رؤية في أسلوب نهج البلاغة
  • عنوان المقال: رؤية في أسلوب نهج البلاغة
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 11:59:54 14-9-1403

 إنّ النص في نهج البلاغة ـ كتاب الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ـ يتمتع بسلطة فائقة، مُحكمة، نادرة. وهي تُحيل القارئ (والسامع) إلى أنموذج العلاقة بين الأفكار والأسلوب.
فثمة نص شَكلاني، قائم على إبداعية الشكل، وهو نص إنتاجي من عمل الفنان المبدع، إلاّ أنه يتمتع بمزاياه الفنية الخالصة، كشكل فني قويّ الاتّصاف، سواء بصورته التجريدية أو بصورته الرمزية، أو بكيفيّته التقليدية.
قد يكون النص، مثل اللوحة التي تُحاكي الطبيعة (أو الواقع)، أو أنه يكون أداة تعبير عن الذات، بكل استطاعات التعبير الممكنة. وعادة، يكون التعبير النثري متعرضاً للشد والجذب بين قُطبي الذات والموضوع، بما يُرافق ذلك من توسّعات لغوية، أو حشو، أو فجوات، أو نواقص.
وهو ـ أي التعبير النثري ـ في ملاحقته للأفكار، ينتهج طرائق وأساليب متباينة عادةً في درجة نجاحها، فهو أحياناً يصل إلى الأفكار، وأحياناً يتقدم عليها، أو يتخلف عنها، وهو ـ أحياناً ـ يتماسّ وإياها، قد يُعبّر عنها بصراحة أو بإيحاء، بوضوح تام أو بإيماء.
في بلاغة الإمام عليّ بن أبي طالب، أنموذج رفيع للنص المتطابق الذي يُجسّد سلطة الإمام عليّ بن أبي طالب على نفسه، تلك السلطة التي ينطلق منها في رؤية العالم الخارجي.
وتوضّح سيرة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، أحسن توضيح، تلك الطبيعة الحقّانية الصادقة التي تتبلور في عرض المعاني ـ معانيه هو ـ وفي البلاغة البيانيّة له.
إنّ النص لديه ـ ينقل أفكاره بصدق تام. بمعنى أنه يعطي صورة للبلاغة، ذات ميزان دقيق، يستبعد كل بلاغة (بلاغية) تَسوحُ في جولات الأساليب، والشكليات المتغيرة.
إنّه حقاً، كان قادراً في فنونه البلاغية المبدعة، لكنه لم يندمج في ظاهرة البلاغة من أجل البلاغة، التي كانت الإطار لعملية إيصال الأفكار.
لقد كانت الأفكار تُوصَل على نحو فعّال، بتصعيدات بلاغيّة تثير الإعجاب، أي أن البلاغة كانت تتولّى وضع الإضافات فوق المعاني وحوالَيها، بالتعبير عن موهبة بلاغية معجبة، فثمة (معانٍ) تتخللها، وتحيط بها زَرْكشات لفظية، مُدلِّلة على القدرة البيانية، التي انتشرت شعراً ونثراً منذ العصر الجاهلي.
أما بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام، فقد تبلورت في النص الذي يخرج من رحم اللغة مثل الوليد الجديد، وهو ـ في الوقت نفسه ـ يخرج من عالم الأفكار مثل الفكرة الجديدة الباهرة.
إنه يتناول مسائله الفكرية وكأنها تُولد تَواً. وكذلك هو في تناوله للمسائل الفكرية المتداولة (والمشتركة) وكأنها معطيات جديدة، ذلك لأن قدرته البلاغية ابتكارية، توليدية.
إنّ النص يُولد متكاملاً، في تأديته الوظيفية الخاصة به، رغم أنه يُبرهن ـ في حالات ثانية ـ عن جدارات أسلوبية.
لكنّ علياً عليه السّلام لم يكن (رغم ما أُوتي من مَيلٍ للدُّعابة ـ أحياناً) راغباً بأن يبتعد عن رسالته لحظة.
إنّ طغيان الجديّة كان من وَقْر المسؤولية الثابت.
وهو ـ في ذلك ـ كان متّسماً بالصدق التامّ، الذي يجب أن نرى فيه اختلافاً كبيراً عن أنواع أخرى من الصدق المرحلي، الموقت، وغير الثابت.
فثمة أوجه عديدة للصدق، كذلك هناك صدق في مناسبة، وعدمه في سواها. كان عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه صادقاً في جميع الأوجه والمناسبات، لأن أفكاره كانت تشقّ الطبقات الكثيفة، والزيادات، والتلافيف التي تحول بين الناس والحق.
النص عنده.. هو الفكرة والأداة معاً، هو المضمون والشكل، في اتّحادهما المتبادَلِ الإغناء، في إعطاء دلالات مؤكدة، كان الإمام عليّ يُظهر نفسه فيها من جانب، ويُحمّلها الطاقة التوصيلية (للوصول إلى الآخرين) من جانب آخر.
ويتضافر الجانبان في العملية الواحدة، التي تُكرّس صدق القضية، وتهيئ الآخرين للتجاوب مع الصدق.«فالنص ـ في نهج البلاغة ـ ليس قطعة بلاغية ذات جمال مجرد، بل هو وظيفة مُتقَنة، إنه ثمرة التزاوج الطبيعي بين البلاغة والأفكار»، والذي ترتّب عليه إنجاب أفكار جديدة، واستحداثات لغوية وبيانية جديدة.

* * *

من المؤكد أن النص الأدبي الذي يُصبح ـ بسبب أهميته ـ مستقلاً، قائماً بذاته، بعد تجاوز ظرفه، هو ـ في حقيقته ـ تعبير عن طبيعة صاحبه. فالنص هو الشخصية التي تنشئ عدة شخصيات أخرى، مجنّدة لمهماتها المحددة.
وتُعدّ الكلمات، في النص الأدبي، كائنات حية لم تُخلق عبثاً. وليس من الضرورة بمكان أن تكون إنتشاءات الكاتب الأسلوبية على صورته، من الناحية الظاهرية، لكن من الضروري للكاتب الحقيقي أن يكون العمق الفكري له ماثلاً في الحركة التحتية للنص.
فأبوتمام مثلاً: كان يُحرّك ألفاظه (كأنها رجال قد ركبوا خيولهم واستلأموا سلاحهم، وتأهّبوا للطِّراد)، والبحتري كان يُحرّك ألفاظه (وكأنها نساءٌ حِسان عليهنّ خلائل مُصَبّغات، وقد تحلّينَ بأصناف الحليّ) كما يقول ابن الأثير الموصلي، لكنّ أبا تمام كان حاضراً وراء الألفاظ والأشخاص، وكذلك البحتري، كُلاً بطبيعة الخاصة، وبخياراته الخفيّة أو الظاهرة.
كانت مقدرة أمير المؤمنين عليّ اللغوية، والبيانية، بالغة الفَراهة، غير أنه كان يريد إصابة المعنى دائماً، بسبب نظرته العميقة، وأفكاره الجمّة، التي كان يُصارع من أجل انتشارها. ونظراً إلى تعدد مناحي الثروة الفكرية، وغنى طبيعة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فإن النص جاء محمّلاً بالدلالات الغنية المُتنوعة، فهو قمّة تتويج العلاقة الحرة بين المعنى والمبنى.
• قال الشريف الرضي، في مقدمة نهج البلاغة:
«كان أمير المؤمنين عليّ مَشْرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومَولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أُخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا، وتقدم وتأخّروا. وأمّا كلامه فهو البحر الذي لا يُساجَل، والجَمّ الذي لا يُحافَل(1)... ومن عجائبه التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها أن كلامه رضي الله عنه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل، وفكّر فيه المتفكر، لم يعترضه الشك في أنه من كلام مَن لا حظَّ له في غير الزهادة، ولا شُغل له بغير العبادة، ولا يكاد يوقن بأنه كلامُ مَن ينغمس في الحرب مُصلِتاً سيفه فيقطُّ الرقاب، ويجدِّلُ الأبطال، ويعود به ينطُف دماً ويقطر مُهجاً»(2).
• ويذكر الشيخ محمّد عبده في مقدمة شرح نهج البلاغة مثل ذلك، قائلاً:
«تصفّحتُ بعض صفحاته في مواضع مختلفات، فكان يُخيَّل لي في كل مقام أن حروباً شبّت، وغارات شُنّت، وأن للبلاغة دولة، والفصاحة صولة. وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذَّرابة في عُقود النظام، وصفوف الانتظام، تُنافح بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، فما أنا إلاّ والحق منتصر، والباطل منكسر... وأن مدبّر تلك الرواية، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب. فتارة كنتُ أجدني في عالم تعمره من المعاني أرواح عالية، في حُلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادَها، وتقوّم منها مُرادها... وطوراً كانت تتكشف لي الجُمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة ، قد تحفّزتْ للوثاب، ثمّ انقضّت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها. وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً لا يشبه خَلْقاً جسدانياً فَصل عن الموكب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى».
وليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل بأن كلام الإمام عليّ هو أشرف الكلام، وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيّه، وأغزره مادة، وأرفعه أسلوباً.
ويشتمل (نهج البلاغة) على نحو ثلاث مئة رسالة، وخمس مئة حكمة. نَهَل من معينها الكتّاب، والأدباء، والمفكرون، والمتصوّفة، والعلماء، والزهّاد، والعارفون.
• وقد قال عبدالحميد الكاتب:
«حفظتُ سبعين خطبة من خطب الأصلع (يعني به الإمام عليّ بن أبي طالب) ففاضت ثمّ فاضت». وقيل له: ما الذي خرّجك في البلاغة ؟ قال: خُطب الأصلع(3).
• وقال ابن نُباتة:
«حفظتُ من الخطابة كنزاً، لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة: حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن أبي طالب».
• وقال الشريف المرتضى:
«كان الحسن البصري بارعَ الفصاحة، بليغ المواعظ، كثير العلم، وجميع كلامه في الوعظ وذم الدنيا، وجُلّه مأخوذ لفظاً ومعنى، أو معنى دون لفظ، من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فهو القدوة والغاية»(4).
• وقال الأستاذ حسن السندوبي:
«والظاهر أنه(أي عبدالله بن المُقفَّع) تخرّج في البلاغة على خُطب الإمام عليّ، ولذلك كان يقول: شربتُ من الخطب رِيّاً ولم أضبط لها رَويّاً، فلا هي نظاماً، وليس غيرها كلاماً»(5).
وكما كان نهج البلاغة مصدراً كبيراً من مصادر البيان والبلاغة، كذلك هو مصدر للرياضة والتصوف في الإسلام. وهو إلى ذلك المَنجم الغنيّ بأصول التوحيد والفلسفة الإسلامية (علم الكلام)، التي أوسعها المتكلمون ـ بعد ذلك ـ بالشرح والتفسير، وأحد الروافد الكبيرة للفكر الإسلامي في جميع جوانبه الاجتماعية والأخلاقية والدينية وغيرها.
وهو كذلك سجلّ حافل بعناصر تأريخية واقعية، تمدّ الباحث والمؤرخ بالحقيقة الساخرة، ويمثل كذلك الكثير من الحقائق المذهبية، والتوحيد، وتنزيه الخالق، وصفاته، والعدل، والجبر والاختيار.. وما إلى ذلك(6).
وليس نهج البلاغة (الكتاب الجامع لخطب الإمام عليّ بن أبي طالب ورسائله وأقواله، والذي أطلق عليه الشريف الرضي عنوانه)، أوّلَ جمع لتراث الإمام عليّ بن أبي طالب، فلقد حَظي كلام الإمام وخطبه بعناية العلماء، والأدباء، قبل عصر الرضي، فعكف فريق منهم على جمع شوارده، ونظم فرائده، حتّى تألفت من ذلك مجاميع كثيرة. كما عكف فريق آخر على حفظه والاستعانة به في كلامهم وخطبهم. وفريق ثالث ضمّنوا مؤلفاتهم الأدبية والتأريخية والأخلاقية، طائفةً كبيرة من كلامه. وكان ذلك كله هو المصدر الرئيسي الذي اختار الرضي منه هذا المجموع (نهج البلاغة)، وانتقى منه هذه الطرائف البيانية القيّمة(7).
وقد تجاوزت خُطبُه المتداولة بين أيدي الناس، إلى أكثر من أربعمائة خطبة.
• قال ابن واضح اليعقوبي المؤرخ المشهور المُتوفى سنة (392هـ) في كتاب (مشاكلة الناس لزمانهم):
«وحفظ الناسُ عنه الخطب، فإنه خطب بأربعمائة خطبة، حُفِظتْ عنه، وهي التي تدور بين الناس، ويستعملونها في خطبهم».
• وقال المسعودي المتوفى سنة (346هـ) في كتاب «مروج الذهب ـ الجزء الثاني»:
«والذي حفظ الناس من خطبه في سائر مقاماته، أربعمائة ونيّفٌ وثمانون خطبة، يوردها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملا».
وقد أشرنا إلى أن هناك جماعة من العلماء والأدباء عكفوا على جمع كلام الإمام عليّ قبل أن يُخلَق الشريف الرضي. وقد ذهبت هذه المجموعات مع الزمن كما ذهب سواها من تراثنا العربي، وبقيت أسماؤها(8).

 

خصوصية النص

إنّ القيمة الأساسية للنص، في خطب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ورسائله، ماثلة في حضور الإبداع النصّيّ في النشاط الفكري والكلامي له على المستويَين: الشفهي والتحريري. وتلك ميزة نادرة يتفرد بها عليّ بن أبي طالب بصورة ملموسة.
وهي مزيّة تجعله في المقدمة من جميع كتاب النصوص المبرَّزين، ذلك لأن أولئك الكتّاب، مثلهم مثل الرسامين والنحّاتين الذين يصنعون نماذجهم، بعد طول تأمل، وتخطيط، وممارسة، وبعد مراجعات نقدية متواترة، وصولاً إلى المحصلة الفنية النهائية، على صعيد العمل. وكان الإمام عليّ بن أبي طالب، بعفويته الثاقبة، يباشر عمله الإبداعي الفوري، فيأتي النص المرتجل، مثل النص المكتوب، آيةً في الإتقان والروعة. ومن الثابت، أن جريان خطب عليّ عليه السّلام، على نحوه الباهر، في طوله وقصره، هو دليل على الفعالية الخارقة لعقل مبدع، موهوب، هو السيّد المؤكد في عالم العقول.
لا يمكن أن تتوفر تلك الخصوصية لقوة النص في المخاطبة الارتجالية، وفي الكتابة، لشخص آخر ـ غير عليّ بن أبي طالب ـ الذي انطوت شخصيته على علوم وفنون وقدرات عظيمة، تتلاقح فيما بينها بجدليةٍ خِصبة.
ورغم أن الخطاب عند عليّ بن أبي طالب عليه السّلام خطاب سياسي، وفقهي، وتربوي، ووعظي، في إطار معرفي مُحكم، إلاّ أنه ذو سمة رياضية، ماثلة في بنية الخطاب الذي يتكامل نصاً مغنياً.
ولقد ارتكزت السمة الرياضية في البناء الأدبي للخطاب على دعامتين بارزتين:
الأولى: هي في صُلب بنية الخطاب وعلاقاته الداخلية،
والثانية: في خفاء المنهج، أي في تنظيم فضائه.
المقوّم الأول: هو المقوم النحوي، الذي يعصم الخطاب الأدبي من التحرر الإنساني، وبعض مظاهر اللانحوية، التي قد يستكين إليها الوصف الأدبي والحماسة، والارتجال، وخاصة في الخطاب الشفهي.
إنّ أساس الخطاب في فعالية الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ـ من الناحية اللغوية ـ هو أساس نحوي، ذلك لأن علياً عليه السّلام هو واضع النحو العربي، في منطلقه الأول.
قال لأبي الأسود الدؤلي، حين أعرب عن ألمه من شيوع اللحن على اللسان العربي: اكتُبْ ما أُملي عليك. ثمّ أملى عليه أصول النحو العربي، ومنها أنّ كلام العرب يتركب من اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن معنىً ليس باسم ولا فعل. ثمّ أملى عليه أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر. وفي خاتمة التوجيهات قال الإمام عليّ: يا أبا السود، انحُ هذا النحو.
وهكذا أصبح عند العرب علم النحو.
من هنا، كان الأساس النحوي للنص في خطب الإمام عليّ بن أبي طالب، يُؤمّن القاعدة المادية لشبكة العلاقات الداخلية للنص، التي يرتكز عليها البناء البلاغي للنص.
ولا شك في أن تكامل الأساس النحوي والبناء البلاغي قائم ـ أصلاً ـ على المحور الفكري للنص، وهو محور المعاني والدلالات.
وإذ يستكمل الخطاب (العَلَوي) شروطه المادية ـ اللغوية، وجماع علاقاته الداخلية، فإنه يستكمل الوحدة القائمة بين نصّية النص ـ بمعناها الأدبي ـ والفضاء الروحي للنص. أي إنّ النص يتوفر له البعدان الرمزيان للأرض والسماء في وحدتهما التامة.
أما المقوّم المادي الثاني للنص، فهو المقوّم الرياضي الذي يُستدلُّ عليه استدلالاً، لأنه لا يعبّر على نحو مباشر، إلاّ بالنسبة إلى المتلقّي النابه.
إنّ الذهنية الرياضية النشطة، والمبادِهة لعليّ سلام الله عليه، تنعكس تأثيراتها على تعبيراته الأدبية، بصورة الإتقان المحكم لعرض الأفكار، وكذلك في تقديمه المتقن للبناء اللغوي والبلاغي للخطاب.
فالاتّساق الرياضي وارد في صلابة أفكاره، وفي عظمة منطقه، وبلاغته. ومردُّ ذلك ثابت في معرفته العلمية بالحساب؛ تلك المعرفة التي كانت تكشف عنها سرعة البديهة في الجواب عن معضلات معقدة في المواريث والأقضية.
وذاعت الفريضة المنبرية التي أفتى بها وهو على منبر الكوفة، حينما سُئل عن ميت ترك زوجة وأبوين وابنتين، فأجاب من فَوره: صار ثُمنها تُسعاً.
وشكت ـ مرّةً ـ امرأة أنّ أخاها مات عن ستمائة دينار ولم يُقسم لها من ميراثه غير دينار واحد، فقال لها بسرعة: لعله ترك زوجة وابنتين وأمّاً واثني عشر أخاً وأنتِ ؟ وكان الأمر كذلك.
فمعرفته بعلم الحساب كانت أكثر من معرفة فقيه يتصرف في معضلات المواريث، لأنه كان سريع الفطنة إلى طُرقه التي كانت تعد في ذلك الزمن ألعازاً تكدّ في حلها العقول(9).

* * *

تعبيرية النص

إنّ الدلالة المشتركة للمفردات وللتعبيرات، والتي يشترك في قولها وفي فهمها جمهرة الناس، مثقفين وغير مثقفين، هي توكيد للتفاهم بين أفراد المجتمع وللتعبير عن حاجاتهم الأساسية.
وقد أشبعت الكلمات والتعبيرات المشتركة تداولاً منذ بدء استعمالها، فأصبح الوصول إلى المعنى من خلالها ممارسة اعتيادية، ولكنْ أساسية.
والفارق بين الكلام العادي، والأسلوب الأدبي، ليس فارقاً في الاستعمالات اللغوية فقط، بل هو فارق في دقة الاحتياز على المعاني، ومن ثمَّ التعبير عنها. فأُنيطت بالقدرة التعبيرية مسؤولية الإمساك بالمعاني والكشف عن الدلالات، وإحراز أكبر نجاح في مخاطبة الآخرين والوصول إلى أذهانهم ونفوسهم. ويتفاوت الكتّاب في مستويات الإبداع، وتبعاً لذلك تتفاوت النصوص في ما تملكه من طاقة تعبيرية، ومن جمالية أسلوبية.
قد انتقد ابن قتيبة في مقدمة( أدب الكاتب) أولئك الذين لم يعطوا الأسلوب حقّه، فقال:
«رأيت كثيراً من كتّاب أهل زماننا كسائر أهله قد استطابوا الدعة، واستوطأوا مراكب العجز، وأعفوا أنفسهم من كدّ النظر، وقلوبهم من تعب الفكر، حين نالوا الدَّرَك بغير سبب، وبلغوا البُغية بغير آلة».
وابن قتيبة مُحقّ، لأننا لا نريد من الأديب أن ينقل إلينا المعاني وحدها، فإن الغاية من الأدب ليست هي المعرفة وتقرير الحقائق، بل نريد نقل المعاني ممزوجة بشعور الأديب، باعثة لشعورنا، وهذا لا يتأتّى إلاّ إذا كان التعبير فنيّاً(10).
ويُلخص (الحوفي) عدة صفات في تعبير الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام هي(11):
1. تخيّر المفردات: بحيث تنسجم من الناحية الصوتية، فتجيء خفيفة على اللسان، لذيذة الوقع في الآذان، موافقة لحركات النفس، مطابقة للعاطفة التي أزجتها أو للفكرة التي أملتها. كقوله في كتاب إلى عمّاله على الخراج: «إنكم خُزّان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمّة». وكقوله إلى معاوية: «لستَ بأمضى على الشك مني على اليقين»،
وقوله: «كلما أطلَّ عليكم مَنسِر من مناسِر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه، وانجحر انجحار الضبّة في حجرها، والضَّبُع في وجارها». وقوله: «دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجَرْجَرتم جَرجْرَة الجَمل الأَسَرِّ، ثمّ خرج إليَّ منكم جنَيْد وتذاؤب ضعيف». وقوله: «من أبطأ به عمله، لم يُسرع به حسبه». وقوله: «إن تقوى الله دواءُ داء قلوبكم، وبَصَرُ عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دَنَس أنفسكم، وجلاء غشاء أبصاركم، وأمنُ فزع جأشكم، وضياء سواد ظُلمتكم».
2. قوّة التعبير: إذ أجمع علماء البيان العربي على أن الكلام إذا كان لفظه غثّاً، ومعرضه رثّاً، كان مردوداً ولو احتوى على أجلّ معنى وأنبله، كما ذكر أبو هلال العسكري في (الصناعتين). وأجمعوا على أن الجزل القوي من الكلمات يستعمل في وصف الحروب، وفي قوارع التهديد والتخويف، وفي التنفيس عن الغضب والضيق وما شابه هذا.
وأما الرقيق منها، فإنه يستعمل في وصف الأشواق، وذكر أيّام الفراق، وفي استجلاب المودّات، واستدرار الاستعطاف وأشباه ذلك (كما ورد في المثل السائر لابن الأثير الموصلي).
ومن السهل أن نجد كثيراً مما يتصف بالقوة والجزالة والفخامة في خطب الإمام عليّ وفي رسائله، تعبيراً عن عواطفه وأفكاره التي تقتضي التعبير القوي الفخم الملائم لشدتها وقوتها وحرارتها(12).
ومن الأمثلة والنماذج قوله: «واللهِ لا أكون كالضَّبُع تنام على طول اللَّذم حتّى يصل إليها طالبها، ويَخْتِلها راصدها، ولكني أضرب بالمقبل على الحق المدبَر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبداً، حتّى يأتي علَيّ يومي»(13). وقوله: «ألا وإني لم أرَ كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربُها. ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضرّه الباطل، ومن لم يستقم به الهدى يجُرْ به الضلال. ألا وإنكم قد أُمِرتُم بالظَّعن، ودُللتم على الزاد، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتّباع الهوى وطول الأمل». وقال في خطبة يخوِّف فيها أهل النهروان: «فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر، وبأهضام هذا الغائط، على غير بيّنة من ربكم، ولا سلطان مبين معكم، قد طوَّحت بكم الدار، واحتبلكم المقدار. وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة، فأبيتم علَيَّ إباءَ المخالفين المنابذين، حتّى صرفتُ رأيي إلى هواكم، وأنتم معاشر إخفاء الهام، سفهاء الأحلام، ولم آتِ ـ لا أباً لكم ـ بُجراً، ولا أردتُ بكم ضُراً»(14). وقوله من خطبة له عند مسيره إلى البصرة: «إن الله سبحانه بعث محمداً صلّى الله عليه وآله، وليس أحد من العربِ يقرأ كتاباً، ولا يدَّعي نبوّة، فساق الناس حتّى بوَّأهم محلَّتهم، وبلَّغهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم، واطمأنت صفاتهم. أما والله إن كنتُ لفي ساقتها حتّى تولّت بحذافيرها ما عجزتُ ولا جبنتُ، وإن مسيري هذا لمثلها، فلأنْقُبَنّ الباطل حتّى يخرج الحق من جنبه. ما لي ولقريش ؟! والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنّهم مفتونين».
3. سهولة التعبير: مثل قوله في كتاب إلى عبدالله بن عباس بعد مقتل محمّد بن أبي بكر: «فعند الله نحتسبه ولداً ناصحاً، وعاملاً كادحاً، وسيفاً قاطعاً، وركناً دافعاً. وقد كنت حثثت الناس على لحاقه، وأمرتهم بغيائه قبل الوَقْعه، ودعوتهم سراً وجهراً، وعوداً وبدءاً، فمنهم الآتي كارهاً، ومنهم المعتلّ كاذباً، ومنهم القاعد خاذلاً». وقوله في رسالة إلى عمرو بن العاص قبل التحكيم: «أما بعد، فإن الدنيا مشغلة عن غيرها، ولن يصيب صاحبُها منها شيئاً إلاّ فتحت له حِرصاً يَزيده فيها رغبة، ولن يستغني صاحبها بما نال عمّا لم يبلُغْ، ومن وراء ذلك فراقُ ما جمع. والسعيد من وُعِظ بغيره، فلا تُحبط ـ أبا عبدالله ـ أجرك، ولا تُجارِ معاوية في باطله، والسلام». وقوله في خطبة له بعد أن بلغه مقتل محمّد بن أبي بكر: «اسمعوا قولي، وأطيعوا أمري، فوالله لئن أطعتموني لا تَغوون، وإن عصيتموني لا ترشدون. خذوا للحرب أُهْبَتها، وأعدّوا لها عُدَّتها، فقد شبَّت نارها... إلاّ إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر والجفاء بأولى في الجدَّ في غيِّهم وضلالتهم من أهل البِرّ والزهادة والإخبات في حقهم وطاعة ربهم. إني والله لو لقيتهم فرداً وهم مِلاءُ الأرض ما باليتُ ولا استوحشتُ، وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي نحن عليه لَعلى ثقة وبيّنة ويقين وبصيرة. فانفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون».
4. قِصَر الفقرات: مثل قوله لما أغار النعمان بن بشير الأنصاري على عين التَّمر:
«مُنيتُ بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت. لا أباً لكم! ما تنتظرون بنصركم ربكم ؟ أما دينٌ يجمعكم، ولا حَمِيّة تُحمِشكم؟! أقوم فيكم مستصرخاً، وأُناديكم مُتَغوّثاً، فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً، حتّى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يُدرَك بكم ثأر، ولا يُبلَغ بكم مرام. دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ، وتثاقلتم تثاقل النضْو الأْبَر...». وقوله: «فتداكّوا علَيّ تداكَّ الإبل الهِيم يوم وِردها، وقد أرسلها راعيها، وخُلعت مثانيها، حتّى ظننتُ أنهم قاتليَّ، أو بعضهم قاتل بعض لديَّ. قد قلّبت هذا الأمر بطنَه وظهره، حتّى منعني القوم، فما وجدتني يسعني إلاّ قتالهم أو الجحود بما جاء به محمّد صلّى الله عليه وآله، فكانت معالجة القتال أهون عليَّ من معالجة العقاب، ومَوْتاتُ الدنيا أهونَ عليَّ من مَوْتات الآخرة». وقوله في كتاب إلى أمراء جيوشه: «ألا وإنّ لكم عندي ألاّ أحتجز دونكم سراً إلاّ في حرب، ولا أطوي دونكم أمراً إلاّ في حُكم، ولا أُؤخّر لكم حقاً عن محله، ولا أقفُ به دون مقطعه، وأن تكونوا عندي في الحق سواء. فإذا فعلتُ ذلك وَجَبَت لله عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، وألا تنكصوا عن دعوة، ولا تُفرّطوا في صلاح، وأن تخوضوا الغمرات إلى الحق».
5. كثرة الصيغ الإنشائية: وهي: «الأمر والنهي، والاستفهام، والترجي والتمني، والنداء والقسم والتعجب»، وهي: أقوى من الصِّيغ الخبرية تجديداً لنشاط السامعين، وأشد تنبيهاً وأكثر إيقاظاً، وأدعى إلى مطالبتهم بالمشاركة في القول وفي الحكم. وهي في الوقت نفسه أدق في تصوير مشاعر الخطيب وأفكاره، لأن أفكاره ومشاعره المتنوعة في حاجة إلى أساليب متغايرة تفصح عنها.
ثمّ إن مغايرة الأساليب تستتبع مغايرة في نبرات الصوت وفي الوقفة والإشارة وطريقة الإلقاء، وهذا كله عون على الوضوح من ناحية، وعلى التأثير في السامعين من ناحية(15).

 

أمثلة ونماذج
أ ـ من الأمر

قوله: «فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حُثالة القَرَظِ»، وقوله: «فاعتبروا بما أصاب الأممَ المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته، ووقائعه ومثلاته. واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم، واستعيذوا بالله من لواقح الكِبْر، كما تستعيذون من طوارق الدهر». وقوله: «ليتأسَّ صغيركم بكبيركم، وليرأف كبيركم بصغيركم».

 

ب ـ ومن النهي
قوله: «فلا تجلعنَّ للشيطان فيك نصيباً، ولا عن نفسك سبيلاً»، و قوله: «ألا وإن الآخرة قد أقبلت، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا». و قوله: «لاتقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقَّ فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه». و قوله: «لا تُرَخِّصوا لأنفسكم، فتذهب بكم الرَّخص مذاهب الظلمة، ولا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعية... ولا تَحاسدوا، فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النارُ الحطب، ولا تَباغضوا، فإنها الحالقة». و قوله: « فلا يغرنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور، فإنما هو ظل ممدود، إلى أجَل معدود ». و قوله: «فإن نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا». و قوله: «عباد الله، لا تركنُوا إلى جهالتكم، ولا تنقادوا إلى أهوائكم ». و قوله: «لا يؤنِسنّك إلاّ الحقّ، ولا يوحشنَّك إلاّ الباطل»، وقوله: «فلا تنفروا من الحق نفارَ الصحيح من الأجرب». وقوله: « فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يُتحفَّظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حقَّ قيل لي... فلا تكفّوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل».

 

ج ـ ومن الاستفهام
قوله: «أبعد إيماني برسول الله صلّى الله عليه وآله، وهجرتي معه، وجهادي في سبيل الله، أشهد على نفسي بالكفر؟! لقد ضللتُ إذاً وما أنا من المهتدين!». وقوله: «أصبحت والله لا أصدّق قولكم، ولا أطمع في نصركم ، ولا أُوعد العدوَّ بكم. ما بالكم ؟ ما دواؤكم ؟ ما طبّكم ؟! القوم رجال أمثالكم. أقولاً بغير علم ؟ وغفلة من غير ورع ؟ وطمعاً في غير حق ؟!». وقوله: «أيها الناس، إن الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جُنّة أوقى منه.. ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثرُ أهله الغدرَ كيْساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حُسن الحيلة. ما لهم ؟ قاتلهم الله! قد يرى الحُوّل القُلَّب وجه الحيلة، ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها مَن لا حريجة له في الدين»(16). وقوله: «هل يُحسّ به ـ ملك الموت ـ إذا دخل منزلاً ؟ أم تراه إذا توفّى أحداً ؟ بل كيف يتوفّى الجنين في بطن أمه ؟ أيلج عليه من بعض جوارحها ؟ أم الروح أجابته بإذن ربها ؟ أم هو ساكن معه في أحشائها ؟ كيف يصف إلهَه من يعجز عن صفة مخلوق مثله؟!». وقوله: «أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى، والأبصار اللامحة إلى منازل التقوى ؟ أين القلوب التي وُهِبَتْ لله، وعوقدت على طاعة الله ؟!».

 

د ـ ومن الترجّي
قوله: «فاسمعوا قولي، وعُوا منطقي، عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تُنتضى فيه السيوف». و«لعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة». وقوله: «لا تعجل في عيب أحد بذنبه؛ فلعلّه مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية، فلعلّك معذّب عليه». وقوله: «هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة! ولعل بالحجاز وباليمامة من لا طمع له في القُرص، ولا عهد له بالشِّبع».

 

هـ ـ ومن التمنّي
قوله: «يا أشباه الرجال ولا رجال، لَوددتُ أنّي لم أركم، ولم أعرفكم». وقوله: «قد دارستكم الكتاب، وفاتحتكم الحجاج، وعرّفتكم ما أنكرتم، وسوَّغتكم ما مججتم، لو كان الأعمى يلحظ، أو النائم يستيقظ».

 

وـ ومن النداء
قوله: «أيها الناس، شقّوا أمواج الفتن بسفن النجاة..». وقوله: «فاتقوا الله عباد الله، وفِرّوا إلى الله من الله». وقوله: «أيها الناس المجتمعةُ أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يُوهي الصمَّ الصِّلاب، وفعلكم يُطمِعُ فيكم الأعداء». وقوله: «أيها الناس، إنا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن كنود».

زـ ومن القسَم
(قوله: «والله ما أنكروا عليَّ منكراً، ولا جعلوا بيني وبينهم نَصَفاً». وقوله: «أما والله ما أتيتكمُ اختياراً، ولكن جئت إليكم شوقاً». وقوله: «ولئن ألجأتموني إلى المسير إليكم، لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلاّ كلعقةِ لاعق». وقوله: «أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر.. لألقيتُ حبلَها على غاربها..». وقوله: «لعمري، لو كنا نأتي ما أتيتُم ما قام للدين عمود، ولا اخضرّ للإيمان عود.. وايمُ الله، لتحتلبُنّها دماً، ولتتبعُنَّها ندماً». وقوله: «والله لو قتلتم على هذا دجاجة لَعظُم عند الله قتلها، فكيف بالنفس التي قتلُها عند الله حرام ؟!».

ح ـ ومن التعجب
قوله: «سبحانك ما أعظم شأنك! سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك! وما أصغر كلّ عظيمة في جنب قدرتك! وما أهَولَ ما نرى من ملكوتك! وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك! وما أسبغَ نعمَك في الدنيا، وما أصغرَها في نِعم الآخرة!». وقوله: «استتمّوا نعم الله عليكم بالصبر على طاعته، والمجانبة لمعصيته، فإن غداً من اليوم القريب!». و قوله: «ما أسرع الساعات في اليوم، وأسرع الأيام في الشهر، وأسرع الشهور في السنة، وأسرع السنين في العمر!». وقوله: «فيا عجباً! عجباً والله يميت القلب، ويجلب الهمّ من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرّقكم عن حقّكم». وقوله: «فيا عجباً للدهر إذ صرتُ يُقرنُ بي من لم يَسعَ بقَدَمي، ولم تكن له كسابقتي..».

6. السجع والترسُّل:قوله في إحدى خطبه: «فلْيقبل امرؤ كرامة بقبولها، وليحذر قارعة قبل حلولها، ولينظر امرؤ في قصير أيامه، وقليل مُقامه في منزل حتّى يستبدله به منزلاً، فليصنع لمتحوّله، ومعارف منتقله. فطوبى لذي قلب سليم أطاع من يهديه، وتجنّب من يُرديه، وأصاب سبيل السلامة ببصرِ من بَصَّره، وطاعة هاد أمره، وبادر الهُدى قبل أن تُغلق أبوابه، وتُقطَع أسبابه، واستفتح التوبة، وأحاط الحَوْبة، فقد اُقيم على الطريق، وهُدِيَ نهج السبيل». وقوله: «وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالدين المشهور، والقلم بالمأثور، والكتاب المسطور، والنورِ الساطع، والضياء اللامع، والأمر الصادع، إزاحة للشبهات، واحتجاجاً بالبيّنات، وتحذيراً بالآيات، وتخويفاً بالمثُلات، والناس في فتنٍ انجَذمَ فيها حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلف النَّجر، وتشتت الأمر، وضاق المخرج، وعَميَ المصدر، فالهدى خامل، والعَمى شامل..». ومن قوله لما أنكر عليه الخوارج تحكيم الرجال: «إنّا لم نُحكّم الرجال، وإنما حكّمنا القرآن، هذا القرآن إنما هو خط مستور بين الدفّتين، لا ينطق بلسان، ولابد له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال. ولمّا دعانا القوم إلى أن نُحكّم بينا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله تعالى عزّ من قائل: فإنْ تنازْعتُم في شيءٍ فردُّوه إلى الله والرسول ، فردُّه إلى الله أن نحكم بكتابه، وردُّه إلى الرسول أن نأخذ بسنّته، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحقُ الناس به، وإن حكم بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله فنحن أحق الناس وأولاهم بها. وأما قولكم: لمَ جعلتَ بيننا وبينهم أجلاً في التحكيم ؟ فإنما فعلتُ ذلك ليتبين الجاهل، ويثبت العالم، ولعل الله أن يُصلح في هذه الهُدنة أمر هذه الأمة، ولا تؤخذ بأكظامها..»(17). وقوله: «من ترك الجهاد في الله، وأدهَنَ في أمره، كان على شفا هُلكه، إلاّ أن يتداركه الله بنعمة. فاتقوا الله، وقاتلوا من حادَّ الله، وحاول أن يطفئ نوره. قاتلوا الخاطئين الضالّين القاسطين المجرمين الذين ليسوا بقرّاء للقرآن، ولا فقهاء في الدين ولا علماء في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام. والله لو وَلّوا عليكم لعملوا فيكم أعمال كسرى وهرقل. تيسّروا وتهيأوا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب، وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة لِيقْدموا عليكم، فإذا قدموا فاجتمعتم، شخصنا إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله».

7. التوازن: كثيراً ما تجيء الجُمل في نهج البلاغة متوازنة، بأن يتساوى عدد كلماتها، أو تتماثل أوزان نهاياتها، وهذا ضرب آخر من موسيقى التعبير، ويحبّب إلى السمع، ويقرّبُه إلى الذوق(18).
ومن الموازنة قول الإمام عليّ عليه السّلام: «لم يَؤدْه خلقُ ما ابتدأ، ولا تدبير ما ذرأ، ولا وقفَ به عجزٌ عمّا خلق، ولا ولَجت عليه شبهة فيما قضى وقدّر، بل قضاء متقن، وعلم مُحكم، وأمر مبرم..». وقوله: «إنّ غاية تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة، لجديرة بقِصر المدة. وإن غائباً يَحْدره الجديدان الليل والنهار،لحريّ بسرعة الأوبة. وإن قادمة يقدم بالفوز أو الشِّقوة، لمستحق لأفضل العدة. فيا لها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة، وأن تؤديه أيامه إلى الشِّقوة! نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تُبطره النعمة، ولا تُقصِّر به عن طاعة ربه غاية، ولا تحلُّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة». وكذلك قوله: «إنّ الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا، ويشتد حزنهم وإن فرحوا، ويكثر مقتهم أنفسَهم وإن اغتبطوا بما رُزقوا..».
وقد يجيء التوازن في داخل الجمل لا في نهاياتها، فيؤلف انسجاماً في نطق الكلمات وفي سماعها، مثل قوله: «الحمد لله غيرِ مقنوط من رحمته، ولا مخلوّ من نعمته، ولا ميؤوس من مغفرته، ولا مستنكَف عن عبادته، الذي لا تبرح منه رحمة، ولا تُفقَد له نعمة»، فإنّ هنا موازنةً بين مقنوط ومخلوّ وميؤوس.

8. الجناس، الطباق، والمقابلة، والتوشع.. كما استعرض الدكتور الحوفيّ أمثلة عديدة عن الخيال البياني في خطب الإمام عليّ بن أبي طالب ورسائله ـ وما تعتمده من (التشبيه) و (الاستعارة) و (الكناية) و (المجاز) ـ وهي عُدّة الشاعر والخطيب والكاتب، التي برع فيها الإمام عليّ براعة منقطعة النظير، في شتى شؤون المعرفة، والعقل، والنفس، وفي مختلف قضايا البشر، والدين والدنيا.

* * *

مزيّة خاصة
إنّ نهج البلاغة ـ كما يقول ابن أبي الحديد ـ إذا تأملته، «وجدتَه كلَّه ماءً واحداً، ونَفَساً واحداً، وأسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية».. وهو ـ في عظمته الأسلوبية ـ يحتوي على عبقرية الحُسن اللفظي، تلك العبقرية التي تتمثل في علاقة اللفظة بالأخرى، والتي تَرِد في خطب، وفقرات ممتازة التميّز، تأخذ فيها اللفظة بعنق قرينتها، جاذبة إياها إلى نفسها، دالة عليها بذاتها».
وذلك باعتراف جعفر بن يحيى، الذي كان من أبلغ الناس وأفصحهم، كما رأى الجاحظ. قال الجاحظ: حدثني ثمامة، قال: سمعت جعفر بن يحيى ـ وكان من أبلغ الناس وأفصحهم ـ يقول: الكتابة بضم اللفظة إلى أختها، ألم تسمعوا قول شاعر لشاعر ـ وقد تفاخر ـ: أنا أشعر منك، لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابنَ عمه. ثم وناهيك حسناً بقول عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: «هل من مناص أو خلاص، أو معاذٍ أو ملاذ، أو فرار أو محار»(19).
قال أبو عثمان (الجاحظ): وكان جعفر يُعجَب أيضاً بقول الإمام عليّ عليه السّلام:
«أين من جدّ واجتهد، وجمع واحتشد، وبنى فشيّد، وفرش فمهّد، وزخرف فنجّد ؟!».
قال: «ألا ترى أنّ كل لفظة منها آخذة بعنق قرينتها، جاذبةٌ إياها إلى نفسها، دالّة عليها لذاتها».
وقد روى هذا كلَّه أيضاً ابن مسكويه في كتابه (الحكمة الخالدة) بأسلوب آخر عن جعفر بن يحيى، والفقرات التي حكى الجاحظ إعجاب جعفر بن يحيى بها، وهي (هل من مناص أو خلاص.. إلخ) هي من بعض فصول هذه الخطبة.
أما الفقرات التي اُعجب بها جعفر وهي (أين من جد واجتهد.. الخ) فهي من خطبة أخرى ذكرها ابن عبد ربه في (العِقد الفريد).
وأوّلها: أوصيكم عبادَ الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته، وبتقديم العمل، وترك الأمل، فإنه من فرَّط في عمله، لم ينتفع بشيء من أمله...».

* * *

النص الوصفي
إنّ ذكاء الإمام عليّ بن أبي طالب النادر، كان يستعين بذاكرة قوية، وقدرة هائلة على اختزان صور الناس والطبيعة، وأخبار البشر، وأوصاف الأشياء، وكانت دقة ملاحظته تجعله محيطاً إحاطة مدهشة، بسمات الشيء الباطنة، قبل الظاهرة.
وبفعل ذلك، كان وصفُه يتغلغل إلى عمق الظاهرة أو الصفة، كما يتسع ليربط الظاهرة بالأخرى، والصفة بالأخرى، ليقدّم رؤية شاملة، تضع الجزئي في موضعه الحقيقي ضمن العام، وتضع البعض ضمن الكل. وبما أن أبلغ وصف هو ذلك الذي ينقل الصور البليغة للأشياء ويعكسها بأجمل تعبير، وأقوى إيحاء، وأدق وصف، وأجلى تعبير، فإنّ سحر البيان الذي أوتيَهُ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، كان يجعل من عملية الانعكاس الوصفي قِطعاً فريدة من النصوص الوصفية التي تفخر بها العربية.
ومثل شأن الإمام عليّ عليه السّلام، في معرفته بالعلوم اللغوية، والفقهية، والشرعية، والعسكرية، كانت الفنون الأسلوبية المميِّزة لقدرته البلاغية، والمجسِّدة لفكره الثاقب، تجعله مبدعاً في ميادين الأساليب المتعددة. فهو يقدم النص الوصفي بالقدرة الرائعة، التي يقدم بها النص السياسي، أو الفقهي، أو الأخلاقي. ورغم أن وصف الأشياء يتصل اتصالاً دقيقاً بعملية انعكاس الأشياء نفسها في الذهن، إلاّ أن طبيعة النفس المرهفة، والعقل النير، تجعل من عملية الانعكاس إعادة خلق صوري للموصوف، فيصبح الموصوف (في الصورة البلاغية) يشبه الحقيقة الملموسة للشيء الموصوف، ويتجاوزه بالجمالية الممنوحة إليه من داخل كلمات النص.
إنّ أمير المؤمنين علياً بن أبي طالب كان يستنطق الصفات، واهباً إياها المقدرة على أن تستعرض نفسها، بشفّافية أكثر.
لقد تميز: «بقوة ملاحظة نادرة، ثمّ بذاكرة واعية تخزن وتتّسع، فتيسرت له من ذلك جميعاً عناصر قوية تغذّي فكره، وتقوّي خياله، فتسهل عليه محاكمة الأشياء والمقارنة بين عناصرها لإثبات أرجحها وأفضلها للبقاء والتعميم.
وحديثه عن الطبيعة بمظاهرها الحية بما يتخللها من قواعد ونواميس حياتية، وما يحكمها من إرادة خفية دقيقة التنظيم والصنع، وكلامه عن السَّحاب والزرع والحيوانات المختلفة المتباينة كالخفاش والطاووس والنملة، وتحليله الأوضاع الاجتماعية والغرائز الإنسانية، يعتبر في ذروة أنموذج التفكير العلمي المبدع المبني على دقة الملاحظة والإدراك الواعي، وهو بذلك كما يقول العقّاد: تلميذ ربّه جلَّ وعلا»(20).

قال في وصف النملة:
«انظروا إلى النملة في صغر جثتها ولطاقة هيئتها، لا تكاد تُنال بلحظ البصر، ولا بمستدقّ الفِكَر، وكيف دبّت على أرضها وحبَت على رزقها! تنقل الحبة إلى حُجرها وتَعُدها في مستقرها، وتجمع في حرّها لبردها، وفي ورودها لصَدَرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوِفْقها
(21)، لا يُغفلها المنّان، ولا يحرمها الديّان، ولو في الصفا الحجر الجامس(22). ولو فكرتَ في مجاري أكلها، وفي عُلوها وسُفلها، وما في الجوف من شراسيف بطنها(23)، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيتَ من خَلْقها عَجباً، ولقيت من وصفها تعباً. ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلاّ على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة، لدقيق تفصيل كل شيء، وغامض اختلاف كل حي!».

وقال يصف الخفّاش:
«ومن لطائف صنعته، وعجائب حكمته، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء، ويبسطها الظلام القابض لكل حي؛ وكيف عشِيتْ أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نوراً تهتدي به في مذاهبها، وتصل بعلانية برهان الشمس إلى معارفها، ورَدَعها تلألؤ ضيائها عن المضي في سبحات إشراقها(24) ، وأكنّها في مكامنها عن الذهاب في بلج ائتلاقها(25) ؟!
فهي مُسدلة الجفون في النهار عن أحداقها، وجاعلة الليل سراجاً تستدلّ به في التماس أرزاقها، فلا يردُّ أبصارَها إسداف ظلمته(26) ولا تمتنع من المضي فيه لغسق دُجنته، فإذا ألقت الشمس قناعها وبدت أوضاح نهارها، ودخل من إشراق نورها على الضِّباب(27) في وجارها، أطبقت الأجفان على مآقيها، وتبلّغت(28) بما اكتسبت من فيء ظلَم لياليها، فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً، والنهار سكناً وقراراً، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرجُ بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الآذان غير ذوات ريش ولا قصب، إلاّ أنك ترى مواضع العروق بيّنة أعلاماً لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا، ولم يغلظا فيثقلا؛ وولدها لاصقٌ بها لاجيء إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتّى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه، فسبحان الباري لكل شيء على غير مثال خلا من غيره».

وقال يصف الجرادة:
«وإن شئتَ قلتُ في الجرادة، سإذ خلق الله لها عينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين
(29)، وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، وبابين بهما تقرِض، ومنجلين بهما تقبض(30)، يرهبها الزُّرّاعُ في زرعهم ولا يستطيعون ذبَّها(31) ولو أجلبوا بجمْعهم، حتّى ترد الحرثَ في نزواتها(32)، وتقضي منه شهواتها، وخَلْقُها كله لا يكون إصبعاً مستدقة!».

وقال في وصفه للطاووس:
«يمشي مشي المَرِح المختال، ويتصفح ذنَبه وجناحيه، فيقهقه ضاحكاً لجمال سِرْباله وأصابيغ وِشاحه، فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا مُعْولاً.. وقد نجمت عن ظُنبوب ساقه صِيصيةٌ خفية، وله في موضع العُرف قُنْزُعة خضراء موشاة، ومخرج عنقه كالإبريق، ومغْرَزُها إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية، أو كحريرة ملبَّسة مرآة ذات صقال..»(33).
وقال ينفي زعْم من يقول: إن الطاووس يلقح أنثاه بدمعة تذرفها عينه، فتشربها أنثاه فتحمل: «ولو كان كزعم من يزعم أنه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه، فتقف في ضفتَي جفونه، وأنّ أنثاه تطْعم لذلك، ثم تبيض لا من لقاحِ فحلٍ سوى الدمع المنبجس، لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب»(34).

ومن كلام له في الأرض:
قال رداً على زعم أن الأرض تدور على قرن ثور: «وأنشأ الأرضَ فأمسكها من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم».

وقال في تكوين الجبال:
«وجبل جلاميدها، ونشوز متونها وأطوادها، فأرساها في مراسيها، وألزمها قراراتها، فمضت رؤوسها في الهواء، ورست أصولها في الماء. فأنهدَ جبالها عن سهولها، وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها، فأشهق قلالها، وأطال أنشازها، وجعلها للأرض عماداً، أرزّها فيها (أي ثبّتها) أوتاداً، فسكنت على حركتها (أي رغم حركتها) عن أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها»

* * *

خاتمة
إن النص النثري للإمام عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه ، اكتسب فوائد عظمى من الثقافة القرآنية له عليه السّلام في المضمون وفي الشكل، وكان كثير الاستشهاد بالقرآن الكريم وبالحديث النبوي، وكان كثير الاستشهاد بالشعر، لأنه كان شاعراً بطبيعته. وفي ذلك يقول العقاد:
«وعندي أنّه رضي الله عنه كان ينظم الشعر ويحسن النظر فيه، وكان نقده للشعراء نقدَ عليم بصير، يعرف اختلاف مذاهب القول واختلاف وجوه المقابلة والتفضيل على حسب المذاهب، ومِن بصره بوجوه المقابلة بينهم أنه سُئل: مَن أشعر الناس؟ قال: «إن القوم لم يَجْروا في حلقة تُعرف الغاية عند قَصَبتها، فإن كان لابدّ فالملِك الضِّليل».
وهذا فيما نعتقد أول تقسيم لمقاييس الشعر على حسب «المدارس» والأغراض الشعرية بين العرب، فلا تكون المقابلة «إلاّ بين أشباه وأمثال، ولا يكون التعميم بالتفضيل إلاّ على التغليب».
ومن أمثلة استشهاده بالشعر ما جاء في قوله بعد خديعة التحكيم:
وقد كنتُ أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلْتُ لكم مخزون رأيي، لو كان يُطاع لقصيرٍ أمر، فأبيتم علَيّ إباء المخالفين الجفاة، والمنابذين العُصاة، حتّى ارتاب الناصح بنُصحه، وضنَّ الزَّنْدُ بقدحه، فكنتُ أنا وإياكم كما قال أخو هوازن:

أمرتكمُ أمري بُمنعَرج اللِّوى         فلم تستبينوا النصحَ إلاّ ضُحى الغدِ

وجاء في خطبته.. وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد، استشهاده بقول الشاعر:

لَعمرُ أبيك الخيرِ يا عمرُو إنّني         على وَضَرٍ من ذا الإناء قليلِ

وبقول أبي جندب الهذلي:

هنالك لو دعوتَ أتاكَ منهم         فوارسُ مثلُ أرميةِ الحميمِ

وختم خطبته عند مسيره للقتال في البصرة بقوله: «والله ما تنقم منا قريش إلاّ أنّ الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيِّزنا، فكانوا كما قال الأول:

أدمتَ لعمري شُربكَ المحضَ صابحاً         وأكلكَ بالزُبْدِ المقَشَّرَةَ البُجرا
ونحنُ وهبناك العلاء ولم تكن         عليّاً، وحُطْنا حولك الجرْدَ والسُمْرا

ومن هذا كتابه إلى معاوية: «أمّا بعد، فإنك قد ذُقت ضرّاء الحرب وأذَقْتَها، وإني عارضٌ عليك ما عرضَ المخارق على بني فالج:

أيا راكباً إمّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ         بني فالج حيث استقرّ قرارُها
هلمّـوا إلينا لا تكونوا كأنكم         بلاقعُ أرضٍ طار عنها غبارُها
سليمُ بن منصـور أُناس بحرةٍ         وأرضهمُ أرضٌ كثيرٌ وِبارُها(35)

ومن استشهاداته الشعرية:

شتانَ ما يومي على كورها         ويومُ حيّانَ أخي جابرِ

وتمثله بقول امرئ القيس:

ودع عنك نهباً صِيح في حُجراته         (وهاتِ حديثاً ما حديث الرواحلِ)

وكذلك:

(وعيَّرها الواشون أنّي أحبها)         وتلك شكاةُ ظاهرٌ عنك عارُها

[والشطرة التي بين قوسين لم يذكرها الإمام عليه السّلام، وإنما هي تتمة البيت]
وقوله:

(وكم سقتُ في آثاركم من نصيحة)         وقد يستفيد الظِّنةَ المُتنصِّحُ

وقوله

لبّثْ قليلاً يلحقُ الهيجا حَمَلْ         (لا بأسَ بالموتِ إذا الموتُ نزلْ)

كذلك: قال أخو بني سليم:

فإن تسأليني كيف أنتَ فإنني         صبورٌ على ريب الزمان صليبُ
يعزُّ علَيَّ أن تُرى بي كآبةٌ         فيشـمتُ عادٍ أو يُسـاءُ حبيبُ

ومن كتاب له إلى عثمان بن حُنيف الأنصاري:

وحسبُكَ داءً أن تبيتَ ببطنةٍ         وحولَك أكبادٌ تحنّ إلى القِدِّ

وقال يذكر ما قاله أخو بني أسد:

مُستقبِلين رياحَ الصيف تضربهم         بحاصب بين أغوارٍ وجُلمودِ

إنّ الشعر يتخلل خطب الإمام عليّ بن أبي طالب ورسائلَه وأحاديثه، لكنّ عظمة نثره ظلت آيةً من آيات الأدب والحكمة والمعرفة، تفيض كنوزها بالتلقّي، فتزدادُ ثراء وتألّقاً.
وصدق إذ قال: «وإنّا لأُمراء الكلام، وفينا تنشّبت عروقه، وعلينا تهدلّت غصونه».
(عن كتاب: عليّ بن أبي طالب ـ سلطة الحق.تأليف: عزيز السيّد جاسم، ص 285 ـ 304)

-----------
1 ـ لا يُساجَل: لا يُكاثر. لا يُحافل: لا يُفاخر في حفل. ينطف: يقطر.
2ـ الشريف الرضي: نهج البلاغة.
3ـ الثعالبي: ثمار القلوب، مصادر نهج البلاغة.
4ـ الشريف المرتضى: أمالي المرتضى.
5ـ الجاحظ: البيان والتبيين ج 1. من الهامش في ترجمة عبدالله بن المقفع وتعليقه عليه.
6ـ عبدالله حسين: مصادر نهج البلاغة.
7ـ عبدالله حسين: مصادر نهج البلاغة.
8ـ الدكتور أحمد محمّد الحوفي: بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام. «والتوازن أو الموازنة بهذا المعنى أعم من السجع، لأن السجع ورود أجزاء الفاصلتين أو الفواصل على حرف واحد مثل القريب والحسيب والغريب، أما الموازنة بين أواخر الكلمات فهي مثل القريب والشهيد والجليل، فالوزن واحد والحرف الأخير مختلف» ـ المصدر نفسه.
9ـ عباس محمود العقاد: عبقرية الإمام عليّ عليه السّلام.
10ـ الدكتور أحمد محمّد الحوفي: بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام.
11ـ آثرنا ـ هنا ـ تلخيص موضوع الدكتور الحوفي واختيار أهم النماذج التي وردت فيه.
12ـ الدكتور أحمد محمّد الحوفي: بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام.
13ـ اللدم: صوت الحجر أو العصا تدقُّ بها الأرض دقاً هيّناً يصحبه قول الصائد عند حجر الضبع: خامري أم عامر، أي الزمي حجرك، فتنام، فيدخل إليها ويصيدها ـ المصدر.
14ـ الأهضام: جمع هضم على وزن نهر وهو المطمئن من الوادي. الغائط: ما سفل من الأرض. البجر: الداهية والأمر العظيم.
15ـ الدكتور أحمد محمّد الحوفي: بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام.
16ـ الحُوَّل القُلّب: المجرِّب المحنّك. الحريجة: الحرج والتقوى.
17ـ أكظام: جمع كظم، وهو مخرج النفَس.
18ـ الدكتور أحمد محمّد الحوفي: بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام. «والتوازن أو الموازنة بهذا المعنى أعم من السجع، لأن السجع ورود أجزاء الفاصلتين أو الفواصل على حرف واحد مثل القريب والحسيب والغريب، أما الموازنة بين أواخر الكلمات فهي مثل القريب والشهيد والجليل، فالوزن واحد والحرف الأخير مختلف» ـ المصدر نفسه.
19ـ محار: مرجع إلى الدنيا بعد فراقها.
20ـ عليّ محمّد الحسين الأديب: منهج التربية عند الإمام عليّ عليه السّلام.
21ـ وِفقها: أي بما يوافقها من الرزق ويلائم طبعها.
22ـ الجامس: الجامد.
23ـ الشراسيف: أطراف الأضلاع التي تشرف على البطن، والمفرد شرسوف.
24ـ سَبحات إشراقها: درجات نورها.
25ـ البلج: الضوء الواضح، الأتئلاق: اللمعان القوي.
26ـ إسداف: إظلام.
27ـ الضِّباب: جمع ضَبّ.
28ـ تبلّغت: تناولت القوت.
29ـ قمراوين: مضيئتين.
30ـ منجلين: رِجْلين (شبّههما بالمنجلين لاعوجاجهما وخشونتهما).
31ـ ذبَّها: دفعها وأبعدها.
32ـ نزواتها: وثباتها.
33ـ زقا: صوّت. معولاً: صارخاً (أي أنه يزهي بنفسه، فإذا نظر إلى ساقيه أعول حزيناً؛ لأنهما قبيحتان). الظنبوب: حرف الساق. صيصية: شوكة في رِجله. العرف: الشعر المرتفع على عنقه ورأسه. القنزعة: الشعر حول الرأس. الوسمة: العظم الذي يخضب به.
34ـ أي أن هذا الزعم كائن أيضاً في الغراب، إذ قالوا: إن تلقيحه يكون بانتقال جزء من الماء المستقر في قانصة الذَكر إلى الأنثى، فتتناوله من منقاره. ومنشأ هذا الزعم في الغراب أنه يخفي تلقيحه.
35ـ الدكتور أحمد محمّد الحوفي: بلاغة الإمام عليّ عليه السّلام.