قبس من حياة الامام جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)
مناظرات الامام الصادق صلوات الله عليه
1- مع أبي حنيفة في حكم القياس
قال العلامة المجلسي رحمه الله : وجدت بخطّ بعض الاَفاضل نقلاً من خطّ الشهيد رفع الله درجته قال : قال أبو حنيفة النعمان بن ثابت جئت إلى حجّام بمنى ليحلق رأسي ، فقال : ادن ميامنك ، واستقبل القبلة ، وسمِّ الله؛ فتعلّمت منه ثلاث خصال لم تكن عندي ، فقلت له : مملوك أنت أم حرّ ؟فقال : مملوك .
قلت : لمن ؟
قال : لجعفر بن محمد العلوي عليه السلام .
قلت : أشاهد هو أم غائب ؟
قال : شاهد .
فصرت إلى بابه واستأذنت عليه فحجبني ، وجاء قومٌ من أهل الكوفة فاستأذنوا فأذن لهم ، فدخلت معهم ، فلمّا صرت عنده قلت له : يا بن رسول الله لو أرسلت إلى أهل الكوفة فنهيتهم أن يشتموا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ، فإنّي تركت بها أكثر من عشرة آلاف يشتمونهم .
فقال عليه السلام : لا يقبلون منّي.
فقلت : ومن لا يقبل منك وأنت ابن رسول الله صلى الله عليه وآله ؟
فقال عليه السلام : أنت ممّن لم تقبل منّي ، دخلت داري بغير إذني ، وجلست بغير أمري ، وتكلمت بغير رأيي ، فمن انت؟ قال: ابو حنيفة.
قال (صلوات الله عليه): مفتي اهل العراق؟ قال: نعم.
قال(صلوات الله عليه): بما تفتيهم؟ قال: بكتاب اللّه.
قال (صلوات الله عليه): وانك لعالم بكتاب اللّه، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه؟ قال: نعم.
قال(صلوات الله عليه): فاخبرني عن قول اللّه عز وجل ( وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي واياما آمنين ) .اي موضع هو؟ قال ابو حنيفة: هو ما بين مكة والمدينة.
فالتفت ابوعبداللّه (صلوات الله عليه) الى جلسائه، وقال: نشدتكم باللّه هل تسيرون بين مكة والمدينة، ولاتامنون على دمائكم من القتل، وعلى اموالكم من السرقة؟ فقالوا: اللهم نعم. فقال ابو عبداللّه (صلوات الله عليه): ويحك يا ابا حنيفة ان اللّه لا يقول الا حقا.
اخبرني عن قول اللّه عزوجل: (ومن دخله كان آمنا) ، اي موضع هو؟ قال: ذلك البيت الحرام. فالتفت ابو عبد اللّه (صلوات الله عليه) الى جلسائه، وقال: نشدتكم باللّه، هل تعلمون ان عبداللّه بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يامنا القتل؟ قالوا: اللهم نعم.
قال ابوعبداللّه (صلوات الله عليه): ويحك يا ابا حنيفة ان اللّه لا يقول الا حقا.
وقد بلغني أنّك تقول بالقياس.
قلت : نعم به أقول .
قال عليه السلام : ويحك يا نعمان أوّل من قاس الله تعالى إبليس حين أمره بالسجود لآدم عليه السلام وقال : ( خَلقتَني من نار وخَلَقتهُ من طين ) ، أيّما أكبر يا نعمان القتل أو الزنا ؟
قلت : القتل .
قال عليه السلام : فلِمَ جعل الله في القتل شاهدين ، وفي الزنا أربعة ؟ أينقاس لك هذا ؟
قلت : لا .
قال عليه السلام : فأيّما أكبر البول أو المني ؟
قلت : البول .
قال عليه السلام : فلِمَ أمر الله في البول بالوضوء ، وفي المني بالغسل ؟ أينقاس لكهذا ؟
قلت : لا .
قال عليه السلام : فأيّما أكبر الصلاة أو الصيام ؟
قلت : الصلاة .
قال عليه السلام : فلِمَ وجب على الحائض أن تقضي الصوم ، ولا تقضي الصلاة ؟ أينقاس لك هذا ؟
قلت : لا .
قال عليه السلام : فأيّما أضعف المرأة أم الرجل ؟
قلت : المرأة .
قال عليه السلام : فلِمَ جعل الله تعالى في الميراث للرجل سهمين ، وللمرأة سهماً ، أينقاس لك هذا ؟
قلت : لا .
قال عليه السلام : فلِمَ حكم الله تعالى فيمن سرق عشرة دراهم بالقطع ، وإذا قطع رجلٌ يد رجل فعليه ديتها خمسة آلاف درهم ؟ أينقاس لك هذا ؟
قلت : لا .
قال عليه السلام : وقد بلغني أنّك تفسر آية في كتاب الله ، وهي : ( ثمّ لتسئلنّ يومئذ عن النعيم ) ، أنّه الطعام الطيّب ، والماء البارد في اليوم الصائف.
قلت : نعم .
قال عليه السلام له : دعاك رجل وأطعمك طعاماً طيّباً ، وأسقاك ماءً بارداً ، ثم امتنّ عليك به ما كنت تنسبه إليه ؟
قلت : إلى البخل .
قال عليه السلام : أفيبخل الله تعالى ؟!
قلت : فما هو ؟
قال عليه السلام : حبّنا أهل البيت.
2- مناظرة أخرى للامام الصادق مع ابي حنيفة
وفد ابن شبرمة مع أبي حنيفة على الإمام الصادق(ع) فقال لابن شبرمة. «مَن هذا الذي معك؟» فأجابه قائلاً : رجل له بصر، و نفاذ في أمر الدين.
فقال له الإمام جعفر الصادق : « لعله الذي يقيس أمر الدين برأيه؟» فأجابه: نعم.
والتفت الإمام جعفر الصادق إلى أبي حنيفة قائلاً له: «ما اسمك ؟» فقال: النعمان.
فسأله الإمام جعفر الصادق: «يا نعمان ! هل قست رأسك ؟»
فأجابه : كيف أقيس رأسي؟.
فقال له الإمام جعفر الصادق: « ما أراك تحسن شيئاً. هل علمت ما الملوحة في العينين ؟ والمرارة في الاُذنين ، والبرودة في المنخرين والعذوبة في الشفتين؟
فأنكر أبو حنيفة معرفة ذلك ووجّه الإمام جعفر الصادق إليه السؤال التالي: « هل علمت كلمة أوّلها كفر، وآخرها إيمان ؟» فقال:لا .
والتمس أبو حنيفة من الإمام جعفر الصادق أن يوضّح له هذه الاُمور فقال الإمام جعفر الصادق: «أخبرني أبي عن جدّي رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الله بفضله ومنّه جعل لابن آدم الملوحة في العينين ليلتقطا ما يقع فيهما من القذى ، وجعل المرارة في الاذنين حجاباً من الدوابّ فإذا دخلت الرأس دابّة ، والتمست إلى الدماغ ، فإن ذاقت المرارة التمست الخروج، وجعل الله البرودة في المنخرين يستنشق بهما الريح ولولا ذلك لانتن الدماغ ، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد لذة استطعام كل شيء».
والتفت أبو حنيفة إلى الإمام الإمام جعفر الصادق قائلاً : أخبرني عن الكلمة التي أوّلها كفر وآخرها إيمان ؟
فقال له الإمام جعفر الصادق: «إن العبد إذا قال: لا إله فقد كفر فإذا قال إلاّ الله فهو الإيمان » .
وأقبل الإمام على أبي حنيفة ينهاه عن العمل بالقياس حيث قال له: « يا نعمان حدثني أبي عن جدّي رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) إنه قال : أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال له الله : اسجد لآدم فقال: ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) » .
3- مناظرة ثالثة للإمام الصادق مع ابي حنيفة
والتقى أبو حنيفة مرّة اُخرى بالإمام الصادق فقال له الإمام : «ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي ؟».
فأجابه أبو حنيفة: ياابن رسول الإسلام ما أعلم ما فيه.
فقال له الإمام جعفر الصادق : « ألا تعلم أن الظبي لا تكون له رباعية ، وهو ثني أبداً ؟!» .
ثم التقى أبو حنيفة مرّة ثالثة بالإمام جعفر الصادق ، وسأله الإمام جعفر الصادق عن بعض المسائل ، فلم يجبه عنها.
وكان من بين ما سأله الإمام جعفر الصادق هو : « أيّهما أعظم عند الله القتل أو الزنا ؟» فأجاب : بل القتل.
فقال الإمام جعفر الصادق: « كيف رضي في القتل بشاهدين، ولم يرضَ في الزنا إلاّ بأربعة ؟»
ثم وجّه الإمام جعفر الصادق إلى أبي حنيفة السؤال التالي : «الصلاة أفضل أم الصيام؟» فقال: بل الصلاة أفضل .
فقال الإمام جعفر الصادق : « فيجب ـ على قياس قولك ـ على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله قضاء الصوم دون الصلاة؟!» .
ثم سأله جعفر الصادق: « البول أقذر أم المني ؟» فقال له : البول أقذر .
فقال جعفر الصادق: « يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول; لأنه أقذر، دون المنيّ ، وقد أوجب الله الغسل من المنيّ دون البول ».
ثم قال الإمام جعفر الصادق: « ما ترى في رجل كان له عبد فتزوّج ، وزوّج عبده في ليلة واحدة فدخلا بأمراتيهما في ليلة واحدة، ثم سافرا وجعلا إمرأتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين فسقط البيت عليهم فقتلت المرأتان ، وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك ؟ وأيّهما المملوك وأيّهما الوارث ؟ وأيّهما الموروث ؟».
وهنا أيضاً صرّح أبو حنيفة بعجزه قائلاً : إنما أنا صاحب حدود .
وهنا وجّه اليه الإمام جعفر الصادق السؤال التالي : « ما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح، وقطع يد رجل كيف يقام عليهما الحدّ ؟».
فقال الإمام أبو حنيفة: أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء.
ثم سأله الإمام الصادق: « أخبرني عن قول الله لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون (لعلّه يتذكّر أو يخشى) ـ ولعلّ منك شكّ ؟ فقال: نعم.
فقال له الإمام جعفر الصادق : « وكذلك من الله شكّ إذ قال : لعله ؟ ! » فقال : لا علم لي .
ثم قال الإمام جعفر الصادق: « تزعم أنك تفتي بكتاب الله ، ولست ممّن ورثه، وتزعم أنك صاحب قياس، وأوّل من قاس إبليس لعنه الله ولم يُبنَ دينُ الاسلام على القياس، وتزعم أنك صاحب رأي، و كان الرأي من رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) صواباً ومن دونه خطأ، لأنّ الله قال: (فاحكم بينهم بما أراك الله) ولم يقل ذلك لغيره، وتزعم أنك صاحب حدود، ومن أُنزلت عليه أولى بعلمها منك وتزعم أنك عالم بمباعث الانبياء، وخاتم الانبياء أعلم بمباعثهم منك.
لولا أن يقال دخل على ابن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) فلم يسأله عن شيء ماسألتك عن شيء. فقس إن كنت مقيساً.
وهنا قال أبو حنيفة للإمام جعفر الصادق : لا أتكلم بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس.
وأجابه الإمام جعفر الصادق: « كلاّ إنّ حبّ الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك ».
4- مناظرة الإمام الصادق ( ع ) مع أبي حنيفة النعمان
في حكم التوسّل بالنبيّ ( ص )
قال الشيخ الكراجكي طيب الله ثراه : ذكروا أن أبا حنيفة أكل طعاماً مع الاِمام الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) ، فلما رفع الصادق (عليه السلام) يده من أكله قال : الحمد لله ربّ العالمين ، اللهم هذا منك ، ومن رسولك (صلى الله عليه وآله) .فقال أبو حنيفة: يا أبا عبدالله ، أجعلت مع الله شريكاً ؟
فقال له : ويلك ، فإنّ الله تعالى يقول في كتابه : ( وما نقموا إلاّ أن أغناهم الله ورسوله من فضله ) ، ويقول في موضع آخر : ( ولو أنّهم رضوا ما أتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله ).
فقال أبو حنيفة : والله ، لكأني ما قرأتهما قط من كتاب الله ولا سمعتهما إلاّ في هذا الوقت !
فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : بلى ، قد قرأتهما وسمعتهما ، ولكن الله تعالى أنزل فيك وفي أشباهك : ( أم على قلوب أقفالها ) وقال : ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ).
مناظرة الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع طبيب هندي
حضر الإمام الصادق ( عليه السلام ) مجلس المنصور يوماً ، وعنده رجل من الهند يقرأ كتب الطب ، فجعل ( عليه السلام ) ينصت لقراءته ، فلمّا فرغ الهندي قال له : يا أبا عبد الله أتريد ممّا معي شيئاً ؟ قال ( عليه السلام ) : ( لا ، فإنّ معي ما هو خير ممّا معك ) ، قال : وما هو ؟
قال ( عليه السلام ) : ( أداوي الحار بالبارد ، والبارد بالحار ، والرطب باليابس ، واليابس بالرطب ، وأردّ الأمر كلّه إلى الله عزّ وجل ، وأستعمل ممّا قاله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأعلم أنّ المعدة بيت الداء ، وأنّ الحمية هي الدواء ، وأعوّد البدن ما اعتاد ) .
فقال الهندي : وهل الطبّ إِلاّ هذا ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( أفتراني عن كتب الطبّ أخذت ؟ ) قال : نعم ، قال ( عليه السلام ) : ( لا والله ، ما أخذت إِلاّ عن الله سبحانه ، فأخبرني أنا أعلم بالطبّ أم أنت ؟ ) فقال الهندي : لا ، بل أنا ، فقال ( عليه السلام ) : ( فأسألك شيئاً ) ، قال : سل .
قال ( عليه السلام ) : ( أخبرني يا هندي : لِمَ كان في الرأس شؤن ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ جعل الشعر عليه من فوقه ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ خلت الجبهة من الشعر ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ كان لها تخطيط وأسارير ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ كان الحاجبان من فوق العينين ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ جعل العينان كاللوزتين ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ جعل الأنف فيما بينهما ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فَلِمَ كان ثقب الأنف في أسفله ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فَلِمَ جعلت الشفّة والشارب من فوق الفم ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فَلِمَ احتدَّ السنّ وعرض الضرس وطال الناب ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ جعلت اللحية للرجال ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ خلت الكفّان من الشعر ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ خلا الظفر والشعر من الحياة ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ كان القلب كحبّ الصنوبر ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ كانت الرئة قطعتين ؟ وجعل حركتها في موضعها ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ كانت الكبد حدباء ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ كانت الكلية كحبّ اللوبياء ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ جعل طيّ الركبتين إلى خلف ؟ ) قال : لا أعلم .
قال ( عليه السلام ) : ( فلِمَ تخصّرت القدم ؟ ) قال : لا أعلم .
فقال ( عليه السلام ) : ( لكنّي أعلم ) ، قال : فأجب .
قال ( عليه السلام ) : ( كان في الرأس شؤن لأنّ المجوّف إِذا كان بلا فصل أسرع إليه الصداع ، فإذا جعل ذا فصول كان الصداع منه أبعد ،
وجعل الشعر من فوقه لتوصل بوصوله الأدهان إلى الدماغ ، ويخرج بأطرافه البخار منه ، ويردّ الحرّ والبرد عليه ،
وخلت الجبهة من الشعر لأنّها مصبّ النور إلى العينين .
وجعل فيها التخطيط والأسارير ليحتبس العرق الوارد من الرأس إلى العين ، قدر ما يميطه الإنسان عن نفسه ، وهو كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه ،
وجعل الحاجبان من فوق العينين ليردّا عليهما من النور قدر الكفاية ، ألا ترى يا هندي أنّ من غلبه النور جعل يده على عينيه ، ليردّ عليهما قدر كفايتهما منه ، وجعل الأنف فيما بينهما ليقسّم النور قسّمين إلى كل عين سواء .
وكانت العين كاللوزة ليجري فيها الميل بالدواء ، ويخرج منها الداء ، ولو كانت مربّعة أو مدوّرة ما جرى فيها الميل ، وما وصل إليها دواء ، ولا خرج منها داء ،
وجعل ثقب الأنف في أسفله لتنزل منه الأدواء المتحدّرة من الدماغ ، ويصعد فيه الأراييح إلى المشام ، ولو كان في أعلاه لما نزل منه داء ، ولا وجد رائحة .
وجعل الشارب والشفّة فوق الفم ، لحبس ما ينزل من الدماغ إلى الفم ، لئلا يتنغّص على الإنسان طعامه وشرابه ، فيميطه عن نفسه ،
وجُعلت اللحية للرجال ليستغنى بها عن الكشف في المنظر ، ويعلم بها الذكر من الأُنثى ،
وجعل السنّ حادّاً لأنّه به يقع العض ، وجعل الضرس عريضاً لأنّه به يقع الطحن والمضغ ، وكان الناب طويلاً ليسند الأضراس والأسنان ، كالاسطوانة في البناء .
وخلا الكفّان من الشعر لأنّ بهما يقع اللمس ، فلو كان فيهما شعر ما درى الإنسان ما يقابله ويلمسه ، وخلا الشعر والظفر من الحياة لأنّ طولهما سمج يقبح وقصّهما حسن ، فلو كانت فيهما حياة لألم الإنسان قصّهما ،
وكان القلب كحبّ الصنوبر لأنّه منكس ، فجعل رأسه دقيقاً ليدخل في الرئة فيتروّح عنه ببردها ، لئلا يشيط الدماغ بحرّه .
وجُعلت الرئة قطعتين ليدخل بين مضاغطها ، فيتروّح عنه بحركتها ،
وكانت الكبد حدباء لتثقل المعدة ، ويقع جميعها عليها فيعصرها ، ليخرج ما فيها من البخار ،
وجعلت الكلية كحبّ اللوبياء ، لأنّ عليها مصبّ المني نقطة بعد نقطة ، فلو كانت مربّعة أو مدوّرة احتبست النقطة الأُولى إلى الثانية ، فلا يلتذّ بخروجها الحي ، إِذ المني ينزل من فقار الظهر إلى الكلية ، فهي كالدودة تنقبض وتنبسط ترميه أوّلاً ، فأوّلاً إلى المثانة كالبندقة من القوس .
وجعل طيّ الركبة إلى خلف ، لأنّ الإنسان يمشي إلى ما بين يديه ، فتعتدل الحركتان ، ولولا ذلك لسقط في المشي ،
وجُعلت القدم مخصّرة ، لأنّ المشي إذا وقع على الأرض جميعه ثَقل ثُقل حجر الرحى ، فإذا كان على طرقه دفعه الصبي ، وإذا وقع على وجهه صعب نقله على الرجل ) .
فقال له الهندي : من أين لك هذا العلم ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( أخذته عن آبائي ( عليهم السلام ) عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن جبرائيل عن ربّ العالمين جلّ جلاله ، الذي خلق الأبدان والأرواح ) .
فقال الهندي : صدقت ، وأنا أشهد أن لا إِله إِلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله وعبده ، وأنّك أعلم أهل زمانه
مناظرة الامام الصادق(ع) مع الشامي
اخبرني ابو القاسم بن محمد بن قولويه عن محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن ابراهيم بن هاشم عن ابيه عن جماعة عن رجاله عن يونس بن يعقوب قال: كنت عند ابي عبدالله (عليه السلام) فورد عليه رجل من اهل الشام فقال له: اني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض وقد جئت لمناظرة اصحابك، فقال ابو عبدالله(عليه السلام): كلامك هذا من كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله) او من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعضه ومن عندي بعض،
فقال له ابو عبدالله: فانت اذاً شريك رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ قال: لا،
قال: فسمعت الوحي عن الله عزوجل يخبرك؟ قال: لا،
قال: فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ قال: لا،
فالتفت ابو عبدالله الي فقال: يا يونس بن يعقوب هذا قد خصم نفسه قبل ان يتكلم،
ثم قال: يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته، قال يونس: فيا لها من حسرة، فقلت: جعلت فداك اني سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد وهذا ينساق وهذا لا ينساق وهذا نعقله وهذا لا نعقله،
فقال ابو عبدالله(عليه السلام): انما قلت فويل لقوم تركوا قولي وذهبوا الى ما يريدون،
ثم قال: اخرج الى الباب وانظر من ترى من المتكلمين فأدخله،
قال: فخرجت فوجدت حمران ابن اعين وكان يحسن الكلام ومحمد بن النعمان الأحول وكان متكلما وهشام بن سالم وقيس الماصر وكانا متكلمين فأدخلتهم عليه، فلما استقربهم المجلس وكنا في خيمة لأبي عبدالله(عليه السلام) على طرف جبل في طرف الحرم وذلك قبل ايام الحج بأيام اذ خرج ابو عبدالله(عليه السلام) رأسه من الخيمة فاذا هو ببعير يخب فقال: هشام ورب الكعبة، قال: فظننّا ان هشاما رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة لأبي عبدالله(عليه السلام) فاذا هو هشام بن الحكم قد ورد وهو اول ما اختطت لحيته وليس فينا الا من هو اكبر منه سناً قال: فوسع له ابو عبدالله(عليه السلام) وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه ويده،
ثم قال لحمران: كلم الرجل ـ يعني الشامي ـ فكلمه حمران فظهر عليه،
ثم قال: يا طاقي كلمه . فكلمه فظهر عليه محمد بن النعمان(مؤمن الطاق)،
ثم قال: يا هشام بن سالم كلمه. فتفارقا،
ثم قال لقيس الماصر: كلمه. فكلمه.
واقبل ابو عبدالله(عليه السلام) يبتسم من كلامهما وقد استخذل الشامي في يده
ثم قال للشامي: كلم هذا يعني هشام بن الحكم، فقال: نعم،
ثم قال الشامي لهشام: يا غلام سلني في امامة هذا يعني ابا عبدالله (عليه السلام)، فغضب هشام حتى ارعد ثم قال له: اخبرني يا هذا اربك انظر لخلقه ام هم لأنفسهم؟
فقال الشامي: بل ربي انظر لخلقه،
قال: ففعل بنظره لهم ماذا؟
قال: كلفهم واقام لهم حجة ودليلا على ما كلفهم وأراح في ذلك عللهم،
فقال له هشام: فما هذا الدليل الذي نصبه لهم؟
قال الشامي: هو رسول الله(صلى الله عليه وآله).
قال هشام: فبعد رسول الله من؟ قال: الكتاب والسنة،
قال له هشام: فهل نفعتا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه حتى يرفع الاختلاف عنا؟
قال الشامي: نعم، قال هشام: فلم اختلفنا نحن وانت وجئتنا من الشام تخالفنا وتزعم ان الرأي طريق الدين وانت مقر بأن الرأي لا يجمع الى القول الواحد المختلفين؟ فسكت الشامي كالمفكر.
فقال له ابو عبدالله (عليه السلام): ما لك لا تتكلم؟ فقال: ان قلت ما اختلفنا كابرت وان قلت ان الكتاب والسنة يرفعان الاختلاف ابطلت لأنهما يحتملان الوجوه، ولكن لي عليه مثل ذلك.
فقال ابو عبدالله(عليه السلام): سله تجده ملياً، فقال الشامي لهشام: من انظر للخلق ربهم ام انفسهم؟ فقال هشام: بل ربهم انظر،
قال الشامي: فهل اقام لهم من يجمع كلمتهم ويرفع اختلافهم ويبين لهم حقهم من باطلهم؟ قال هشام: نعم، قال الشامي، من هو؟
قال هشام: اما في ابتداء الشريعة فرسول الله(صلى الله عليه وآله) واما بعد النبي فغيره،
فقال الشامي: ومن هو غير النبي(صلى الله عليه وآله) القائم مقامه في حجته؟
قال هشام: في وقتنا هذا ام قبله؟ قال الشامي: بل في وقتنا هذا،
قال هشام: هذا الجالس يعني ابا عبدالله(عليه السلام) الذي تشد اليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن اب عن جد، قال الشامي: وكيف لي بعلم ذلك؟ قال هشام: سله عما بدا لك، قال الشامي: قطعت عذري فعلي السؤال.
فقال له ابو عبدالله(عليه السلام): انا اكفيك المسألة يا شامي اخبرك عن مسيرك وسفرك يوم كذا وكان طريقك كذا ومررت على كذا وكذا ومر بك كذا وكذا، فأقبل الشامي كلما وصف له شيئا من امره يقول: صدقت والله، ثم قال له الشامي: اسلمت لله الساعة،
فقال له ابو عبد الله(عليه السلام): بل آمنت بالله الساعة ان الإسلام قبل الايمان وعليه يتوارثون ويتناكحون والايمان عليه يثابون.
قال الشامي: صدقت فأنا اشهد ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله(صلى الله عليه وآله) وانك وصي الأوصياء.
قال: واقبل ابو عبدالله(عليه السلام) على حمران فقال: يا حمران تجري الكلام على الاثر فتصيب،
والتفت الى هشام بن سالم فقال: تريد الاثر ولا تعرفه،
ثم التفت الى الأحول فقال: قياس رواغ تكسر باطلا بباطل الا ان باطلك اظهر،
ثم التفت الى قيس الماصر فقال: تتكلم واقرب ما يكون من الخبر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ابعد ما تكون منه، تمزج الحق بالباطل وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل، انت والأحول قفازن حاذقان، قال يونس بن يعقوب: فظننت والله انه يقول لهشام بن الحكم قريباً مما قال لهما، فقال: يا هشام لا تكاد تقع تلوي رجليك اذا هممت بالارض طرت، مثلك فليكلم الناس اتقي الزلة والشفاعة من ورائك.
من أخلاق الإمام الصادق(ع)
صلة الرحم
لقد جاء في الأحاديث النبوية الشريفة التأكيد على هذا الموضوع الاجتماعي المتصل بالدين اتصالا وثيقا، لأنه يرسخ الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين، ويوحي للإنسان أن المال الذي في يده فيه حق للسائل والمحروم، فتلتهب الروح عاطفة حميمة تجاه الفقراء، من الأهل والأقارب على الخصوص.
ومن هذا المنطلق سعى الإمام الصادق عليه السلام إلى أن يجسد هذه المفردة الإسلامية والإنسانية ليكون لنا قدوة وأسوة في هذا المجال، إذ تروي لنا سالمة وهي خادمة الإمام الصادق عليه السلام تقول: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام حين حضرته الوفاة وأغمي عليه، فلما أفاق قال: (أعطوا الحسن بن علي بن علي بن الحسين ويلقب بـ(الحسن الأفطس) سبعين دينارا وأعط فلانا كذا وفلانا كذا) فقلت: أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك فقال عليه السلام: (تريدين أن لا أكون من الذين قال الله عزوجل: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) نعم ياسالمة إن الله خلق الجنة فطيبها وطيب ريحها وإن ريحها يوجد من مسيرة ألفي عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم).
كرم الإمام الصادق(عليه السلام)
لقد كان صلوات الله عليه يطعم الناس حتى لا يبقى لعياله شيء، وليس هذا من باب الإسراف بل غاية الجود والكرم والسخاء منهم عليهم السلام، فهذه إفاضات الروح وإشراقات النفس العالية التي تعلو بالكمال والشموخ بعيدا عن التكبر والبخل.
وروي أن فقيرا سأل الإمام الصادق صلوات الله عليه فقال الإمام لخادمه: (ما عندك؟) قال:أربعمائة درهم. فقال الإمام عليه السلام: أعطه إياها) فأعطاه فأخذها الفقير شاكرا للإمام، فالتفت الإمام لخادمه وقال له: (أرجعه) فرجع الفقير وهو مستغرب فقال: يا سيدي سألتك فأعطيتني فماذا بعد العطاء؟ فقال له: (قال رسول الله (خير الصدقة ما أبقت غنى) وإنا لم نغنك فخذ هذا الخاتم فقد أعطيت فيه عشرة ألاف درهم فإذا احتجت فبعه بهذه القيمة).
فالمال في نظر الأولياء وسيلة لا أكثر، به يحاولون أن يصونوا كرامة الإنسان ويحفظون له ماء الوجه فلذا تراهم يعطون للفقير ما يغنيه لكيلا يفتقر مرة أخرى.
بل كان للإمام الصادق عليه السلام أسلوب خاص وبرنامج خاص في شأن الأموال فلنقرأ هذه القصة لنتعلم منها درسا رائعا: مر المفضل وهو من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام على رجلين يتشاجران في الميراث فوقف عندهما ثم قال لهما: تعالوا إلى المنزل، فأتياه فأصلح بينهما بأربعمائة درهم فدفعها إليهما من عنده، حتى إذا انتهى الشجار وتراضيا بالميراث وبما دفعه إليهما المفضل قال: أما إنها ليست من مالي ولكن أبو عبد الله عليه السلام أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا الشيعة في شيء أن أصلح بينهما بالمال، فهذا من مال أبي عبد الله عليه السلام.
معجزات وكرامات:
روي أن عيسى بن مهران قال:
كان رجل من أهل خراسان من وراء النهر وكان موسرا وكان محبا لأهل البيت عليهم السلام وكان يحج في كل سنة وقد وظف على نفسه لأبي عبد الله عليهم في كل سنة ألف دينار من ماله، وكانت له زوجة تساويه في الغنى والديانة فقالت له في بعض السنين: يا ابن عم حج بي في هذه السنة، فأجابها إلى ذلك فأخذها معه للحج وحملت هذه المرأة الصالحة لعيال وبنات الإمام الصادق صلوات الله عليه بعض الهدايا من فواخر الثياب والجواهر والعطور.
فلما وصلا إلى المدينة دخل الرجل على الإمام الصادق عليه السلام وسلم عليه ودفع إليه المال، ثم أخذ منه إذن ورخصة أن تدخل زوجته على عيال وبنات الإمام فوافق الإمام ودخلت عليهم وأقامت يوما عندهم ثم مضوا إلى دار لهم في المدينة.
وفي أحد الأيام دخل الرجل على زوجته الصالحة فرآها تحتضر وهي على وشك الموت، فقام بتهيئة الكفن والقبر ثم ذهب إلى الإمام الصادق عليه السلام وسأله أن يصلي على زوجته، فقام أبو عبد الله وصلى ركعتين ودعا ثم قال للرجل: (انصرف إلى بيتك فإن أهلك لم تمت) فعاد الرجل فوجد زوجته صحيحة خالية من المرض وكأن لم يصبها شيء.
بعدها خرجوا إلى مكة من أجل الحج وكذلك خرج الإمام للحج أيضا، وأثناء الطواف رأت تلك المرأة الإمام الصادق يطوف والناس قد حفوا به فقالت لزوجها: من هذا الرجل؟ قال: هذا أبو عبد الله الصادق عليه السلام فقالت: هذا والله الرجل الذي رأيته يشفع إلى الله حتى رد روحي جسدي!.
نعم ... الأئمة عليهم السلام يفيضون رحمة ورأفة على أوليائهم ويجازونهم بالفضل والإحسان جزاءا على أعمالهم الصالحة وحبهم الخالص، وهذا أحد مصاديق قوله تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)
ولنعم ما قال الشاعر:
إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهباً * يقيك غداً حر الجحيم من النار
فخل حديث الشافعي ومالك * وأحمد والنعمان عن كعب الأحبار
ووال أناسا قولهم وحديثهم * روى جدنا عن جبرئيل عن الباري
فخل حديث الشافعي ومالك * وأحمد والنعمان عن كعب الأحبار
ووال أناسا قولهم وحديثهم * روى جدنا عن جبرئيل عن الباري