الثانية ـ مرحلة إثبات تحقق ذلك فعلاً في الإمام المهدي(عليه السلام)
والبحث في هذه المرحلة يتم بطريقين: 1 ـ عقائدي. 2 ـ تاريخي:
1 ـ الطريق العقائدي
ويمكن تقريره بثلاثة بيانات:
أ ـ إن هذه الخصوصية من اللوازم الذاتية للمفهوم المهدوي عند أهل البيت(عليهم السلام)، فثبوت هذا المفهوم ـ بالنحو الذي مرّ آنفاً ـ ثبوتاً برهانياً قاطعاً، واتضاح بطلان ما سواه، يقودنا بنحو طبيعي إلى الاعتقاد بغيبة الإمام الثاني عشر(عليه السلام). فما دام الأئمة اثني عشر فقط، وأنهم معينين من قبل الله سبحانه وتعالى، وليس للناس دور في اختيارهم، فليس بإمكاننا إلاّ أن نتصور استمرار حياة الإمام الثاني عشر، ومواكبته للمسيرة البشرية وظهوره بعد ذلك في الشوط الأخير منها، ومن الطبيعي أن لا يتاح لإنسان يُقدّر له مثل هذا الهدف، وتقدر له مثل هذه الحياة الطويلة، أن يعيشها بصورة ظاهرة، ولابد له من أن يمارسها بنحو خفي غائب عن الأنظار، إلاّ أن يفترض وفاة الإمام المهدي(عليه السلام) في الزمان الطبيعي لأمثاله، ثم عودته للحياة في زمن الظهور، ولكن هذا الافتراض يلزم منه انقطاع الحجة في الفترة الفاصلة من وفاته إلى ظهوره، وهو مخالف لحديث الثقلين الذي يدل على تلازم الكتاب والعترة، وعدم افتراقهما في زمن من الأزمان حتى قيام الساعة والورود على الحوض، كما يلزم منه الاعتقاد برجعة الإمام المهدي إلى الحياة بعد وفاته، وهو مما لا قائل به بين المسلمين.
ب ـ الروايات الدالة على اتصاف الإمام المهدي بالغيبة، وقد ذكرتها بعض مصادر أهل السنّة مثل: ينابيع المودّة، وفرائد السمطين.
ففي ينابيع المودّة: عن كتاب فرائد السمطين عن الباقر عن أبيه عن جده عن علي(عليهم السلام)، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «المهدي من ولدي تكون له غيبة إذا ظهر يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً» [1].
وفيه عنه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «أن علياً وصيي ومن ولده القائم المنتظر المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً أن الثابتين على القول بإمامته في زمان غيبته لأعزّ من الكبريت الأحمر» فقام إليه جابر بن عبدالله، فقال: يا رسول الله وللقائم من ولدك غيبة؟ قال: «اي وربي ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ـ ثم قال: ـ يا جابر إن هذا أمر من أمر الله وسر من سرّ الله فإياك والشّك فإن الشّك في أمر الله عزّ وجل كفر».
وفيه في الصفحة المذكورة عنه عن الحسن بن خالد، قال: قال علي بن موسى الرضا ـ رضي الله عنهما ـ : «إن الرابع من ولدي ابن سيدة الإماء يطهّر الله به الأرض من كل جور وظلم وهو الذي يشكّ الناس في ولادته وهو صاحب الغيبة فإذا خرج أشرقت الأرض بنور ربّها» [2].
وفيه: عنه عن أحمد بن زياد عن دعبل بن علي الخزاعي في حديث وروده على الرضا وانشاده قصيدته التائية، إلى أن قال: «إن الإمام بعدي ابني محمد وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن وبعد الحسن ابنه الحجة القائم وهو المنتظر في غيبته والمطاع في ظهوره ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، وأما متى يقوم؟ فإخبار عن الوقت، فقد حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)قال: مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلا بغتة» [3].
وفيه: عن غاية المرام عن فرائد السمطين عن جابر بن عبدالله رفعه: «المهدي من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً تكون له غيبة وحيرة تضل فيها الاُمم يقبل كالشهاب الثاقب يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً».
وفيه: عنه عن فرائد السمطين في الصفحة المذكورة عن الباقر عن آبائه عن علي بن أبي طالب ـ سلام الله عليهم ـ رفعهُ: «المهدي من ولدي تكون له غيبة وحيرة تضل فيها الاُمم ـ الى أن قال ـ ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً» [4].
وفيه: عن المناقب عن أبي جعفر محمد الباقر، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو يأتم به في غيبته قبل قيامه ويتولى أولياءه ويعادي أعداءه ذلك من رفقائي وذوي مودتي وأكرم اُمتي عليَّ يوم القيامة».
وفيه: عنه عن أبي بصير عن الصادق جعفر بن محمد عن آبائه عن أمير المؤمنين(عليهم السلام)، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «المهدي من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي وهو أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً، تكون له غيبة وحيرة في الاُمم حتى يضل الخلق عن أديانهم، فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً». وفيه: عنه مثل ذلك، غير أنه قال: «فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب يأتي بذخيرة الأنبياء(عليهم السلام)» ...الحديث [5].
وفيه: (ص 494) عنه عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سمعت جابر بن عبدالله الأنصاري يقول: قال لي رسول الله(صلى الله عليه وآله): «يا جابر إن أوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي أولهم علي ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف بالباقر ستدركه يا جابر، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام، ثم جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم القائم اسمه اسمي وكنيته كنيتي ابن الحسن بن علي ذلك الذي يفتح الله تبارك وتعالى على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذلك الذي يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان».
ج ـ إن المهدي الموعود إن لم يكن إماماً معصوماً، وكان رجلاً عادياً من عامّة المسلمين، سوف لن يكون هناك تناسب بينه وبين ظهور المسيح(عليه السلام) معه، وهو نبي من اُولي العزم، ليؤيد المهدي ويدعو المسيحيين الى الإذعان بنبوّة النبي(صلى الله عليه وآله)، فلابد وأن يكون المهدي الموعود إماماً معصوماً، وحيث إن الإمامة المعصومة ليست أمراً قابلاً للادّعاء بل تحتاج الى تعيين سماوي ونص نبوي يكشف عنها، ولم يجرِ ذلك في غير الأئمة الإثني عشر(عليهم السلام) حتى على مستوى الادّعاء فضلاً عن الدليل والبرهان، وقد ثبتت وفاة الأئمة المتقدمين ودفنت أجسادهم في أماكن معلومة، وبقي الإمام الثاني عشر لم تُعلم له وفاة حتى الآن. فلابد من الاعتقاد باستمرار حياة هذا الإمام من حين ولادته الى حين ظهوره في آخر الزمان، ليكون مؤهلاً لتأييد المسيح(عليه السلام) له . يقول السيد سامي البدري في ذلك:
«فإن ظهور عيسى سوف يكون بحاجة إلى استيعاب علمي وقيادي من قبل المهدي الموعود ، باعتباره يقوم شاهداً له وللرسالة التي يرفع شعارها وكتابها وتابعاً له. والمهدي على التصور السنّي لن يكون قادراً على استيعاب المسيح، بل هو غير قادر على استيعاب طوائف المسلمين.
لن يكون قادراً على استيعاب المسيح ، لأن المسيح نبي ورسول معصوم ومؤيد إلهياً بالمعجزات، ومثله لا يمكن أن يستوعبه إنسان غير مؤيد بالمعجزات والعصمة والعلم التام.
ولن يكون قادراً على استيعاب الاُمة المسلمة بلا تأييد إلهي بالمعجزة والعصمة والعلم التام[6]
2 ـ الطريق التأريخي
ويمكن تقريره بثلاثة بيانات:
أ ـ إن التاريخ ـ وكما مرّ ـ قد شهد بولادة الإمام المهدي(عليه السلام)ولم يشهد بوفاته، مما يدل على استمرار حياته، وحيث لا نتحسس وجوده، ولا نشخّص أحداً من الناس بعنوان أنه المهدي ابن الإمام الحسن العسكري، فلابد وأن تكون له حياة خفية غير ظاهرة للناس.
ب ـ إن التاريخ قد شهد بحصول مشاهدات عينية متكررة للإمام المهدي(عليه السلام) في زمان غيبته، وقد اُلّفت في ذلك كتب مثل كتاب (تبصرة الولي فيمن رآى القائم المهدي) للسيد هاشم البحراني، وذكر الشيخ أبو طالب التجليل التبريزي في كتابه [7]266 شخصاً ممن رأى الإمام المهدي في غيبته الصغرى مع ذكر قصص أكثرهم، وخصص فصلاً لمن رأى الإمام في غيبته الكبرى، وذكر عشرين كتاباً أورد أصحابها فيها القصص والأخبار التأريخية في ذلك، وها نحن نذكر قصة أوردها السيد صدر الدين الصدر في كتابه «المهدي» نقلاً عن الشيخ عبدالوهاب الشعراني في كتابه «طبقات العرفاء» في أحوال الشيخ حسن العراقي:
قال: «ترددت اليه مع سيدي أبي العباس الحريثي فقال: أتأذن لي أن أحكي لك حكايتي من مبتـدأ أمري إلى وقتي هذا كأنك كنت رفيقي من الصغر؟ فقلت له: نعم، فقال: كنت شاباً من دمشق، وكنت صانعـاً، وكنا نجتمع يوماً في الجمعة على اللهو واللعب والخمر، فجاءني التنبيه من الله تعالى يوماً ألهذا خلقت؟! فتركت ماهم فيه وهربت منهم فتبعوا ورائي فلم يدركوني، فدخلت جامع بني اُمية فوجدت شخصاً يتكلم على الكرسي في شأن المهدي(عليه السلام)فاشتقت إلى لقائه، فصرت لا أسجد سجدة إلا وسألت الله تعالى أن يجمعني معه، فبينما أنا ليلة بعد صلاة المغرب اُصلي صلاة السنة وإذا بشخص جلس خلفي ومسح على كتفي، وقال لي: قد استجاب الله تعالى دعاءك يا ولدي! مالك أنا المهدي. فقلت: تذهب معي إلى الدار، فقال: نعم، فذهب معي وقال: اخل لي مكاناً انفرد به فأخليت مكاناً فأقام عندي سبعة أيام بلياليها» [8].
وقال الشيخ علي بن عيسى الأربلي في كشف الغمة: «إن الناس ينقلون قصصاً وأخباراً في خوارق العادات للإمام المهدي(عليه السلام)يطول شرحها ، وأنا أذكر من ذلك قصتين قريب عهد بزماني وحدثني بها جماعة من ثقاة اخواني.
الاُولى: إنّه كان في بلد الحلة بين الفرات ودجلة رجل اسمه إسماعيل بن الحسن، قال: اخواني حكى لنا إسماعيل، أنه خرج على فخذي الأيسر توثة[9] مقدار قبضة الإنسان فعجزت الأطباء عن علاجها فجاء بغداد ورآه أطباء الأفرنج، فقالوا: لا علاج لها، فتوجه إلى سامراء وزار الإمامين علي الهادي والحسن العسكري ـ رضي الله عنهما ـ ونزل السرداب ودعا الله تعالى تضرعاً ، واستغاث بالإمام المهدي (عليه السلام)ثم مضى إلى دجلة فاغتسل ثم لبس ثوبه ، فرأى أربعة فرسان خارجين من باب سور البلد وواحد شيخ بيده رمح وشاب آخر عليه فرجية ملونة، فصاحب الرمح يمين الطريق والشابان يسار الطريق والشاب صاحب الفرجية على الطريق، فقال له صاحب الفرجية: أنت تروح غداً إلى أهلك، فقال له: نعم، فقال صاحب الفرجية له: تقدم اليّ حتى أبصر ما يوجعك، فقدم إليه ومد يده إليه فعصر التوثة بيده فأوجعه ثم استوى على سرجه، فقال الشيخ صاحب الرمح: أفلحت يا إسماعيل، هذا الإمام، ثم ذهبوا وهو يمشي معهم، فقال الإمام: ارجع فقال: لا اُفارقك أبداً، فقال الإمام: المصلحة في رجوعك، فقال: لا اُفارقك أبداً، فقال الشيخ: يا اسماعيل ما تستحي! يقول لك الإمام ارجع مرتين فتخالفه! فوقف وتقدم الإمام خطوات، ثم التفت إليه وقال: يا إسماعيل إذا وصلت إلى بغداد فلابد أن يطلبك أبو جعفر، يعني الخليفة المستنصر بالله، فإذا حضرت عنده وأعطاك شيئاً فلا تأخذه، وقل لولدنا الرضا ليكتب لك إلى علي بن عوض فإنني اُوصيه يعطيك الذي تريد، ثم سار مع أصحابه فلم يزل قائماً يبصرهم حتى غابوا، ثم قعد على الأرض ساعة متأسفاً محزوناً وباكياً عن مفارقتهم، ثم جاء إلى سامراء فاجتمع القوم حوله، وقالوا: نرى وجهك متغيراً فما أصابك ؟ فقال: هل عرفتم الفرسان الذين خرجوا من البلد وساروا ساحل الشط، قالوا: هم الشرفاء أرباب الغنم، فقال لهم: بل هم الإمام وأصحابه، الشاب وصاحب الفرجية هو الإمام مس بيده المباركة مرضي، فقالوا: أرنيه، فكشف فخذه فلم يروا له أثراً فمزقوا ثيابه وأدخلوه في خزانة ومنعوا الناس عنه لكيلا يزدحموا عليه، ثم إن الناظر من طرف الخليفة جاء الخزانة وسأله عن هذا الخبر وعن اسمه ونسبه ووطنه وعن خروجه من بغداد أول هذا الاُسبوع ثم ذهب عنه. فبات إسماعيل في الخزانة وصلى الصبح وخرج مع الناس إلى أن بعُد من سامراء فرجع القوم ووادعوا ، فسار منفرداً حتى وصل الى موضع، فرأى الناس مزدحمين على القنطرة العتيقة يسألون عمن ورد عليهم عن اسمه ونسبه وموضع مجيئه، فلما لاقوه عرفوه بالعلامات المذكورة فمزقوا ثيابه وأخذوها تبركاً وكان الناظر كتب إلى بغداد وعرفهم الحال ، وكان الوزير طلب السعيد رضي الدين ليعرفه صحة الخبر فخرج رضي الدين الذي هو كان من أصدقاء إسماعيل وكان ضيفه قبل خروجه إلى سامراء ، فلما رآه رضي الدين وجماعة معه فنزلوا عن دابتهم وأراهم فخذه فلم يروا شيئاً فغشي على رضي الدين ساعة، ثم أخذه بيده وأدخله على الوزير وهو يبكي ويقول: هذا أخي وأقرب الناس إلى قلبي، فسأله الوزير عن القصة فحكاها له فأحضر الأطباء الذين رأوا مرضه، وسألهم متى رأيتموه قالوا منذ عشرة أيام فكشف الوزير فخذ إسماعيل فليس فيها أثر، قالوا: هذا عمل المسيح(عليه السلام) فقال الوزير: نحن نعرف من عملها ثم أحضره الوزير عند الخليفة فسأله عن القصة، فحكى له ما جرى فأعطى له الف دينار، فقال: ما أجسر أن آخذ منه ذرّة فقال الخليفة ممن تخاف؟ فقال: من الذي فعل بي هذا، قال لي: لا تأخذ من أبي جعفر شيئاً. فبكى الخليفة، ثم قال علي بن عيسى: كنت احكي هذه القصة لجماعة عندي وكان شمس الدين ولده حاضراً عندي لا أعرفه، قال: أنا ابنه من صلبه فقلت: هل رأيت فخذ أبيك وهي مجروحة؟ قال: إني كنت صبياً في وقت جراحة فخذه، ولكن سمعت القصة من أبي واُمي وأقربائي وجيراني ورأيت فخذه بعدما صلحت ولا أثر فيها ونبت في موضعها شعر. وقال أيضاً: سألت السيد صفي الدين محمد بن محمد ونجم الدين حيدر ابن الأيسر، أخبراني بصحة هذه القصة وإنهما رأيا إسماعيل في مرضه وصحته ، وحكى لي ولده أن أباه ذهب إلى سامراء بعد صحته أربعين مرة، طمعاً أن يعود له الوقت الذي رآه.
الثانية: حكى لي السيد باقي بن عطوة العلوي الحسني أن أباه عطوة لا يعترف بوجود الإمام محمد المهدي(عليه السلام) ويقول: إذا جاء الإمام فيبرئني من هذا المرض اصدق قولهم ؟ ويكرر هذا القول فبينما نحن مجتمعون وقت العشاء الأخيرة ، صاح أبونا فأتيناه سراعاً فقال: إلحقوا الإمام في هذه الساعة خرج من عندي، فخرجنا فلم نر أحداً ، فجئنا إليه وقال: انه دخل اليّ شخص وقال: يا عطوة فقلت: لبيك ، قال: أنا المهدي قد جئت إليك أن اشفي مرضك ، ثم مد يده المباركة وعصر وركي وراح فصار مثل الغزال، قال علي بن عيسى: سألت هذه القصة من غير ابنه فأقرّ بها»[10] .
ومن هنا فقد آمن بعض الأعلام من أهل السنّة بحياته وبقائه أو هو لازم كلامهم. وقد ذكر السيد صدر الدين الصدر بعضهم فقال:
«منهم: الشيخ محيي الدين ابن العربي في الفتوحات على رواية الشيخ عبدالوهاب الشعراني في كتابه (اليواقيت والجواهر) الذي تقدم عيناً نقله عن كتاب (اسعاف الراغبين)، فإن كون المهدي بن الحسن العسكري بلا فصل كما هو صريح كلامه مع وفاة الإمام الحسن العسكري في سنة مائتين وستين لازمه حياة المهدي وبقاؤه حتى يظهر أو أنه يموت ثم يحييه الله تعالى بقدرته. ولا أظن أن الشيخ محيي الدين يرضى بأن ينسب إليه الاحتمال الأخير.
ومنهم: الشيخ عبدالوهاب الشعراني في كتابه (اليواقيت والجواهر) على ما في اسعاف الراغبين حيث قال: المهدي بن الإمام الحسن العسكري ومولده ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين وهو باق إلى أن يجتمع بعيسى بن مريم، هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي عن الإمام المهدي حين اجتمع به ووافقه على ذلك سيدي علي الخواص »[11] .
ومنهم: الشيخ أبو عبدالله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي في كتابه (البيان في أخبار صاحب الزمان) على ما نقله اسعاف الراغبين ، قال: ومن الأدلة على أن المهدي حي باق بعد غيبته إلى الآن، وأنه لا امتناع في بقائه: بقاء عيسى بن مريم، والخضر، وإلياس من أولياء الله تعالى، وبقاء الأعور الدجال وابليس اللعين من أعداء الله تعالى، وهؤلاء قد ثبت بقاؤهم بالكتاب والسنّة [12].
ومنهم: الشيخ العارف الفاضل الخواجه محمد بارسا في كتابه (فصل الخطاب) على ما في ينابيع المودّة بعد أن ذكر ولادة المهدي المنتظر ، وأن الله تعالى آتاه الحكمة وفصل الخطاب في سن الطفولة ، كما منّ على يحيى وعيسى بذلك، قال: وطوّل الله تبارك وتعالى عمره كما طوّل عمر الخضر(عليه السلام)[13] .
ومنهم: الشيخ صدر الدين القونوي في بعض وصاياه لتلامذته عند موته على ما في ينابيع المودة، حيث قال: إن الكتب التي كانت لي من كتب الطب وكتب الحكماء وكتب الفلاسفة فبيعوها وتصدقوا بثمنها للفقراء، وأما كتب التفسير والأحاديث والتصوف فاحفظوها في دار الكتب، واقرأوا كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) سبعين ألف مرة في الليلة، وبلّغوا مني سلاماً إلى المهدي(عليه السلام)[14] .
أقول: يمكن أن يقال أن قوله ذلك لا يدل على وجود المهدي وحياته، إذ ربما قال ذلك، برجاء أن يدركوا ظهوره، ولكن الأول أظهر .
ومنهم: الشيخ سعد الدين الحموي على ما في ينابيع المودّة، نقلاً عن كتاب الشيخ عزيز بن محمد النسفي، عند كلامه في ترتيب الأولياء ، وأن الله تعالى اختار في هذه الاُمة اثني عشر ولياً من أهل البيت فجعلهم خلفاء نبيّه المعظم (صلى الله عليه وآله) ، إلى أن قال: وأما آخر الأولياء، الذي هو آخر خلفاء النبي والولي والنائب الثاني عشر وخاتم الأولياء، فهو المهدي صاحب الزمان[15] .
ومنهم: الشيخ شهاب الدين الهندي المعروف بملك العلماء في كتابه (هداية السعداء على ما في الدرر الموسوية)، قال عند ذكره الأئمة الاثني عشر: التاسع يعني من ولد الحسين الإمام حجة الله القائم المهدي، وهو غائب، وله عمر طويل كما في المؤمنين عيسى وإلياس والخضر وفي الكافرين الدجال والسامري.
ومنهم الشيخ الكامل الشيخ محمد المعروف بخواجه بارسا في حاشية له على كتاب (فصل الخطاب) مضافاً إلى ما تقدم عنه على ما في (الدرر الموسوية)، حيث قال: وبه (يعني بالمهدي) ختمت الخلافة والإمامة، وهو إمام منذ وفاة أبيه إلى يوم القيامة، وعيسى يصلي خلفه ويصدقه ويدعو الناس إلى ملته وهي ملة النبي(صلى الله عليه وآله).
... ومنهم: غير واحد من الفضلاء والعرفاء فإن الذي يظهر من أشعارهم العربية والفارسية المذكورة في ينابيع المودّة وغيره من بعض كتب المناقب ، أنهم يرون حياة المهدي المنتظر ، وأنه حي يرزق لوصفهم له بالولاية والإمامة والخلافة والنيابة عن النبي(صلى الله عليه وآله)وأنه الواسطة في الفيوضات الإلهية»[16] .
ج ـ ونعتمد في تقرير البيان الثالث على ما كتبه السيد الشهيد محمد باقر الصدر(رضي الله عنه)حيث كتب يقول:
«إن الغيبة تجربة عاشتها اُمّة من الناس فترة امتدت سبعين سنة تقريباً، وهي فترة الغيبة الصغرى، ولتوضيح ذلك نمهد بإعطاء فكرة موجزة عن الغيبة الصغرى [17].
إن الغيبة الصغرى تُعبّر عن المرحلة الاُولى من إمامة القائد المنتظر عليه الصلاة والسلام، فقد قُدّر لهذا الإمام منذ تسلّمه للإمامة أن يستتر عن المسرح العام ويظلُّ بعيداً باسمه عن الأحداث، وإن كان قريباً منهابقلبه وعقله، وقد لُوحِظَ أن هذه الغيبة، إذا جاءت مفاجئة حققت صدمة كبيرة للقواعد الشعبية للإمامة في الاُمة الإسلامية; لأن هذه القواعد كانت معتادة على الاتصال بالإمام في كلّ عصر، والتفاعل معه والرجوع إليه في حلّ المشاكل المتنوعة، فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأة وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفكرية، سببت هذه الغيبة [18]المفاجئة الاحساس بفراغ دفعي هائل قد يعصف بالكيان كلّه ويشتت شمله، فكان لابدّ من تمهيد لهذه الغيبة; لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج، وتكيّف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها، وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى التي اختفى فيها الإمام المهدي عن المسرح العام، غير أنه كان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طريق وكلائه ونوابه والثقات من أصحابه الذين يشكلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطه الإمامي[19] . وقد شَغَلَ مركز النيابة عن الإمام في هذه الفترة أربعة ممن أجمعت تلك القواعد على تقواهم وورعهم ونزاهتهم التي عاشوا ضمنها وهم كما يلي:
1 ـ عثمان بن سعيد العمري .
2 ـ محمد بن عثمان بن سعيد العمري.
3 ـ أبو القاسم الحسين بن روح .
4 ـ أبو الحسن علي بن محمد السمري .
وقد مارس هؤلاء الأربعة[20] مهام النيابة بالترتيب المذكور، وكلما مات أحدهم خلفه الآخر الذي يليه بتعيين من الإمام المهدي(عليه السلام) .
وكان النائب يتصل بالشيعة ويحمل أسئلتهم إلى الإمام، ويعرض مشاكلهم عليه، ويحمل إليهم أجوبته شفهية أحياناً وتحريرية[21] في كثير من الأحيان، وقد وجدت الجماهير التي فقدت رؤية إمامها العزاء والسلوة في هذه المراسلات والاتصالات غير المباشرة. ولاحظت أن كلّ التوقيعات والرسائل كانت ترد على الإمام المهدي(عليه السلام) بخط واحد وسليقة واحدة[22] طيلة نيابة النواب الأربعة التي استمرت حوالي سبعين عاماً، وكان السمري هو آخر النواب، فقد أعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغرى التي تتميز بنواب معينين، وابتداء الغيبة الكبرى التي لا يوجد فيها أشخاص معينون بالذات للوساطة بين الإمام القائد والشيعة، وقد عبّر التحول من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى عن تحقيق الغيبة الصغرى لأهدافها وانتهاء مهمتها; لأنها حصّنت الشيعة بهذه العملية التدريجية عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام، واستطاعت أن تكيّف وضع الشيعة على أساس الغيبة، وتعدّهم بالتدريج لتقبل فكرة النيابة العامة عن الإمام، وبهذا تحولت النيابة من أفراد منصوصين[23] إلى خط عام[24] ، وهو خط المجتهد العادل البصير باُمور الدنيا والدين، تبعاً لتحول الغيبة الصغرى إلى غيبة كبرى.
والآن بإمكانك أن تقدّر المواقف في ضوء ما تقدم، لكي تدرك بوضوح أن المهدي حقيقة عاشتها اُمة من الناس، وعبّر عنها السفراء والنواب طيلة سبعين عاماً من خلال تعاملهم مع الآخرين، ولم يلحظ عليهم أحدٌ، كل هذه المدة تلاعب في الكلام، أو تحايلاً في التصرف أو تهافتاً في النقل. فهل تتصور ـ بربّك ـ أن بإمكان اُكذوبة أن تعيش سبعين عاماً، ويمارسها أربعة على سبيل الترتيب كلهم يتفقون عليها، ويظلون يتعاملون على أساسها وكأنها قضية يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم، دون أن يبدر منهم أي شيء يثير الشك، ودون أن يكون بين الأربعة علاقة خاصة متميزة تتيح لهم نحواً من التواطؤ، ويكسبون من خلال ما يتصف به سلوكهم من واقعية ثقة الجميع، وإيمانهم بواقعية القضية التي يدّعون أنهم يحسونها ويعيشون معها؟!
لقد قيل قديماً: إنّ حبل الكذب قصير، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أن من المستحيل عملياً بحساب الاحتمالات أن تعيش اُكذوبة بهذا الشكل، وكل هذه المدة، وضمن كلّ تلك العلاقات والأخذ والعطاء، ثم تكسب ثقة جميع من حولها.
وهكذا نعرف أن ظاهرة الغيبة الصغرى يمكن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات مالها من واقع موضوعي، والتسليم بالإمام القائد، بولادته وحياته وغيبته[25] ، وإعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح ولم يكشف نفسه لأحد [26]»[27] .
------------
[1] ينابيع المودّة: 3/296، الباب الثامن والسبعون.
[2] المصدر السابق: 3/297، الباب الثامن والسبعون.
[3] ينابيع المودّة: 3/310، الباب الثمانون.
[4] المصدر السابق: 3/386، الباب الرابع والتسعون.
[5] ينابيع المودّة: 3/397 .
[6] شبهات وردود، الحلقة الرابعة: 32 .
[7] من هو المهدي: 460 .
[8] المهدي: 149 صدر الدين الصدر.
[9] التوثة: بثرة متقرحة .
[10] ينابيع المودّة: 3/315 ـ 317 .
[11] اسعاف الراغبين: 157 .
[12] اسعاف الراغبين: 227 .
[13] ينابيع المودّة: 3/304، الباب التاسع والسبعون.
[14] المصدر السابق: 3/340، الباب الرابع والثمانون.
[15] ينابيع المودّة: 3/352، الباب السابع والثمانون.
[16] المهدي: 146 ـ 148.
[17] راجع: الغيبة الصغرى، السيد محمد الصدر، فقد توسّع في بحثها.
[18] إشارة الى الغيبة الكبرى.
[19] راجع: تبصرة الولي فيمن رأى القائم المهدي، السيد هاشم البحراني، دفاع عن الكافي، السيد ثامر العميدي: 1/ 568 وما بعدها.
تاريخوفاة السفير الأوّل حدوداً 280 هـ ، والثاني305 هـ ، والثالث326 هـ ،والرابع 328 هـ .
[20] راجع ترجمة هؤلاء الأربعة في كتاب الغيبة الصغرى للسيد محمد الصدر، الفصل الثالث: 395 وما بعدها، نشر دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت 1980.
[21] وهذه تعرف بالتوقيعات، وهي الأجوبة التحريرية والشفوية التي نقلت عن الإمام المهدي(عليه السلام). راجع: الاحتجاج، الطبرسي: 2/ 523 وما بعدها.
[22] مما استقر في الأوساط الأدبية وعند نقاد الأدب قديماً وحديثاً أن الاُسلوب هو الرجل، وهذه المقولة صحيحة. ومن هنا رأينا وسمعنا أن كثيراً من الاُدباء وقارئي الأدب يميزون بمجرد قراءة النص شعرياً كان أم نثرياً أنه لفلان أو لفلان، وما ذلك إلاّ لأن الاُسلوب هو الرجل، وأن لكلّ كاتب سمةً وطابعاً خاصاً في كتابته يمكن تمييزه عن غيره، هذا فضلاً على تميّز خطّه الشريف من غيره من الخطوط.
[23] إشارة إلى النواب الأربعة المذكورين.
[24] وهو ما اصطلح عليه (بالمرجعية الدينية)، ويلاحظ هنا الصفات التي يرى الإمام الشهيد لزوم توفرها في المرجعية.
[25] إن اتصال الإمام القائد المهدي بقواعده الشيعية عن طريق نوابه ووكلائه، أو بأساليب اُخرى متنوعة واقع تاريخي موضوعي ليس من سبيل إلى إنكاره، كما في السفارة، فضلاً عن الدلائل الاُخرى الكثيرة المستندة إلى إخبار من يجب تصديقه، ثم هو مقتضى الأحاديث المتواترة، كحديث: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» وغير ذلك. إنّ كل ذلك جموعاً ـ وهو محل اتفاق أكثر طوائف الملة الإسلامية ـ يدحض وبشكل قاطع ما يثيره المتشككون حول وجود الإمام واستمرار حياته المباركة الشريفة، راجع: الغيبة الصغرى ، السيّد محمد الصدر: 566 .
[26] ورد التوقيع الشريف عن الإمام القائد المهدي(عليه السلام) بعدم إمكان رؤيته بشكل صريح بعد وقوع الغيبة الكبرى، وهذا محل اتفاق علماء الإمامية. وراجع مناقشة المسألة في: الغيبة الصغرى / السيد محمد الصدر: 639 وما بعدها.
[27] بحث حول المهدي : 108 ـ 111 بتحقيق وتعليق الدكتور عبدالجبار شرارة.