بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
يؤكد جميع المسلمين على ضرورة عصمة الأنبياء، وهي من المسائل المتفق عليها لدى علماء المسلمين، إذ يعتقد جميعهم بأن أنبياء الله معصومون، وإنما اختلفت وجهات نظرهم بشأن جملة من التفاصيل التي سنشير إليها في معرض حديثنا.
يمكن أن نقول ـ كما سنرى من الآيات القرآنية وإجماع المتقدمين من علماء المسلمين ومتأخريهم ـ: إن موضوع عصمة الأنبياء حقيقة مفروغ منها ومتفق عليها، ومع كل ذلك يقول(كلدزيهر):(إن الاعتقاد بعصمة الأنبياء يتناقض ـ بدون شك ـ وآراء الطبقة الأولى من المسلمين، حيث إنهم سمعوا من لسان الرسول أنه اعترف بالخطأ وهو بحاجة إلى التوبة أيضاً)(1).
وقد خطأ مستشرق آخر خطوة أوسع، فادعى أن نظرية عصمة الأنبياء ابتدعتها الشيعة؛ ليبرروا بها فكرة عصمة أئمتهم(2).
إن أقوال هذين المستشرقين عارية من الصحة، ومغايرة للكتاب والسنة، ومخالفة لما تتفق عليه عامة المسلمين، ولا يستبعد أن تكون الغاية من أقوالهم هذه إثارة الفرقة والاختلاف بين المسلمين، والتشكيك في واحد من أهم أصولهم الاعتقادية، وما يتقوله گلذريهر بأن النبي قد اعترف بالخطأ له معنى آخر. وقد علاج الإسلام هذه المواقف ومواقف أخرى تماثلها بإسهاب وتفصيل سنتطرق له لاحقاً.
إن أصل فكرة عصمة الأنبياء له جذر قرآني، فقد ورد في عدة آيات وإن لم يصرح فيها بمصطلح العصمة كقوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم)(3). وقوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلاّ ذكرى للعالمين)(4).
وقوله تعالى:(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصد)(5).
ويمكن القول بأن مصطلح العصمة هو كغيره من المصطلحات الكلامية الأخرى التي استحدثت فيما بعد، وقد ورد بهذا المعنى في روايات نقلت عن أئمة أهل البيت المعصومين: كالرواية الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام)(6). وهي تدل على أن مصطلح العصمة كان شائعاً ومستعملاً عند المسلمين في عصر الإمام الصادق (عليه السلام)، وربما استعمل مصطلح التنزيه بدلاً منه في ذلك العصر أيضاً(7).
وقد استدل العلماء بأدلة مختلفة عقلية ونقلية، وعقلية نقلية في آن واحد لإثبات عصمة الأنبياء، وهنا لابد من الإشارة لبعض ما استدل به هؤلاء المتكلمون على
العصمة:
1 ـ لقد بُعث أنبياء الله تعالى ليبينوا للناس منافعهم، إذ لولاهم لما عرف الناس مصلحتهم ولما انتفعوا بها، وعلى هذا الأساس فإن بعثة الأنبياء بنفسها مصلحة كبرى للمجتمع، وقد ثبت أن الله سبحانه أوجب على نفسه ـ وفقاً لمقتضى اللطف ـ أن يؤدي كل مصلحة بأتم صورةٍ، ونحن نعلم: أن الأنبياء إذا كانوا معصومين فإن كلامهم سيكون أكثر تأثيراً، ويجد مكانه من القبول في النفوس، وتأسيساً على ذلك فإن الأنبياء ينبغي أن تكون لديهم هذه الحالة من العصمة(8).
2 ـ بما أن معجزات الأنبياء تدل على صدق دعواهم فإن ذلك يقتضي أن يكون الأنبياء معصومين من ارتكاب الكذب والذنب، فكما أن المعجزة تدل على نفي الكذب في تأدية الرسالة بدون واسطة فإنها كذلك تدل على نفي المعاصي بواسطة، علماً بأن النبي عندما يأتي بالمعجزة فذلك دليل على تأييد الله وتصديقه له، ولو قدر للنبي أن ينسب شيئاً إلى الله كذباً ـ لا سمح الله ـ فهذا يعني: أن الله يصدق ويؤيد الكاذب، وهذا قبيح بحد ذاته. وأما فيما يتعلق بسائر الذنوب التي لا تمت بالرسالة بصلة فنقول:
إن المعجزة تدل على أنه ينبغي أن يتبع النبي ويصدق في كلامه، ولما كان ارتكاب الذنب باعثاً على النفور عنه ولا يستطيع الإنسان أن يتبع إنساناً مرتكباً للخطيئة باطمئنان خاطر وراحة بال لذا فإن المعجزة تدل على نفي المعاصي عن الأنبياء بواسطة. وقد استدل السيد المرتضى ـ رحمه الله ـ بهذا الدليل المتقدم في كتبه الكلامية(9).
3 ـ لو قدر للأنبياء أن يبدر الذنب منهم فلا يصح ـ حينئذٍ ـ الاقتداء بهم في ارتكاب مثل هذا الذنب؛ لأن ارتكاب الذنب حرام، مع أن الاقتداء والتأسي بهم واجب بإجماع الأمة وبنص الآيات القرآنية.
4 ـ لو قدر أن يصدر ذنب عن الأنبياء فإن شهادتهم سترد في الأمور الاعتيادية، فكيف يمكن إذن قبولهم شهادتهم في أمر خطير كالاعتقاد بالله واليوم الآخر أو أمور الدين الأخرى مثلاً ؟ !
5 ـ لو قدر أن يصدر عن الأنبياء ذنب ما فالواجب عند ذلك يقتضي منعهم وزجرهم، وهذا يعد إيذاء لهم، ونحن نعلم: أن إيذاء النبي حرام بإجماع الأمة وبنص القرآن، ومستوجب للعنة الله. وهذه الأدلة الثلاثة الأخيرة ـ إضافة إلى أدلة أخرى ـ وردت في شرح المواقف(10).
6 ـ إن الغرض من بعثة الأنبياء لا يتحقق إلاّ بعصمتهم؛ لأنه لو احتمل قوم ما صدور الكذب أو الذنب عن النبي المبعوث إليهم فإنهم لا يركنون إليه ولا يطمئنون لكلامه، ولذا فإنهم لا يتبعونه.
وقد استدل الشيخ نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي والفاضل المقداد بهذا الدليل(11).
وإضافة إلى ما ورد أعلاه فقد ذكرت أدلة كثيرة على عصمة الأنبياء، فأعرضنا عن ذكرها هنا، وكان منها خمسة عشر دليلاً للفخر الرازي(12)، إلاّ أننا أوردنا أهمها.
موارد العصمة:
لقد نوهنا إلى أن جميع المسلمين متفقون على لزوم عصمة الأنبياء، والاختلاف كل الاختلاف يكمن في المسائل الجزئية، فطرحت الآراء حول نوع الذنب، وزمانه، وكيفية ارتكابه، وتضمنت هذه الآراء النقاط التالية:
1 ـ العصمة في المعتقد: وهو: أن لا يكون النبي مشركاً أو كافراً، وأن أحداً لم
يراوده الشك في هذه الحقيقة، سوى بعض الخوارج، فقد نقل عن ابن فورك وبعض الحشوية جواز بعث من كان كافراً(13).
2 ـ العصمة في تبليغ الرسالة: ولم يشك أحد في هذه النقطة أيضاً؛ لأن المعجزة تدل على صدق النبي، وبناء على ذلك فإن تجويز الكذب مساو لبطلان المعجزة. ونقل عن أبي بكر الباقلاني ـ وحده ـ جواز الكذب في أداء الرسالة إذا كان غير متعمد، وقد كفره بعض مؤلفي الملل والنحل بعد الإدلاء بهذا الرأي الغريب(14).
3 ـ العصمة في العمل بالأحكام: وهي كون الأنبياء مصونين عن ارتكاب الذنب والمعصية، ويكمن الاختلاف في تعيين أطرها وزمانها، فالشيعة يرون: أن الأنبياء منزهون عن ارتكاب الذنوب، صغائرها وكبائرها طيلة حياتهم، سواء قبل البعثة أو بعدها ، وهم لا يرتكبون الذنوب، لا عمداً ولا سهواً(15). وقد جوزت فرقة صغيرة ارتكاب كبائر الذنوب وصغائرها للأنبياء، سوى الكذب المتعمد أثناء الدعوة(16).
وممن قال بالجواز أيضاً هم: الحشوية، والكرامية، والباقلاني من الأشاعرة، إلاّ أن الأكثرية الساحقة من المعتزلة والأشاعرة يعتقدون أن الأنبياء معصومون عن الكبائر، ولكنهما يتفاوتان في الطريقة. فالمعتزلة يثبتون ذلك عن طريق العقل، إلاّ أن الأشاعرة ـ وكدأبهم ـ يستدلون على إثباته عن طريق السمع.
وأما فيما يتعلق بصغائر الذنوب: فأغلب المعتزلة ـ ومنهم: القاضي عبد الجبار ـ يذهبون إلى جواز صدور الذنب الصغير عنهم(17)، شريطة أن لا يكون باعثاً على
الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وآله.
أما أبو علي الجبائي فلا يجيز صدور الصغائر عن الأنبياء، إلاّ إذا كان سهواً، أو عن طريق الخطأ في التأويل(18).
أما الأشاعرة: فيعتقد أكثرهم بأن الكبائر والصغائر لا تصدر تعمداً عن الأنبياء.
ويقول البغدادي:(أجمع أصحابنا على أن الأنبياء بعد البعثة معصومون عن جميع الذنوب)(19).
ويقول الشهرستاني:( القول الصحيح: إن الأنبياء معصومون عن الذنوب الصغيرة كما أنهم معصومون عن الذنوب الكبيرة؛ لأن الصغائر لو تكررت تبدلت إلى كبائر)(20).
ويقول التفتازاني:(مذهبنا: أن الأنبياء لا يرتكبون الذنوب الكبيرة ولا الصغيرة عن عمد، ولو ارتكبوا الذنب الكبير سهواً فإنهم لا يصرون عليه وينتبهون إلى ذلك فوراً)(21).
أما أبو منصور الماتريدي: ـ وهو أحد أئمة الجمهور الذي يتفرد بأسلوب كلامي خاص به ـ فلا يرى جواز ارتكاب الأنبياء للصغائر، وقد ظهر ذلك في شرحه لكتاب أبي حنيفة الموسوم بـ(الفقه الأكبر) علماً بأن مؤلف الفقه الأكبر كان يعتقد بتنزيه الأنبياء كافة عن الصغائر والكبائر والقبائح والكفر(22).
وأما في ما يتعلق بزمان العصمة: فإن رجال الشيعة ـ وكما أسلفنا ـ يقولون
بعصمة الأنبياء، سواء قبل بعثتهم أو بعدها، إلاّ أن الأغلبية الساحقة من المعتزلة والأشاعرة ترى أن عصمة الأنبياء تتحقق فيهم بعد البعثة وتقول:
(إنه لا مانع من ارتكاب الأنبياء المعاصي قبل بلوغهم مقام النبوة أو الرسالة)(23).
وهذا الاختلاف في وجهات النظر ينعكس على أدلة العصمة أيضاً، لذا نرى أن أدلة المتكلمين من غير الشيعة لا تشمل العصمة قبل البعثة: كالدليل الثالث والرابع والخامس من الأدلة المذكورة في بداية البحث، لكن أدلة الشيعة على إثبات كون العصمة تشمل زمان ما قبل بعثة الأنبياء وما بعدها كالدليل الثاني(دليل النفور) والدليل السادس(دليل الركون والاطمئنان). وهناك أمر آخر ينبغي إضافته وهو: ما نسبه بعض مؤلفي كتب الملل والنحل: كالأشعري والبغدادي إلى هشام بن الحكم ـ أحد متكلمي الشيعة، ومن أجلاء أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) أنه لا يقول بعصمة الأنبياء مع اعتقاده بعصمة الأئمة !! وأنه قال: إن الأنبياء يوحى إليهم فينصلحون، أما الأئمة فلا يوحى إليهم(24).
ونحن لا نعلم بصحة وسقم ما نسب إلى هشام، إذ لم يرد في مصادر الشيعة ما يدل على ذلك، وإذا كان قد صدر عنه فعلاً فلابد من تبريره، والبحث عن محمل صحيح له، إذ أن الشيعة يعتقدون بضرورة عصمة الأنبياء، وهذا أصل مسلم به.
ولعل الأستاذ عبد الله نعمة أصاب حين قال:(إذا كان لابد من عصمة الأنبياء الذين يوحى إليهم وينبهون على ذنوبهم من خلال هذا الوحي إذن فالإمام الذي لا يوحى إليه يكون ـ من باب أولى ـ معصوماً، وبناء على ذلك فإن كلام هشام قيل في مقام الاستدلال على عصمة الأئمة، وورد على سبيل الافتراض فقط)(25).
حقيقة العصمة:
العصمة ـ كما يراها المتكلمون ـ هي: عبارة عن ظهور حالة خاصة تعتري شخصاً ما تحصنه من ارتكاب الذنوب على الإطلاق، ويكون معها مصاناً من الخطأ والزلل(26).
وهنا ينبغي أن نعرف ماهية الأسباب التي تؤدي إلى ظهور هذه الحالة لدى الشخص، وكيف يمكن للإنسان أن يصل إلى مرحلة لا يذنب معها ولا يصدر عنه خطأ أبداً ؟ وتوجد في هذا الصدد عدة نظريات أهمها:
1 ـ إن العصمة: هي ضرب من اللطف والموهبة الإلهية التي يخص بها بعض الناس، بحيث تحجبهم عن ارتكاب المعاصي، ولا تصل إلى درجة الإلزام والإجبار، فهذه الملكة ليست من القوة بحيث يمكنها أن تردع الشخص من ارتكاب الخطيئة.
يقول الشيخ الزنجاني:(العصمة: لطف يمتنع من يختص به عن فعل المعصية ولا يمنعه على وجه القهر)(27).
ويقول السيد المرتضى:( العصمة: هي لطف إلهي للعبد يمتنع معها عن اختيار فعل القبيح مع التمكن عليه)(28).
ويقول العلامة الحلي:( العصمة: هي لطف إلهي يخص به المكلف بحيث لا يكون هناك موجب لارتكاب المعصية وترك الطاعة بالرغم من تمكنه من ذلك)(29).
ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي:(يرى أصحابنا المعتزلة: أن العصمة لطف إلهي يمتنع المكلف بوجوده عن فعل القبيح مختاراً)(30).
ووفقاً لهذه النظريات فإن العصمة موهبة إلهية يفيضها على الشخص لما لديه من مؤهلات، إلاّ أن الاختيار في الوقت ذاته هو من قبل الشخص نفسه. وبعبارة أخرى: لا يوجد في ذلك الشخص موجب لارتكاب المعصية مع قدرته عليه.
2 ـ العصمة: هي نوع من المشيئة الإلهية، بحيث يمنح الباري ـ عز وجل ـ الأنبياء القدرة على الطاعة، ولم يمنحهم القدرة على ارتكاب المعصية، وهذه النظرية يقول بها الأشاعرة والجمهور، وفقاً لرأيهم في مسألة أفعال العباد فقد فسروا العصمة بهذا المعنى.
ويقول البغدادي:(إن عصمة الأنبياء ـ وفقاً لمبدأنا ـ لا يمكن أن تصح إلاّ حين نقول: إن الله أعطاهم القدرة على الطاعة، وسلبهم القدرة على المعصية)(31).
ويقول اللايجي:( إن حقيقة عصمة الأنبياء هي: أن الله لم يخلق في كيانهم المعصية)(32).
ويقول ابن أبي شريف:( إن العصمة: عبارة عن منح الله الأنبياء القدرة على الطاعة، بحيث لم يودع فيهم القدرة على المعصية)(33). ووفقاً لهذا الرأي فإن الأنبياء مكرهون على عدم ارتكاب الذنوب، وبناء على ذلك فإنهم غير جديرين بالمدح
والإثابة على أفعالهم.
أما الأشاعرة: فإنهم ـ وفقاً لعقيدتهم في مسألة الجبر والاختيار ـ وبالرغم من إيمانهم بالجبر لا ينكرون التكليف والثواب والعقاب، وهم يرون أيضاً: أن الأنبياء يستحقون الثواب والمدح في ترك المعاصي(34).
3 ـ العصمة: هي ملكة لا تصدر المعصية عن صاحبها، وقد نقل هذه النظرية عن الحكماء الشيخ نصير الدين الطوسي(35). وقد ورد في كلمات بعض المتكلمين: التعبير عن العصمة بالملكة، إلاّ أنهم قالوا:( إن هذه الملكة هي لطف إلهي)(36).
وتنحصر أسباب ظهور ملكة العصمة ـ باعتبارها لطفاً إلهياً ـ في النقاط التالية:
أ ـ أن تتوفر في نفس الشخص أو بدنه مؤهلات توجد فيه ملكة الامتناع عن الفجور.
ب ـ أن تتوفر لدى الشخص المعرفة بقبح الذنوب وحسن الطاعات.
ج ـ أن تتعزز هذه المعرفة بوحي الله وبيانه.
د ـ المتحلي بهذه الملكة يستحق اللوم إذا ما ترك الأولى(37).
وبالنظر لتعدد الآراء حول حقيقة العصمة التي لا يوجد فيما بينها أي اختلاف جذري نقطع: أن العصمة لا تسلب الاختيار عن الأنبياء، وهم ليسوا مرغمين على ترك المعاصي، بل هم يبلغون درجة من التقوى والكمال والعلم بحيث لا يجنحون معها إلى المعصية أبداً وإن كانوا قادرين عليها.
الذنوب المنسوبة إلى الأنبياء:
إن من أهم الأمور التي أثارت الإشكالات بشأن عصمة الأنبياء هو: ما ورد من التعابير القرآنية، والأحاديث التي لا ينسجم ظاهرها مع عصمة الأنبياء، ويبدو أنها تنسب ارتكاب الذنب للأنبياء !!
وقد أجيب عن هذه الإشكالات بإجابات متعددة ووجهات نظر متفاوته.
فقد قال أبو علي الجبائي:( إن الذنوب التي نسبت إلى الأنبياء هي من باب الخطأ في التأويل، ولا تنافي شأن العصمة، فمثلاً: أن أكل آدم من الشجرة المنهي عنه كان لتصوره أنه نهي عن تناول شجرة خاصة بعينها، ولكنه كان قد نهي عن نوع تلك الشجرة، لا عن الشجرة نفسها، والنهي كان يشمل الشجرة التي أكل منها آدم)(38).
وقال النظام وأتباعه:( إن الذنوب المنسوبة إلى الأنبياء هي ما تبدر منهم سهوراً وغفلةُ، ولا يتنافى ذلك وعصمتهم)(39).
وأما الأشاعرة: فيعتقدون أن هذه الذنوب: إما أن تكون قد صدرت عن الأنبياء قبل بعثتهم، أو هي من قبيل ترك الأولى، أو أنها ذنوب صغيرة صدرت عنهم سهوا)(40). وبناء على ذلك نلاحظ: أن أصل وقوع المعصية أو الذنب من قبل الأنبياء قد عد من المسلمات في جميع الإجابات، وغاية ما في الأمر: أنهم أوردوا محامل تتناسب وآرائهم في أصل المسألة، إلاّ أنه وفقاً لعقيدة الشيعة فإن هذه المحامل تتناسب وآرائهم في أصل المسألة، إلاّ أنه وفقاً لعقيدة الشيعة فإن هذه المحامل لا يعتد بها؛ لأن الشيعة يعتقدون بنفي صدور الذنب ووقوع المعصية من قبل الأنبياء، سواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها، لا عمداً ولا سهواً، ولا خطأ في التأويل.
ولذا فإن رأي الشيعة بالنسبة لما نسب من الذنوب إلى الأنبياء هو:أن الأنبياء
لم يخالفوا الأمر الرباني في مثل هذه الحالات ليتنافى ذلك وعصمتهم، بل المخالفة إن بدرت منهم فهي مخالفة للأمر الإرشادي، وهي لا تعد معصية، وهم في الواقع ربما اختاروا الحسن من بين أمرين: أحدهما حسن، والآخر أحسن منه، وهذا الأمر لا يعد معصية قطعاً، وإن اعتبر كذلك فإنما مقارنة لشأنهم الرفيع، لكنها ليست معصية تتعارض مع مقام عصمتهم طبعاً(41).
وقد عالج المتكلمون حالات عديدة تتنافى وعصمة الأنبياء ظاهراً، ولا سيما أكل آدم من الشجرة المنهي عنها، وما صدر عن الأنبياء من حكم وقضاء بين المتخاصمين والمشار إليها في القرآن الكريم، وما نسب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في القرآن من التعبير بالذنب. وقد عالج المتكلمون كل ذلك وأجابوا عنه بوجوه متعددة.
وإضافة إلى الكتب الكلامية والتفسيرية فقد كتبت كتب خاصة في هذا الشأن نذكر منها كتابين:
الأول: تنزيه الأنبياء الذي ألفه المتكلم الشيعي المعروف: السيد المرتضى والمعروف بـ(علم الهدى).
والثاني: عصمة الأنبياء للفخر الرازي، وهو من كبار علماء الجمهور وأبرز متكلميهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
______________________
1 ـ كلدزيهر في العقيد والشريعة: 208.
2 ـ رونالدسن في عقيدة الشيعة: 328.
3 ـ البقرة: 119.
4 ـ الأنعام: 90.
5 ـ الجن: 26.
6 ـ المجلسي في بحار الأنوار 12: 348.
7 ـ الإمام أبو حنيفة، الفقه الأكبر: 5.
8 ـ القاضي عبد الجبار، المغني 15: 302.
9 ـ السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء: 3.
10 ـ اللايجي، والجرجاني، شرح المواقف 8: 265.
11 ـ نصير الدين الطوسي، والعلامة الحلي، كشف المراد: 349، والفاضل، المقداد، إرشاد الطالبين: 302.
12 ـ الفخر الرازي، عصمة الأنبياء: 19.
13 ـ الجرجاني، شرح المواقف 8: 264، والفاضل المقداد، إرشاد الطالبين: 303.
14 ـ ابن حزم الأندلسي، الفصل 4: 5
15 ـ السيد المرتضى، الذخيرة: 328، والاقتصاد الهادي: 161، والعلامة الحلي، كشف المراد: 349.
16 ـ الفخر الرازي، عصمة الأنبياء: 18، وابن حزم، الفصل 4: 5.
17 ـ القاضي عبد الجبار، المغني 15: 309.
18 ـ الجرجاني، شرح المواقف 8: 265، والمغني 15: 310.
19 ـ البغدادي، أصول الدين: 178.
20 ـ الشهرستاني، نهاية الأقدام: 445.
21 ـ التفتازاني، شرح المقاصد 2 : 193.
22 ـ الماتريدي، شرح الفقه الأكبر: 22.
23 ـ الجرجاني، شرح المواقف 8: 265.
24 ـ أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين 1: 116، والبغدادي، الفرق بين الفرق: 343.
25 ـ عبد الله نعمة كتابه: هشام بن الحكم: 303.
26 ـ العصمة: مشتقة من: عصم، ومعناها في اللغة: الدفع والامتناع.(العين 1: 313)، أو بمعنى المنع والحفظ(صحاح اللغة: 5: 1986) أو بمعنى القلادة.(القاموس المحيط 4: 150). ويمكن القول: إن العصمة في اللغة ترجع إلى معنى واحد وهو: المنع والحفظ، والمعاني الأخرى مشتقة من هذا المعنى أيضاً وقد صرح بعض المهتمين باللغة بان العصمة أصلها المنع في كلام العرب.(تاج العروس 8: 398، ولسان العرب 9: 244). وأوضح من كل ما ذكرناه ما قاله ابن فارس: بأن عصم له معنى واحد يدل على المنع والإمساك، وإنما سمي حبل الدلو عصاماً لأنة يحفظها من السقوط في البئر.(مقاييس اللغة 4: 331).
27 ـ الشيخ المفيد، أوائل المقالات: هامش 29.
28 ـ السيد المرتضى، الأمالي 2: 347.
29 ـ العلامة الحلي، أنوار الملكوت: 96.
30 ـ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 7: 8.
31 ـ البغدادي، أصول الدين: 169.
32 ـ اللايجي والجرجاني، شرح المواقف 8: 280.
33 ـ ابن أبي شريف، المسارة بشرح المسايرة: 228.
34 ـ الجرجاني، شرح المواقف 8: 281.
35 ـ نصير الدين الطوسي، نقد المحصل: 318.
36 ـ الفاضل المقداد، الإرشاد: 302.
37 ـ الفخر الرازي، محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين: 38.
38 ـ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 7: 12.
39 ـ السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء: 8.
40 ـ التفتازاني، شرح المقاصد 2: 194.
41 ـ بحار الأنوار 11: 91.