الإمام الصادق ( عليه السلام ) في ذمة الخلود
  • عنوان المقال: الإمام الصادق ( عليه السلام ) في ذمة الخلود
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 20:2:14 1-9-1403

الإمام الصادق ( عليه السلام ) في ذمة الخلود

   وتتابعت المحن على سليل النبوة وعملاق الفكر الإسلامي الإمام الصادق ( عليه السلام ) في عهد المنصور الدوانيقي ، فقد رأى ما قاساه العلويون وشيعتهم من ضروب المحن والبلاء ، وما كابده هو بالذات من صنوف الإرهاق والتنكيل ، فقد كان الطاغية يستدعيه بين فترة وأخرى ، ويقابله بالشتم والتهديد ، ولم يحترم مركزه العلمي وشيخوخته، وانصرافه عن الدنيا إلى العبادة وإشاعة العلم ، ولم يحفل الطاغيه بذلك كله ، فقد كان الإمام شبحاً مخيفاً له ، ونعرض بإيجاز الشؤون الأخيرة من حياة الإمام ووفاته .

أعلن الإمام الصادق ( عليه السلام ) للناس بدنوّ الأجل المحتوم منه ، وإن لقاءه بربّه قريب ، وإليك بعض ما أخبر به :

أولاً : قال شهاب بن عبد ربه : قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ( كيف بك إذا نَعاني إليك محمد بن سليمان ؟ ) ، قال : فلا والله ما عرفت محمد بن سليمان من هو .

فكنت يوماً بالبصرة عند محمد بن سليمان وهو والي البصرة ، إذ ألقى إليَّ كتاباً وقال لي : يا شهاب ، عظَّم الله أجرك وأجرنا في إمامك جعفر بن محمد ، فذكرت الكلام فخنقتني العبرة .

ثانياً : أخبر الإمام ( عليه السلام ) المنصور بدنوِّ أجله لمَّا أراد الطاغية أن يقتله ، فقد قال ( عليه السلام ) له : ( ارفق فو الله لقلَّ ما أصحبك ) ، ثم انصرف عنه .

فقال المنصور لعيسى بن علي : قم اسأله : أبي أم به - وكان يعني الوفاة - ؟ .

فلحقه عيسى وأخبره بمقالة المنصور ، فقال ( عليه السلام ) : ( لا بل بي ) .

وتحقّق ما تنبّأ به الإمام ( عليه السلام ) ، فلم تمضِ فترة يسيرة من الزمن حتى وافته المنية .

كان الإمام الصادق ( عليه السلام ) شجي يعترض في حلق الطاغية الدوانيقي ، فقد ضاق ذرعاً منه ، وقد حكى ذلك لصديقه وصاحب سره محمد بن عبد الله الإسكندري .

يقول محمد : دخلت على المنصور فرأيته مغتمّاً ، فقلت له : ما هذه الفكرة ؟

فقال : يا محمد لقد هلك من أولاد فاطمة ( عليها السلام ) مقدار مائة ويزيدون - وهؤلاء كلهم كانوا قد قتلهم المنصور - ، وبقي سيدهم وإمامهم .

فقلت : من ذلك ؟

فقال : جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) .

وحاول محمد أن يصرفه عنه فقال له : إنه رجل أنحلته العبادة ، واشتغل بالله عن طلب الملاك والخلافة .

ولم يرتض المنصور مقالته فردَّ عليه : يا محمد قد علمتُ أنك تقول به وبإمامته ، ولكن الملك عقيم .

   وأخذ الطاغية يضيق على الإمام ( عليه السلام ) ، وأحاط داره بالعيون وهم يسجلون كل بادرة تصدر من الإمام ( عليه السلام ) ويرفعونها له .

وقد حكى الإمام ( عليه السلام ) ما كان يعانيه من الضيق حتى قال : ( عزَّت السلامة ، حتى لقد خفي مطلبها ، فإن تكن في شيء فيوشك أن تكون في الخمول ، فإن طلبت في الخمول فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت ، والسعيد من وجد في نفسه خلوة يشتغل بها ) .

لقد صمَّم على اغتياله غير حافل بالعار والنار ، فدسَّ إليه سمّاً فاتكاً على يد عامله فسقاه به ، ولما تناوله الإمام ( عليه السلام ) تقطَّعت أمعاؤه ، وأخذ يعاني الآلام القاسية ، وأيقن بأن النهاية الأخيرة من حياته قد دنت منه .

   ولما شعر الإمام ( عليه السلام ) بدنوِّ الأجل المحتوم منه أوصى بعدَّة وصايا ، كان من بينها ما يلي :

الأولى : أوصى للحسن بن علي المعروف بالأفطس بسبعين ديناراً ، فقال له شخص : أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة ؟ فقال ( عليه السلام ) له : ( ويحك !! ما تقرأ القرآن ؟! ( والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) ) .

لقد أخلص الإمام ( عليه السلام ) كأعظم ما يكون الإخلاص للدين العظيم ، وآمن بجميع قيمه وأهدافه ، وابتعد عن العواطف والأهواء ، فقد أوصى بالبرِّ لهذا الرجل الذي رام قتله لأن في الإحسان إليه صلة للرحم التي أوصى الله بها .

   الثانية : إنه أوصى بوصاياه الخاصة وعهد بأمره أمام الناس إلى خمسة أشخاص : وهم المنصور الدوانيقي ، ومحمد بن سليمان ، وعبد الله ، وولده الإمام موسى ( عليه السلام ) ، وحميدة زوجته .

   وإنما أوصى بذلك خوفاً على ولده الإمام الكاظم ( عليه السلام ) من السلطة الجائرة ، وقد تبيَّن ذلك بوضوح بعد وفاته ، فقد كتب المنصور إلى عامله على يثرب بقتل وصي الإمام ( عليه السلام ) ، فكتب إليه : إنه أوصى إلى خمسة وهو – المنصور - أحدهم ، فأجابه المنصور : ليس إلى قتل هؤلاء من سبيل .

الثالثة : إنه أوصى بجميع وصاياه إلى ولده الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، وأوصاه بتجهيزه وغسله وتكفينه والصلاة عليه ، كما نصَّبه إماماً من بعده ، ووجَّه خواص شيعته إليه وأمرهم بلزوم طاعته .

   الرابعة : إنه ( عليه السلام ) دعا السيّدة حميدة زوجته ، وأمرها باحضار جماعة من جيرانه ومواليه ، فلما حضروا عنده قال ( عليه السلام ) لهم : ( إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة ) .

   وأخذ الموت يدنو سريعاً من سليل النبوة ، ورائد النهضة الفكرية في الإسلام ، وفي اللحظات الأخيرة من حياته أخذ يوصي أهل بيته بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات ، ويحذرهم من مخالفة أوامر الله وأحكامه ، كما أخذ يقرأ سوراً وآيات من القرآن الكريم .

ثم ألقى النظرة الأخيرة على ولده الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) وفاضت روحه الزكية إلى بارئها .

   لقد كان استشهاد الإمام من الأحداث الخطيرة التي مُني بها العالم الإسلامي في ذلك العصر ، فقد اهتزت لهوله جميع أرجائه ، وارتفعت الصيحة من بيوت الهاشميين وغيرهم وهرعت الناس نحو دار الإمام ( عليه السلام ) وهم ما بين واجم ونائح على فقد الراحل العظيم الذي كان ملاذاً ومفزعاً لجميع المسلمين .

وقام الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) وهو مكلوم القلب ، فأخذ في تجهيز جثمان أبيه ، فغسل الجسد الطاهر ، وكفنه بثوبين شطويين كان يحرم فيهما ، وفي قميص وعمامة كانت لجده الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، ولفَّه ببرد اشتراه الإمام موسى ( عليه السلام ) بأربعين ديناراً .

   وبعد الفراغ من تجهيزه صلى عليه الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) وقد ائتمَّ به مئات المسلمين ، ثم حمل الجثمان المقدس على أطراف الأنامل تحت هالة من التكبير ، وقد غرق الناس بالبكاء وهم يذكرون فضل الإمام ( عليه السلام ) وعائدته على هذه الأمة بما بثَّه من الطاقات العلمية التي شملت جميع أنواع العلم .

وجيء بالجثمان العظيم إلى البقيع المقدس ، فدفن في مقرّه الأخير بجوار جدّه الإمام زين العابدين وأبيه الإمام محمد الباقر ( عليهما السلام ) ، وقد واروا معه العلم والحلم وكل ما يسمو به هذا الكائن الحي من بني الإنسان .