الإسلام في الوعي الغربي
  • عنوان المقال: الإسلام في الوعي الغربي
  • الکاتب: عبد الجبّار الرفاعي
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 23:3:17 1-9-1403

الإسلام في الوعي الغربي

عبد الجبار الرفاعي

عودة إلى جذور تشكيل صورة الشرق والإسلام في العقل الغربي:

منذ سقوط غرناطة عام (1492 م) واكتشاف أمريكا في نفس العام، إستطاع الغرب الأوروبي أن يتجاوز حدوده ، ويمتد نحو مناطق نفوذ خارج كيانه الحضاري ، مخترقاً مجتمعات أخرى لم تزل تعيش حياتها وتواصل تجاربها الزمنية، في إطار تاريخها وتراثها الخاص ، الذي كان يتقاطع بشكل واضح مع النسق الحضاري لمسار التاريخ الأوروبي.

بيد أنّ هذا الأخير، كان يهدف إلى إعادة صياغة بنية تلك المجتمعات، بعد تفتيت بنيتها الأولى في ضوء الوعي التسلطي، الذي ظل أسيراً له منذ قرون كما يقول (الفنجستون) ـ وهو من كبار المرسلين والمكتشفين في سنة (1850 م) ـ عن الشعوب المستعمرة وعن مهمتهم هنا :

(نأتي إليها لكوننا أعضاء في عرق متفوق، وخدماً لحكومة ترغب في تنشئة الأطراف الأكثر انحطاطاً في العائلة الإنسانية، نحن أصحاب دين مقدس ومسالم، ونستطيع بفضل سلوكنا المحدد ومساعينا الحكيمة الصبور أنّ نصبح رواد السلام، لجنس لا يزال هائجاً ومسحوقاً) .

وهكذا يزعم (م . روى) : بأنّ استعمار الجزائر إنّما هو : بسط القانون ومنافع المدنية على السكان الهمجيين، وأقرب أسلوب عقلي لهذا هو : أنّ يتم عن طريق الاستعمار المسيحي والمدنية الدينية.

لقد أضحى كلّ ما هو خارج المركز (الغرب) في تصور الإنسان الغربي منطقة قضاء حضاري، وثقافي، ومعرفي، ولأجل ذلك لابد أن يقوم هذا الإنسان بمهمته التمدينية في الأطراف، بل ينبغي له أن يسحق كلّ مظهر للمقاومة يمكن أن ينبعث في الأطراف، ويحول دون إنجازه لمهمته، وهذا ما تؤكده مقالة نشرت في إحدى صحف (بوردو) سنة (1846 م)، حول الموقف من الأهالي الوطنيين في الجزائر ، والكيفية التي يجب أن يعامل بها البدوي الجزائري :

(إنّ البدوي هو : الهندي الأحمر في أفريقيا، ويجب تهيئة نفس المصير الذي آل إليه الهندي الأحمر أثناء عملية استعمار الرواد لأمريكا، في عملية استعمار فرنسا للجزائر يجب أنّ يختفي (البدوي) من على وجه الأرض.

كذلك اقترحت (ليكودوران (صدى وهران) الصادرة في 2 مايو / آيار 1846 م، إبادة الجنس العربي من الجزائر ومراكش، وأنّ هذا العمل إيجابي، والرأفة الإنسانية الحقيقية تتضمن وجوب إبادة الأجناس التي تقف في وجه التقدم) .

إنّ المركزية الغربية لم تولد فجأة في عصر الاستعمار، وهيمنة الإنسان الأوروبي على العالم الآخر، وإنّما تعود البداية التأسيسية لهذا الموقف الذي تشكل نمط الوعي الغربي نحو الآخر، طبقاً له إلى الحضارة اليونانية ، فمثلاً : كان يعتقد الفيلسوف (سقراط) في أثينا القديمة بضرورة قيام الغرب مهمة (تمدينية) للشعوب المتخلفة.

وفي ضوء نمط الوعي هذا توالت الغارات المقدونية، والهيلنسية، والرومانية، حتّى الحروب الصليبية، من أجل صياغة التمدن في الشرق؛ لأنّ المدنية سمة الإنسان الغربي.

أمّا الشرق وتراثه الحضاري النبوي العريق، فقد جرى تشويه صورته في وعي هذا الإنسان، بتحويله إلى عقل أسطوري ، وفكر متوحش، وروح سلبية، و ... الخ .

وقد بلغ الأمر بالجماعات الأكاديمية والفكرية والدينية في الغرب، أنها كانت تتداول في مناظراتها بجد واحتداد واضحين، مسألة ما إذا كان غير الأوروبيين والأفارقة على وجه الخصوص، قابلين للتمدن أصلاً، وقد ساهم في هذه المداولات من قبل : بلومنباخ ، ولورنس ، ولامارك ، وعلى وجه الخصوص جورج كوفيه.

ولم يتوقف هذا التنظير الذي تولاه بعض مفكري الغرب، عند تكوين وعي زائف، بحقيقة الإنتاج الحضاري للمجتمعات غير الأوروبية، بل تعداه إلى خلق موقف عدائي انتقامي إزاء تلك المجتمعات، وبروز نزعة عدوانية تدميرية تجاه معارفها ومنتجاتها وتراثها، حيث أودت هذه النزعة بحياة مجتمعات عديدة ، وأحرقت تراثها، وانتهت إلى إبادتها.

ففي أمريكا ـ مثلاً ـ كانت تعيش أربع حضارات، بلغ مجموع سكانها مائة مليون نسمة، دمرها الأوربيون خلال قرن واحد، حتّى أنّه لم ينج من الذبح سوى عشرة ملايين، فيما أهلك الغزو (90%) من أهل البلاد الأصليين، وبذلك بادت حضارة (الآزتيك) في وادي المكسيك، و(الأنكا) في أمريكا الجنوبية.

وقد تزامنت معها عمليات تفتيت لمجتمعات إنسانية أخرى في غرب أفريقيا، عندما أقدمت أسبانيا وفرنسا وانجلترا وهولندا على تعويض النقص الحاصل في الأيدي العاملة، الذي نشأ عن المجازر البشرية التي تم فيها إعدام (90%) من مواطني أمريكا من الهنود الحمر، وتعويضهم بواسطة الأفارقة، حيث جرى استرقاق مائة مليون أفريقي من القارة السوداء، ومن ثمّ نقلهم إلى البلاد التي ذبح أهلها.

ولم تكن تلك الممارسة هي الأخيرة التي يقوم فيها الإنسان الغربي، باسترقاق مباشر لمجتمعات بأسرها، وإنّما تكررت هذه الممارسة بشكل آخر، حين أقدمت أوروبا ـ منضمة لها الولايات المتحدة الأمريكية هذه المرة ـ التحاق أعداد غفيرة من العمال ببلادها، عندما قامت بترحيل أعداد كبيرة من الصينيين، واستغلالهم لبناء (بنما)، في نهاية القرن التاسع عشر، وهكذا فعلت فرنسا الشيء نفسه، في بداية القرن العشرين مع المسلمين، حيث جلبت العمال من البلاد الإسلاميّة في شمال أفريقيا للعمل في مناجمها .

وإذا ما رجعنا خطوة إلى الوراء، وحاولنا التعرف على موقف الإنسان الأوروبي من تراث وحضارة المسلمين، قبل عدة قرون ـ وبالتحديد أبان سقوط الأندلس وتراجع المسلمين فيها أمام مؤامرات وغارات التنصير ـ، فسنجد الموقف الغربي تجاه الإسلام وأهله، يناظر موقفه من بقية الحضارات، إذ يتكرر استنساخ رؤيته في نفي الآخر في كلّ حالة مواجهة بينه وبين أية حضارة أخرى، فمثلاً: في مرة واحدة يجري إحراق (700) شخص في أشبيلية، و(113) شخصاً في أبله ، أمّا في مدينة طليطلة فقد مثل أمام المحكمة (1200) شخص، حكم عليهم بالإعدام في جلسة إيمان واحدةٍ،

وكان يُطلب إلى الشخص : إمّا الإيمان بالمسيحية وترك الإسلام، أو الموت حرقاً، ومن هنا جاءت التسمية بجلسات الإيمان .

كذلك أمر (الكردينال خمنيس) بجمع الكتب العربية الموجودة في غرناطة وأرباضها، والتي بلغت أكثر من مائة ألف مجلدٍ، فوضعت أكداساً في ميدان باب الرملة ـ أعظم ساحات المدينة ـ وأضرمت النيران فيها جميعاً، وحوت هذه الأكداس على وثائق تاريخية، ومصاحف مزخرفة، وكتب الأحاديث، والآداب، والعلوم وغيرها . كما اشترك (فرناندو وايسابيلا) بعد تنصير مسلمي الأندلس، بإصدار الأمر بأن تؤخذ من هؤلاء المتنصرين كتب الدين والشريعة، لكي تحرق في سائر مملكة غرناطة .

وإذا ما تحولنا إلى موقعٍ آخر، من جبهات المواجهة بين الإسلام والغرب ـ وفي العصر ذاته ـ، نرى أساليب ووسائل الإبادة للمسلمين وتراثهم ينقلها الغرب معه أينما ارتحل، وفي أي مكان حل، وتظل الحروب الصليبية، وما تركته من صور مأساوية فضيعةٍ، أوضح تعبيرٍ عن ما يملأ قلب الإنسان الأوروبي من حقدٍ وكراهية للآخر.

لقد عرض (ميشو)، نموذجاً لما تبلور عنه الحقد الأوروبي في هذه الحروب بقوله : (تعصب الصليبيون في القدس أنواع التعصب الأعمى، الذي لم يسبق له نظير، حتّى شكا منه المنصفون من مؤرخيهم ، فكانوا يكرهون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البروج والبيوت، ويجعلونهم طعاماً للنار، ويخرجونهم من الأقبية وأعماق الأرض، ويجرونهم في الساحات ويقتلونهم فوق جثث الآدميين، ودام الذبح في المسلمين أسبوعاً ، حتّى قتلوا منهم ـ على ما اتفق على روايته مؤرخو الشرق والغرب ـ سبعين ألف نسمة .

ولما جاؤا معرّة النعمان، قتلوا جميع من كان فيها من المسلمين اللاجئين إلى الجوامع، والمختبئين في السراديب، وأهلكوا صبراً ما يزيد على مائة ألف إنسان في أكثر الروايات، وكانت المعرّة من أعظم مدن الشام، وافاها سكان الأطراف بعد سقوط أنطاكية، وكانوا يعتصمون فيها، وكان الصليبيون قد ذبحوا في أنطاكية وهم في الطريق أكثر من مائة ألف مسلم .

ويعترف ريمون داجيل ـ مؤرخ الحملة الصليبية ومرافقها ـ في سرده للوقائع بأنّه : لم يستطع أن يشقّ طريقه وسط أشلاء المسلمين، إلاّ في صعوبة بالغة، وأنّ دماء القتلى بلغت ركبتيه .

دور الاستشراق والعلوم الإنسانية في الهيمنة الاستعمارية :

لقد ولدت الدراسات الإنسانية الحديثة في أحضان غارات النهب والسطو، التي قام بها الغرب على العالم الآخر، فحملة نابليون على مصر (1798 ـ 1801م) كان يرافقها (150) عالماً منهم : علماء متخصصون في دراسة الثقافات، وكانت أوراقهم في أيديهم ، وهذا الاتصال الأول بين أوروبا ـ رائدة الاستعمار ـ وآسيا وأفريقيا ـ المستعمرتين ـ كان حجر الأساس في دراسة ثقافات المجتمعات في هاتين القارتين.

وكان معهد مصر ـ بفرق الكيميائيين، والمؤرخين، وعلماء الحياة، وعلماء الآثار فيه، وبجراحيه، ودارسي العصور الغابرة، فيه اللهواء المتفقه من ألوية الجيش، ولم تكن مهمته أقل هجومية من أنّ يصوغ مصر في الفرنسية الحديثة .

وقد أكد عالم الاجتماع الأمريكي (أرنولد جرين)، بأنه (إذا كانت حكومة الولايات المتحدة ترغب في إقامة روابط سياسية، واقتصادية، وثيقة مع بلدان شعوب العالم بأسره، فإنّ علينا ـ ويقصد : علماء الاجتماع ـ أن نعرف أكثر ما نعرفه عن هذه البلدان وعن شعوبها : ما هي ثقافتهم ؟ وما هي اتجاهاتهم السائدة نحو الولايات المتحدة ونحو النمو التكنولوجي ؟ وما هي معتقداتهم وانحيازاتهم التي يمكن التعرف عليها والإفادة منها لجذبهم إلى فلك نفوذنا ؟ وما هي الأبنية الاجتماعية الطبقية السائدة ومراكز القيادة ؟ ومن هم هؤلاء الّذين نحتاج تعاونهم أشدّ الاحتياج، قبل الشروع في تنفيذ مختلف البرامج ؟ وبعد البدء في هذه البرامج، فإنّ علينا أن نواصل جمع الإجابات على هذه الأسئلة جميعها بحرص والتأكد منها) .

لقد سخّر الإنسان الغربي كافة الأدوات المعرفية في العلوم الإنسانية ـ فضلاً عن التكنولوجيا ـ، من أجل إخضاع المجتمعات الأخرى لنفوذه، وتكريس وتعميق المشكلات والتداعيات الحياتية، التي كانت تعاني منها تلك المجتمعات، فخرجت تلك العلوم عن حيادها العلمي، وأضحى علماء الاجتماع و(الأنثروبولوجيا) مستشارين للمؤسسة العسكرية، فتحالفت الأكاديميات العلمية مع الجيش، وباتت هذه الأكاديميات بمثابة مراكز التعبئة والإسناد العلمي لوزارات الدفاع والمخابرات، وربما كانت وظيفتها أهمّ من هذه الوزارات في إجهاض وتفتيت الثورات، وحركات المقاومة في البلاد المستعمرة، وعلى حد تعبير الباحثة (مادلين جرافيتس): (يمكن أن نلخص السياسة الأمريكية الخارجية، في جملة وردت في إحدى المقابلات لـ (ج . دبيرمان) يقول فيها : لقد كان الحل السابق لمنع الثورة هو : عشرة عساكر لكلّ محارب مغوار.  أمّا الآن فالحل هو : عشرة أنثر وبولوجيين لكلّ محارب) .

وكان الاستشراق من قبل قد مهد لقيام علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الغربيين بمهماتهم في دراسة المجتمعات الشرقية، وإعداد المتطلبات اللازمة لمعرفة هذه المجتمعات، واكتشاف أنماط حياتها، وتقاليدها ، ومناهج تفكيرها.

لقد اعتمدت البحوث الاجتماعية على المعطيات الوفيرة، التي تراكمت عبر سنوات طويلة من إنتاج المستشرقين، وخبراتهم في اللغات والعادات، والفولكلور، والتراث، والدين في الشرق، وكان محورها تركيب صورة خاصة للشرق، صارت هي الصورة الأمُّ التي تأسست عليها كلّ الرؤى، حول الشرق في الوعي الغربي فيما بعد.

ويعتبر كلّ من : (ساسي ، ورينان ، ولين) الأبطال المدشنين الّذين منحوا الاستشراق، أسساً علمية وعقلانية، وقد نتج عن ذلك : لا كتابتهم النموذجية وحسب ، بل خلق مفردات وأفكار، يمكن أنّ تستعمل بصورة لا شخصانية من قبل أي إنسان يرغب في أن يصبح مستشرقاً، إنّ أسلوب الاستشراق منذ البدء كان يقوم على إعادة التركيب وعلى التكرار.

وتبدو الإشكالية الأساسية في منهج الاستشراق : في اختزاله للشرق، واعتباره مجموعة عادات وأفكار وظواهر، قد تبدو مثيرة للاشمئزاز والقرف، فيما يتمّ طمس وتغييب الأبعاد الأساسية للتراث الحضاري للشرق، الذي تجلى في إبداعات وابتكارات وإنجازات معرفية، وأدبية وفنية وعلمية هامة، أغنت التاريخ البشري في طول مسيرته، والتي لم يكن أقلها نفحات الهدى، وأصوات التوحيد التي تتابعت صادحة من أرض النبوات في الشرق.

ويمكننا معاينة ذلك في ملامح صورة الشرق التي صاغتها ريشة الاستشراق في الوعي الغربي، من خلال التفاصيل التي أوردها (لويس برتران)، في كتابه (السراب الشرقي)، الذي هو ثمرة رحلته للشرق ، الذي أصدره عام (1910م) ، حيث يقول : (في الفرن شاهدت ولداً ينام عرياناً على الخبز، بينما الذباب يأكل وجهه، ويلتصق على حنايا جفونه الوسخة، ثمّ رأيت حماراً أرعن يسرق رغيفاً، كان يشكل وسادة للولد، ويفرّ بعدها على وجه السرعة، ... الشرق!

إنّكم لا تعلمون حقيقته ! إنّه القذارة، والسرقة، والانحطاط، والاحتيال، والقساوة، والتعصب، والحماقة! نعم ، إنّي أكره الشرق ! إنّي أكره الشرقيين. . أكره أولئك المعتمرين بالطرابيش ، والمتلهين بالسبحات).

وعممت هذه الآراء للمستشرقين على الصحافة، والعقل الشعبي، فالعرب ـ مثلاً ـ يتصورون راكبي جمال إرهابيين، معقوفي الأنوف، شهوانيين، شرهين، تمثل ثروتهم ـ غير المستحقة ـ إهانة للحضارت الحقيقية.

وثمة دائماً ـ افتراض متربص : بأنّ المستهلك الغربي، رغم كونه ينتمي إلى أقلية عددية، فإنّه ذو حقّ شرعي : إمّا في امتلاك معظم الموارد الطبيعية في العالم، أو في استهلاكها (أو في كليهما) . لماذا ؟ لأنّه بخلاف الشرقي، إنسان حقّ .

ومن الجدير بالذكر: أنّ هذا النص يعكس الإتجاه العام لحركة الاستشراق، وإن كنا لا نعدم وجود بعض العلماء المنصفين من المستشرقين، الّذين أسهموا في إحياء التراث الشرقي، والتعريف العلمي به وإنصاف أهله ، كما يتجلى أوضح نموذج لذلك في من اهتدوا إلى الإسلام منهم، ونذروا حياتهم للدعوة إليه، والتعريف بعطائه الحضاري العظيم، مثل : العلامة المرحوم محمّد أسد (ليبولد فايس)، والعشرات من أمثاله.

بيد أنّ الاتجاه العام في حركة الاستشراق، اتسم بتكرار استنساخ الصورة التقليدية المزيفة للإسلام والشرق، التي تشكلت أبان الحروب الصليبية في العقل الغربي، وظلت طوال القرون التالية، تلهم العقل الاستشراقي، ولم تزل حتّى هذه اللحظة، تعمم الموقف السابق للغرب من الإسلام والمسلمين.

وليس أدل على ذلك من عمليات الإبادة الجماعية، التي تعرض لها المسلمون في (البوسنة)، على أيدي الصليبين الصرب، بينما وقف الغرب متفرجاً على ذلك ، بل داعماً له بالمال والسلاح، ولم نر اختلافاً في موقف الغرب الثقافي، أو الغرب السياسي، أو الغرب العسكري، من عمليات إبادة المسلمين في البوسنة.

بقي أن نشير إلى وجود طائفة من المثقفين في ديارنا، ممن افتتنوا بالغرب ، فحاولوا تقليده واستنساخ مواقفه، في كلّ شيءٍ حتّى في عدوانيته تجاه أبناء جلدتهم وأهليهم، فتبدو لهم حركات المقاومة للاستعمار والتغريب (جائحة أيديولوجية ووباء نفسياً)، وتغدو دعوة الأصالة، واستلهام العناصر الحية الفاعلة، في التراث (خطاب ارتداد عن العصر) .

وهي لا تعدو إلاّ أنّ تكون (انسحاباً من التاريخ)، (وانبثاق المعتقدات المهجورة)، ونموذجاً لـ (الخطاب الهذياني)  بحسب تعبيرهم.

لقد انطلق هؤلاء الكتاب من عقدة، إزاء مجتمعهم وعقيدتهم، فبات كلّ ما هو آت من الغرب مقدساً لديهم، وكل موروث حضاري وعقائدي (ظلامية)، و(جائحة ايديولوجية)، و(هذياناً) في نظرهم.

وتجاوز بعضهم كلّ الحدود في موقفه، فأضحى لديه النقد العلمي للاستشراق، الذي أنجزه الباحث الفلسطيني المغترب (إدوارد سعيد)ـ مثلا ـ ليس إلاّ (استشراقاً معكوساً)، أو (الإيحاء الصريح بأنّ إدوارد سعيد عميل للمخابرات الأمريكية)، لأنّه (يقدّم نصائحه إلى صانعي السياسة الأمريكية، وخبرائهم واختصاصييهم، حول أفضل الأساليب لتمتين الأسس، التي يمكن أنّ تستند إليها التوظيفات الأمريكية، في الشرق الأوسط ، وأفضل الطرق لتحسين شروط علاقة التبعية المذكورة...) ، كما يقول صادق جلال العظم، الذي تميز من بين كلّ الكتاب المتغرّبين بخطابه التحريضي العنيف ضد الإسلام والشرق، وبانحيازه السافر في مخاصمة أية محاولة للدفاع عن التراث الشرقي، حتّى لو صدرت عن باحث غير مسلم، وبالعكس، أي : تبنيه الدفاع عن أي عمل عدواني ضد تراث الإسلام ونبيه الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ ، كما تمثل في كتابه الأخير، الذي يدافع فيه عن المرتد سلمان رشدي، ويدعو لحماية أفكاره، ويدين المواقف الناقدة له، ويهزأ بها.

تلك لمحة خاطفة عن جذور الصراع الحضاري، بين الغرب والآخر، ارتسمت لنا فيها بعض أبعاد المواجهة الحضارية، وامتداداتها بين الإسلام من جهة، والغرب من جهة أخرى، وهي : مواجهة بدأت ضارية منذ اغتيال الأندلس، ومازالت ضارية كما تلوح في (البوسنة والهرسك) وغيرها، وستتواصل كذلك مادام الغرب محكوماً بالموقف العدواني من الحضارات الأخرى، والحضارة الإسلاميّة بالذات.

ولكنّ الإسلام ـ وعلى مدى صراعه مع الغرب ـ تترس بعناصر المقاومة الذاتية التاريخية التي يملكها : من أسباب عقائدية وثقافية وحضارية ليحطم ـ دوماً ـ موجات التدمير والإبادة الآتية من الغرب ، وفي كلّ مرة تتحرر بعض القدرات الكامنة في المجتمعات الشرقية، لتفاجئ الغرب بعوامل جديدة في المقاومة.

إنّ ولادة الاتجاه التقريبي بين المذاهب الإسلاميّة، والدعوات المتزايدة إلى التفاهم والتقارب، والوحدة تعدّ مؤشراً واضحاً، على بروز عوامل مهمة في مقاومة (وعي الغرب)، المضاد لحالة النهوض بأسلوب أكثر جدية وحيوية، وما الإنبعاث الإسلامي في الربع الأخير من القرن العشرين؛ إلاّ أوضح تعبير عن المقاومة الذاتية، والحفاظ على الهوية الحضارية، في وجه عمليات التشويه والمسخ الحضاري.