّة النساء، وتوقفوا أمام جدار صخري قاس.. انفتحت بوابة حديدية كبيرة وظهر حرّاس غلاظ يحملون المشاعل.. أدرك الأسرى أنّهم قد وصلوا « المِطْبَق » ذلك السجن الرهيب الذي طالما سمعوا عنه الحكايات الرهيبة..
اقتِيد الأسرى إلى زاوية في باحة السجن.. تناهت إلى أسماعهم كلمات مقتضبة غير مفهومة، ومنّى بعضهم نفسه بالحرّية.. ونظر بعضهم إلى السماء المرصعة بالنجوم.. وتعالت همسات تضرّع وتمتمات مبهمة لا يُسمع منها سوى: الله.. يا ألله..
وشيئاً فشيئاً هيمن صمت ثقيل.. ملأ باحة « المطبق » حيث تتوهج المشاعل بالكآبة والحزن. ورغم حرارة الصيف فقد كانت تهب من ناحية دجلة نسائم طيبة تبعث في الروح قدراً من الأمل بغدٍ أفضل..
النجوم تشتد سطوعاً في السماء، وبدا القمر أكثر شحوباً.. لم تبق سوى سويعات ويطلع الفجر..
نام بعض الأسرى خاصة الشيوخ منهم، وظلّ بعض الشبّان يحدّثون في صفحة السماء.. وربّما تهامس بعضهم في شأن ما.. فيما فضّل آخرون الصمت، تطوف في رؤوسهم صور الأحبّة والديار وتشتعل في أذهانهم ذكريات قديمة.. وبين الفَينة والأخرى يأتي صوت لنباح كلاب بعيدة..
الليل في قصر « الذهب » أضواء حمراء.. وقناديل.. وشُرُف مفتوحة تلعب بستائرها نسائم « دجلة »..
الليل في أروقة القصر المنيف.. فتياتٌ حِسان يرفلنَ بحُلل الحرير.. تتألق فيها اللآلئ ويبرق فيها الذهب..
الليل في البلاط « خليفة » في عنفوان الشباب.. تبرق عيناه بحمّى الشهوات..
الليل لحظات سُكْر وغناء.. وآنية ملأى بالخمر المعتّقة.. جاءت « غادر »(14) بقدّها الممشوق.. بوجهها الذي يطفح سحراً وجمالاً.. لم يملك « الخليفة » الشاب إلاّ أن يهبّ مفتوناً.. وهبّ الندماء.. إجلالاً لموكب السحر والجمال.. اتّخذت « غادر » مجلسها قريباً من « الخليفة » المفتون.. وحولها وصائفها، استخرجت عوداً من خشب الأبنوس من بين طيات الحرير، وبرفق وضعته في حِجرها وانحنت عليه.. وانساب الصوت الإنساني الناعم مع أنغام العود ليطوّح بعقل « الخليفة » بعيداً.. وليقضي على ما استبقته الخمرة من قدر ضئيل من الإدراك..
« الخليفة » الشاب يحلّق بعيداً في عوالم زاخرة باللذائذ..
استخوذت « غادر » بسحرها على الشاب، راحت يداه تتحركان مع أنغام الغناء.. حتّى رأسُه بدا يتمايل كرأس أفعى يرقّصها حاوٍ هندي..
لم يملك نفسه.. لم يستطع التحمّل أكثر من هذا. « غادر » تطوّح به بعيداً في وادٍ غارق باللذة.. فجأة برقت عيناه المنطفئتان بسبب السكر.. شق حلّته.. كفّت « غادر » عن الغناء.. توقّف العود عن بث الأنغام الساحرة.. اشتعلت في رأس الأفعى آلاف الأفكار.. تصوّر نفسه ميتاً.. وهارون يستولي على كل شيء.. حتّى محظيّته «غادر».. هارون يعبّ أقداح اللذة. أما هو فيتشرب الموت والفَناء، صرخ بقسوة:
ـ كلاّ!
ارتجف القصر.. وظهر رجال غلاظ..
صاح « الخليفة » من وراء الستائر:
ـ علَيّ به.. علَيّ بهارون.
أسرع الرجال الغلاظ إلى سجن خاص.. حيث يقضي هارون لياليه في ظلال قاتمة من خلافة أخيه..
جاء هارون وقد ذهبت به الظنون.. حياته ومصيره في كفّ عفريت من الإنس..
وقف هارون يتحاشى نظرات أخيه.. ويتلقّى كلماته الجارحة..
ووقف القاضي يسطّر عباراتِ أغرب عهد في التاريخ.. من أجل أن لا يحظى هارون بمَحظيّة أخيه..
أُعيد هارون إلى سجنه واستأنف « الخليفة » ليلته الحالمة المترعة باللذّة وقد شعر بأنه قد أزاح عبئاً ثقيلاً عن كاهله.. دجلة ما يزال يجري في الظلام، تتدافع مياهه المتألقة تحت ضوء القمر..
و « الخليفة » ما يزال سادراً في غيّه.. وشيئاً فشيئاً تبرق عيناه.. تضّج فيهما شهوات آثمة.
 

احتفال دمويّ
تنفّسَ الصبح.. وسيقَ الذين أُسروا زُمَراً، وشاهد بعضهم بغداد لأول مرّة وآخر مرّة.
سار موكب الأسرى يحفّه حرّاس غلاظ.. اجتازوا باتجاه اليسار السكك التي مرّوا بها ليلة أمس.. سكة « النساء » وسكة « سرجيس » وسكة « عطية ».. سكة «غَزوان».. حتّى إذا وصل الموكب طاقات « باب الكوفة » انحرف باتجاه اليمين في طريق مرصوفة بالحجارة تؤدي إلى القبة الخضراء..
من بعيد لاح تمثال الفارس فوق القبّة، ما يزال يحمل رمحه الطويل فيشير هذه المرّة صوب « مدينة الرسول ».. الرمح العباسي يحدد جهة الخطر!
موكب الأسرى يقترب من القصر وعلى بعد عشرات الخطى توقّف ريثما يحصل على الإذن.. أدرك بعضهم من خلال حركة الحرّاس أن « الخليفة » غير موجود..
مرّت ساعة حسبها الأسرى عاماً.. فجأة ظهر العشرات من رجال الشرطة من طريق جانبية بدوا مثل زوبعة سوداء، بعضهم يشهرون السيوف، وآخرون بأيديهم أقواس موتورة.. وبدا « الخليفة » الشاب بشفته المشقوقة مُصعِّراً خدّه للسماء يكاد ينفجر غروراً.. يحسب أنّه سوف يخرق الأرض وأنّه يبلغ الجبال طولا..
توقف « الخليفة » الذي لم يكمل السادسة والعشرين من عمره بعد.. ألقى نظرة حارقة أودَعَها كلَّ عُقده النفسية الدنيئة، بَدَت عيناه جمرتين تتوقدان حقداً..
راح يتصفح وجوه الأسرى.. ويمسح بسكين في يده على أنوفهم! وغاظه أنّه لا يجد في عيونهم ذلة الانكسار.. الأُنوف ترتفع إباءً والجباه تتألق ثورة.. لم يكن هناك سوى شحوب السهر وعذابات الطريق..
استدار كزوبعة مجنونة واتجه صوب بوابة القصر.. تحرك موكب الأسرى بصمت إلى داخل القصر.. هيمن سكوت موحش وانبعثت من مكان ما رائحة دم.. كل شيء كان يوحي بوقوع مذبحة وشيكة..
تقدّم بعض الحرّاس وحلّوا عن الأسرى قيودهم والحبال.. « الخليفة » ما يزال يلهب أسراه بنظرات حاقدة.. وفي يده سكين تبعث بريقاً مخيفاً..
وقف جلاّد فارع الطول على مقربة من « الخليفة ». بدا بحلّته السوداء شبحاً رهيباً.. بيده سيف برّاق.. وقف كتمثال. لا يَطرف له جفن.. كان ينظر إلى « الخليفة » وينتظر.. ينتظر لحظة الانقضاض.
دخل طابور يحمل رؤوس الشهداء على ذرى الرماح، وكان رأس الحسين فوق رمح طويل..
مرّت لحظات صمت رهيب.. لوّح « الخليفة » المفتون بالسكّين إيذاناً ببدء المذبحة.. تحرّك التمثال الرهيب.. برق سيفه القاسي.. تقدم اثنان من الشرطة ليقودا أوّلَ أسير إلى نهايته الدامية.. مدّ الأسير رقبته.. كان يتمتم بصوت خافت وقد علت وجهَه صفرة الموت..
مرّ الزمن كئيباً.. وسيف الجلاّد يرتفع ويهوي.. وتتساقط رؤوس الثوّار.. وفي كل مرّة ينبعث صوت مخيف.. صوت ارتطام السيف بالعنق صوت مخنوق.. يتألف من حرفين كأنه يحكي تمزّق اللحم وتهشم العظام الآدمية، وفي كل مرّة ينبعث ذات الصوت المخنوق قائلاً: رض...
تساقطت عشرات الرؤوس.. وكان بين الأسرى شيخ طاعن في السن انهكته الأيّام وعصفت به السنون.. كان يتحاشى الشرطة، وفي كلّ مرّة كان يتأخر.. وكان بعض الشبّان يساعدونه لعلّ ذاك القلب القاسي يكف عن مسلسل القتل.. لعلّ الإنسان يستيقظ في أعماقه المظلمة!
خيّم سكون مدهش.. لم يبقَ سوى الشيخ.. لعلّه كان يتمنى أن يموت بين أحبّته.. في مرابع صباه.. لعلّه كان يحلم بلقاء الأحباب.. لعلّه يريد أن يوصي أبناءه.. لهذا هتف «بالخليفة» المفتون:
ـ لا تقتلني يا أمير المؤمنين! لا تقتلني أنا مولاك!
صرخ « الخليفة » المفتون:
ـ مولايَ يخرج علَيّ ؟!
هبّ من مكانه وراح يسدّد طعناته بقسوة.. كانت السكين تغوص في جسد الشيخ، مزّقت صدره.. غاصت في قلبه.. هوى الشيخ عند قدمَي « الخليفة ».. تكوّم فوق أرضية البلاط.. وشيئاً فشيئاً خمدت الروح وانطفأت العينان.. وجثم حزن ثقيل فوق المكان كغراب في مساء خريفي..
انتهت الحفلة.. جاء رجال غلاظ يحملون الأجساد وآخرون يحملون الرؤوس.. وآخرون يغسلون أرضية البلاط المرصوفة بالصخور القاسية.. وهكذا عاد البلاط أنيقاً كما كان.. فيما ظلّت رائحة الدم تدور في أروقة القصر المنيف..
 

مناجاة موسويّة
المدينة خائفة تترقب، لقد هوى الفارس شهيداً في « فخ » وقد أسفر « الخليفة » عن وجهه.. كشّر عن أنيابه يريد أن ينقضّ دون رحمة، لم يعد هناك حياء.. فالعالم مستباح أمام خيول الغازي.. ريح السَّموم تعصف بالمدينة تشوي الوجوه..
لم تهدأ الريح إلاّ في المساء.. نسائم قادمة من البحر تحاول أن تخفف من حرارة الجوّ الخانقة..
وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال:
ـ يا موسى، إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج إنّي لك من الناصحين..
أجاب الذي عنده علم الكتاب:
ـ إنّ معيَ ربّي سيهديني.
قال رجل خائف:
ـ غيّبْ وجهك يا ابن رسول الله مدّة... إن هذا الطاغية لن يتورع عن قتل الناس جميعاً بعد ما قُتل الحسين.
دمعت عينا ابن النبيّ صلّى الله عليه وآله وغمغم بحزن:
ـ كان واللهِ صوّاماً قوّاماً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر.
ونظر إلى السماء المرصّعة بالنجوم من خلال كوّة في الجدار.. وراح يتأمل الأغوار السحيقة.. والتفت.. التفت إلى الخائفين وقد ارتسمت ابتسامة أمل على مُحيّاه وقال:

زعم الفرزدقُ أنْ سيقُتلُ مِربَعاْ

 

أبشِرْ بطولِ سلامةٍ يا مـربعُ

نهض ابن النبيّ، شمّر عن ساعدَيه... وطوى الأردان عن مرفقيه، وانثالت المياه تغمر الوجه الأسمر واليدين.. ووقف الرجل الأسمر في المحراب.. كما وقف موسى بن عمران يتأمل البحر الهائج.. وقد بدت في الأفق البعيد مركبة فرعون وجنوده.
الدعاء معراج الإنسان المؤمن.. سلاح الأنبياء.. واحة وارفة الظلال في صحراء الحياة.. مركبة فضائية يبحر فيها المقهورون إلى عوالم زاخرة بالنور والطمأنينة والسلام..
وفي عالم مترع بالخوف.. وفي فضاء مخنوق برائحة الدم جلس وارث محمد يتمتم بكلمات تقطر حبّاً لخالق السماوات والأرضين.. وأصغى الخائفون إلى صوتٍ فيه بَحّةُ حزن.. صوت يشبه صوت انهمار المطر.
تجمعت في سماء الروح غيوم وغيوم.. إدلَهَمّ الفضاء.. ودفء الكلمات يجعل الجوّ مشحوناً.. مخزوناً بالبرق وبالرعود.. الكلمات الدافئة المترعة بحزن سماوي تسافر في الفضاء.. تخترق جدران الزمن:
ـ « إلهي..
كم من عدوّ انتضى علَيّ سيفَ عداوتِه... وداف لي قواتلَ سمومه.. وأضمر أن يسومَني المكروه..
فنظرتَ إلى ضعفي عن احتمال الفوادح.. وعجزي عن الانتصار.. فأيّدتني بقوّتك، وشددتَ أزري بنصرك... فلك الحمد يا ربّ.. مِن مقتدر لا يُغلَب..
صلِّ على محمّد وآل محمّد.. واجعلني لأنعُمِك من الشاكرين.. ولآلائك من الذاكرين ».
هناك في حفر الظلام أشباح تترصد.. تنصب الأفخاخ.. وتترصد الضحايا هناك عناكب تنسج بيوتاً واهنة وتنتظر.. وهناك ابتسامات، ولكنها في الحقيقة أنياب مكشِّرة تنزّ صديداً:
ـ « الهي..
وكم من باغٍ بغاني بمكائده، ونصب لي أشراك مصائده...
وأخبأ إليّ اخباء السَّبُع لطريدته، انتظاراً لانتهاز فرصته.. فلمّا رأيتَ قبح سريرته، وقبح ما انطوى عليه..
أركستَه لأمّ رأسه، وأثنيت بنيانه من أساسه.. ورميته بحجره، وأرديته في حفرته..
فلك الحمد يا ربّ مِن مقتدر لا يُغلَب.. صلّ على محمّد وآل محمّد.. ».
والحسد تلك العقدة الدفينة والنار المجنونة التي قذفت بالإنسان من روابي الجنّة إلى كوكب الحوادث..
والحسد ذلك الوحش الكاسر الذي مزّق أواصر الإخاء البشري ليحيل قوافل بشرية إلى قطعان من الذئاب الشرسة تطارد إنسانية الكائن البشري فيفرّ إلى الله:
ـ « الهي..
وكم من حاسد شَرقَ بحسده.. وشجا بغيظِه، وسَلَقني بحدّ لسانه، ووخزني بمُؤق عينه، وجعل عِرضي غرضاً لمراميه، وقلّدني خِلالاً لم تَزَل فيه.. فناديتُك يا ربّ مستجيراً بك، واثقاً بسرعة إجابتك، متوكّلاً على ما لم أزل أعرفه من حسن دفاعك..
عالماً أنه لم يُضطهد مَن أوى إلى ظل كَنَفك.
فلك الحمد يا رب.. ».
السجون تضجّ بالمقهورين.. لا يُسمع فيها سوى أنّات المعذَّبين، وصليل السلاسل والحديد.. وخطى السجّانين الثقيلة:
ـ « إلهي وسيدي..
وكم مِن عبد أمسى وأصبح مغلولاً مكبَّلاً بالحديد بأيدي العداة لا يرحمونه، فقيداً من بلده وولْده وأهله، منقطعاً عن إخوانه، يتوقع كل ساعة بأية قتلة يُقتل..
وأنا في عافية من ذلك، فلك الحمد يا ربّ ».
وهناك في لجّة البحر.. عندما تثور الأمواج وتعصف الريح.. فتجري السفن في موج كالجبال.. هناك يتجلى الله بنوره.. عندما تتمزق الحجب في اللحظات التي يقف فيها المسافر على حافات الغرق والانزلاق في لُجّة المياه والقرار:
ـ « إلهي..
وكم من عبد أمسى وأصبح في ظلمات البحر وعواصف الرياح والأهوال والأمواج، يتوقع الغرق والهلاك لا يقدر على حيلة..
وأنا في عافية من ذلك..
فلك الحمد ياربّ ».
وفي حنايا الصحراء.. وفي مَفاوز التلال، يعيش المشرّدون بعيداً عن الأهل والأحبّة والديار.. يواجهون رياح السموم وقسوة الصحراء والرمال:
ـ « إلهي..
وكم من عبد أمسى شريداً.. طريداً.. متحيراً.. جائعاً.. خائفاً.. حاسراً في الصحاري والبراري، أحرقه الحرّ والبرد..
فلك الحمد يا رب..
وأسألك يا إلهي
باسمك الذي وضعتَه على السماء فاستقلّت..
وعلى الجبال فرست.
وعلى الأرض فاستقرت.
وعلى الليل فأظلم.
وعلى النهار فاستنار.. »(15).
ها هو موسى بن عمران يقف على حافات المياه يتأمل الامواج.. وقد تناهت إلى أذنيه سنابك خيل الفرعون ودويّ مركباته... وها هو يصغي إلى استغاثة قومه قائلين: أُوذينا من قبلِ أن تأتيَنا ومن بعدِ ما جئتَنا..
إنّا لمدرَكون..
قال لهم موسى: إنّ معي ربي سيهدين..
ورفع موسى عصاه عالياً في الهواء ثمّ أهوى بها فوق البحر.. فانشقّ وكان كلُّ فِرقٍ كالطود العظيم.. وأصبح البحر طريقاً للمقهورين والمعذبين.. ومقبرة لفرعون وجنوده.
لقد استجاب الله دعوة العبد الصالح موسى.. ها هو فرعون.. يغوص في لجّة القرار يشرب الماء المالح.. يغرق.. يختنق.. ويموت ليعود إلى شاطئ البحر جثة هامدة.. تسفي عليها الرياح.
وفي بغداد.. كانت « الخيزران » حانقة.. تبرق عيناها حقداً على ابنها المتفرعن يريد تحطيمها.. وقتل أخيه هارون..
في الليل حاكت الخيزران خيوط المؤامرة.. تبادلت النظرات مع آل برمك، وكلمات مقتضبة بالفارسية.
« الخليفة » نائم يغط في سُكره.. وانسلّت الطبّاخة السوداء وحولها الجواري.. يمرقن في الظلام.. كأشباح تحمل أطباق الموت.. « الخليفة المفتون » نائم.. غارق في سكرته.. أطبقت أشباح الموت.. جثمت طباخة القصر بجثتها الهائلة فوق وجه الفرعون.. وأنشبت الجواري أظفارهنّ.. وتمّ كل شيء في غمرة الظلام. « الخليفة » يغرق.. يختنق.. ويموت.. وينتهي.
وجاءت « الخيزران » تتأمل جثة « الفرعون ».. وانتزع ابن برمك خاتم الخلافة من يده.. ليبشّر به « هارون ».
 

زفاف « الخليفة » السجين!
الظلام ما يزال يغمر بغداد.. القصر غارق في ظلمة مخيفة، وكانت هناك عيون تبرق في الظلام.. وأصوات تشبه فحيح الأفاعي.. في قلب الظلام انطلق « ابن برمك » و «ابن ذكوان» إلى السجن، فهناك رجل يُدعى هارون.. يترقّب أمرَين: إقصاءه عن ولاية العهد، أو القتل.. فقد سوّلت « للخليفة » نفسُه قتلَ أخيه..
دخل الرجلان السجن.. واتّجه ابن برمك إلى حجرة صغيرة، كان هارون يغطّ في النوم.. هزّ ابن برمك النائم ليزف له الحلم:
ـ قم يا أمير المؤمنين!
هبّ النائم مرعوباً.. قال بلهجة فيها خوف ورعب:
ـ كم تروّعني إعجاباً منك بخلافتي.. وأنت تعلم حالي عند هذا الرجل.
ابتسم ابن برمك ساخراً:
ـ لقد مات هذا الرجل.. انظر هذا خاتَمه.
وأردف وهو يشير إلى الباب:
ـ وبالباب وزيره.
ـ الحرّاني ؟!
ـ نعم.. لقد أحضرتُه إليك..
صفّق هارون وقفز من فراشه يكاد يطير.. نعم.. إن ما يراه حقيقة. إنه ليس في حلم.. بل أجمل من الحلم.. لقد انتهت أيّام القلق.. وولّت أيّام الرعب.. عانق هارون شيخ البرامكة..
نظر هارون إلى ابن برمك نظرات فيها تساؤل.. تُرى كيف مات « الخليفة » الشاب؟!
غمغم ابن برمك وهو يرمق هارون بنظرات غامضة:
ـ اخبرتْني أمّك الخيزران..
سكت هارون وقد ومضت في ذهنه ما حدث قبل أسابيع.. تذكّر لهجة أخيه الحانقة وهو يخاطب أمه: أما لكِ مغزل تشتغلين فيه ؟ لئن وقف ببابك أمير أو قائد لأضربنّ عنقه!
ومضت في ذاكرة هارون أشياء كثيرة..
تمتم ابن برمك:
ـ لقد كان مريضاً.
قال هارون بلهجة فيها استسلام:
ـ أجل.. كان مريضاً.
قال ابن برمك وهو يحاول أن يجسّ نبض « الخليفة » الشاب:
ـ وعندي خبر آخر سمعتُه وأنا في الطريق.
تطلّع هارون مستفهماً!
ـ سمعتُ أن « مراجل » قد أنجبت صبياً.
سكت هنيهة وأردف:
ـ إنها ليلة عجيبة! مات فيها خليفة، ونهض فيها خليفة.. ووُلد فيها خليفة!
غمرت فرحة عارمة وجه هارون.. لقد انفتحت أمامه الدنيا بكل عوالمها اللذيذة ومتعها..
هتف ابن برمك:
ـ بغداد تنتظر « الخليفة »!
بدت بغداد في ذلك الصباح حسناء فارسية ترتدي أجمل زينتها في يوم النيروز..
أهالي بغداد يتطلعون إلى قدوم « الخليفة هارون ».. الشاب الفارع الطول المشرق الوجه.. زوج زبيدة السيّدة العباسية الثرية..
انطلقت زغاريد النسوة من شرفات القصور، وعلت هتافات الرجال في الشوارع بحياة هارون..
وتألق قصر « الخُلد » برجال البلاد، وبدا ابن برمك رجلَ البلاط الأول.. ألبسه هارون خاتم الوزارة وخاطبه بودّ:
ـ يا أبتي!.. أنت أجلستني هذا المجلس ببركة رأيك وحسن تدبيرك، وقد قلّدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم بما ترى.
وأردف وهو يمنحه صلاحيات مطلقة:
ـ إستعملْ من شئت، واعزل من رأيت، فإني غير ناظر معك في شيء!
وأدرك الحاضرون أن « الخليفة » الفعلي سيكون يحيى.. يحيى البرمكي(16)..
وربتَ هارون على كتف الفضل بن يحيى أخيه في الرضاعة.. وابتسم لجعفر.. جعفر بن يحيى.. وابتسم الحظّ لأبناء برمك.. فهارون سيكون وسيلتهم إلى سلّم المجد..
الله وحده الذي يراقب الأعماق.. وحده الذي يعلم ما يدور في رأس « الخليفة » الجديد وهو يتجه إلى « الجامع » ليصلّي أول صلاته كخليفة.. تُرى ماذا سيفعل هارون مع الدين ؟ هل سيذهب إليه ويجثو عنده ؟ أم يحاول أن يجرّ الدين إليه بعدما دانت له الدنيا ؟!
 

فتوحات شيطانيّة
في غمرة الليل، تنجم الأشياء.. وتهيج الهواجس، وتضجّ الشهوات، وتُحطّم الشياطين سلاسل الخوف.. الحياء.. وتندفع في الدروب والأزقّة.. تقتحم القصور والبروج المشيّدة..
مياه دجلة تتألق تحت ضوء البدر.. وقد بدا قصر الخلد في غمرة الظلام حسناء غانية..
هارون « الملك الرشيد » غارق في وسائده الحريرية.. يرفل بحلّة مزركشة.. تبرق في عينيه الشهوة، وقد برقت في ذهنه أطياف « غادر » تلك الحسناء التي تذوب رقّة وجمالاً، لَكَم تمنّاها من قبل! بصوتها الجميل وغنائها العذب..
إشتعل في ذهنه طيف لأخيه.. لاح وجهه القاسي بشفته المشقوقة.. طرد عن ذهنه الطيف كما يطرد ذبابة في الصيف.. وأضاء خيالَه طيفُ « غادر » بقِوامها الممشوق.. سوف تأتي..
ولاحت من بعيد.. ها هي قادمة تحفّها الجواري.. تنساب في مشيتها كغزال طروب.
انحنت الحسناء « لخليفة العصر ».. جلست قربه في وداعة وخفضت عينيها تنتظر سبب إرساله وراءها في هذه الساعة من الليل.
راح هارون يتفرّسها بنظرات ملتهمة.. قال دون مقدّمة:
ـ لقد أرسلتُ وراءكِ.. من أجل أن تكوني لي!
رفعت الحسناء رأسها ونظرت إلى شباب هارون:
ـ ولكن..
ـ ولكن ماذا ؟
ـ والعهود التي أعطيتَ أخاك ؟
ـ أُكفّر عنها.
ـ والحجّ راجلاً ؟
ـ سأحجّ ماشياً هذا العام.. من أجلِكِ..
سكتت قليلاً وهمست بدلال:
ـ أتفعل ذلك من أجلي ؟!
قال هارون وقد أسكره الصوت الرخيم:
ـ أجل، من أجل « غادر ».. تهون المصاعب.
ونظر إلى عينيها العسليّتَين:
ـ ما هو رأيك ؟
ـ...
هتف هارون وهو يكاد يطير نشواناً:
ـ أين القاضي ؟!
سرعان ما حضر ( فقيه الأرض ) و ( قاضي القضاة ).. من أجل أن يصنع لشهوة «الخليفة» ثوباً من الدِّين.. وتمّ كل شيء..
صفّق « خليفة المسلمين » وهو يرسل نظراته إلى أبي يوسف:
ـ أعطُوه مئة ألف درهم!
وكاد أن يسيل لعاب القاضي وهو يحمل صرار الفضة.. عَرَقَ الفقراء القادم من ربوع مصر وتخوم خراسان.
أُسدلت الستائر وقد سقطت التفاحة الشهية في قبضة هارون.
« غادر » تضع رأسها في حجر هارون.. تغفو سكرى وهارون يتأمل نشواناً وجهها المشرق وشبابها، وقبل أن يشرق الصباح، سكتت شهرزاد عن الكلام المباح.
انسلّ هارون من بين الوسائد بعد أن أراح رأس محظيته فوق وسادة حريرية.. ارتدى حُلّة جديدة يغلب عليها السواد، واكتسى وجهه الثلجي قدراً من الصرامة والقسوة.. أصبح وجهه مخيفاً.. لو رأته « زبيدة » لأنكرته ولفرّت منه « غادر » و « ماردة » و « هيلانة » و « خالصة » ولأنكرته حتى أُمّه « الخيزران ».
قطع هارون الرواق بخطىً واسعة، كان « مسرور » واقفاً في وسط البلاط كتمثال، بدا بطوله الفارع جنّياً خرج توّاً من البحر.. سيفه العريض العاري يشبه قدَراً صارماً.
صفّق هارون بكفّيه.. انتبه المارد.. وانطلق إلى بوابة البلاط..
دخل ثلاثة رجال ملثّمون.. جمعهم المكان فقط، لا أحد يعرف الآخر، ولا يودّ أن يعرفه.. كانوا يرتدون أزياء مختلفة تماماً، كان الأول يرتدي ثياباً تشبه ثياب الملاّحين، والآخر يرتدي حلّة لا يرتديها سوى التجار، أما الثالث فقد بدا رجلاً حجازياً قادماً من مكة أو المدينة..
شيء واحد يجمعهم هو بريق العيون.. كانت عيونهم نفّاذة يموج فيها بريق زجاجي.. أشبه ما تكون بعيون رجال على وشك تنفيذ مؤامرة دنيئة..
اجتمع « الخليفة » مع الثلاثة على انفراد.. الصمت يهيمن فوق المكان.. ما خلا همسات تشبه فحيح الأفاعي.. مرّت ساعة قبل أن ينصرف الرجال الملثمون.. أخذوا معهم صراراً ملأى بمسكوكات فضيّة وذهبية.. وحفظوا عن ظهر قلب مهمّات غامضة.. وأسماءَ لها في قلب « الخليفة » هواجس.. إدريس.. يحيى.. موسى..
وقف هارون في شُرفة القصر ينظر من بعيد إلى دجلة وقد بدا في تلك الساعة المتأخرة من الليل ثعباناً ينساب بحذر بين أشجار النخيل.
وفي تلك الليلة انفتحت ثلاثة أبواب لبغداد: انفتحت بوابة خراسان، وبوابة الكوفة، وبوابة الشام..
 

كبائر.. في طريق الحجّ!
قليلون جداً الذين عرفوا لماذ حجّ « الخليفة » هارون هذا العام ماشياً(17).. بعضهم اعتقد أنّ التديّن تمكّن في صميم قلب هذا الشاب الهاشمي، وآخرون قالوا: إنها توبة إلى الله، وعفا الله عمّا سلف.
ولكن هناك مَن سبر غور هذا الحج إلى حدّ ما، خاصّة وصائف « غادر » اللائي استقبلن النبأ بشيء من الغبطة لسيدتهن الحسناء التي استحوذت على قلب « خليفتَين »!
وفي كل الأحوال، فقد شاع الخبر في أنحاء بغداد، وخرج بعض الأهالي لتوديع « الخليفة »، ووقفت النسوة في شرفات المنازل يترقّبن موكب « الخليفة »..
ألقى هارون نظرة وداع على بغداد وقد فُصلت القافلة.. بدت العاصمة كلؤلوة خرجت توّاً من صَدَفتها الجميلة..
كانت عدّة خيول وبغال تحمل الأثقال ريثما تصل القافلة « الكوفة »، وهناك يمكن استئجار جِمال قويّة لاختراق الصحراء..
نسائم ربيعية تهبّ من ناحية الشمال، مضمخة بشذى الرياحين.. وقد بدت الكوفة في الأفق البعيد نقطة سوداء كانت تكبر شيئاً فشيئاً كلمّا تقدّم الركب.
كان هارون يجد نفسه مرتاحاً جداً مع جعفر الذي يصغره بعام واحد.. لعله كان يجد نفسه في مرآة ذلك الشاب الطَّموح الذي يُقبل على الحياة يقتطف ملذّاتها باستمتاع.. لهذا استصحبه..
كان جعفر هو الآخر يعرف كيف يستحوذ على هارون بأحاديثه البعيدة عن كل الرسميات..
هوت الشمس في المغيب وقد أطلّ الركب على الكوفة، فضُربت الخيام والسُّرادق.. وكانت خيمة هارون وجعفر على ربوة جميلة انتخبها جعفر.. وانطلق الخدم لتأثيثها وتوفير أسباب الراحة واللهو.. فيما انتشر الحرّاس هنا وهناك لاختيار أماكن الحراسة والخفارة.
هبط المساء، وسطعت النجوم في السماء.. وهبّت نسائم منعشة تبعث في النفس الحيوية والبهجة والإقبال على الحياة.
كان « خليفة المسلمين » يتوضأ بإبريق بلّوري مرصّع بالجواهر، وقد أشرق الهلال بلياليه الثلاث، بدا مبتسماً. تذكّر « الخليفة » ابتسامة جاريته الحسناء « خالصة » تلك الفاتنة التي لا تكف عن تسديد نظراتها الساحرة.
أنهى « الخليفة » صلاته، وكانت رائحة الشواء تملأ الفضاء.
كان « جعفر » يشرف بنفسه على إعداد المائدة.. إنه يعرف كيف يدخل إلى قلب « الخليفة »!
هناك مسارب يعرفها جيداً.. أحدها البطن.. اصطفّت الأواني بأشكالها الجميلة.. وفاقت ألوان الطعام العشرين.. لحوم طيور من بلاد بعيدة.. وألسنة السمك.. وفواكه، وهناك في ركن المائدة صحون « الفالوذج ».. وهلمّ جرّا..
وقع نظر هارون على صحون السمك فوجد لحومها قطعاً صغيرة، استدعى الطباخ وقال بلهجة يشوبها تذمّر:
ـ ألم أعهد إليك أن لا تكون قطع السمك صغيرة ؟!
أجاب الطبّاخ معتذراً:
ـ يا أمير المؤمنين.. هذه ألسنة السمك، وضعتُها لتكون زينة للمائدة!
علّق البرمكي:
ـ لقد كلفتْ وحدها أربعةَ آلاف درهم!
سكت « الخليفة » على مضض، وأدرك أن جعفراً يحاول أن يقول أن هذا إسراف لا طائل من ورائه..
قال جعفر وهو يرى هارونَ يتلذذ بأكل الفالوذج:
ـ ماذا قالت العرب يا أمير المؤمنين في الفالوذج ؟
شرق « الخليفة » بضحكة:
ـ ويلك! ومن أين للعرب فالوذج ؟!
وضحِكا معاً ضحكات فيها سخرية..
أحضر الخدم صندوقاً جميلاً مصنوعاً من خشب الأبَنوس مرصع بالياقوت.. فتح البرمكي الصندوق وأخرج بعناية بيادق الشطرنج وبرقت عينا هارون بهجةً..
اصطفّت بيادق الجنود والفِيَلة.. وبدت الحُصُن متحفّزة..
فرك الخصمان أيديهما وبدأ الصراع..
حرّك جنوده.. وحصانَيه.. وانقضّ البرمكي بالوزير.. راح الوزير يتحرك يميناً وشمالاً فتساقطت الجنود.. وتهاوت القلاع.. وها هو ينقض على الملك.. تطلّع هارون حائراً.
هبّ الفيلان الأبيض والأسود.. ولكن دون جدوى.
ومضت عينا البرمكي وهتف منتشياً بانتصاراته:
ـ سيبقى الوزير هو الأقوى!
رمقه هارون بنظرات حانقة:
ـ في الشطرنج فقط..
وأردف وهو يزيح البيادق من فوق الصندوق:
ـ وفي ما عدا ذلك فلا قيمة له.
سكت البرمكي وتظاهر بالابتسام.. وراح يملأ « للخليفة » كأساً من النبيذ..
وهكذا مضى شطر من الليل..
 

آمال.. وهواجس
تنفّس الصبح.. بينما كان هارون وصاحبه في طريقهما إلى « الكوفة » ودخلا المدينة على حين غفلة من أهلها.. كانا يرتديان زيّ التجار.
ما أن أشرقت الشمس حتّى كان سوق المدينة يغصّ بالباعة والمبتاعين والعابرين.. وغاب « الخليفة » في زحمة الناس.. أرهف أُذنيه للأحاديث العابرة.. كان يود أن يسمع صدىً لثناء أو مديح أو تمجيد « للخليفة » هارون الرشيد الذي عزم على الحج هذا العام ماشياً.. ولكنه لم يسمع شيئاً. وأثار اهتمامَه أحاديثُ متقضبة عن ضريبة العُشر التي باتت ثقيلة على الأهالي.. ولمح عن قُربٍ أحدَ حرّاسه يسأل عن « صفوان الجمّال »..
همس جعفر وهو يشير إلى رجل عليه سيماء الزهد:
ـ أتعرف ذاك الرجل ؟
ـ لا.. ومَن يكون ؟
ـ بهلول المجنون.
ـ وهل هو مجنون حقاً ؟
ـ لا يبدو عليه ذلك.. ولكن تذكرت ما حدث ذات يوم في حضرة أخيك..
ابتسم جعفر وأردف:
ـ استدعاه ذات مرّة وأمر بإحضار رجل آخر من أهل البصرة يدعى « عليّان ».. وكان هو الآخر يُرمى بالجنون.. فبدره « الهادي » قائلاً: أيش معنى عليّان ؟! فأجابه بقول أدهش الحاضرين.
تساءل هارون:
ـ وماذا قال له ؟
ـ قال له: أيش معنى موسى أطبق.. فثارت ثائرة « الهادي » وصاح به: يا ابن الفاعلة! فالتفت عليّان إلى بهلول، وقال: كنا اثنين، فصرنا ثلاثة..
تذكّر هارون أخاه.. يوم كانا صغيرين، وكان أبوهما قد وكّل به موظفاً يرقب فم أخيه.. فإذا ذهل عن نفسه وفتح فمه وظهرت شفته المشقوقة قال له: موسى أطبق..
كان الرشيد غارقاً في ذكرياته عندما ظهرت فجأة جنازة يحملها بعض الشبّان.. وسمع أحدهم يقول: هذه جنازة والبة بن الحباب(18).. فردّ آخر قائلاً: لقد أراحنا الله من هذا الزنديق الماجن، لقد افسد فتياننا بتحلّله وإقباله على الخمرة..
ردّ آخر ساخراً: إذا كان « خليفة المسلمين » ايّده الله يعاقر الخمرة، فلابدّ وأنها حلال..
تبادل هارون وجعفر النظرات.. وانصرفا إلى مكان آخر من السوق..
وعندما وصلا أطراف السوق لاحت لهما قافلة من الجِمال تأخذ طريقها إلى خارج الكوفة.. حيث ضُربت خيام « الخليفة »..
انتظمت القافلة وكانت الجمال تحمل الأثقال.. ووجد هارون نفسه يمشي في فلاةٍ مدَّ البصر.
لم يعد هناك أثر لعمران ولا شجر ما خلا باسقات النخيل تبدو من بعيد كرموش حسناء.
ومض طيف « غادر » فتساءل في نفسه: أتستحق كلَّ هذا العناء ؟! وطرد عن ذهنه هذه الفكرة، ففي الحج منافع كثيرة.. سمعة حسنة، وخداع للعامّة، والوقوف على أحوال الناس، ومعرفة ما يجري في الحجاز..
غمر المساء الأشياء، وسطعت النجوم في أغوارها السحيقة وانفتحت نفس هارون على الغناء، فانطلق يردد أشعاراً على لحن ابن سريج:

مَلَكَ الثـلاثُ الآنسـات عِنـاني

 

وحَللْنَ مـن قلبي بكـلّ مـكـانِ

مالي تطـاوعنـي البـريةُ كـلُّها

 

وأُطيعهن وهنّ فـي عصـياني؟!

ما ذاك إلا أنّ سلطـان الهـوى

 

ـ وبه قَوينَ ـ أعزُّ من سلطاني!

وانطلقت القافلة تطوي المسافات إلى مكّة المكرمة تحرسها حراب وجنود..
هارون تتقاذفه الهواجس، تحتدم في رأسه الأفكار كخيول مجنونة.. فهناك رجال من أبناء عليٍّ يجوبون المدن، في قلوبهم تشتعل الثورات.. ولكن ما باله قلِقاً هكذا يتوجس خيفة ؟
كان هارون غارقاً في هواجسه.. تومض في ذهنه أسماء رجال غابوا في الآفاق. إدريس.. يحيى.. موسى.. وقطع عليه هواجسه صوت حاجبه يقترب منه محيّياً:
ـ السّلام على أمير المؤمنين، وابن عمّ سيّد المرسلين..
وشعر هارون بالكلمات تأخذ طريقها إلى قلبه، إنه يستمدّ سلطانه من قاعدة قويّة، لقد ورث السلطانَ عن مؤسس الإسلام، فهو حفيد العباس عم النبيّ صلّى الله عليه وآله.. وليس هناك مَن هو أحق بالخلافة والمُلك منه.
سأل هارون حاجبه عن المسافة التي تفصلهم عن مكّة، وعندما عرف أنها مجرّد أميال انشرحت نفسه، فقد أوشكت رحلة العناء على النهاية..
 

موسى وفرعون.. في احتجاج قرآنيّ
انطوى موسم الحج.. وعادت القوافل إلى الديار.. تهوي في بطون الأودية ومضى «الخليفة» هارون الرشيد يقطع المسافات صوب الشمال يحفّه حرّاس وجنود.. خلع ثياب الإحرام وارتدى حلّة سوداء بدا فيها ملكاً مرهوباً..
وصل هارون مشارف المدينة المنوّرة، وقد هبّ لاستقباله حاكم المدينة إسحاق الذي تسنّم منصبه حديثاً، ومعه قائد الشرطة ومئات الحرّاس..
أضحى منظر هارون أكثر رهبة..
الذين لم يعرفوا هارون خلطوا بينه وبين جعفر البرمكي، فقد حرص أن يدخل المدينة هو الآخر في أبّهة الملك، كان يرتدي حلّة سوداء مزركشة يحوطه جنود من خراسان..
اصطفّ عشرات الرجال والنساء وحشود الأطفال يتطلعون إلى « خليفة المسلمين » هارون الرشيد، وهو يتقدم الهُوَينى إلى مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله.
ولج هارون مسجداً أُسس على التقوى من أول يوم.. هيمن صمت مهيب، وقد فاحت في الفضاء رائحة طيبة لكأن الجنّة قد فتحت نوافذَ لها على الضريح.. في هذه البقعة الطيبة يرقد نبي الإسلام محمّد صلّى الله عليه وآله.. محمّد الذي أضحى نغمة حلوة تردّدها الملايين في الصحارى والسهول في آلاف المدن والقرى.. في الوديان وفي ذرى التلال..
وقف هارون قبالة الضريح المضمخ بشذى النبوّات، هتف مؤكّداً صلته العريقة بمؤسس مجد الإسلام..
ـ السّلام عليك يا بن العم.
هيمن صمت مهيب وشخصت الأبصار لهارون، ها هو يتربع على الدنيا والدين، ها هو يهيمن على الأرض معتدّاً بصِلته بالسماء.. وفي تلك اللحظات وقع ما لم يكن في الحسبان..
تقدم رجل أسمر قد ذرّف على الأربعين.. يتألق في جبينه نورٌ لنبوّات غابرة، هتف بصوت دافئ مخاطباً آخر الأنبياء في التاريخ:
ـ السلام عليك يا أبتِ..
ذُعر هارون وقد أحسّ بأن عرشه يهتزّ بعنف، تُرى من يكون هذا المجترئ الذي دمّر في لحظة كل مزاعم « خليفة الزمن »، وقد سام الناس قهراً ؟!
أحدّ هارون النظر إلى الرجل الأسمر وقال بلهجة حانقة:
ـ مِن أين لكم هذا الأدعّاء يا أولاد عليّ ؟! ومتى ولَدَكم رسول الله ؟
سكت هنيهة وأردف:
ـ نحن أقرب إلى رسول الله منكم.
أجاب سليل الأنبياء:
ـ لو بُعث رسول حيّاً وخطب منك كريمتك، هل كنتَ تجيبه ؟
قال هارون بدهشة:
ـ سبحان الله! بل كنتُ أفتخر بذلك على العرب والعجم.
قال موسى وهو يهز القاعدة التي يرتكز عليها هارون:
ـ لكنّه لا يخطب مني ولا أُزوجه.. لأنّه ولَدَني ولم يلدك..
تساءل هارون بلهجة فيها حقد:
ـ أنتم أولاد عليّ لا أولاد رسول الله.. أنتم أبناء فاطمة، والنبيّ ليس له عقِب.. إنما العقب للذكر لا للأنثى!
وأحسّ هارون بأنه قد أحرز نصراً ضد خصمه الذي يهدّد عرشه.
قرأ الذي عنده علم الكتاب بصوت شجي:
ـ ومن ذرّيتِه داودَ وسليمانَ وأيّوب ويوسُفَ وموسى وهارونَ، وكذلك نَجزي المحسنين * وزكريا ويَحيى وعيسى وإلياسَ كلٌّ من الصالحين... .
والتفت إلى « خليفة الزمن » الموحش سائلاً:
ـ مَن أبو عيسى ؟
ـ ليس له أب.
فقال موسى:
ـ إنما أُلحق بذراري الأنبياء عن طريق أمه مريم.. وكذلك نحن أُلحقنا بذرّية النبيّ عن طريق أمّنا فاطمة..
وخشعت القلوب المؤمنة لذكرى فتاة بتول كانت عديلة مريم ابنة عمران.. ما يزال قبر فاطمة مجهولاً يرسم علامة استفهام كبرى على تاريخ طويل.. تاريخ ضيّع حقَّها وأبناءها.
أضاف ابن فاطمة يسدّد الضربة القاضية لكل ترّهات هارون:
ـ وإن شئت أزيدك.
قال هارون وهو يرفع راية الهزيمة:
ـ نعم يا أبا الحسن!
وانسابت كلمات السماء ممزوجة بصوت سماوي فيه حزن المطر:
ـ فمَن حاجَّكَ فيه مِن بعدِما جاءكَ من العلمِ فقلْ تعالَوا ندعُ أبناءَنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفسَنا وانفسَكم ثمّ نبتهلْ فنجعلْ لعنةَ الله على الكاذبين .. فهل سمعتَ في ما ورد من الأخبار أن رسول الله دعا أحداً غير فاطمة وعليّ وسبطَيه الحسن والحسين ؟
أطرق هارون وأحسّ الصفعة قد دمّرت كلّ كبريائه وغروره.. ها هو يقف عاجزاً.. وبدا هارون بحلّته السوداء فرعوناً ينظر بفزع إلى موسى وعصاه..
 

خارطة فَدَك!
ليل المدينة.. مدينة الرسول صلّى الله عليه وآله.. ليلٌ يزخر بالنجوم.. ونسمات طيبة تهبّ فتبعث في النفوس إحساساً بالأمل.. نامت العيون.. وما تزال النجوم تنبض في أغوارها السحيقة كعهدها منذ آلاف السنين.
موسى يجوس خلال الأزقة كطيف مضيء يحمل معه صراراً مُلئن بقطع فضّيّة.. وفي المنعطفات المظلمة، حيث تبدو بعض منازل المدينة خاوية على عروشها، كان الرجل الأسمر الذي تتألق في وجهه طيوف النبوّات يتوقف فيرمي بإحدى الصرار لتسقط خلف جدار يكاد أن ينهدّ..
الرجل الذي ذرّف على الأربعين ينوء بالهموم.. تومض في أعماقه صور المحرومين والمقهورين.. يحزّ في نفسه أنّه لا يجد ما ينفق، وأرضه تعطي عاماً وتمنع عاماً.. وهناك رجال في غياهب السجون ما يزالون يحلمون بالحريّة والحياة الكريمة، ورجال خائفون.. يجوبون المدن الغريبة بحثاً عن بقعة آمنة..
وها هو هارون يحمل معه بدارَ الذهب، يسرق خيرات الأرض له ولأعوانه.. تتدفق عليه الأموال من كل حدب وصوب، والغيوم التي تسحّ في أرض مصر وأفريقيا وفي خراسان وسجستان وفي بلاد الديلم وشيراز والعراق.. وفي كل بلد يُذكر فيه اسم الله كثيراً.. تؤتي ثمارها في قصور هارون في دجلة والرقة والأنبار.. وبغداد تغفو على ألحان فارسيّة.
أما لهذا الليل من نهاية ؟ متى يعود المشرّدون إلى ديارهم ؟ ومتى يستنشق المكبّلون بالسلاسل أنسام الحرّية ؟ ومتى يشبع المحرومون خبزاً طيباً ؟
ومتى يطمئن أولئك الخائفون في ذرى الجبال والمغادر والكهوف ويعودون إلى أهلهم وينقلبون بنعمة الله لا يمسهم قرح ؟..
وجد الرجل الأسمر قلبه يهفو إلى مسجد أُسس على التقوى.. إلى حيث كان يصلّي جدّه العظيم...
الظلام ما يزال يغمر المدينة، شعر بأنه يلج بقعة فردوسية.. تدفّق نبع من الصلاة بين المحراب والمنبر.. وانسابت كلمات السماء تغسل القلب وتطهّر الروح..
وهوى الرجل الأسمر في سجود من ينوء بآثام البشرية، وانبجست الدموع من عينَيه وهو يخاطب المطلق اللانهائي:
ـ عَظُم الذنبُ من عندي، فلْيَحسنِ العفُو مِن عندك..
يا أهلَ التقوى، ويا أهلَ المغفرة...
هيمن سكون مهيب ملأ المسجد برهبة الساعات الأخيرة من الليل.. وما يزال العبدُ الصالح ساجداً للربّ.
وبدا العبد الصالح ببدنه النحيف المنصهر في بوتقة السجود ثوباً مطروحاً تركه صاحبه ومضى بعيداً..
ليس هناك في كل ذلك العالم من يدرك آلام موسى.. عذابات العبد الصالح.. الإنسان الذي يحاول أن يقهر الشيطان الرابض في أعماق النفوس المظلمة.. يريد للأرض أن تَخْضرّ.. ولفراشات النور أن تعود.. وللسحب الرماديّة أن تغادر الأفق أمام ربائب المُزُن المثقلة ببركات السماء.
هو ذا ذاهب إلى « هارون » إنه طغى.. سيوف وحراب مشهورة، وقد وقف حرّاس غلاظ بوجوههم المتجهّمة؛ تشتعل في عيونهم رهبة الملك وسطوة الجبابرة..
وجاء موسى.. ليس معه من أسلحة الدنيا سوى قلب يكاد يسع العالم.. في عينيه يتألق حزن سماوي، وفي جبينه تموج طيوف نبوّات غابرة.
كان هارون ينثر بدار الذهب والفضة، ويتظاهر بردّ المظالم، قال له موسى:
ـ ما بال مظلمتنا لا تُردّ ؟!
قال الذي أُوتي من المال كنوزاً:
ـ ماذا تعني ؟
قال الذي عنده علم الكتاب:
ـ أعني فَدَكاً.
قال هارون في نفسه: ما أبخس ما يريده موسى! وأردف باستعلاء كمن يدلّ بثراء عريض:
ـ حُدَّها لأردّها!
قال موسى:
ـ إنك لن تردَّها إن حددتُها.
قال هارون بضيق:
ـ بحق جدّك إلاّ فعلت.
قال له موسى وقد ارتسمت في ذهنه خارطة الإسلام:
ـ حدُّها الأول عدن.
شعر هارون بخنجر ينفذ في ضلوعه.
قال موسى:
ـ وحدّها الثاني سمرقند.
إربدّ وجه هارون، فيما كان موسى يستعرض خارطة فدك المغتصَبة:
ـ وحدّها الثالث أفريقيا.
هتف هارون بغيظ:
ـ هيه!
ـ وحدّها الرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينيا.
انفجر هارون:
ـ لم يبق لي شيء!
قال موسى غير آبه:
ـ أعرف أنّك لا تردّها.
غادر موسى المكان، وقد خيم صمت رهيب.. ظل هارون واجماً ذلك النهار، ها هو موسى يهزّ عرشه بقوّة.
تفجّرت في أعماقه آلاف المخاوف.. آلاف الهواجس. واستيقظ الوحش في أعماقه كاسراً مدمّراً.. وهتف في أعماقه: سوف أقتل موسى وليدعُ ربّه.
بدا هارون بحلّته السوداء فرعوناً يفكر في أمر موسى من أين له كل هذه الجرأة ؟! وكل هذه الكلمات المدهشة، وكل هذا السحر العجيب ؟!
 

جاسوس متطوّع
عاد هارون إلى بغداد. غانية الشرق.. ما تزال تغتسل في مياه دجلة، تتألق جمالاً.. فوّارات المياه تنثال في فضاء أزرق.. حدائقها تزهو خُضرة.. وقصورها تتألق كأصداف برّاقة..
بغداد سكرى على أنغام دجلة.. أسواقها تكتظ بفتيات جميلات جئن من أصقاع بعيدة، في عيونهن سحر وفي أفواههن كؤوس خمر، وفي أصواتهن قصائد شعر..
هارون بموكبه الملكي يعبر « جسر النساء »(19) يتوقف أمام ساعة كبيرة فُرغ من صنعها حديثاً.. ساعة عجيبة تحكي قصة الوقت لزمن نحاسي.. ومن يُمعن النظر إليها يجدها تتألف من اثني عشر باباً صغيراً بعدد الساعات. وكلما مضت ساعة انفتح باب، وخرجت منه كرات نحاسية صغيرة تتساقط فوق جرس فيرنّ بعدد الساعات وتبقى الأبواب مفتوحة، وعنده تظهر تماثيل صغيرة لاثني عشر جندياً على خيل تدور على صفحة الساعة(20)..
انه زمن النحاس، زمن الثراء والغناء، والليالي الحمراء..
لقد غابت الروح ومضى زمن الحب العذري..
فرّ السلام.. وحلّ في الأرض خوف ورعب.. وهارون يصنع من النحاس عصراً ذهبياً يكاد سنا برقه يذهب بالألباب.
حانت الساعة الواحدة، وانفتح باب وسقطت كُرة النحاس.. دقّت الساعة الواحدة.. لقد بدأت ساعة الصفر، وبدأ عصر الزمهرير.. سيلفّ الأرضَ خوفٌ ورعب من أجل أن يعيش هارون ناعم البال منتشياً في أحضان جواريه الحسان.
بغداد سكرى على ألحان الغناء.. لم تسمع في تلك الليلة ـ وقد غاب القمر ـ عواءَ الذئاب البشرية وهي تجوب أزقّة بغداد..
هارون يخشى موسى وقومَه.. لم يذق طعم الرقاد في تلك الليلة.. يكاد رأسه أن ينفجر.. آلاف الهواجس تدور في رأسه كخيول مجنونة.. شعر برغبة عارمة في أن يعبّ الخمرة، ولكن أنّى له ذلك، وقد انتقض عليه الغَزْل في طنجة وفاس، وقد نهض بالأمر إدريس.. إدريس الذي نجا من « فخّ ».. يؤسّس دولته.. وقد التفّ حوله البربر(21).
وضع هارون كفّه على جبينه.. الصداع يكاد يحطم جمجمته، لكأن ملايين الخلايا تضجّ في رأسه تبحث عن كأس شفافة تشوبها حُمرة خفيفة.
نظر هارون إلى وزيره، كان البرمكي يدرك ما يدور في خَلَد هارون، قال بنبرة أودعها كل دسائسه:
ـ أنا أكفيك أمره.. لقد أرسلتُ وراء « سليمان الجزري ».
ارتسمت علامة استفهام في عينَي هارون:
ـ كيف وهو من متكلمي الزيدية ؟!
ابتسم البرمكي ابتسامة فيها مكر:
ـ يا أمير المؤمنين، الذهب سيّد المتكلمين.. وددت أنك شاهدتَه وهو يتلجلج أمام بريق الذهب.
تساءل هارون:
ـ وماذا في مقدوره أن يفعل ؟
قال البرمكي بخبث:
ـ أعطيتُه قارورةَ طيب، وطلبت منه أن يهديها إلى إدريس. لقد كان معاوية يهدي خصومه « العسل » ونحن نهديهم « الطِّيب ».
ابتسم هارون بمرارة، ولكنّه شعر بأن همّاً ينزاح عن كاهله.. لَشدّ ما يخشى أبناء عليّ، قال البرمكي وقد وجد الظرف مناسباً تماماً:
ـ رحم الله جدّك المنصور.. لقد ترك الناس ثلاثة أصناف.. فمنهم في غياهب السجون لا يفكّرون إلاّ بالحريّة.. يحلمون بالعودة إلى أهليهم يتمنَّون رؤية السماء الزرقاء. ومنهم الجياع.. بطونهم خاوية طول النهار لا يفكّرون إلاّ برغيف الخبز. ومنهم الخائفون المشرّدون في المغارات والأصقاع البعيدة.. قد جلدتهم قسوة الغربة عن الأهل والديار فلا يرجون شيئاً سوى الطمأنينة والأمن والسلام.
كان هارون يصغي إلى البرمكي.. رفع إليه عينين فيهما تساؤل عما ينبغي فعله.. قال البرمكي بعد أن سكت قليلاً:
ـ إنني أخشى هؤلاء العلويين.. لقد استوطنوا بغداد وأصبحت لهم أملاك وبساتين.. والناس إليهم أميل وهم على فقرهم أسخياء.. أرى أن تُرحّلهم عن بغداد يا أمير المؤمنين(22).
دخل « مسرور » بجثته الهائلة وهمس في أذن « الخليفة » كلمات..
قال هارون:
ـ ليدخل.
مضت لحظات قبل أن يلج رجل يرتدي ثياباً رثة، عيناه لا تستقران على شيء، تقدّم متعثراً وهمس مرتبكاً:
ـ النصحية يا أمير المؤمنين.
ـ تكلّم!
ـ إنها من أسرار الخلافة.
نظر هارون إلى وزيره نظرات آمرة، لم يبق أحد غيرهما، قال الرجل بصوت خافت فيه صدى لفحيح مسموم:
ـ الأمان أولاً..
ـ هات ما عندك.
ـ رأيت يحيى..
ـ ابن عبدالله ؟!
ـ نعم.
هتف هارون بلهفة:
ـ أتعرفه ؟
ـ نعم يا أمير المؤمنين.. كان يرتدي قميصاً من الصوف غليظاً..
ـ وما أدراك أنه يحيى ؟!
ـ كنت أعرفه قديماً، وعندما رأيته بالأمس عرفته.
ـ صفه لي!
ـ مربوع، أسمر حلو السمرة، جميل العينين، حسن الوجه والجسم.
ـ صدقت إنّه هو.. أين رأيته ؟
ـ في خان من خانات حُلوان.
ـ أسَمعتَه يقول شيئاً ؟
ـ لا.. غير أنّي رأيته، ورأيت معه غلاماً لا أعرفه.. وكان معه جماعة ينزلون إذا نزل، ويرتحلون إذا رحل، ويكونون معه ناحية فيوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه، ولكنهم أعوانه.
ـ مَن أنت ؟
ـ رجل من أبناء هذه الدولة.. أصلي من مرو ومنزلي ببغداد..
ـ سوف أُحسن إليك.. فانطلق وكن ليحيى مثل ظلّه واكتب لي أخباره.
 

قضاة الملوك
بدا هارون عصبياً، كل ذرّة في كيانه تضجّ إلى الخمرة وكؤوس اللذة.. هارون يريد أن يغرق فينسى كل همومه.. ينسى إدريس ويحيى.. ينسى موسى.. ولكن من الحماقة أن يترك دولته ويغرق في السكر.
ليضرب ضربته ثم يحتفل.. ومضَ في ذهنه طيفٌ لجدّه بحلّته السوداء وقسوته وسيفه الذي لا يكاد يفارقه.. التفت هارون إلى وزيره الرجل الذي بشّره ذات مساء بالمُلك العريض، هتف هارون بغيظ:
ـ لا أريد أن أرى علويّاً في بغداد بعد الآن.. لا تدَعوا فيها أحداً صغيراً ولا كبيراً..
هيمن وجوم على المكان..
انحنى الوزير انحناءة خفيفة، هتف « الخليفة » وقد اشتعلت عيناه:
ـ أريد أن يتم الأمر هذه الليلة.
ـ إطمأنَّ يا سيدي..
ـ لا تنسَ أن ترسل لي جعفراً.
ابتسم الوزير.. وقد أدرك أن ابنه قد نفذ إلى قلب « الخليفة »:
ـ سأفعل ذلك يا مولاي..
غادر الوزير المكان.. صفق « الخليفة » بكفّيه كأنما يعلن عن مشهد آخر.. مشهد يختلف تماماً عمّا كان عليه قبل لحظات. اختفى الحرّاس وراء الأبواب.. أقبل سرب من الجواري كغزلان، وأطباق الطعام وآنية الخمر..
وجاء جعفر يرفل بحلّته الحريرية.. اتّخذ مكانه إلى جنب « الخليفة » الذي هبّ إلى لقائه بشوق..
الفتيات الجميلات يرفلن بحُلل مزركشة بالذهب في وجوههن تموّج فتنة.. إتّخذت « هيلانة » مكانها فوق كرسي وأحطن بها الجواري.. مسّت العود بأنامل ناعمة.. وانسابت الأنغام.. أنغام موسيقى حالمة، وكلمات بشرية ناعمة:

نظرتْ عيني لِحيني

 

وزكا وجدي لبَينـي

من غزال قد سباني

 

تحت ظلّ الدرّتَيـنِ

سكب الماء عليـه

 

بأباريـق اللُّجَيـنِ

دارت الكؤوس، وحلّقت النفوس، في عوالم مفعمة باللّذة والمتع السُّفلية، وبدا « الخليفة » كائناً مسّته شياطين الشهوة.. الجواري يتضاحكن.. يتغامزن..
الكؤوس ما تزال تدور وهارون أصابه الدوار.. عشرات الصور تومض في رأسه المثقل بخمرة معتّقة.. استقرّت في مخيلته صورة لحسناء جميلة.. تخلب اللب، قال بلهجة مخمورة:
ـ ما اسم الجارية التي اشتريتَها بالأمس يا جعفر ؟!
عبّ جعفر بقية كأسه وقال مخموراً:
ـ وما تريد من اسمها ؟! لها ألف اسم واسم..
آه لو رأيتَ ساعديها وزنديها.. آه لو رأيت...
شبّت نار الشهوة في أعماق هارون..
ـ بِعْها.. أُعطيك وزنها ذهباً وفضة. بِعْها.. أُعطيك وزنها ذهباً وفضْة.
ـ اتراني أحتاج إلى الذهب أو إلى الفضة ؟!
ـ إذن هبْها لي!
ـ ولماذ أهبها لك.. قل لي بربك ماذا تصنع بها ولديك آلاف الجواري الحسان ؟!
أطلق جعفر ضحكة متهتكة وأردف:
ـ وزبيدة.. ألا تخشى أن تغضب منك ؟!
اشتعلت حمى الشهوة في نفس هارون، هتف بضيق:
ـ زبيدة.. زبيدة طالق ثلاثاً إذا لم تبعها أن تهبها لي.
قهقهت جارية بصوت فيه أصداء غنج..
اعتدل جعفر مترنّحاً وصاح مخموراً:
ـ زوجتي طالق ثلاثاً إن بعتُها لك أو وهبتها..
الجواري يستغرقن في ضحكات ناعمة.. وانطلق صوت ناعمٌ يصدح في ظلمة الليل:

وسواعد تزهو بحسن أساورٍ

 

كالنار تضرم فوق ماء جارِ

فكأنّما والتِّبرُ محتـاط بهـا

 

ماءٌ تَمنطَقَ معجَباً بـالنـارِ

أفاق هارون من نشوته.. استيقظت في أعماقه حمّى الخلافة.. لقد طلّق زوجته.. في نوبة سكر.
ترى ماذا سيفعل وهو « أمير المؤمنين، وخليفة المسلمين» ؟
التفت إلى جعفر.. جعفر ما يزال ثملاً، قال « الخليفة » بشيء من الجدّ:
ـ لقد وقعنا في مأزق.. كلانا طلق زوجته!
همس جعفر متصنعاً الجدّ:
ـ حقاً ؟! هذه مشكلة ليس لها غير أبي يوسف..
بغداد غارقة في منتصف الليل.. كل شيء بدا ساكناً سكون المستنقع، ما خلا خطى أحذية الحراس الثقيلة تتجه إلى بيت قاضي القضاة.
دقّات عنيفة تمزّق صمت الليل، هبّ القاضي من نومه فألقى حرّاسَ « الخليفة » يحملون مشاعل وقد اكتست وجوههم رهبة..
مثلما تغادر الخفافيش الكهف المظلم، تراكضت أفكار القاضي وهو يرتدي حلّته الرسميّة. لابدّ وأنّ أمراً عظيماً قد حدث في الإسلام، وإلاّ لم يطلبه « الخليفة » في هذه الساعة المتأخرة من الليل!
هتف بغلامه:
ـ لا تنسَ أن تأخذ معك مِخلاة البغلة.. فلعلّها لم تستوفِ عليقتها.
ـ سمعاً وطاعة.
امتطى القاضي بغلته، وضع كُمّه على أنفه يتوقى نسائم خريفية تبشّر بشتاء قارس البرد.
نهض هارون لاستقبال قاضيه.. ليس هناك من هو أفضل من هؤلاء القضاة.. إنهم يعرفون كيف يجعلون من الحلال حراماً ومن الحرام حلالاً.. هناك ما يشبه الصفقة بين الرجلين.. فالقاضي يعشق الذهب والجاه، و « الخليفة » يحتاج إلى عباءة القاضي.. ورضى القاضي من رضى الله!
كانت رائحة الخمرة ما تزال تفوح فتمتزج مع رائحة عطور غالية.
أصغى قاضي القضاة إلى مشكلة « الخليفة ».. اعصم جعفر بالصمت وكان يراقب من زاوية عينه..
قال « الخليفة »:
ـ وهكذا عجزنا عن تدبير الحيلة..
برقت في عينَي القاضي نشوة الانتصار:
ـ يا أمير المؤمنين! الأمر أسهل ما يكون.
التف أبو يوسف إلى الشاب البرمكي:
ـ يا جعفر، بع لأمير المؤمنين نصفها وهب له نصفها الآخر. . وهكذا سوف تبرّان في يمينكما.
هتف جعفر ثملاً:
ـ لقد بعتُ أمير المؤمنين نصف جارتي ووهبته نصفها الآخر.
هتف هارون جذلاً:
ـ أحضِروا الجارية في هذا الوقت، فإني شديد الشوق إليها.
وجاءت الجارية تمشي على استحياء.
اشتعلت حمّى الشهوات في عيني هارون فقال لابي يوسف هامساً:
ـ أُريد وطأها في هذا الوقت..
ـ ألا تنتظر يا أمير المؤمنين حتّى تمضي مدّة الاستبراء ؟!
ـ كلاّ، لا أُطيق الصبر عنها.. فهل عندك في هذا حيلة ؟
فكّر القاضي.. راح يبحث في تلافيف مخه عن مُسوّغ.. عن حيلة تسدّ جوع « أمير المؤمنين »!
ومضت في عيني القاضي بروق الانتصار فهتف:
ـ اِئتوني بمملوك من مماليك أمير المؤمنين لم يجرِ عليه العتق.
ما هي إلاّ صيحة واحدة حتّى وقف عبد بقامته الفارعة، قال القاضي:
ـ أتأذن يا أمير المؤمنين أن أُزوّجها منه ثم يطلّقها قبل الدخول، وعندها يحلّ لك وطؤها في هذا الوقت من غير استبراء.
ابتسم هارون للعبة القاضي، وقال لمملوكه:
ـ أذنتُ لك في العقد.
تمّ العقد.. وأصبح هارون قاب قوسين أو أدنى من الحسناء الفاتنة.. التفت القاضي إلى المملوك وقال:
ـ طلّق زوجتك!
ـ وإذا لم أطلّقها ؟
ـ طلّقْها ولك مئة دينار ذهب.
ـ لا أفعل.
ـ طلقها ولك الف دينار!
ـ ...
صرخ هارون بعصبية.
ـ يا ابن الفاعلة!
همس القاضي:
ـ لا تجزع يا أمير المؤمنين.. لو طلّقها كارها لم يصحّ؛ دعني أجد لهذا المشكل حلاًّ.
مرّة أخرى راح القاضي يقلب أوراقاً قديمة فهتف:
ـ وجدتها! ملّكْ هذا المملوك للجارية.
ـ ملّكتُه لها.
التفت القاضي إلى الفاتنة:
ـ قولي: قبلتُ.
ـ قبلتُ.
وهنا هتف أبو يوسف قاضي القضاة:
ـ حكمتُ بينهما بالتفريق؛ لأنّه دخل في مُلكها فانفسخ عقد النكاح.
هبّ هارون الرشيد « خليفة المسلمين في العالم » على قدميه وهتف:
ـ مثلك من يكون قاضياً في زماني.. إليّ بأطباق الذهب..
امتلأ حضن أبي يوسف بمسكوكات الذهب..
قال هارون وقد أُوتي من الكنوز ما إنّ مفاتحه لَتنوء بالعصبة أُولي القوّة:
ـ هل معك شيء تضع فيه ذهبك.
تذكّر قاضي القاضي المِخلاة:
ـ نعم.. مع غلامي مخلاة.
امتلأت المخلاة ذهباً يكاد سنا برقه يذهب بالألباب، وغاب هارون مع الحسناء الفاتنة وراء ستائر حمراء حالمة. ومضى أبو يوسف جذلان فرحاً.. قال لغلامه وهو يحاوره:
ـ لا طريق إلى الدنيا أسهل وأقرب من طريق العلم، لقد أُعطيت كلَّ هذا المال من أجل مسألتين أو ثلاث!
 

في زمن الزمهرير
ليس هناك في كل ذلك العالم المفتون مَن يدرك آلام موسى عليه السّلام.. رجل يحمل هموم الأنبياء وينوء بثقل آخر الرسالات في التاريخ.
لقد ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.. المفتونون ينظرون إلى هارون.. ينظرون إلى رجل ذهبي.. يتحسرون في أنفسهم سرّاً وعلانية يقولون: يا ليت لنا مثل ما أُوتي هارون إنّه لذو حظٍ عظيم!
الدنيا تدور بأهلها.. تتغير من حال إلى حال.. زَهَت القصور فهي تنهض على أنقاض اللحوم الآدمية.. خبت المساجد انطفأت قناديلها.. وغطّى المحاريبَ الغبار.. ضاعت تراتيل القرآن في زمن الغناء.. أصبحت بغداد قبلة الذين فُتنوا بالعجل الذهبي.
ليس هناك من يدرك عذابات الأنبياء في زمن مشدوه بالذهب.. يجعل منه إلهاً من دون الله.
موسى يكاد أن يتشظّى غضباً لولا أنْ كظَمَ الحزن.. في عينيه تطوف غيوم ممطرة.. هنالك في أعماق ذلك الرجل الأسمر الذي ذرّف على الأربعين بركان يحتدم غضباً.
الأرض تشتعل بالثورة والنار ما تزال تحت الرماد، والذين نَجَوا من « فَخّ ».. يؤسسون دولاً ويُشعلون الأرض ثورة.. ها هو يحيى بن عبدالله ينهض وقد التفّ حوله « الدَّيلَم » في أرض الجبل(23).
موسى ينطوي على غضب سماوي.. يكظم حزنه، وهارون خائف يخشى موسى.. يخشى أسلحة الصمت الحزين.. يخشى كلمات تنفذ في أعماق القلب في تلك النقطة التي يُولَد فيها الإيمان، الأمل.. والثورة.. هارون لا يخشى إدريس ولا يحيى.. يعرف كيف يواجه تلك الأخطار.. لكنه يخشى موسى الأعزل من كل أسلحة الحديد.. هارون يدرك أن موسى.. يحمل في يديه عصا ابن عمران وفأس إبراهيم..
جاء صفوان زائراً فقال موسى عليه السّلام وهو يحاوره:
ـ يا صفوان، كلّ شيء منك حسن جميل.. ما خلا شيئاً واحداً.
أحسّ صفوان أنّه يهوي من فوق جبل:
ـ جُعلت فداك، أي شيء ؟!
قال الذي كظم غضب السماء:
ـ كِراكَ جِمالَك لهذا الطاغية.
قال صفوان مبرّراً:
ـ ولكني لم أفعل ذلك بَطَراً.. وأعرف أنّه لا يريدها للصيد أو اللهو.. إنما فعلت ذلك لأنّه يريدها للحج.. كما أني لا أتولّى خدمته بنفسي، إنما أبعث معه غلماني.
قال الإمام وهو يعلن حرب المقاطعة:
ـ أيَقَع كِراك عليهم ؟
ـ أجل يا سيدي.
ـ أتُحبّ بقاءهم حتّى يخرج كِراك ؟
ـ نعم.
ـ مَن أحبّ بقاءهم فهو منهم.. ومن كان منهم كان وراداً للنار.. لا تَرْكَنُوا إلى الذين ظلموا فتمسَّكمُ النار .
هتف صفوان مذعوراً:
ـ أعوذ بالله!
لقد قرر موسى الحرب.. وليس معه إلاّ الكلمات.. الكلمات التي تتدفق ملتهبة كحمم بركانية..
 

* * *

هنالك في الأُفق البعيد معركة فاصلة.. رجل أعزل من كل شيء إلاّ من ميراث النبوّات يواجه به نظاماً مدججاً بالسلاح.. مطموراً بالذهب.. ها هو هارون يجمع من حوله الشعراء ليسحروا أعين الناس.. يطلب منهم أن يقهروا موسى.
في زمن الزمهرير في زمن ترتجف فيه المدن.. في زمن يتعذّر فيه على الإنسان أن يحيا إنساناً.. في زمن يُمسخ فيه الكائن البشري ليستحيل إلى مخلوق آخر لا يملك من بشريته سوى إهاب كاذب في مثل هذا الزمن يختنق الأحرار.. يختارون الموت أو السجن.. من أجل أن تبقى للإنسان كرامته.
هارون ماهر في لعبة الشطرنج.. يعرف كيف يقهر موسى.. يعرف كيف يثير الحيوانات الكامنة في النفوس البشرية.. ها هي تتفلت من عقالها كثيران هائجة.. تدمّر حاجز العقل والدين والكرامة
فقدت الاشياء توازنها.. استقرارها، ولم يَعُد هناك من شيء مقدّس، فقد خسر الإنسان نفسه وهو يركع في حضرة العِجل الذهبي.. وأصبح القابض على دينه كالقابض على جمر.
كثيرون هم الذين بهرهم العجل الذهبي، فهم عاكفون عليه حتّى لو جاء موسى..
بريق الذهب يخطف الأبصار ويذهب بالألباب. وجاء رجل.. رجل انسلخ عن الإيمان، بهَرَه ذهبُ هارون.. يريد السفر؛ قال له موسى غضبانَ أسفاً:
ـ بلغني أنك تريد السفر ؟
ـ نعم.
ـ إلى اين ؟
ـ إلى بغداد ؟!
ـ علَيَّ دَين وأنا مُمِلق.
ـ أنا أقضي دَينك.
ولكنّ المبهور بعبادة العجل لم يلتفت إلى دعوة العبد الصالح. قال له موسى وهو يهبه ثلاثمئة دينار:
ـ لا تُؤتِمْ أولادي!
برقت عينا الاسخر يوطيّ بالغدر.
فانطلق إلى بغداد.. إلى كنوز قارون.. ودنيا هارون. وثب الشيطان في أعماقه.. فجاء يدلّ على ابن مريم.. جاء ليبني مجده على أشلاء مَن ولدته الأنبياء.. جاء ليبطش بموسى.. لقد أعماه بريق الذهب.. خلب لبَّه فسوّلت له نفسه قتل أخيه!
 

القلق الطاغي
بدا هارون في قصره ذلك الصباح البارد ثعباناً جامداً، عيناه تحدّقان في نقطة ما في أرضية البلاط.. كان يسفح أفكاره وهواجسه في تلك النقطة المبهمة.. يفكّر ويدبّر.. لقد انفجر الغضب العلوي في جبال الدَّيلم.. ولم يَعُد هناك من وقت للسكوت.
وهناك في المدينة رجل أسمر يقال له ( موسى ) يحمل في قلبه قرآن محمّد صلّى الله عليه وآله وفأس إبراهيم عليه السّلام وعصا موسى الكليم عليه السّلام.
وهناك في طنجة، حيث تغرب الشمس.. عَلَويّ آخر هو إدريس وقد نهضت له دولة، وأصبحت له صولة.
تناهت إلى أُذن هارون جلبة وضوضاء، لقد حضر وزير الدولة يحيى بن خالد البرمكي.. ما يزال يأمر وينهى وينصب ويعزل ويفعل ما يشاء..
هيمن صمت ثقيل كغراب جاثم.. وقد بدا رجال الدولة بثيابهم الرسمية السود سرباً من الغربان يبحث في الأرض..
كان هارون متوتر الأعصاب، لقد أدمن الخمر وها هو يتركها فجأة، ففي الأُفق الشرقي ما ينذر بالخطر.. يحيى العلَوي يرفع راية الثورة في أرض الجبل..
بدأ الوزير حديثه لكسر حاجز السكوت:
ـ غداً أو بعد غد، سينطلق وفدنا إلى شمارلمان ملك الفرنجة يحمل له هدايا الخلافة وفيها الساعة الروحانية، إنّه يريد منّا أن نحمي الحُجّاج النصارى الذين يقصدون بيت المَقْدس.. ونحن نريد منه أن يكفينا شرّ هشام في الأندلس وربّما صولة إدريس..
تساءل هارون:
ـ والطِّيب الذي أرسلته إليه ؟!
ـ لم أحصل بعدُ على أخبار.
التفت هارون إلى الفضل:
ـ أين كنت كلَّ هذه المدّة عن يحيى.. لقد التفّ حوله الديلم(24) وقويت شوكته ؟
ـ لا تخشَ شيئاً، أنا أعرف كيف أُخمد أنفاسه.
ـ أنا لا أخشى إلاّ شخصاً واحداً.
قال الوزير:
ـ ومن هو ؟!
ـ موسى بن جعفر..
سكت هنيهة وأردف:
ـ أشعر أنّه يحاربني هنا في بغداد.. بل في قصري، لَشدّ ما أمقت هؤلاء العلويّين.. لا أُطيق أن أراهم يعيشون، ويتزوجون، ويتكاثرون.
ومضت عيناه ببريق مخيف وهو يقول:
ـ إنّ موسى هو مصدر الخطر..
والتفت إلى الفضل:
ـ أخمِدْ أنفاسه قبل أن يستفحل أمره.. أنا لا أُطيق دولة إدريس، فإذا نهضت ليحيى دولة فلا آمن أن يقوم موسى ويضربني بمئة ألف سيف(25).
أرسل هارون نظرة من خلال نافذة القصر وتمتم:
ـ أريد الحجَّ هذه السنة.
 

* * *

مرّت أيّام شهدت فيها بغداد ثلاثة أحداث.. غادر موكب « الخليفة » العاصمة إلى الكوفة على طريق الحج، وتحرّك جيش قوامه خمسون ألف مقاتل بقيادة الفضل لقمع الثورة المشتعلة في أرض الجبل، ووفد يضم مسؤولين في الدولة يتوجه إلى أرض الفرنجة حيث يحكم الملك شارلمان.
بدا موكب « الخليفة » وهو يضمّ كبار رجال الدولة وجمعاً ـ من رجالات المجتمع؛ أنّ هارون يريد أن يعلن للجميع قائلاً:
ـ أيّها الناس، أليس لي مُلك نصف الأرض وهذه الأنهار تجري من تحتي ؟!
لا أحد يعرف ما يدور في خَلَد هارون وهو يصطحب معه ولديه عبدالله ومحمداً، أصبح موكب « الخليفة » قاب قوسين أو أدنى من الكوفة، ورأى من بعيد قوافل تتجه صوب بقعة على شطآن الفرات حيث ترتفع باسقاتُ النخيل.. صرّ على نواجذه بحقد.. أمرٌ عجيب.. إنه يمقت تلك البقعة، يودّ أن يعفّي قبورها وآثارها من الأرض ومن ذاكرة التاريخ.. لقد علّم الحسينُ الناس أن يعيشوا أحراراً أو يموتوا واقفين مثلما باسقات النخيل..
كان هارون يتأمل من بعيد سدرة ترسم ظلالها فوق قبر الحسين عليه السّلام.
خطرت في ذهنه فكرة، ومضت كبرق في قلب الظلمات، ماذا لو أنّه عاش في عصر الحسين ؟! إنه لن يتردد حتّى لحظة واحدة في تمزيقه.. إنّ المُلك عقيم، بل لو أن رسول الله نازعه في ذلك لقطع رأسه، إنّ يزيدَ لم يفعل شيئاً يستحق من أجله اللعن!
حطّ « الخليفة » رحاله في الكوفة.. في مدينة كانت يوماً ما عاصمة الإسلام.. ومخزناً للثورة.. ما تزال حلماً للثائرين.. فكلما ضاقت السبل على الأحرار أُمّوها ليجدوا فيها أسلحةً وسواعد مقاتلة وقلوباً تنبض بالحرّية.
ولكنّ الكوفة لم تكن كحالها بالأمس، تغيرت كثيراً، سرى لها الوباء من بغداد.. شاع فيها الخمر والغناء.. ومجون الشعراء.. حتّى أنّ « بهلول »(26) لم يعد يرى فيها شيئاً يأنس به سوى مقابرها يرتادها أحياناً كثيرة، يُصغي إلى صمت القبور.. وربّما حدّثها عن موت الكوفة.. عن انسلاخها من الآيات.
 

المجنون
غصّ المكان بالوافدين.. العيون جميعاً تبحلق بهارون وقد تربّع بين أولاده ورجال دولته.. تحسّر بعض أهل الكوفة وربّما همسوا فيما بينهم قائلين: يا ليت لنا مثل ما أُوتي هارونُ إنه لَذو حظّ عظيم!
هارون يتصفّح الوجوه، كان يحرص على أن يرى م%