القيمة العقائدية لمفهوم المهدوية في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)
العقائد سواءاً كانت أرضية تعود في نشأتها إلى الإنسان، أو سماوية تعود في منشأها إلى الله سبحانه وتعالى، لابد وأن يكون لها مدلول إنساني، فإن كانت أرضية فهي ناشئة من ظروف الإنسان ومعبّرة عن تطلعاته ورغبته في التوصل إلى حياة أفضل، وإن كانت سماوية فهي تجسد رحمة الله سبحانه وتعالى بالإنسان وحبّه له وحرصه على إيصاله إلى ساحل السعادة، وهذا مما يقطع به المؤمن في أصل العقيدة الإسلامية سواء اتّضح له هذا المدلول الإنساني بنحو تفصيلي، أو بقيت تفاصيله مجملة مكنونة في طي الغيب.
والإنسان يتعامل مع العقائد تارة عقلياً من زاوية الدليل والبرهان، واُخرى حسياً من زاوية ما تحققه هذه العقائد من أغراض وما تقدمه من عطاء وحلول لمشاكل الإنسان في حياته اليومية. ومهما تكن هذه العقائد واضحة وأكيدة من زاوية الدليل والبرهان، فإن غموضها من الزواية الإنسانية يجعلها مورد شك وترديد أو ـ على الأقل ـ نقطة غير فاعلة وغير مشعّة في النفس.
والعقيدة الإسلامية كعقيدة سماوية ليس بوسعنا أن نتوقع منها أن تفصح عن أغراضها الإنسانية بنحو تفصيلي، لأن البيان التفصيلي يؤدي إلى تركيز الناحية الحسّية في الشخصية الإنسانية، ويتنافى مع الشأن الأساسي للعقيدة المتمثل باجلاء الناحية العقلية، وتركيز الناحية الروحية في الشخصية الإنسانية، ولذا فمن الطبيعي أن تكتفي هذه العقيدة ببيان الحد الأدنى وبنحو كلّي لأغراضها الإنسانية، مثل قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [1] .
لكنها في الوقت نفسه تحث الإنسان المؤمن باتجاه التعقل والتدبّر المفضي في النتيجة إلى تصيّد الحِكَم المحتملة والأغراض الإنسانية التفصيلية المتوقعة في مختلف الجهات العقائدية والتشريعية من الإسلام.
ونحن قد درسنا المسألة المهدوية من زاوية الدليل والبرهان، واتضح أن مفهوم مدرسة أهل البيت عن المهدوية، بالقياس إلى مفهوم مدرسة المذاهب الأربعة عنها من ناحية الدليل والبرهان، يمثل هذه المسألة في مستواها الأكمل والأتم.
وكمالها في المجال العقائدي والبرهاني يقتضي ويؤدي بنا إلى الاعتقاد بكمالها في ما تقدمه من معطيات انسانية، والمفارقة التي تؤدي بالكثيرين إلى التشكيك وإثارة الشبهات حول مفهوم المهدوية عند أهل البيت، تعود إلى أن هؤلاء لا ينظرون إلى زاوية الدليل والبرهان، بقدر ما يركّزون على الناحية الإنسانية التي تجعلهم يتساءلون:
ما هي الثمرة المترتبة على الاعتقاد بمفهوم عن المهدوية يتصف بمعاني غيبية غير مألوفة كالغيبة، والعمر الطويل، والإمامة المبكرة؟ وحينما لا يتوصلون إلى جواب كاف وتبقى الناحية الإنسانية لهذا المفهوم محاطة بالغموض والإبهام يدفعهم الجهل بها، والعجز عن تصورها إلى إنكار هذا المفهوم واتهامه بالغلو والخيال، والاستعاضة عنه بمفهوم آخر للمهدوية يخلو من هذه الأبعاد، ولا يتطلب كلفة غيبية كبيرة، دون أن يعلموا أ نّهم بعملهم هذا قد انتقلوا من الكمال إلى النقص، وأن اعتراضهم على هذه الأبعاد الغيبية إنّما هو اعتراض على الجوهر الغني لمفهوم المهدوية في الإسلام، فضلاً عن مخالفته للناحية المنطقية التي تقتضي في باب الاعتقاد متابعة الدليل والبرهان أينما اتجها، لا تحريفهما باتجاه ما تقتضيه الأهواء والأغراض والاعتقادات الشخصية.
ولو أنهم تدبروا في مفهوم أهل البيت(عليهم السلام) عن المهدوية، لوجدوه في ناحيته الإنسانية أكمل من مفهوم مدرسة الخلفاء عنها، وقد تكفل السيد الشهيد محمد باقر الصدر ببيان هذه الناحية بياناً رائعاً حيث كتب يقول [2] :
«ونتناول الآن السؤال الثاني ، وهو يقول: لماذا كل هذا الحرص من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات ، فتعطل من أجله القوانين الطبيعية لإطالة عمره ؟ ولماذا لا تترك قيادة اليوم الموعود لشخص يتمخض عنه المستقبل ، وتنضجه إرهاصات اليوم الموعود فيبرز على الساحة ويمارس دوره المنتظر .
وبكلمة اُخرى: ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة وما المبرر لها ؟
وكثير من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً ، فنحن نؤمن بأن الأئمة الاثني عشر مجموعة فريدة [3] لا يمكن التعويض عن أيّ واحد منهم ، غير أن هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف ، على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها، والمتطلبات المفهومة لليوم الموعود .
وعلى هذا الاساس نقطع النظر مؤقتا عن الخصائص التي نؤمن بتوفرها في هؤلاء الائمة المعصومين [4] ، ونطرح السؤال التالي :
إننا بالنسبة إلى عملية التغيير المرتقبة في اليوم الموعود ، بقدر ما تكون مفهومة على ضوء سنن الحياة وتجاربها ، هل يمكن أن نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدّخر عاملاً من عوامل إنجاحها ، ويمكنه من ممارستها وقيادتها بدرجة أكبر؟
ونجيب عن ذلك بالإيجاب ، وذلك لعدة أسباب منها ما يلي : إن عملية التغيير الكبرى تتطلب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها ، مشحوناً بالشعور .. بالتفوق والاحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي اُعد للقضاء عليها ، وتحويلها حضارياً إلى عالم جديد .
فبقدر ما يغمر قلب القائد المغير من شعور بتفاهة الحضارة التي يصارعها ، واحساس واضح بأنها مجرد نقطة على الخط الطويل لحضارة الإنسان ، يصبح أكثر قدرة من الناحية النفسية [5] على مواجهتها والصمود في وجهها ومواصلة العمل ضدها حتى النصر .
ومن الواضح أن الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه ، وما يراد القضاء عليه من حضارة وكيان ، فكلما كانت المواجهة لكيان أكبر ولحضارة أرسخ وأشمخ تطلبت زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم .
ولما كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالم مليء بالظلم وبالجور، تغييراً شاملاً بكل قِيَمه الحضارية وكياناته المتنوعة ، فمن الطبيعي أن تفتش هذه الرسالة عن شخص أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالم كله ، عن شخص ليس من مواليد ذلك العالم الذين نشأوا في ظل تلك الحضارة التي يراد تقويضها واستبدال حضارة العدل والحق بها ; لأن من ينشأ في ظل حضارة راسخة ، تغمر الدنيا بسلطانها وقيمها وأفكارها، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها; لأنه ولد وهي قائمة ، ونشأ صغيراً وهي جبارة ، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أوجهها المختلفة .
وخلافاً لذلك ، شخص يتوغل في التاريخ عاش الدنيا قبل أن ترى تلك الحضارة النور ، ورأى الحضارات الكبيرة سادت العالم الواحدة تلو الاُخرى ثم تداعت وانهارت [6] ، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تاريخ ..
ثم رأى الحضارة التي يقدر لها أن تكون الفصل الأخير من قصة الإنسان قبل اليوم الموعود ، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبين .
ثم شاهدها وقد اتخذت مواقعها في احشاء المجتمع البشري تتربص الفرصة لكي تنمو وتظهر ..
ثم عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارة ويحالفها التوفيق تارة اُخرى..
ثم واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدرات عالم بكامله ، فإن شخصاً من هذا القبيل عاش كل هذه المراحل بفطنة وانتباه كاملين ينظر إلى هذا العملاق ـ الذي يريد أن يصارعه ـ من زاوية ذلك الامتداد التاريخي الطويل الذي عاشه بحسه لا في بطون كتب التاريخ فحسب ، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسو) [7] إلى الملكية في فرنسا ، فقد جاء عنه أنه كان يرعبه مجرد أن يتصور فرنسا بدون ملك ، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكرياً وفلسفياً إلى تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذ; لأن (روسو) هذا نشأ في ظل الملكية ، وتنفس هواءها طيلة حياته ، وأما هذا الشخص المتوغل في التاريخ ، فله هيبة التاريخ ، وقوة التاريخ ، والشعور المفعم بأن ما حوله من كيان وحضارة وليد يوم من أيام التاريخ ، تهيأت له الأسباب فوجد ، وستتهيأ الأسباب فيزول ، فلا يبقى منه شيء كما لم يكن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد ، وأن الأعمار التاريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلاّ أيّاماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل .
هل قرأت سورة الكهف ؟
وهل قرأت عن اُولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم الله هدى [8] ؟ وواجهوا كياناً وثنياً حاكماً ، لا يرحم ولا يتردد في خنق أي بذرة من بذور التوحيد والارتفاع عن وحدة الشرك ، فضاقت نفوسهم ودبّ إليها اليأس وسدت منافذ الأمل أمام أعينهم ، ولجأوا إلى الكهف يطلبون من الله حلاً لمشكلتهم بعد أن أعيتهم الحلول ، وكبر في نفوسهم أن يظل الباطل يحكم ويظلم ويقهر الحق ويصفى كل من يخفق قبله للحق .
هل تعلم ماذا صنع الله تعالى بهم ؟
إنه أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين [9] في ذلك الكهف ، ثم بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة ، بعد أن كان ذلك الكيان الذي بهرهم بقوته وظلمه قد تداعى وسقط ، وأصبح تاريخاً لا يرعب أحداً ولا يحرك ساكناً، كل ذلك لكي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوته واستمراره ، ويروا إنتهاء أمره بأعينهم ويتصاغر الباطل في نفوسهم .
ولئن تحققت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة بكل ما تحمل من زخم وشموخ نفسيين من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مدد حياتهم ثلاثمائة سنة ، فإن الشيء نفسه يتحقق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم والشجرة الباسقة وهي بذرة ، والاعصار وهو مجرد نسمة [10] ، أضف إلى ذلك ، أن التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة ، والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوراتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود; لأنها تضع الشخص المدخر أمام ممارسات كثيرة للآخرين بكل ما فيها من نقاط الضعف والقوة ، ومن ألوان الخطأ والصواب ، وتعطي لهذا الشخص قدرة أكبر على تقييم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها ، وكل ملابساتها التاريخية .
ثم إن عملية التغيير المدخرة للقائد المنتظر تقوم على أساس رسالة معينة هي رسالة الإسلام ، ومن الطبيعي أن تتطلب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الاُولى، قد بنيت شخصيته بناءً كاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضارة التي يقدر لليوم الموعود أن يحاربها .
وخلافاً لذلك ، الشخص الذي يولد وينشأ في كنف هذه الحضارة وتتفتح أفكاره ومشاعره في إطارها ، فإنه لا يتخلص غالبا من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها ، وإن قاد حملة تغييرية ضدها .
فلكي يضمن عدم تأثر القائد المدخر بالحضارة التي اُعد لاستبدالها، لا بد أن تكون شخصيّته قد بنيت بناءً كاملاً في مرحلة حضارية سابقة هي أقرب ما تكون في الروح العامة ومن ناحية المبدأ إلى الحالة الحضارية التي يتجه اليوم الموعود إلى تحقيقها بقيادته» [11] .
ثم يطرح سماحته(رضي الله عنه)بعد ذلك سؤالاً آخر مرتبطاً بالناحية الإنسانية من العقيدة المهدوية، وهو: لماذا لم يظهر القائد العالمي طيلة هذه المدة ؟ وإذا كان قد أعد نفسه للعمل الاجتماعي ، فما الذي منعه عن الظهور على المسرح في فترة الغيبة الصغرى، أو في أعقابها بدلاً عن تحويلها إلى غيبة كبرى ، حيث كانت ظروف العمل الاجتماعي والتغييري وقتئذ أبسط وأيسر ، وكانت صلته الفعلية بالناس من خلال تنظيمات الغيبة الصغرى تتيح له أن يجمع صفوفه ويبدأ عمله بداية قوية، ولم تكن القوى الحاكمة من حوله قد بلغت الدرجة الهائلة من القدرة والقوة التي بلغتها الإنسانية بعد ذلك من خلال التطور العلمي والصناعي؟ [12]
والجواب : «أن كل عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية لا يتأتى لها أن تحقق هدفها إلاّ عندما تتوفر تلك الشروط والظروف .
وتتميز عمليات التغيير الاجتماعي التي تفجرها السماء على الأرض بأنها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية [13] ; لأن الرسالة التي تعتمدها عملية التغيير هنا ربانية ، ومن صنع السماء لا من صنع الظروف الموضوعية ، ولكنها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف . ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتى أنزلت آخر رسالاتها على يد النبي محمد(صلى الله عليه وآله); لأن الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخرها على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك .
والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير ، منها ما يشكل المناخ المناسب والجو العام للتغيير المستهدف ، ومنها ما يشكل بعض التفاصيل التي تتطلبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية .
فبالنسبة إلى عملية التغيير التي قادها ـ مثلاً ـ لينين في روسيا بنجاح ، كانت ترتبط بعامل من قبيل قيام الحرب العالمية الاُولى وتضعضع القيصرية ، وهذا ما يساهم في إيجاد المناخ المناسب لعملية التغيير ، وكانت ترتبط بعوامل اُخرى جزئية ومحدودة من قبيل سلامة لينين مثلاً في سفره الذي تسلل فيه إلى داخل روسيا وقاد الثورة ، إذ لو كان قد اتفق له أي حادث يعيقه لكان من المحتمل أن تفقد الثورة بذلك قدرتها على الظهور السريع على المسرح .
وقد جرت سنة الله تعالى التي لا تجد لها تحويلاً في عمليات التغيير الرباني على التقيد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقق المناخ المناسب والجو العام لإنجاح عملية التغيير ، ومن هنا لم يأت الإسلام إلاّ بعد فترة من الرسل وفراغ مرير استمر قروناً من الزمن .
فعلى الرغم من قدرة الله ـ سبحانه وتعالى ـ على تذليل كل العقبات والصعاب في وجه الرسالة الربانية، وخلق المناخ المناسب لها خلقاً بالاعجاز ، لم يشأ أن يستعمل هذا الاُسلوب ; لأن الامتحان والابتلاء والمعاناة التي من خلالها يتكامل الإنسان، يفرض على العمل التغييري الرباني أن يكون طبيعياً وموضوعياً من هذه الناحية ، وهذا لا يمنع من تدخل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أحيانا فيما يخص بعض التفاصيل التي لا تكون المناخ المناسب ، وإنما قد يتطلبها أحيانا التحرك ضمن ذلك المناخ المناسب ، ومن ذلك الامدادات والعنايات الغيبية التي يمنحها الله تعالى لأوليائه في لحظات حرجة فيحمي بها الرسالة ، وإذا بنار نمرود تصبح برداً وسلاماً على إبراهيم [14] ، وإذا بيد اليهودي الغادر التي ارتفعت بالسيف على رأس النبي(صلى الله عليه وآله)تشل وتفقد قدرتها على الحركة [15] ، وإذا بعاصفة قوية تجتاح مخيمات الكفار والمشركين الذين أحدقوا بالمدينة في يوم الخندق وتبعث في نفوسهم الرعب [16] ، إلاّ أن هذا كله لا يعدو التفاصيل وتقديم العون في لحظات حاسمة بعد أن كان الجو المناسب والمناخ الملائم لعملية التغيير على العموم قد تكون بالصورة الطبيعية ووفقا للظروف الموضوعية .
وعلى هذا الضوء ندرس موقف الإمام المهدي (عليه السلام) ،لنجد أن عملية التغيير التي اُعد لها ترتبط من الناحية التنفيذية كأي عملية تغيير اجتماعي اُخرى بظروف موضوعية تساهم في توفير المناخ الملائم لها ، ومن هنا كان من الطبيعي أن توقت وفقاً لذلك .
ومن المعلوم أن المهدي لم يكن قد أعد نفسه لعمل إجتماعي محدود ، ولا لعملية تغيير تقتصر على هذا الجزء من العالم أو ذاك ; لأن رسالته التي ادخر لها من قبل الله ـ سبحانه وتعالى ـ هي تغيير العالم تغييراً شاملاً، واخراج البشرية كل البشرية من ظلمات الجور إلى نور العدل [17] ، وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرد وصول الرسالة والقائد الصالح، وإلاّ لتمت شروطها في عصر النبوة بالذات، وإنما تتطلب مناخاً عالمياً مناسباً ، وجواً عاماً مساعداً ، يحقق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية، فمن الناحية البشرية يعتبر شعور إنسان الحضارة بالنفاد عاملاً أساسياً في خلق ذلك المناخ المناسب لتقبل رسالة العدل الجديدة، وهذا الشعور بالنفاد يتكون ويترسخ من خلال التجارب الحضارية المتنوعة التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلاً بسلبيات ما بنى ، مُدركاً حاجته إلى العون ، ملتفتاً بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول .
ومن الناحية المادية يمكن أن تكون شروط الحياة المادية الحديثة أقدر من شروط الحياة القديمة في عصر كعصر الغيبة الصغرى على إنجاز الرسالة على صعيد العالم كله ، وذلك بما تحققه من تقريب المسافات ، والقدرة الكبيرة على التفاعل بين شعوب الأرض ، وتوفير الأدوات والوسائل التي يحتاجها جهاز مركزي لممارسة توعية شعوب العالم وتثقيفها على أساس الرسالة الجديدة .
وأما ما اُشير إليه في السؤال من تنامي القوى والأداة العسكرية التي يواجهها القائد في اليوم الموعود كلما اُجل ظهوره ، فهذا صحيح ، ولكن ماذا ينفع نمو الشكل المادي للقوة مع الهزيمة النفسية من الداخل ، وانهيار البناء الروحي للإنسان الذي يملك كل تلك القوى والأدوات ؟ وكم من مرة في التاريخ انهار بناء حضاري شامخ بأول لمسة غازية ; لأنه كان منهاراً قبل ذلك ، وفاقداً الثقة بوجوده والقناعة بكيانه والاطمئنان إلى واقعه» [18] انتهى ما أفاده(قدس سره) .
وبإمكاننا أن نتناول المعطى الإنساني للمهدوية في مفهوم أهل البيت (عليهم السلام)من زاوية اُخرى.
فنقول :
إن الاعتقاد بمهدوية غائبة عن الأنظار لكنها حية ومؤثرة في مجريات الأحداث لصالح الجماعة المؤمنة ، وهي تحمل كل خصائص الإمامة من العصمة والنص النبوي والكمال العلمي والعملي ، من شأنه أن يشيع في المجتمع أجواء هذه الإمامة ونفحاتها المعنوية والروحية الرفيعة، ويشبع الإنسان باحساس طيب بتواصل الصلة بين الأرض والسماء ، واستمرار الرعاية السماوية للأرض ، وتحويل ذلك إلى معان محسوسة أكثر فاعلية في النفس ، بعد ما كانت في اُصولها العقائدية معان معقولة ، ويكرس في الساحة الاجتماعية والسياسية حاكمية التوحيد، ويجعلها حاكمية قريبة من الحسّ الإنساني، بوصف أن المهدوية الغائبة ليست شخصاً عادياً ، وإنما هي الإمام الثاني عشر المعين سماوياً ليشغل موقع الإمامة حتى نهاية التاريخ ، صحيح أن الناس لا يباشرونه حسياً ، لكن الاعتقاد بكونه حقيقة حسية يقصر إحساسنا عن إدراكها يجعل النفس في حالة تفاعل روحي إيجابي مع خط الإمامة الإلهية المعصومة بما هو تعبير وامتداد لحاكمية التوحيد في الأرض .
ويشتد هذا التفاعل أكثر حينما تعبر المهدوية المعصومة الغائبة عن نفسها تعبيراً سياسياً بارزاً من خلال مبدأ النيابة الخاصة في فترة الغيبة الصغرى ، ومبدأ النيابة العامة للفقهاء في فترة الغيبة الكبرى كقيادة سياسية شرعية للمجتمع الإسلامي بما يحفظ للإمامة موقعها السامي كمشرف يراقب التجربة السياسية والاجتماعية وينصرها ، وكمنبع يمدها بالشرعية حينما يجدها متطابقة مع الإسلام .
ومن مجموع هذه البيانات يتجلى بوضوح معنى الكمال فيما يقدمه المفهوم المهدوي عند أهل البيت(عليهم السلام) من معطى إنساني وهو معطى ينسجم تماماً مع جوهر الفكرة المهدوية ، فإن المهدوية المعصومة الغائبة مهدوية متحركة ومؤثرة وإيجابية بالنسبة إلى الواقع الإنساني . بينما المهدوية في مفهوم أهل السنة ليس لها تأثير في الواقع الإنساني ، وهي ليست أكثر من تنبؤ مستقبلي. وكأن مهدوية أهل البيت (عليهم السلام)تتكفل بتحقيق ما تعد به من خلال تحريك الواقع الإنساني والتفاعل الإيجابي معه .
وهذا بذاته خير ما يوضح المعنى الإيجابي لمفهوم الانتظار ، فإن انتظار الفرج ليس سكوتاً وانهزاماً، وإنما هو روح إيجابية فعالة باتجاه التغيير المطلوب مهدوياً.
نتيجة البحث
وفي نهاية المطاف يمكننا استخلاص نتائج البحث، بالنقاط التالية:
1 ـ إن الدين هو التعبير الأكمل عن الحقائق الإنسانية، والإسلام هو التعبير الأكمل عن الحقائق الدينية، والتشيّع هو التعبير الأكمل عن الحقائق الإسلامية، وبالتالي فمهدوية أهل البيت(عليهم السلام)هي أكمل تعبير عن أصل المهدوية، الذي أجمع المسلمون على الاعتقاد به.
2 ـ إن جوهر الفرق بين مهدوية أهل البيت(عليهم السلام) ، ومهدوية الجمهور من علماء المسلمين، يعود الى مسألة الإمامة، فالمهدي في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) هو الإمام الثاني عشر(عليه السلام)، بينما هو في مدرسة الجمهور مسألة مستقبلية صرفة؟
3 ـ ولماكانت المسألة المهدوية عند أهل البيت(عليهم السلام) ، هي مسألة الإمام الثاني عشر الذي لا إمام للبشرية بعده، من هنا فقد اتّصف المفهوم المهدوي عندهم(عليهم السلام)بثلاث خصائص، هي: ولادة الإمام المهدي بنحو سرّي ومكتوم، وإمامته المبكرة، وغيبته المستلزمة لعمر مفتوح مع امتداد الزمن، وهذه الخصائص ثابتة بثبوت أصل الإمامة الاثني عشرية المعصومة، الذي تفرعت عليه، فضلاً عن الأدلة التفصيلية التي مرّ ذكرها واحداً بعد الآخر.
4 ـ إن هذه الخصائص الثلاثة ليست ثابتة بأدلة عقائدية وعقلية ووجدانية كافية، ولا يلزم منها أي إيراد عقلي أو ديني فحسب، وإنّما هي التي تمنح معنى الكمال للمفهوم المهدوي، وتجعله مفهوماً ذا قيمة عقائدية ومعطيات إنسانية عالية وخلاّقة على الساحة الاجتماعية، تتكامل وتنسجم مع معطيات أصل الدين في الحياة الإنسانية.