مشهد.. من حياة إبراهيم الخليل عليه السّلام
إطلالة على النور
إبراهيم الخليل عليه السّلام هو أبو الأنبياء وداعية التوحيد، ورسول الحنيفيّة السمحاء، وَلِه بحبّ الله تبارك وتعالى، فمَلَك عليه روحه وجوارحه، فراح يحمل أمر الله جلّ وعلا يقطع به الفيافي والقفار، ويجوب به الآفاق والمدَيات.. هادياً صادعاً بدعوته الإلهيّة، مهاجراً في ذلك بعيداً عن الوطن والأهل والدنيا، أميناً على رسالة الحقّ ومبادئ الهدى، فجاءته كلمات الله تبارك وتعالى تمدحه وتُثني عليه:
ـ إنّ إبراهيمَ كان أُمّةً قانتاً للهِ حنيفاً (1).
ـ إنّه كان صِدّيقاً نبيّاً (2).
ـ إنّ إبراهيمَ لَحليمٌ أوّاهٌ مُنيب (3).
ـ وإبراهيمَ الذي وفّى (4).
ـ ولقد آتَينا إبراهيمَ رُشْدَه (5).
ـ سلامٌ على إبراهيم * كذلك نَجزي المحسنين * إنّه مِن عبادِنا المؤمنين (6).
ـ واتّخذَ اللهُ إبراهيمَ خليلاً (7).
ـ لقد كان لكم أُسوةٌ حَسَنةٌ في إبراهيمَ والذين معه (8).
ذلكم إبراهيم بن تارخ، شاء الله عزّوجلّ أن يُولَد وينمو ويترعرع في أرض الرافدين بالعراق، حيث كانت الوثنية والظلم وجبروت النمرود بن كوش(9) ملك بابل وطاغيتها المستبد.
وكانت ولادة إبراهيم سلام الله عليه في قرية كوثي أُور الكلدانيّة قرب الشاطئ الغربي للفرات، وقيل: وُلد ببابل(10).
نداء الحقّ
بدأ إبراهيم الخليل دعوته المباركة منادياً بعقيدة التوحيد، فبدأت المواجهة مع جبروت الطغيان النمروديّ والكبرياء المتجبّر، وقد أعرض الناس عن دعوة نبيّهم، خوفاً من نمرود وجهلاً أحياناً بالحقائق والمصائر، وأحياناً أُخرى سفاهةً منهم وطيشاً وعناداً:
ومَن يَرغبُ عن مِلّةِ إبراهيمَ إلاّ مَن سَفِهَ نفسَه، ولقد اصطَفَيناه في الدنيا وإنّه في الآخرةِ لَمِن الصالحين (11).
قيل: معنى ذلك: ـ أنّه لا يرغبُ عن ملّة إبراهيم عليه السّلام ـ أي دينه الداعي إلى التوحيد والأخلاق الحنيفيّة ـ إلاّ مَن أهان نفسه واحتقرها وأهلكها؛ بضَعفِ عقله وخفّته، إذ يُعرِض عن دعوةِ من اختاره الله تعالى واصطفاه لِدِينه ورسالته وأمانته في الدنيا، ومَن جُمعت فيه الكمالات المعنوية وحقيقة العبودية، فيُعرَف في الآخرة كيف كان من الصالحين.
وكان ممّن فتح الله قلبه للإيمان، وأيقظ حسَّه لاستقبال دعوة التوحيد، ونفخ فيه روح العزيمة والصبر: زوجته « سارة » وهي ابنة خاله ( لاجح )، فكانت السبّاقةَ إلى الإيمان بدعوته والتصديق برسالته(12)، وآمنَ به ابن أخيه ( لوط بن هاران )، وثلّة من الموفّقين الذين أصابوا حظّهم.
ولمّا احتدم الموقف بين الخليل والنُّمرود، أصرّ هذا الطاغية واستكبر وعتا، حتّى قرّر إحراق إبراهيم نبيّ الله والقضاء على دعوته.. فلم يَبقَ أمام إبراهيم إلاّ الهجرُ والهجرة: هجرُ الظالمين والمتواطئين، والهجرةُ إلى الله ربّ العالمين، فقال عليه السّلام: إنّي مُهاجِرٌ إلى ربّي (13).
الهجرة إلى الله
هاجر الخليل عليه السّلام أوّلَ ما هاجر إلى ( أُور ) مستقرّاً فيها زمناً، ولم تكن هذه البلدة موفّقة لاستقبال دعوته، فهجرها متّجهاً إلى فلسطين ـ هو والذين آمنوا معه ـ، فصَحِبَته ( سارة )(14)، فتعلّقت به رفيقةَ دربِ جهاد، وشريكةَ مسيرةِ عقيدة، فانضمّ إبراهيم في رحلته الإلهيّة هذه إلى النبيّ المهاجر ( لوط ) عليه السّلام، مواصلاً سيره يقطع فيه الفيافي والقفار عبر الصحارى نحو أرض الشام، أرض كنعان الحبيبة؛ ليستقرّ بعد سفرٍ فيها يحطّ هناك رحاله؛ ليرسم يومها أغنى فصول التاريخ في حياة البشريّة الجدباء.
وما الهجرة إلاّ كفاح وعناء، وما أصعبها إذا كان وراءها تربية وإعداد وبناءٌ إنساني.
فطوى أبو الأنبياء فيافي الأرض، وهجر بابل.. ولم يصحبه من الأهل إلاّ سارة المؤمنة، فكانت أوّلَ النساء المؤمنات افتتاحاً لدرب الهجرة، وكان الخليل لذلك معتزّاً بها.
وشاء الله تعالى بحكمته وامتحانه أن تمنع السماء قَطْرَها، وأن تُجدِب أرض كنعان، فيتوارى الخليل من أرضها، ويواصل رحلته باتجاه مصر، فما وَطِئها حتّى وجد فيها ظالماً، فيعود هو وسارة ومعهما جارية مصرية اسمها ( هاجَر ) تملكها سارة، متّجهين نحو الأرض المباركة، وحاطّين رحالهم في الشام مرّة أخرى، وذلك في ( بلدة السبع ) بفلسطين(15).
وهناك.. يُسرِج إبراهيم عليه السّلام مشعل النور، ويرفع صوته بالتوحيد، فيبني مسجداً للذِّكر والعبادة ودعوة الحقّ، ويتّخذ فيها بئراً معينةً للخصب والطهارة والحياة. لكنّ أهل هذه البلدة لم يَعرفوا قَدْر إبراهيم، ولم يشكروا الله على نعمة حلوله بينهم، فآذَوه وضيّقوا عليه، فتركهم ورحل، ورحلت البركات عنهم معه، وجفّت تلك البئر الفيّاضة.. وواصل إبراهيم مسيره إلى بلدة ( القَطّ ) ـ بين الرملة وإيليا بالشام ـ وعاش مع سارة وهاجر في بيت متواضع واحد.
في استقبال الوريث الطيّب
ودبّت الشيخوخة نحو الزوجة الصالحة سارة، كما اشتعل رأس إبراهيم شيباً، وما زال البيت قفراً لا تُسمع في أرجائه نغمات طفلٍ وليد يبكي أو يناغي. وما أسماه من موقف! عَرَضَت سارةُ جاريتها على إبراهيم زوجها، لعلّ الله تبارك شأنه أن يهب من هاجر ذريّة النبوّة، ويغمر البيت الإبراهيميّ الزاكي بأجواء الولد الطاهر.
وتزوّج إبراهيم، وكان الأمل الكبير يغمر نفسه الشريفة، ولسان القلب يناجي: رَبِّ هَبْ لي مِن الصالحين (16)، فجاءت الاستجابة المباركة: فبشَّرْناهُ بغلامٍ حليم (17).
وجاء دور ( هاجر )، حيث تحمل نطفة النبوّة المقدّسة، فينمو في أحشائها جنين طيّب ينتظره الخليل بعين مَشوقة.. وتظهر على هاجر علامات الحمل، فتخشى تحسّسَ سيّدتها سارة الحادثَ الجديد، وتخاف إثارة غيرتها وحالة عُقمها، فتتّخذ لنفسها منطقاً ( حزاماً ) تتمنطق به؛ لتُخفيَ أثر الجنين في رحاب مملكة الرحمة والحنان.
وتمرّ الأيّام.. ويكتمل الجنين.. ويأذن الله جلّت عظمته للوليد أن يُطلّ بالنور والبركة، فيملأ الدنيا بتأمّلاته النبويّة الشفّافة، ويعطّر آفاق الكون بأنفاسه العاطرة.. ذلك هو ( إسماعيل ).
----------------------------------
1 ـ النحل:120.
2 ـ مريم:41.
3 ـ هود:75.
4 ـ النجم:37.
5 ـ الأنبياء:51.
6 ـ الصافّات: 109 ـ 111.
7 ـ النساء: 125.
8 ـ الممتحنة: 4.
9 ـ وقيل: النمرود بن كنعان.
10 ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير 94:1.
11 ـ البقرة:130.
12 ـ مروج الذهب للمسعودي 57:1 ـ الطبعة الأولى.
13 ـ العنكبوت: 26.
14 ـ وقيل: هي ابنة عمّه وابن