الإمام الصادق والمعارف الجعفرية (الشيعية)
  • عنوان المقال: الإمام الصادق والمعارف الجعفرية (الشيعية)
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 13:43:1 3-9-1403

الإمام الصادق والمعارف الجعفرية (الشيعية)

   أسدى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) خدمة للشيعة من ناحيتين، أولاهما أنه اهتم بتعليم أتباعه اهتماماً كبيراً، ولم يقتصر على العلوم القرآنية، بل أضاف إليها علوماً زمنية مثل الرياضيات والفيزياء والجغرافيا والنجوم والهيئة والتاريخ والحكمة. وتخرج على يديه ومن مدرسته عدد غير قليل من أفذاذ العلماء. ومن هنا يصح القول بأن الإمام جعفراً الصادق (عليه السلام) بنى الثقافة الشيعية وأوضح معالمها.

   وبفضل المعارف الشيعية أو الجعفرية ساد المذهب الشيعي وعاش، وهذه بديهية، لأن الثقافة هي أساس المجتمعات البشرية وسر بقائها واستمرارها، والمجتمع اليوناني بقي إلى يومنا هذا لأنه كان ذا ثقافة رصينة منذ القديم، في حين أن أقواماً كثيرة اختفت ولم تترك أثراً يذكر لافتقارها إلى ثقافة متينة أصيلة.

ولم تتح للأئمة قبل الإمام الصادق (عليه السلام) أن يؤسسوا مدرسة علمية كمدرسته، وذلك لأسباب شتى، أهمها الضغوط السياسية من جانب الخلفاء والسلطة الحاكمة واسترابة السلطة في تحركاتهم وأنشطتهم.

   أما الصادق (عليه السلام) فقد كان يعرف أن الشيعة تحتاج إلى مدرسة علمية قوية تكفل لها الصمود أمام التيارات المنحرفة، وتجعلها بمنأى عن التأثر بوفاة هذا أو مجيء ذاك. ومنذ اليوم الأول لقيام الصادق (عليه السلام) بالتدريس، وضع لنفسه أهدافاً معينة يتوخاها، أهمها تأسيس مدرسة علمية وإقامة ثقافة شيعية رصينة تتمثل في (المعارف الجعفرية)، لثقته من أن بقاء الشيعة رهن بما يتوافر لها من علم وثقافة.

   وهذا يدل على أن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لم يكن عبقرياً في العلم وحده، بل كان أيضاً عبقرياً في السياسة، وكان يدرك أن إيجاد مدرسة علمية شيعية من شأنه الحفاظ على الكيان الشيعي أكثر من أي قوة عسكرية. فالقوة العسكرية وإن عزت عرضة لأن تدمرها قوة أكبر منها، أما المدرسة العلمية التي تنشر الثقافة المتعمقة فتبقى ما بقي الدهر وكان يرى أن من تمام الصواب الإسراع بإنشاء هذه المدرسة لمواجهة الانحرافات المذهبية والتيارات الفكرية غير الإسلامية التي بدأت منذ عصر الإمام تهدد العالم الإسلامي وتهزه هزاً. ولئن كانت الشيعة فقدت المنهل الرئيسي لاغتراف المعارف بعد الإمام الثاني عشر، فقد بقيت تواصل حياتها الثقافية دون أن تكون لها مراكز دينية يشرف عليها عالم ديني، كما هو الشأن في كنائس الغرب. وإنما الفضل في هذا راجع إلى مدرسة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) العلمية، والإشعاع الفكري الذي تركته لدى الشيعة.

   واليوم، وقد انقضى نحو ثلاثة عشر قرناً على عصر الإمام الصادق (عليه السلام)، لم تعد للشيعة أجهزة نظامية دينية تشرف على التعليم والأنشطة الدينية، شأن الكنيسة الكاثوليكية مثلاً(1)، ولكنها مع ذلك استطاعت بفضل مدرسة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أن تطاول الدهر وتنهض بنشاط علمي ملموس، ولها من الآثار العلمية ما يكفل لها البقاء دهراً طويلاً.

   صحيح أن العلماء الذين جاءوا بعد الإمام الصادق (عليه السلام) اضطلعوا بدور كبير في توسيع المعارف الجعفرية ونشرها، بما صنفوه من أبحاث ودراسات ومؤلفات نفيسة، ولكن الفضل في تأسيس هذه المدرسة وإرساء قواعدها ومعالمها يرجع دائماً إلى الإمام الصادق (عليه السلام) الذي حث الشيعة على الاغتراف من المعارف والثقافة الشيعية، وأمرهم بنشر هذه الثقافة وإذاعتها قائلاً لهم: إن لم تكونوا حملة العلم وناشريه بين الناس، فكونوا حفظة له.

   وفي الوسع القول بأن الاهتمام بالمذهب الديني أمر مألوف عند جميع رجال الدين من مختلف الديانات والمذاهب، ولا يقتصر على الشيعة وحدهم، ولكن هناك فارقاً جوهرياً بين هؤلاء وأولئك، فرجال الدين الآخرون ينصب اهتمامهم على حفظ الأصول والسنن المذهبية وصونها، في حين أن الشيعة يهتمون بتوسيع ثقافة المذهب.

وبعد ألف وخمسمائة سنة من إنشاء أول دير أرثوذكسي في جبل آثوس اليوناني، ما زال الرهبان يرددون نفس الأناشيد والتراتيل الدينية ويقومون بنفس الطقوس عند العبادة، دون أن يطرأ عليها أدنى تغيير طوال هذه السنوات الألف والخمسمائة.

   يقابل هذا أن الثقافة والمعارف الجعفرية ما انفكت في نشاط متصل وتوسع مستمر، حتى وإن مرت بالتاريخ الشيعي فترات كساد عارضة كانت لا تلبث أن تزول، وتعود هذه المعارف إلى النشاط بسرعة أكبر، وتاريخ هذا المذهب يشهد لعلماء الشيعة العظام بأنهم اجتهدوا بمؤلفاتهم وأبحاثهم النفيسة في أن يثروا المعارف والثقافة الشيعية(2).

وقد عرفت الكنيسة الأرثوذكسية في أنطاكية عصوراً ذهبية في القرن الثاني الميلادي، إلا أنها أصيبت بعد ذلك وإلى يومنا الحاضر، أي قرابة ألف وثمانمائة عام، بجمود في ثقافتها وافتقار إلى إمارة التجديد فيها، مع أن هذا المذهب من أقدم المذاهب المسيحية ومن أكثرها أصالة.

   فلم اختلفت الكنيسة الأرثوذكسية اليوم عما كانت عليه قبل ألف وثمانمائة عام في أنطاكية؟

   لقد عقد أساقفة الأرثوذكس المرة بعد المرة مؤتمرات عالمية لتبادل الرأي في أمور الكنيسة شهدها أساقفة من جميع أنحاء العالم، ومع ذلك لم يخرج أي مؤتمر منها بقوانين جديدة أو أنظمة حديثة تثري هذا المذهب.

   أما عن الكاثوليك، فقد قال الباحث الفرنسي الشهير دانيل روبز(3) صاحب كتابي (يسوع في عصره) و(تاريخ كنيسة المسيح)، إن الثقافة الكاثوليكية ظلت طوال ألف سنة في ركود شامل، ولم يضف إليها أي جديد، واقتصر قساوستها على حفظ الشعائر والإبقاء على التقاليد المتواترة.

   وقد تحقق هذا الباحث من أن الثقافة الدينية للكاثوليك في القرن السادس عشر كانت هي نفس ثقافتهم الدينية في القرن السادس الميلادي، وهي فترة طويلة ظهر فيها رهبان وراهبات وقسيسون عظام سجل التاريخ لنا أسماءهم وسيرهم، ولكن أحداً منهم لم يضف إلى الثقافة الكاثوليكية شيئاً يذكر. في حين أن عصر النهضة (الرينسانس) كان عصراً لنهضة العلوم والثقافة والفنون في أوروبا، كما كان عصر نهضة للكنيسة الكاثوليكية التي ظهر فيها رجال عظام صنفوا الكتب ووضعوا البحوث فاغتنت الثقافة الكاثوليكية، وحرصت على نشرها وإذاعتها على نطاق واسع.

   ولم يقتصر دور التأليف على رجال الدين وحدهم، بل اضطلع بالتأليف الديني أساتذة وباحثون آخرون تناولوا المذهب الكاثوليكي بالدراسة والشرح، ومنهم دانيل روبز الذي أشرنا إليه آنفاً، وهو باحث ومؤرخ فرنسي من غير رجال الدين أو القساوسة، وقد ألف طائفة من الكتب حول تاريخ المسيح والمسيحية وعمل جاهداً على نشر الثقافة الكاثوليكية.

   وقل أن تجد بيتاً في أوربا اللاتينية (فرنسا وإيطاليا وإسبانيا) دون أن تجد فيه ولو كتاباً واحداً لروبز مترجماً إلى لغة هذه الدولة الأوربية أو تلك.

   ومن أولئك الباحثين أيضاً الفيلسوف الفرنسي المعروف (ارنست رينان)(4) الذي عاش في القرن التاسع عشر الميلادي، وألف كتابه الشهير عن حياة المسيح الذي يعد من أهم الكتب الدينية في العالم الكاثوليكي، وهو بدوره لم يكن من رجال الدين أو القساوسة، كما أن تفكيره الفلسفي أفقده عطف قساوسة الكاثوليك، ومع ذلك، يعتبر كتابه هذا مساهمة جليلة في نشر المذهب الكاثوليكي.

   وجدير بالذكر أن الكنائس التي كانت تابعة للمذهبين الأرثوذكسي والكاثوليكي كانت تتمتع بثروة طائلة منذ القديم. وبمضي الوقت، تناقصت ثروة الكنيسة الأرثوذكسية، بينما تعاظمت ثروة الكنيسة الكاثوليكية حتى أصبحت اليوم من أغنى الأنظمة الدينية العالمية. ويقال إن ثروة الكنيسة الكاثوليكية، وعاصمتها (الفاتيكان) في روما تقدر اليوم بمائة ألف مليون دولار، وهو رقم تتواضع أمامه رؤوس أموال كثير من المؤسسات الاقتصادية والبنوك العالمية.

   ومع أن هذه الثروة المتعاظمة كانت رهن الكنيسة الكاثوليكية منذ عصور خلت، إلا أنها لم تستخدمها هي والإمكانيات المادية الضخمة المتوافرة لديها في النهوض بنشر المعارف الكاثوليكية طوال ألف سنة.

   أما الشيعة، فلئن لم يكن لديهم مركز ديني رئيسي أو تنظيم سياسي اجتماعي يساعد على نشر المعارف الشيعية، فقد اضطلع علماؤهم وباحثوهم مع جزء يسير أو حتى دون إمكانيات مادية بدور كبير في نشر هذه المعارف، باستثناء فترات الاضطراب السياسي، ولا بد من التوضيح هنا بأن رجال الدين في المذاهب المختلفة لم يكونوا فيما مضى ناشطين واحداً واحداً في نشر الثقافة الدينية وإذاعتها، وإنما نشط البعض وقعد البعض الآخر.

   أما في القرن العشرين الحالي، فنحن تلقاء نشاط ملموس لدى مختلف الأديان والمذاهب للدعاية والنشر، وإن كان المذهبان المسيحيان الرئيسيان، وهما الأرثوذكسي والكاثوليكي قد قعدا في الماضي عن دعم الثقافة المسيحية ونشرها، إن تشجيع النشاط الفكري الديني قد يفتح الباب أمام دخول البدعة إلى المذهب.

   ثم إن التزام زعماء المذهب الكاثوليكي بسياسة التحفظ في نشر الثقافة الدينية أو الامتناع البات عن نشرها على مدى ألف عام، أصبح أساساً مذهبياً عندهم يستحيل التخلص منه.

وإذا كان عصر النهضة الكاثوليكي قد بدأ منذ أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، فإن نهضة الشيعة قد بدأت بعصر الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في القرن السابع الميلادي (الثاني الهجري)، إذ أن الإمام (عليه السلام) أيقظ في مفكري الشيعة روح الاهتمام بنشر المعارف بعامة والجعفرية بخاصة، كل حسب طاقته الفكرية وقدراته العلمية، ثقة منه بأن الضمان الوحيد لبقاء الشيعة هو انتشار معارفها.

   ومعروف أن الشيعة في عصر الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لم تكن تستند إلى قوة مادية أو نفوذ سياسي يكفلان لها البقاء.

   فلم يكن المجتمع الشيعي في شبه الجزيرة العربية يخرج في اهتمامه عن الأسرة أو المجتمعات الصغيرة التي ينتمي إليها، وهي مجتمعات ليس لها من التنظيم السياسي أو النفوذ الأدبي ما يستطيع بها مواجهة الحكم الأموي.

   وكان من رأي الإمام أنه ما لم تتوافر للشيعة قوة سياسية وسلطة مقيمة كافية، فلن تستطيع أن تحقق لنفسها موقعاً سياسياً ممتازاً، وارتأى أن أفضل طريق تسلكه هو نشر الثقافة وعلوم أهل البيت النبوي (عليه السلام)، وتمكين الناس من الاغتراف من هذا المنبع والارتواء منه، فسبق الصادق (عليه السلام) بذلك علماء الديانات الأخرى الذين قعدوا عن إنشاء مراكز ثقافية أو فكرية لها ولم يحفلوا بنشر ثقافتهم الدينية أو دعمها.

   صحيح أن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لم يؤسس للشيعة بابوية دينية كالكنيسة، فمثل هذا التنظيم كان بعيداً عن تفكير العرب في تلك الفترة، ولكنه أرسى أسساً أكاديمية(5) علمية عجزت المسيحية طوال القرون وعبر أجهزتها وتنظيماتها العظيمة عن أن تصنع مثلها.

   فضلاً عن أن المسيحية بمذهبيها الأرثوذكسي والكاثوليكي قد نقلت التنظيم الكنسي عن الأنظمة الرومانية القديمة.

   أما التنظيم الثقافي الذي أبدعه الإمام الصادق (عليه السلام)، فقد كان بحق أكاديمية للبحث العلمي الحر، ولا سيما في الأمور الفكرية، كما ولا بد من التأكيد هنا بأن حرية البحث والفكر في مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) لم تتوافر في أي مدرسة دينية سواها.

الهوامش:

1 - وذلك صحيح بالرغم من وجود دولة شيعية تعتمد الإسلام والتشيع نظام إدارة ومنهج تنظيم.

2 - والثقافة عامة.

3 - دانييل روبز (Daniel Rops) 1901ـ 1965م أديب فرنسي، اسمه الحقيقي هنري بينو. كتب في القصة، ثم انصرف إلى تأليف الكتب التاريخية والدينية ومن أشهرها: (يسوع في عصره) الذي صدر عام 1945 و(تاريخ كنيسة المسيح).

4 - رنست رينان (Renan) 1823ـ 1892 فيلسوف وعالم آثار فرنسي عمل في التنقيب عن الآثار في لبنان وفلسطين. أهم كتبه (حياة يسوع). وله نظريات هامة في الانثروبولوجيا والتاريخ الطبيعي وفلسفة التاريخ.

5 - الأكاديمية لفظة تعني منهجاً تعليمياً منتظماً ـكما هو لحال في الدراسة الجامعية وقد أخذت اللفظة من أصل يوناني نسبة إلى الأكاديمية Academic مدرسة فلسفية أسسها أفلاطون في بساتين أكاديمس بالقرب من أثينا، وكان تلامذته يواصلون البحث والتدريس في هذه المدرسة التي ظلت من سنة 387 ق.م إلى سنة 592 ميلادية ـأي طوال 979 سنةـ مدرسة علمية نشطة. فلما جاء جستينيان إمبراطور بيزنطة (رومية الصغرى) احتل اليونان وعطل هذه المدرسة، (والإمبراطور جستنيان هو الذي أسس كنيسة أيا صوفيا وهو الذي جمع القوانين المدنية ودونها فاشتهرت باسمه، وقد نقل الفقيه المصري الدكتور عبد العزيز فهمي باشا (مدونة جستينيان) إلى اللغة العربي بتكليف من الدكتور طه حسين) ومنذ ذلك الحين، صار اسم الأكاديمية يطلق على بعض المجامع العلمية والمعاهد الأدبية، ومنه الأكاديمية الفرنسية التي أسسها ريشيليو في عام 1635م وعهد إليها في وضع قاموس للغة الفرنسية، ومنها الأكاديمية البريطانية في لندن المعنية بتشجيع دراسة التاريخ والفلسفة.