نظَراتٌ.. في التَقيّة 6
  • عنوان المقال: نظَراتٌ.. في التَقيّة 6
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 4:6:2 2-9-1403

أقسام التقيّة

كان لابدّ ـ قبل الشروع بأقسام التقيّة ـ من وضعِ الاعتبارات والحيثيّات أمامَنا لموضع التقيّة، فيكون التقسيم على هذه الصورة:
أوّلاً ـ أقسام التقيّة باعتبار الحُكم.
ثانياً ـ أقسام التقيّة باعتبار الأركان.
ثالثاً ـ أقسام التقيّة باعتبار الأهداف والغايات والأسباب.
وسيكون وقوفنا ـ أيّها الإخوة الأعزّاء ـ عند الاعتبار الأوّل، ثمّ نشير إلى الاعتبارَين الآخرين إشارةً؛ لأنّنا قد تطرّقنا إليهما ضمناً في مواضيعنا السابقة.
اعتبار الحكم: وتُقسَّم التقيّة على ضوئه إلى خمسة أقسام، هي:
1. التقيّة الواجبة: وهي ما كانت لدفع ضررٍ واجب الدفع فعلاً، متوجّه إلى: نفس المتّقي، أو عِرضه، أو ماله، أو إخوانه المؤمنين. بحيث يكون الضرر جسيماً، ودفعه بالتقية ـ التي لا تُؤدّي إلى فساد في الدِّين أو المجتمع ـ ممكناً، وأنّه لا يمكن دفع ذلك الضرر إلاّ بالتقيّة.
من ذلك.. التظاهر أمام الظالم عند سؤاله إيّاه عن شخص مؤمن يريد قتله، بمظهرِ من لا يعرفه وإن كان صديقَه. فيكون الإنكار ـ تقيّةً ـ واجباً حتّى وإن تطلّب الأمر أن يحلف بالله على عدم معرفته ذلك الشخصَ المؤمنَ المطلوب؛ بهدف إنقاذِه من أيدي الظالمين القتلة.
2. التقيّة المستحبّة: وهي التقيّة التي يكون تركُها مُفضِياً إلى الضرر تدريجيّاً، بينما يكون استعمال مثل هذه التقيّة موجِباً للتحرّز من الضرر ولو مستقبَلاً.
ومن تطبيقات التقيّة المستحبّة ما ورد في أحاديث المداراة والمعاشرة الحسنة.. مِن حُسن الصُّحبة وحسن الجوار، وحسن البِشْر وطلاقة الوجه، وحسن اللقاء. وقد كان أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام يقول: لِتجمَعْ في قلبك: الافتقارَ إلى الناس، والاستغناءَ عنهم. يكون افتقارك إليهم في لِين كلامك وحُسن بِشْرك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عِرضك وبقاء عزِّك (228). وعنه عليه السّلام أنّه قال: مقاربة الناس في أخلاقهم أمنٌ من غوائلهم (229). وورد عنه كذلك قوله سلام الله عليه: البشاشة حبالةُ المودّة، والاحتمال قبر العيوب (230).
إلى غير ذلك من عشرات، بل مئات الأحاديث الشريفة في التقيّة التي تمنع ضرراً مُحتملاً آتياً، أو توقف ضرراً متفاقماً في المستقبل.. عن طريق حسن المعاشرة ولين الكلام والتحمّل والصمت والبِشر.
3. التقيّة المباحة: وهي ما كان فيها التحرّز من الضرر مساوياً لعدم التحرّز منه ـ شرعاً؛ لكون المصلحة المترتّبة على استخدام التقية أو تركها متساويتين.
من ذلك ما يراه بعض الفقهاء في إظهار كلمة الكفر إذا كان الإكراه عليه بالقتل، فإنّ في فعل التقيّة ـ هنا ـ مصلحةً.. وهي النجاة من القتل، وفي تركها مصلحة أيضاً.. وهي إعلاء كلمة الإسلام. وهذا يكون في حالة كون المتّقي ليس قدوةً للمسلمين، أمّا القدوة فعليه أن يوطّن نفسه للقتل، كما فعلَ حُجْر بن عَدِيّ ورُشيد الهُجريّ ومَيثم التمّار؛ لأنّ ما يُباح لعامّة الناس ـ في مثل هذا الحال ـ لا يُباح لقدوتهم.
هذا، مع التأكيد هنا على أنّ القدوة الذي يعلم بأنّ المصلحة المترتّبة على بقائه لخدمة الإسلام أعلى من مصلحة إعلاء كلمته عند الامتناع عن التقيّة، فله أن يتّقي لتفاوت المصلحتَين. والظاهر أنّ ما فعله عمّار بن ياسر وأصحابه في بدء الرسالة بمكة كان من هذا القبيل، فنجَوا بالتقيّة وانتقلوا إلى موقع القوّة، ثمّ مِن ذلك الموقع رفعوا راية الإسلام وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم حتّى استُشهدوا في وضعٍ أفضل وأنفع.
ولا بأس بالتأكيد الآخر على ملاحظة جملة من الأمور في جواز التقيّة، وهي: الأزمان والأشخاص والظروف، ولا يكون الحُكم مطلقاً أو بدون قيد.
ولذلك قرأنا امتناع صفوةٍ عن استخدام التقيّة في بعض المواضع التاريخيّة، فجابهوا سلاطين الجور وأُمراءهم بالعزّة العالية والاستعلاء الراسخ حتّى اختارهم الله تعالى للشهادة.
4. التقيّة المكروهة: وقد مثّل بعضهم لهذه التقيّة بإتيان ما هو مستحبّ عند المخالفين مع عدم خوف الضرر: لا عاجلاً ولا آجلاً، مع كون ذلك المستحبّ مكروهاً في الواقع.
أمّا لو كان العمل حراماً فالتقيّة بإتيانه ـ موافقةً للمخالفين ـ تكون تقيّةً محرّمة. وأمّا مع احتمال وقوع الضرر بالمخالفة، فيكون الإتيان بما وافقهم ـ تقيّةً ـ أمراً مستحبّاً (231).
5. التقيّة المحرَّمة: وهي ما يترتّب على تركها مصلحةٌ عظيمة، وعلى فعلها مفسدة جسيمة. وهي من أهمّ أقسام التقيّة بلحاظ حكمها؛ لما في حكمها من خطورة بالغة، زيادةً على تشويه مفهوم التقيّة بهذا القسم من لدن بعض الجهّال والمغالطين المتعصّبين، وذلك بتعميمه على سائر الأقسام الأُخرى للتقيّة.
ومن موارد التقيّة المحرّمة عند الشيعة:
أ. التقيّة في الدماء، كقتل المؤمن في مورد لا يستحقّ فيه القتل، والتقيّة هنا في قتله حرام وباطلة، وعلى المتّقي تحمّل القصاص، لأنّ المؤمنين تتكافأ دماؤهم، ووجوب حفظ دم أحدهما لا يوجب جعل دم الآخر منهما هدراً.
• عن الإمام الصادق عليه السّلام قال: إنّما جُعلت التقيّة ليُحقَن بها الدم، فإذا بلغت التقيّة الدمَ فلا تقيّة (232).
• وعن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: إنّما جُعلت التقيّة ليُحقنَ بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقيّة (233).
قال الشيخ المجلسيّ في بيانٍ له على الحديث الشريف: « إنّما جُعلت التقيّة » أيّ إنّما قُرِّرت؛ لئلاّ ينتهيَ آخِراً إلى إراقة الدم، وإن كان في أوّل الحال تجوز التقيّة لغيرها. أو المعنى أنّ العمدة في مصلحة التقيّة حفظُ النفس، فلا ينافي جواز التقيّة لغيره أيضاً كحفظ المال أو العرض. « فليس تقيّة » أي ليس هناك تقيّة، أو ليس ما يفعلونه تقيّة. ولا خلاف في أنّه لا تقيّةَ في معصومِ الدم، وإن ظنّ أنّه يُقتل إن لم يفعل... وقد يُحمَل الخبر على أنّ المعنى أنّ التقيّة لحفظ الدم، فإنّ علم أنّه يُقتل على كلّ حال، فلا تقيّة (234).
ب. التقية في الإفتاء، حيث يحرم إفتاء المجتهد بحرمةِ ما ليس بحرام، بذريعة التقيّة، خصوصاً إذا كان ذلك المجتهد ممّن يتّبعه عموم الناس، وأنّه لا يستطيع الرجوع عن فُتياه طيلة حياته، بحيث تبقى فُتياه مصدراً لعامة الناس ومورداً لعملهم. فهنا يجب الفرار من التقيّة بأيّ وجه، حتّى لو أدّى ترك التقيّة إلى قتله.
جـ. التقيّة في القضاء، كحكم القاضي المُوجب لقتل مسلم بريء، فالتقيّة في ذلك حرام. أو كأن يدفع القاضي بحكمه المخالف للحقّ ضرراً عن نفسه فيُوقعه ـ ظلماً ـ بالآخرين، وهذا باطلٌ ولا تجوز فيه التقيّة؛ لعدم جواز دفع الضرر عن النفس بإلحاقه بالغير.
وقد قال تعالى ـ منبِّهاً إلى خطورة الإفتاء والقضاء:
ومَن لم يَحكُمْ بما أنزلَ اللهُ فأُولئك همُ الكافرون (235).
ومَن لم يَحكُمْ بما أنزلَ اللهُ فأولئك همُ الظالمون (236).
ومَن لم يَحكُمْ بما أنزلَ اللهُ فأولئك همُ الفاسقون (237).
د. التقيّة المُفسدة، والتي تُؤدّي إلى فساد الدين أو المجتمع، فهي محرَّمٌ استخدامها لو كانت سبباً في هدم الإسلام أو النَّيل من قيمه وأحكامه المقدّسة، أو محو بعض آثاره الشريفة.
• قال الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: للتقيّة مواضع، مَن أزالها عن مواضعها لم تستقم له، وتفسير ما يُتّقى مثل أن يكون قومُ سوءٍ ظاهرُ حكمهم وفعلهم على غير حكم الحقّ وفعله، فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة ممّا لا يُؤدّي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز (238).
هـ. التقيّة بلا ضرورة، هي الأُخرى من موارد التقيّة المحرّمة، وتشمل التقيّة الخوفيّة أو الإكراهيّة بعد انتفاء سببَيهما من الخوف والاضطرار.
فالتقيّة في كلّ ما يُضطرّ إليه العبد، حلال مباح، وفي كل ما يُضطرّ إليه ابن آدم.. كما في الروايات. فيكون استعمالها في محلّها ووقتها ومناسبتها وحسب شروطها، وإلاّ حرمت كما حرم تركها في محلّها وعند توفّر شروطها ووجوبها.
• ففي الرواية أنّ الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام حَجَب جماعة من الشيعة، فلمّا سألوه عن ذلك بيّن لهم أسباب حجبهم.. وكان منها قوله سلام الله عليه: وتتّقون حيث لا تجب التقيّة، وتتركون التقيّة حيث لابدّ من التقيّة (239).
و. التقيّة في شرب الخمر، وبعض الموارد الأُخرى؛ لما ورد عن الإمام أبي عبدالله الصادق عليه السّلام قوله: إنّ تسعة أعشار الدين في التقيّة، ولا دينَ لمن لا تقيّة له، والتقيّة في كلّ شيء إلاّ في: النبيذ، والمسحِ على الخفَّين (240).
• وروى زرارة قال: قلت له: في مسح الخُفَّينِ تقيّة ؟ قال: ثلاثة لا أتّقي فيهنّ أحدا: شرب المُسكر، ومسح الخفَّين، ومتعة الحجّ (241).
قيل: لعدم وجود الحاجة الماسّة إلى التقيّة فيها، إلاّ نادراً. أو يكون نفي التقيّة في هذين الموردَين باعتبار رعاية زمان هذا الخطاب ومكانه وحال المخاطَب وعلمه عليه السّلام بأنّه لا يُضطَرّ إليهما.
وقد قيّد الفقهاء هذه الحرمة بما إذا لم يبلغ الخطرُ النفس، أمّا إذا خيف القتل عند الإكراه عليها فالتقيّة جائزة فيها هنا.

 

وقفةُ مصارحة

خلاصة هذه الأقسام ـ أيّها الأصدقاء ـ أنّه يُراعى في معرفتها نوعُ المصلحة المترتّبة على فعل التقيّة وتركها. فإذا كانت المصلحة ممّا يجب حفظها فالتقيّة فيها واجبة، وإذا كانت المصلحة مساوية لمصلحة ترك التقيّة كانت التقيّة جائزة، وإذا كان أحد الطرفين ـ النفع أو الضرر ـ راجحاً، فحكم التقيّة تابع للأرجح.
والتقيّة تبقى حُكماً ثابتاً تسالَمَ عليه أهلُ المذاهب الإسلاميّة جميعهم، وإن استعمله بعضهم ـ لظروفهم الخاصّة ـ أكثر من غيرهم بحكم الشرع الحنيف، إلاّ أنّها تبقى فريضةً في محلّها، كما ورد في قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض (242).
فلماذا نقبل عنوان ( المداراة )، ولا نقبل ( التقيّة المداراتيّة ) ؟! ولماذا نقرّ بالاضطرار حكماً شرعياً وبالإكراه والخوف فنستدل بـ « لا ضررَ ولا ضِرار » قاعدةً ثابتة، وبقوله تعالى: فمَنِ اضطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثمَ عليه آية محكَمة، ثمّ لا نُقرّ بـ ( التقيّة الاضطراريّة ) أو ( التقيّة الإكراهيّة ) أو ( التقيّة الخوفيّة ) ؟! ولماذا لا نناقشُ إثبات موضوع الكتمان وضرورة حفظ الإسرار، بينما نناقش دليل ( التقيّة الكتمانيّة ) ؟!
مع أنّها جميعاً عناوينُ وردت في كتاب الله وسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله، فنقرأ أحاديث في السرّ والكتمان كما نقرأ آيات فيهما.. ومنها قوله تعالى: يَكتُمُ إيمانَه ، ونقرأ أحاديث في الاضطرار والإكراه والحرج والضرر كما نقرأ آياتٍ في ذلك.. منها قوله جلّ وعلا: إلاّ مَن أُكرِهَ وقلبُهُ مُطمئنٌّ بالإيمان ، ونطالع أحاديثَ وأخباراً وافرة في المداراة وحسن المعاشرة كذلك نطالع آياتٍ عديدة في ذلك.. منها قوله عزّ مِن قائل: وقُولا له قولاً ليّناً خطاباً موجَّهاً إلى موسى وهارون عليهما السّلام كيف يتعاملان مع فرعون!
فلماذا المغالطة وقد اتّضحت حقائق التقيّة إن كنّا حقّاً طلاّب حقّ وحقيقة وعلم، ودعاةً إلى معرفة ودين وشريعة حقّة ؟!
• وأمّا التقسيم الثاني بلحاظ أركان التقيّة ( وهي: المتّقي، والمُتّقى منه، وما يُتّقى عليه، وما يُتّقى به ) فهو على هذا النحو:
1. تقيّة الفاعل.. وهو المتّقي، والتقيّة فيه بحسَبه، حيث ينبغي أن يقيّم هو تقيّتَه من الناحية الشرعيّة. وقد ورد عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السّلام قوله: التقيّة في كلّ ضرورة، وصاحبها أعلمُ بها حين تَنزِل به (243).
2. تقيّة القابل.. وهو المُتّقى منه، وينبغي معرفته من حيث مدى قدرته على تنفيذ تهديداته، فربّما كان عاجزاً فتسقط التقيّة معه. ومن حيث عقيدته ودينه، فلو كان كافراً وأجبر مسلماً على كلمة الكفر في بلاد الإسلام وكان يمكن التخلص منه بطلب النجدة من المسلمين، فلا تقيّة هنا.
وأمّا القسم الثالث من أقسام التقيّة بلحاظ الأسباب والأهداف، فيكون تقسيمه هكذا:
1. التقيّة الخوفيّة.
2. التقيّة الكتمانيّة.
3. التقيّة المداراتيّة.
4. التقيّة الإكراهيّة.

 

ختاماً

لم يكن المقياس في التقيّة هو الخوف على النفس دون الدِّين أو دون الغير، ولا طلب المصالح الشخصيّة على حساب العقيدة والمبدأ.. وإنّما المقياس تطبيق الأمر الإلهيّ وطلب مرضاة الله تبارك وتعالى، وصيانة نفوس المسلمين وأعراضهم وأموالهم، وحفظ كرامتهم واستقرارهم، ودفع شرور الأعداء عن حمى الإسلام وأهله.

-----------------

228 ـ معاني الأخبار 267.
229 ـ نهج البلاغة: الحكمة 401.
230 ـ نهج البلاغة: الحكمة 6.
231 ـ في هذا المورد تُراجَع « القواعد الفقهيّة » للبجنورديّ 47:5.
232 ـ وسائل الشيعة 383:11.
233 ـ الكافي 220:2 / ح 16 ـ باب التقيّة.
234 ـ بحار الأنوار 434:75.
235 ـ سورة المائدة:44.
236 ـ سورة المائدة:45.
237 ـ سورة المائدة:47.
238 ـ أُصول الكافي 168:2.
239 ـ وسائل الشيعة 470:11.
240 ـ الكافي 217:2 / ح 2 ـ باب التقيّة.
241 ـ وسائل الشيعة 469:11.
242 ـ الكافي 117:2.
243 ـ الكافي 174:2 / ح 13 ـ باب التقيّة.