في الخامس والعشرين من شهر شوال سنة 148 هـ
لقبه(ع): الصادق ـ الفاضل ـ الطاهر ـ الكافل ـ الصابر.
كنيته(ع): أبو عبد الله ـ أبو إسماعيل ـ أبو موسى.
ولادته(ع): ولد سنة 83هـ في 17ربيع الأول في المدينة.
دروس من الأخلاق العملية للإمام الصادق (ع)
الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) فرع كبير مشرق من تلك الدوحة النبوية الكريمة الباسقة . . . غرف من بحور مدينة علم جده الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) وآبائه الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وزانه الله تعالى بعظيم الخلق وأنبل السجايا والصفات ، فكان في زمانه قبلة أنظار أهل العلم والدارسين، وقدوة المتقين السالكين، وما زالت آثاره الخالدة ومآثره الطيبة تشع نوراً وهدى على مدى الأجيال.
وحسبنا ونحن نضيء هذه الصفحات القليلة بقبس من جذوة عطائه الجمّ ، أن نتعرّف على بعض سجاياه وتعاليمه، مما نقلته إلينا الكتب من روايات كثيرة تكشف عمّا أراد الإمام (عليه السلام) أن يؤدب به أصحابه وأهل الإيمان، مقتصرين على نبذة يسيرة من الروايات المتضمنة العديد من دروس الأخلاق العملية.
أخلاقه (ع) مع أهل مجلسه
روي أنه كان يجلس للعامة والخاصة ، ويأتيه الناس من الأقطار يسألونه عن الحلال والحرام، وعن تأويل القرآن وفصل الخطاب، فلا يخرج أحد منهم إلاّ راضياً بالجواب.
وروي عن أبي هارون مولى آل جعدة أنه قال: كنت أجالس الصادق (عليه السلام) في المدينة، فانقطعت عن مجلسه أيّاماً، فلما أتيته، قال: ( يا أبا هارون كم من الأيام لم أرك فيها ؟ ) قلت: ولد لي ولد، قال: ( بارك الله لك فيه ، ماذا أسميته؟ ) قال: محمداً، فلما سمع باسم محمد أطرق إلى الأرض وهو يقول: ( محمد محمد محمد ) ، حتى كاد وجهه يلتصق بالأرض، ثم قال: (( روحي وأمي وأبي وأهل الأرض جميعاً لك الفداء يا رسول الله )) ، ثم قال: ( لا تسب هذا الولد ولا تضربه ولا تسيء إليه، واعلم أنه ما من بيت فيه اسم محمد، إلاّ طهر وقدّس كل يوم ).
وكان الفضل بن عمر في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسمع من ابن أبي العوجاء بعض كفرياته، فلم يملك غضبه، فقال: يا عدوّ الله، ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري جل قدسه، إلى آخر ما قال له.
فقال ابن أبي العوجاء: يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك، فإن ثبت لك الحجة تبعناك ، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك ، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادلنا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت ، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدّى في كلامنا، ويصغي إلينا، ويستغرق حجتنا، حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا أنا قد قطعناه أدحض حجتنا بكلام يسير، وخطاب قصير يلزمنا به الحجة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه رداً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه.
وافتقد يوماً رجلاً من أهل مجلسه، فقيل: هو عليل ، فأتاه عائداً فجلس عند رأسه فوجده في حال الاحتضار، فقال له: ( أحسن ظنّك بالله ) ، فقال: ظني بالله حسن ، لكن غمّي من أجل بناتي، فما أكربني إلاّ الغصة عليهنّ، فقال (عليه السلام): ( الذي ترجونّ لتضعيف حسناتك ومحو سيئاتك فارجه لإصلاح بناتك. ألم تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) روى أنه لما جاوز سدرة المنتهى ليلة المعراج وانتهى إلى أغصانها.. فناداه الله عز وجل: أن يا محمد لقد أنبتناها من هذا المكان الذي هو أعلى الأمكنة لتغذية بنات المؤمنين وأبنائهم من أمّتك، فقل لآباء البنات أن لا يضيقوا بقلة ذات اليد ، فإني كما خلقتهم أرزقهم ).
أخلاقه(ع) مع ضيوفه
عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: أكلنا مع أبي عبد الله (عليه السلام) فأتينا بقصعة من أرز فجعلنا نعتذر فقال: ( ما صنعتم شيئاً، إن أشدّكم حباً لنا أحسنكم أكلاً عندنا ) ، قال عبد الرحمن: فرفعت كشعة المائدة فأكلت فقال: ( نعم الآن ) ، ثم أنشأ يحدثنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهدي له قصعة أرز من ناحية الأنصار ، فدعا سلمان والمقداد وأباذر (رحمهم الله) ، فجعلوا يأكلون أكلاً جيداً ، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): ( رحمهم الله ورضي الله عنهم وصلى عليهم ).وعن عبد الله بن سليمان الصيرفي قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام)، فقدّم إلينا طعاماً فيه شواء وأشياء بعده، ثم جاء بقصعة من أرز، فأكلت معه، فقال: ( كل ) ، قلت: قد أكلت، فأكلت معه، فقال: ( كل )، قلت : قد أكلت، قال: ( كل فإنه يُعتبر حب الرجل لأخيه بانبساطه في طعامه ).
وعن ابن أبي يعفور قال: رأيت عند أبي عبد الله (عليه السلام) ضيفاً، فقام يوماً في بعض الحوائج، فنهاه عن ذلك وقام بنفسه إلى تلك الحاجة وقال: ( نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أن يستخدم الضيف ).
أخلاقه(ع) مع عبيده وخدمه
كان رؤوفاً بهم ، يراعي ضعفهم واستكانتهم ، وكان يجازيهم بالإحسان إليهم والرفق بهم ، وإن أساؤوا إليه.ففي حديث أنه لما أعتق أحد عبيده كتب: ( هذا ما أعتق جعفر بن محمد ، أعتق غلامه السندي فلاناً على أنه يشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن البعث حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وعلى أنه يوالي أولياء الله ، ويتبرّأ من أعداء الله ، ويحل حلال الله ، ويحرم حرام الله، ويؤمن برسل الله، ويقرّ بما جاء من عند الله، أعتقه لوجه الله لا يريد به منه جزاء ولا شكوراً، وليس لأحد عليه سبيل إلا بخير، شهد فلان ).
وفي يوم من الأيام بعث غلاماً له في حاجة فأبطأ، فخرج أبو عبد الله (عليه السلام) على أثره لما أبطأ، فوجده نائماً فجلس عند رأسه يروّحه حتى انتبه، فلما انتبه قال له أبو عبد الله (عليه السلام): ( يا فلان ، والله ما ذلك لك ، تنام الليل والنهار ؟ لك الليل ولنا منك النهار ).
أخلاقه(ع) مع الفقراء والسائلين
كان أرأف أهل زمانه بالفقير أو المسكين ، مهما كان طريقه ومعتقده حتى لو كان على غير طريقته (عليه السلام).
خرج في أحد الأيام وكان معه المعلى ابن خنيس فقال: ( ... فإذا أنا بجراب من خبز، فقلت: جعلت فداك أحمله عليّ عنك؟ قال: ( لا، أنا أولى به منك ، ولكن امض معي ) ، قال: فأتينا ظلة بني ساعدة ، فإذا نحن بقوم نيام، فجعل يدس الرغيف والرغيفين تحت ثوب كل واحد منهم حتى أتى على آخرهم، ثم انصرفنا، فقلت: جعلت فداك يعرف هؤلاء الحق ؟ فقال (عليه السلام): ( لو عرفوا لواسيناهم بالدِقّة ),(والدقة هي الملح).
ودخل الأشجع السلمي على الصادق (عليه السلام) فوجده عليلاً فجلس وسأل عن علة مزاجه، فقال له الصادق (عليه السلام): ( تعدّ عن العلة واذكر ما جئت له )، فقال:
ألبسك الله منه عافية * * * في نومك المعتري وفي أرقك
تخرج من جسمك السقام كما * * * أخرج ذل الفعال من عنقك
فقال (عليه السلام) لغلامه: ( يا غلام ما معك ؟ ) قال: أربع مائة، قال: ( أعطها للأشجع) .تخرج من جسمك السقام كما * * * أخرج ذل الفعال من عنقك
وعن مفضل بن قيس بن رمانة قال: دخلت على الصادق (عليه السلام) فشكوت إليه بعض حالي وسألته الدعاء، فقال: ( يا جارية هاتي الكيس الذي وصلنا به أبو جعفر ) ، فجاءت بكيس ، فقال: (هذا كيس فيه أربعمائة دينار، فاستعن به ) ، قال: قلت: والله جعلت فداك ما أردت هذا، ولكن أردت الدعاء، فقال: ( ولكن لا تخبر الناس بكل ما أنت فيه فتهون عليهم ).
عن هشام بن سالم قال: كان أبو عبد الله (عليه السلام) إذا أعتم وذهب من الليل شطره ، أخذ جراباً فيه خبز ولحم ودراهم، فحمله على عنقه، ثم ذهب إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فقسّمه فيهم ولا يعرفونه، فلمّا مضى أبو عبد الله (عليه السلام) فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان أبو عبد الله (صلوات الله عليه).
قال أبو عبد الله (عليه السلام) لمحمد ابنه: ( كم فضل معك من تلك النفقة ؟ ) قال: أربعون ديناراً ، قال: ( أخرج وتصدق بها، فإن الله (عزّ وجل) يخلفها، أما علمت أن لكل شيء مفتاحاً؟ ومفتاح الرزق الصدقة، فتصدّق بها ) ، ففعل فما لبث أبو عبد الله إلا عشرة حتى جاءه من موضع أربعة آلاف دينار، فقال: ( يا بني أعطينا الله أربعين ديناراً فأعطانا الله أربعة آلاف دينار ).
وفي حديث أن فقيراً سأل الصادق (عليه السلام)، فقال لغلامه: ( ما عندك ؟ ) قال: أربعمائة درهم، قال: ( أعطه إياها )، فأعطاه، فأخذها وولى شاكراً ، فقال لغلامه: ( أرجعه ) : فقال: يا سيدي سألت فأعطيت فماذا بعد العطاء؟ فقال له: ( قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خير الصدقة ما أبقت غنى ، وإنّا لم نغنك ، فخذ هذا الخاتم ، فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم ، فإذا احتجت فبعه بهذه القيمة ).
قال إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده المعلى ابن خنيس ، إذ دخل عليه رجل من أهل خراسان، فقال: يابن رسول الله أنا من مواليكم أهل البيت، وبيني وبينكم شقة بعيدة، وقد قل ذات اليد ولا أقدر أن أتوجه إلى أهلي إلا أن تعينني، قال: فنظر أبو عبد الله (عليه السلام) يميناً وشمالاً، وقال: ( ألا تسمعون ما يقول أخوكم ؟ إنما المعروف ابتداء، فأما ما أعطيت بعدما سأل فإنما هو مكافأة لمن بذل لك من ماء وجهه )، ثم قال: ( فيبيت ليلته متأرقاً متململاً بين اليأس والرجاء لا يدري أين يتوجه بحاجته، فيعزم على القصد إليك، فأتاك وقلبه يَجِب (يضطرب) وفرائصه ترتعد، وقد نزل دمه في وجهه، وبعد هذا فلا يدري أينصرف من عندك بكآبة الرد أم بسرور النجح، فإن أعطيته رأيت أنك قد وصلته، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة وبعثني بالحق نبياً، لما يتجشم من إباك أعظم مما ناله من معروفك )، قال: فجمعوا للخراساني خمسة آلاف درهم ودفعوها إليه.
أخلاقه(ع) مع من أساء إليه:
كان (عليه السلام) يجازي المسيئين بالإحسان ، ويعفو عمن أساء إليه ويدعو له.
قال أبو جعفر الخثعمي: أعطاني الصادق (عليه السلام) صرّة فقال لي: ( ادفعها إلى رجل من بني هاشم ولا تعلمه أني أعطيتك شيئاً )، قال: فأتيته، قال: جزاه الله خيراً ما يزال كل حين يبعث بها فنعيش بها إلى قابل، ولكني لا يصلني جعفر بدرهم في كثرة ماله.
وفي كتاب الفنون: نام رجل من الحجاج في المدينة فتوهم أن هميانه سرق، فخرج فرأى الإمام الصادق (عليه السلام) مصلياً ولم يعرفه، فتعلق به وقال له: أنت أخذت همياني، قال(ع): ( ما كان فيه ؟ ) قال: ألف دينار، قال: فحمله إلى داره ووزن له ألف دينار وعاد إلى منزله، فوجد هميانه، فعاد إلى جعفر (عليه السلام) معتذراً بالمال، فأبى قبوله وقال: ( شيء خرج من يدي لا يعود إلي )، قال: فسأل الرجل عنه، فقيل: هذا جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: لا جرم هذا فعال مثله.
وكان بين الإمام وبين بعض بني الحسن حساسية وكانوا يتصورون أن الإمام يحسدهم حين ينهاهم عن القيام والتحرك ورفع السيف حيث كان يعلم بما لا يحيطون به علماً، وفعلاً كانت نتائج أعمالهم سفك دمائهم.
فوقع بين الإمام الصادق (عليه السلام) وبين بني عبد الله بن الحسن كلام في صدر يوم ، فأغلظه في القول عبد الله بن الحسن ، ثم افترقا وراحا إلى المسجد ، فالتقيا على باب المسجد ، فقال أبو عبد الله جعفر بن محمد لعبد الله بن الحسن: ( كيف أمسيت يا أبا محمد ؟ ) قال: بخير ـ كما يقول المغضب ـ فقال: ( يا أبا محمد ، أما علمت أن صلة الرحم يخفف الحساب ) ، فقال : لا تزال تجيء بالشيء لا نعرفه، فقال: ( إني أتلو عليك به قرآناً )، قال: وذلك أيضاً؟ قال: ( نعم ) ، قال: فهاته ، قال: قال الله عزّ وجل: (وَالّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ). قال: فلا تراني بعدها قاطعاً رحماً.
وروي أن رجلاً أتى أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: إن ابن عمك فلاناً ذكرك فلم يدع شيئاً من سيء القول إلا قاله فيك، فأمر جارية أن تأتيه بوضوئه، فتوضأ وانصرف إلى الصلاة، قال الراوي: فقلت في نفسي: سيدعو عليه، وبعد أن صلى (عليه السلام) ركعتين، قال: ( يا رب هو حقي قد وهبته ، وأنت أجود مني وأكرم فهبه لي، ولا تؤاخذه بي ولا تقايسه ).
في جملة من أخلاقه(ع)
عن يعقوب السراج، قال: كنا نمشي مع أبي عبد الله (عليه السلام) وهو يريد أن يعزي ذا قرابة له بمولود له، فانقطع شسع نعل أبي عبد الله (عليه السلام) فتناول نعله من رجله، ثم مشى حافياً، فنظر إليه ابن أبي يعفور، فخلع نعل نفسه من رجلة، وخلع الشسع منها وناولها أبا عبد الله (عليه السلام)، فأعرض عنه كهيئة المغضب ، ثم أبى أن يقبله، وقال: ( لا ، إن صاحب المصيبة أولى بالصبر عليها ) ، فمشى حافياً حتى دخل على الرجل الذي أتاه ليعزيه.وعن شعيب قال: تكارينا لأبي عبد الله (عليه السلام) قوماً يعملون في بستان له وكان أجلهم إلى العصر، فلما فرغوا قال لمعتب: ( أعطهم أجورهم قبل أن يجف عرقهم ).
عن أبي جعفر الفزاري قال: دعا أبو عبد الله الصادق (عليه السلام) مولى له يقال له: مصادف، فأعطاه ألف دينار وقال له: ( تجهز حتى تخرج إلى مصر، فإن عيالي قد كثروا )، قال: فتجهز بمتاع وخرج مع التجار إلى مصر، فلما دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر، فٍِسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة، وكان متاع العامة، فأخبروهم أنه ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح دينار ديناراً، فلما قبضوا أموالهم انصرفوا إلى المدينة، فدخل مصادف على أبي عبد الله (عليه السلام) ومعه كيسان في كل واحد ألف دينار، فقال: جعلت فداك هذا رأس المال وهذا الآخر ربح، فقال:( إن هذا الربح كثير، ولكن ما صنعتم في المتاع ؟ ) فحدّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا ، فقال:( سبحان الله تحلفون على قوم مسلمين ألاّ تبيعوهم إلاّ بربح الدينار ديناراً ؟!) ثم أخذ الكيسين ، فقال: ( هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في هذا الربح )، ثم قال: ( يا مصادف مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال ).
عن معتب قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) وقد تزيّد السعر بالمدينة: ( كم عندنا من طعام ؟) قال: قلت: عندنا ما يكفينا أشهراً كثيرة، قال: ( أخرجه وبعه) ، قال: قلت له: وليس بالمدينة طعام؟! قال: ( بعه)، فلما بعته قال: (اشتر مع الناس يوماً بيوم)، وقال: ( يا معتب اجعل قوت عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حنطة، فإن الله يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها، ولكني أحب أن يراني الله قد أحسنت تقدير المعيشة).
عن الشقراني قال: خرج العطاء أيام المنصور، وما لي شفيع، فوقفت على الباب متحيراً، وإذا بجعفر بن محمد (عليه السلام) قد أقبل، فذكرت له حاجتي، فدخل وخرج، وإذا بعطائي في كمّه فناولني إيّاه وقال: ( إن الحسن من كل أحد حسن وإنه منك أحسن لمكانك منا، وإن القبيح من كل أحد قبيح، وإنه منك أقبح لمكانك منا ).
وإنما قال الإمام له ذلك هذا لأنه كان يشرب الشراب ، فمن مكارم أخلاق الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قضى حاجته ووعظه على وجه التعريض.
من أخلاقيات الإمام الصادق(ع)
صلة الرحم
لقد جاء في الأحاديث النبوية الشريفة التأكيد على هذا الموضوع الاجتماعي المتصل بالدين اتصالا وثيقا، لأنه يرسخ الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين، ويوحي للإنسان أن المال الذي في يده فيه حق للسائل والمحروم، فتلتهب الروح عاطفة حميمة تجاه الفقراء من الأهل والأقارب على الخصوص.
ومن هذا المنطلق سعى الإمام الصادق عليه السلام إلى أن يجسد هذه المفردة الإسلامية والإنسانية ليكون لنا قدوة وأسوة في هذا المجال، إذ تروي لنا سالمة وهي خادمة الإمام الصادق عليه السلام تقول: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام حين حضرته الوفاة وأغمي عليه، فلما أفاق قال: (أعطوا الحسن بن علي بن علي بن الحسين (ويلقب بـ(الحسن الأفطس) سبعين دينارا وأعط فلانا كذا وفلانا كذا) فقلت: أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك؟
فقال عليه السلام: (تريدين أن لا أكون من الذين قال الله عزوجل: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) نعم ياسالمة إن الله خلق الجنة فطيبها وطيب ريحها وإن ريحها يوجد من مسيرة ألفي عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم).
كرم الإمام الصادق(ع)
لقد كان عليه السلام يطعم الناس حتى لا يبقى لعياله شيء، وليس هذا من باب الإسراف بل غاية الجود والكرم والسخاء منهم عليهم السلام فهذه إفاضات الروح وإشراقات النفس العالية التي تعلو بالكمال والشموخ بعيدا عن التكبر والبخل وروي أن فقيرا سأل الإمام الصادق عليه السلام فقال الإمام لخادمه: (ما عندك؟) قال:أربعمائة درهم فقال الإمام عليه السلام: أعطه إياها) فأعطاه فأخذها الفقير شاكرا للإمام، فالتفت الإمام لخادمه وقال له: (أرجعه) فرجع الفقير وهو مستغرب فقال: يا سيدي سألتك فأعطيتني فماذا بعد العطاء؟ فقال له: (قال رسول الله (خير الصدقة ما أبقت غنى) وإنا لم نغنك فخذ هذا الخاتم فقد أعطيت فيه عشرة ألاف درهم فإذا احتجت فبعه بهذه القيمة) فالمال في نظر الأولياء وسيلة لا أكثر، به يحاولون أن يصونوا كرامة الإنسان ويحفظون له ماء الوجه فلذا تراهم يعطون للفقير ما يغنيه لكيلا يفتقر مرة أخرى.
بل كان للإمام الصادق عليه السلام أسلوب خاص وبرنامج خاص في شأن الأموال فاقرأ هذه القصة لنتعلم منها أنا وأنت درسا رائعا:
مرَّ المفضل وهو من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام على رجلين يتشاجران في الميراث فوقف عندهما ثم قال لهما: تعالوا إلى المنزل، فأتياه فأصلح بينهما بأربعمائة درهم فدفعها إليهما من عنده، حتى إذا انتهى الشجار وتراضيا بالميراث وبما دفعه إليهما المفضل قال: أما إنها ليست من مالي ولكن أبو عبد الله عليه السلام أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا الشيعة في شيء أن أصلح بينهما بالمال، فهذا من مال أبي عبد الله عليه السلام.
معجزات وكرامات الإمام الصادق(ع)
روي أن عيسى بن مهران قال:
كان رجل من أهل خراسان من وراء النهر وكان موسرا وكان محبا لأهل البيت عليهم السلام وكان يحج في كل سنة وقد وظف على نفسه لأبي عبد الله عليهم في كل سنة ألف دينار من ماله، وكانت له زوجة تساويه في الغنى والديانة فقالت له في بعض السنين: يا ابن عم حج بي في هذه السنة، فأجابها إلى ذلك فأخذها معه للحج وحملت هذه المرأة الصالحة لعيال وبنات الإمام الصادق عليه السلام بعض الهدايا من فواخر الثياب والجواهر والعطور.
فلما وصلا إلى المدينة دخل الرجل على الإمام الصادق عليه السلام وسلم عليه ودفع إليه المال، ثم أخذ منه إذن ورخصة أن تدخل زوجته على عيال وبنات الإمام فوافق الإمام ودخلت عليهم وأقامت يوما عندهم ثم مضوا إلى دار لهم في المدينة.
وفي أحد الأيام دخل الرجل على زوجته الصالحة فرآها تحتضر وهي على وشك الموت، فقام بتهيئة الكفن والقبر ثم ذهب إلى الإمام الصادق عليه السلام وسأله أن يصلي على زوجته، فقام أبو عبد الله وصلى ركعتين ودعا ثم قال للرجل: (انصرف إلى بيتك فإن أهلك لم تمت) فعاد الرجل فوجد زوجته صحيحة خالية من المرض وكأن لم يصبها شيء.
بعدها خرجوا إلى مكة من أجل الحج وكذلك خرج الإمام للحج أيضا، وأثناء الطواف رأت تلك المرأة الإمام الصادق يطوف والناس قد حفوا به فقالت لزوجها: من هذا الرجل؟ قال: هذا أبو عبد الله الصادق عليه السلام فقالت: هذا والله الرجل الذي رأيته يشفع إلى الله حتى رد روحي جسدي!.
نعم ... الأئمة عليهم السلام يفيضون رحمة ورأفة على أوليائهم ويجازونهم بالفضل والإحسان جزاءا على أعمالهم الصالحة وحبهم الخالص، وهذا أحد مصاديق قوله تعالى (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).
رجال صنعهم الإمام الصادق (ع)
لقد تخرج من تحت يد الإمام الصادق علماء عليهم الاعتماد والمعول في أمر الدين، فكانوا جهابذة العلم وأفذاذا قل نظيرهم، فحملوا العلم ممزوجا بالعمل والتقوى وخدموا دينهم خدمة جليلة تشهد بها الكتب إلى اليوم.
يقول هشام بن سالم: كان عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة من أصحابه فورد رجل من أهل الشام فاستأذن بالجلوس فأذن له، فلما دخل سلم فأمره أبو عبد الله بالجلوس، ثم قال له: (ما حاجتك أيها الرجل؟)
قال: بلغني أنك عالم بكل ما تسأل عنه فصرت إليك لأناظرك
فقال: أبو عبد الله عليه السلام (فبماذا؟)
قال: في القرآن.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: (يا حمران بن أعين دونك الرجل)
فقال الرجل: إنما أريدك أنت لا حمران
فقال أبو عبد الله عليه السلام: (إن غلبت حمران فقد غلبتني)
فأقبل الشامي يسأل حمران حتى ضجرومل وحمران يجيبه.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: (كيف رأيته يا شامي؟)
قال: رأيته حاذقا ما سألته عن شيء إلا أجابني
ثم قال الشامي: أريد أن أناظرك في العربية
فالتفت أبو عبد الله عليه السلام: فقال (يا أبان بن تغلب ناظره) فناظره حتى غلبه.
فقال الشامي أريد ان أناظرك في الفقه
فقال أبو عبد الله عليه السلام (يا زرارة ناظره)، فناظر حتى غلبه.
فقال الشامي: أريد أن أناظرك في الكلام
فقال الإمام عليه السلام (يا مؤمن الطاق ناظره) فناظره فغلبه.
ثم قال أريد أن أناظرك في الأستطاعة
فقال الإمام عليه السلام للطيار: (كلمه فيها) فكلمه فغلبه.
ثم قال: أريد أن أكلمك في التوحيد
فنادى الإمام عليه السلام (يا هشام بن سالم كلمه) فكلمه فغلبه.
ثم قال: أريد أن أتكلم في الإمامة،
فقال الإمام عليه السلام لهشام ابن الحكم: (كلمه) فغلبه أيضا
فحار الرجل وسكت وأخذ الإمام يضحك فقال الشامي له: كأنك أردت أن تخبرني أن في شعيتك مثل هؤلاء الرجل؟
فقال الإمام عليه السلام (هو ذلك)
نعم كان هؤلاء أبطال العلم في ميدان العمل، كل واحد منهم يمثل الشموخ الشيعي في بلدته وزمانه.... فلنكن مثلهم في العلم والعمل.
المنصور الدوانيقي يتآمر لقتل الإمام الصادق(ع)
صعّد المنصور من تضييقه على الإمام الصادق (عليه السلام)، ومهّد لقتله. فقد روى الفضل بن الربيع عن أبيه ، فقال : دعاني المنصور ، فقال : إن جعفر بن محمد يلحد في سلطاني ، قتلني الله إن لم أقتله(...) . فأتيته ، فقلت : أجب أمير المؤمنين!! . فتطهّر ولبس ثياباً جدداً . فأقبلت به ، فاستأذنت له فقال : أدخله ، قتلني الله إن لم أقتله . فلما نظر إليه مقبلا ، قام من مجلسه فتلقّاه وقال : مرحباً بالتقيّ الساحة ، البريء من الدغل والخيانة ، أخي وابن عمي . فأقعده على سريره ، وأقبل عليه بوجهه ، وسأله عن حاله ، ثم قال :
سلني حاجتك ، فقال (عليه السلام): أهل مكّة والمدينة قد تأخّر عطاؤهم، فتأمر لهم به .
قال : أفعل ، ثم قال : يا جارية ! ائتني بالتحفة. فأتته بمدهن زجاج، فيه غالية ، فغلّفه بيده وانصرف فأتبعته ، فقلت: يابن رسول الله ! أتيت بك ولا أشك أنه قاتلك ، فكان منه ما رأيت، وقد رأيتك تحرك شفتيك بشيء عند الدخول ، فما هو ؟
قال : قلت : «اللّهم احرسني بعينك التي لاتنام ، واكنفني بركنك الذي لا يرام ، واحفظني بقدرتك عليّ ، ولا تهلكني وانت رجائي ...» .
ولم يكن هذا الاستدعاء للإمام من قبل المنصور هو الاستدعاء الأول من نوعه بل إنّه قد أرسل عليه عدّة مرات وفي كل منها أراد قتله . لقد صور لنا الإمام الصادق (عليه السلام) عمق المأساة التي كان يعانيها في هذا الظرف بالذات والاذى الّذي كان المنصور يصبه عليه، حتى قال (عليه السلام) ـ كما ينقله لنا عنبسة ـ قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «أشكو إلى الله وحدتي وتقلقلي من أهل المدينة حتى تقدموا، وأراكم أسرّ بكم، فليت هذا الطاغية أذن لي فاتّخذت قصراً في الطائف فسكنته ، وأسكنتكم معي ، وأضمن له أن لا يجيء من ناحيتنا مكروه أبداً» .
وتتابعت المحن على سليل النبوّة وعملاق الفكر الإسلامي ـ الإمام الصادق(عليه السلام) ـ في عهد المنصور الدوانيقي ـ فقد رأى ما قاساه العلويون وشيعتهم من ضروب المحن والبلاء، وما كابده هو بالذات من صنوف الإرهاق والتنكيل، فقد كان الطاغية يستدعيه بين فترة وأخرى ، ويقابله بالشتم والتهديد ولم يحترم مركزه العلمي، وشيخوخته، وانصرافه عن الدنيا الى العبادة، وإشاعة العلم، ولم يحفل الطاغيه بذلك كلّه، فقد كان الإمام شبحاً مخيفاً له... ونعرض ـ بإيجاز ـ للشؤون الأخيرة من حياة الإمام ووفاته. وأعلن الإمام الصادق (عليه السلام) للناس بدنوّ الأجل المحتوم منه، وان لقاءه بربّه لقريب، وإليك بعض ما أخبر به:
أـ قال شهاب بن عبد ربّه : قال لي أبو عبدالله (عليه السلام): كيف بك إذا نعاني إليك محمد بن سليمان؟ قال: فلا والله ما عرفت محمد بن سليمان من هو. فكنت يوماً بالبصرة عند محمد بن سليمان، وهو والي البصرة إذ ألقى إليّ كتاباً، وقال لي: يا شهاب، عظّم الله أجرك وأجرنا في إمامك جعفر بن محمد. قال: فذكرت الكلام فخنقتني العبرة.
ب ـ أخبر الإمام (عليه السلام) المنصور بدنوّ أجله لمّا أراد الطاغية أن يقتله فقد قال له: ارفق فوالله لقلّ ما أصحبك. ثم انصرف عنه، فقال المنصور لعيسى بن علي: قم اسأله، أبي أم به؟ ـ وكان يعني الوفاة ـ .
فلحقه عيسى ، وأخبره بمقالة المنصور، فقال (عليه السلام): لا، بل بي. وتحقّق ما تنبّأ به الإمام(عليه السلام) فلم تمضِ فترة يسيرة من الزمن حتى وافته المنية.
كان الإمام الصادق (عليه السلام) شجى يعترض في حلق الطاغية الدوانيقي، فقد ضاق ذرعاً منه، وقد حكى ذلك لصديقه وصاحب سرّه محمد بن عبدالله الاسكندري.
يقول محمد: دخلت على المنصور فرأيته مغتمّاً، فقلت له: ما هذه الفكرة؟
فقال: يا محمد لقد هلك من أولاد فاطمة (عليها السلام) مقدار مائة ويزيدون ـوهؤلاء كلهم كانوا قد قتلهم المنصور ـ وبقي سيّدهم وإمامهم.
فقلت: من ذلك؟
فقال: جعفر بن محمد الصادق.
وحاول محمد أن يصرفه عنه، فقال له: إنه رجل أنحلته العبادة، واشتغل بالله عن طلب الملك والخلافة. ولم يرتض المنصور مقالته فردّ عليه: يا محمد قد علمتُ أنك تقول به، وبإمامته ولكن الملك عقيم.
وأخذ الطاغية يضيّق على الإمام، وأحاط داره بالعيون وهم يسجّلون كل بادرة تصدر من الإمام، ويرفعونها له، وقد حكى الإمام (عليه السلام) ما كان يعانيه من الضيق، حتى قال: «عزّت السلامة، حتى لقد خفي مطلبها، فإن تكن في شيء فيوشك أن تكون في الخمول، فإن طلبت في الخمول فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت، والسعيد من وجد في نفسه خلوة يشتغل بها». لقد صمّم على اغتياله غير حافل بالعار والنار، فدسّ اليه سمّاً فاتكاً على يد عامله فسقاه به، ولمّا تناوله الإمام(عليه السلام) تقطّعت أمعاؤه وأخذ يعاني الآلام القاسية، وأيقن بأن النهاية الأخيرة من حياته قد دنت منه. ولمّا شعر الإمام(عليه السلام) بدنوّ الأجل المحتوم منه أوصى بعدّة وصايا.
الإمام يفوت الفرصة على المنصور
ويحافظ على حياة الإمام الكاظم(ع)
لما وصل العمر بإمامنا الصادق إلى نهاياته وأدرك الإمام أنه على وشك الرحيل إلى ربه، بعث المنصور العباسي برسالة إلى عامله في المدينة ذكر فيها ما يلي: انظر إلى من أوصى جعفر الصادق فاضرب عنقه، ويقصد بذلك وصي الإمام الصادق عليه السلام.
وكان الإمام قد ألهم ذلك وعرف بمؤامرة المنصور، فكتب وصيته وذكر أن أوصياءه خمسة أفراد وهم: محمد بن سليمان والي المدينة، وعبد الله الأفطح أبنه وهو أكبر من الإمام الكاظم ولكن كان ذا عاهة، وزوجته حميدة، وولده الآخر موسى الكاظم، والخامس المنصور العباسي نفسه.
فتعجب الوالي، وكذلك استغرب المنصور من هذه الوصية وكتب إلى عامله ليس إلى قتل هؤلاء سبيل، وأمره ان يترك هذه الأمر.
وبهذه الخطة المحكمة دفع الإمام الصادق الموت والخطر عن الإمام الذي بعده إنه ولده موسى الكاظم عليه السلام.
وإنما أوصى بذلك خوفاً على ولده الإمام الكاظم (عليه السلام) من السلطة الجائرة، وقد تبيّن ذلك بوضوح بعد وفاته، فقد كتب المنصور الى عامله على يثرب، بقتل وصي الإمام ، فكتب إليه: إنه أوصى الى خمسة، وهو أحدهم ، فأجابه المنصور: ليس الى قتل هؤلاء من سبيل.
ثم إنه أوصى بجميع وصاياه الى ولده الإمام الكاظم (عليه السلام) وأوصاه بتجهيزه وغسله وتكفينه، والصلاة عليه، كما نصبه إماماً من بعده، ووجّه خواصّ شيعته إليه وأمرهم بلزوم طاعته.
وقد دعا الإمام الصادق(ع) السيّدة حميدة زوجته، وأمرها باحضار جماعة من جيرانه، ومواليه، فلمّا حضروا عنده قال لهم: «إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة...». وأخذ الموت يدنو سريعاً من سليل النبوة، ورائد النهضة الفكرية في الإسلام، وفي اللحظات الأخيرة من حياته أخذ يوصي أهل بيته بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، ويحذّرهم من مخالفة أوامر الله وأحكامه، كما أخذ يقرأ سوراً وآيات من القرآن الكريم، ثم ألقى النظرة الأخيرة على ولده الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ، وفاضت روحه الزكية الى بارئها.
إلى الرفيق الأعلى
فبعد حياة ملؤها المعاجز والعلم والتربية والجهاد الفذ في الحقل الثقافي والاجتماعي، وبعد برامج الإمام الصادق الإصلاحية والتغييرية ها هو ذا الإمام في المقطع الأخير من حياته الحافلة بالمأثر والمآسي يودعنا على أمل المضي على نهجه في مقارعة الظالمين بأسلوب يتلاءم والعصر، والسير على خطاه في إصلاح المجتمع ورعاية أفراده.
فقد عرف المنصور أن أفضل طريقة للخلاص من الإمام الصادق هي دس السم إليه عبر الوكلاء على طريقة معاوية بن أبي سفيان فقام محمد بن سليمان والي المدينة بسم الإمام الصادق في الخامس والعشرين من شوال عام 148هـ، فمضى أبو عبد الله عليه السلام شهيداً مظلوما وتم تشيع جثمانه المبارك ودفن في البقيع.
وقام الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، وهو مكلوم القلب، فأخذ في تجهيز جثمان أبيه، فغسل الجسد الطاهر، وكفّنه بثوبين شطويين كان يحرم فيهما، وفي قميص وعمامة كانت لجدّه الإمام زين العابدين(عليه السلام)، ولفّه ببرد اشتراه الإمام موسى (عليه السلام) بأربعين ديناراً وبعد الفراغ من تجهيزه صلّى عليه الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وقد إأتمَّ به مئات المسلمين. وحمل الجثمان المقدّس على أطراف الأنامل تحت هالة من التكبير، وقد غرق الناس بالبكاء وهم يذكرون فضل الإمام وعائدته على هذه الاُمة بما بثّه من الطاقات العلمية التي شملت جميع أنواع العلم. وجيء بالجثمان العظيم الى البقيع المقدّس، فدفن في مقرّه الأخير بجوار جدّه الإمام زين العابدين وأبيه الإمام محمد الباقر (عليهما السلام) وقد واروا معه العلم والحلم، وكل ما يسمو به هذا الكائن الحيّ من بني الإنسان.
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون