الشفاعة في نظام التكوين
  • عنوان المقال: الشفاعة في نظام التكوين
  • الکاتب: السيد كمال الحيدري
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 10:19:46 2-9-1403

من الحقائق التي أثبتها القرآن أنّه ما من حياة وموت ورزق وعطاء ومنع وحوادث أخرى علوية سماوية أو سفلية أرضية إلاّ ولها أسباب طبيعية. وهذا ما تثبته ضرورة العقل الفلسفي أن النظام الكوني قائم على أساس سلسلة الأسباب والمسبّبات وارتباط كلّ ظاهرة من الظواهر الكونية بعلّة وسبب، كما تعتمد عليه الأبحاث العلمية في استدلالاتها، حيث تعلّل الحوادث والأمور المربوطة بها بما تجده من أمور أخرى صالحة للتعليل. وهذا ما فُطر الإنسان عليه حيث يعتقد أنّ لكلّ حادث مادّي علّة توجبه، من غير تردّد وارتياب. ولا نعني بالسبب والعلّة إلاّ أن يكون هناك أمر واحد أو مجموع أمور إذا تحقّقت في الطبيعة مثلاً تحقّق عندها أمر آخر نسمّيه المعلول والمسبَّب. وهذا ما يثبته الاستقراء ومنطق الاحتمال أيضاً، حيث نرى أنّه كلّما تحقّق احتراق مثلاً لزم أن يتحقّق هناك علّة موجبة له من نار أو حركة أو اصطكاك أو نحو ذلك؛ من هنا كانت الكلّية وعدم التخلّف من أحكام قانون العليّة والمعلولية ولوازمهما. ولكن جميع ذلك إنّما هو بإذن الله تعالى. والمقصود من الإذن الإلهي هو أنّ عمل الأسباب وتأثيرها إنّما هو بإقدار الله لها حدوثاً وبقاءً؛ قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لعباية بن ربعي الأسدي عندما سأله عن الاستطاعة: (إنّك سألت عن الاستطاعة، فهل تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية، فقال له الإمام (عليه السلام): قل يا عباية، فقال عباية: فما أقول يا أمير المؤمنين؟

لقد صار عباية في موقف حرج لأنّه إن قال أنّه يملكها مع الله فهو الشرك وإن قال يملكها من دون الله فهو الاستقلال، عندئذ علّمه أمير المؤمنين؛ قال: تقول: إنّك تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن ملّكك إيّاها كان ذلك من عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، فهو المالك لما ملّكك والقادر على ما عليه أقدرك).

إذن فنظام السببية قائم فاعل في الوجود، والرابطة ضرورية بين العلّة والمعلول والسبب والمسبّب، لكن هذه القوانين والعلائق الضرورية لا تعمل على نحو الاستقلال كما تعمل الأربعة بالنسبة إلى الزوجية، بل بما أفاده الله عليها من الضرورة، وبذلك لا يمكن أن تكون هذه القوانين معزولة عن الله، بل هي بحاجة إليه حدوثاً وبقاءً، كما لا يمكن أن تكون أيضاً حاكمة عليه، كيف وهو سبحانه الموجد والمُبقي لها الغالب عليها المالك على الإطلاق. عن هذه الحقيقة يكتب الطباطبائي في تفسيره: (وقد بيّن القرآن الشريف على ما يُفهَم من ظواهره قوانين عامّة كثيرة في المبدأ والمعاد وما رتّبه الله تعالى من أمر السعادة والشقاوة ثُمّ خاطب النبيّ صلى الله عليه وآله بقوله: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: 89). لكنّها جميعاً قوانين كلية ضرورية، إلاّ أنّها ضرورية لا في أنفسها وباقتضاء من ذواتها، بل بما أفاده الله سبحانه عليها من الضرورة واللزوم، وإذا كانت هذه الحكومة العقلية القطعية من جهته تعالى وبأمره وإرادته، فمن البيّن أن فعله تعالى لا يجبره تعالى على مؤدّى نفسه، ولا يغلبه في ذاته، فهو سبحانه القاهر الغالب، فكيف يغلبه ما ينتهي إليه تعالى من كلّ جهة ويفتقر إليه في عينه وأثره (ذاته وفعله).

فمن المحال أن يكون العقل الذي يحكم بما يحكم بإفاضة الله ذلك عليه أو تكون الحقائق التي إنّما وجدت أحكامها وآثارها به تعالى، حاكمة عليه تعالى مقتضية منه بالحكم والاقتضاء اللذين هو المُبقي لهما القاهر عليهما. وبعبارة أخرى: ما في الأشياء من اقتضاء وحكم إنّما هو أثر التمليك الذي ملّكه الله إياها، ولا معنى لأن يملك شئ بالملك الذي ملّكه الله بعينه منه تعالى شيئاً، فهو تعالى مالك على الإطلاق غير مملوك بوجه من الوجوه أصلاً).

ولأجل ذلك اتّفقت كلمة الفلاسفة والمتكلّمين إلا من شذّ من المعتزلة على أنّه لا مؤثّر مستقلّ في الوجود إلا الله تعالى، وأنّ غيره مفتقر في الوجود والتأثير إليه سبحانه، ضرورة أنّها لو كانت هذه الأسباب والفواعل الطبيعية مستقلّة في التأثير، للزم أن تكون مستقلّة في الوجود أيضاً؛ لبداهة أن الاستقلال في العلّية فرع الاستقلال في الوجود، ولو سلّمنا الاستقلال في التأثير فلا محالة قد سلّمنا قبله الاستقلال في الذات، وهو يساوق كون الشي‏ء واجباً غنياً عن العلّة، وقد فرض أنّه ليس كذلك، هذا خلف.

وهذه هي نظرية الإمكان والفقر الوجودي للفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي، حيث أثبت من خلال تحليل مبدأ العلّية أن حقيقة الأشياء الخارجية هي عين التعلّق والارتباط، لا أنّها متّصفة بالفقر والحاجة.

 

ولعلّ جملة من الآيات القرآنية تثبت هذه الحقيقة؛ قال تعالى:

( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر: 15) حيث قصرت الآية الفقر فيهم وقصرت الغنى فيه سبحانه، فكلّ الفقر فيهم وكلّ الغنى فيه سبحانه، وإذا كان الغنى والفقر وهما الوجدان والفقدان متقابلين لا يرتفعان عن موضوعهما، كان لازم القصر السابق قصر آخر وهو قصرهم في الفقر وقصره تعالى في الغنى، فليس لهم إلاّ الفقر وليس له تعالى إلاّ الغنى. فالله سبحانه غنيّ بالذات له أن يذهبهم ويستغني عنهم، وهم فقراء بالذات ليس لهم أن يستغنوا عنه بغيره.

وهذه هي نظرية مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في الفواعل الطبيعية، حيث آمنت أن هناك طولية في الفاعلية، ولعلّ هذا ما يقتضيه الجمع بين الآيات، فالله سبحانه أوجد بعض الأفعال مباشرة وبلا واسطة، وبعضاً أوجدها مع الواسطة، بالمعنى الذي يفيد أنّ لهذه الواسطة أثراً في إيجاد الفعل لكن بإقدار الله، وهذا الإقدار لا يستقلّ بالأثر، بل هو محتاج إليه سبحانه حدوثاً وبقاءً. فالله جلّ جلاله لا يمنح القدرة للسبب الطبيعي ثُمّ ينعزل، بل تتّسم العلاقة بالدوام، لأنّ ذلك السبب قائم به حدوثاً وبقاءً ككلّ شي‏ء في نظام عالم الوجود الإمكاني، وهذا معنى أنّه تعالى (حيّ قيّوم).

في ضوء هذه الحقيقة استعمل القرآن الشفاعة في مورد التكوين، وأراد بها توسّط العلل والأسباب بينه تعالى وبين مسبّباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها. فكلّ سبب من الأسباب يشفع عند الله لمسبّبه بالتمسّك بصفات فضله وجوده لإيصال نعمة الوجود إلى مسبّبه، فنظام السببية بعينه ينطبق على نظام الشفاعة.