درس الهجرة الى كربلاء
  • عنوان المقال: درس الهجرة الى كربلاء
  • الکاتب: السَيد محَمد الياسِري
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 23:32:42 1-9-1403

درس الهجرة الى كربلاء

السَيد محَمد الياسِري

الهجرة .. درس بليغ من دروس عاشوراء .. وقد لازم درس الثورة على طول المسار الطويل لصراع الحق مع الباطل والخير مع الشر ..
والهجرة لغة كما جاء في لسان العرب لإبن منظور وتاج العروس للزبيدي : مادة - هجر- الهجر ضد الوصل هجره يهجره هجرا وهجرانا وهما يهتجران يتهاجران وفي حديث : لاهجرة بعد ثلاث .
أما الهجرة في الإصطلاح الشرعي فهي الخروج من دار الحرب الى دار الإسلام ..

وقال إبن العربي وإبن قدامة ، هي الخروج من دار الكفر الى دار الإسلام ، وقالوا هي الإنتقال من مواضع الشرك والمعاصي الى بلد الإسلام والطاعة .
وتلك هي الهجرة المباركة التي دعا لها صريح الكتاب الكريم ، قال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا )) [النساء : 97] .
وهناك هجرة إرادية وأخرى غير إرادية ، ولعل هبوط أبينا آدم النبي (عليه السلام) كان أول هجرة غير إرادية ، كما أن للأنبياء والرسل هجراتهم ، كنبي الله نوح (عليه السلام) الذي جاء قومه الطوفان ، ونبي الله إبراهيم الذي هاجر وزوجه هاجر وولده إسماعيل الذبيح الى واد غير ذي زرع ، ووضع القواعد وأذن في الناس بالحج .
وخرج النبي موسى (عليه السلام) من مصر لأن فرعون وأتباعه كانوا يريدون قتله ، قال تعالى (( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ)) [القصص : 21] .
وأشهر هجرة سجلت في تاريخ البشرية وأحدثت تحولا في حياة الناس هي هجرة النبي الخاتم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مكة الى يثرب ، المدينة النورة لاحقا ، وكانت تكليفا إلهيا ، وليس تشريفا كما حصل في الإسراء والمعراج .
وقد أبلغ إبن عمه وصهره وخليفته من بعده الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بمؤامرة قريش التي تستهدف الرسالة الإسلامية بإستهداف حياة رائدها ، فقد دبروا له مكيدة في إجتماع تم بدار الندوة ،  بتحريض من أبي سفيان وأبي جهل ، فقد خططوا لإستهدافه وإشراك جميع قبائل المشركين في مكة ليضيع دمه بين القبائل .

وبأمر إلهي (( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى )) [النجم : 4،3] ، طلب من أخيه ووزيره علي (عليه السلام) أن يبيت على فراشه ، فقال له (( أوتَسْـلَم يارسول الله )) : قال (( نعم )) قال : (( إذن إذهب )) ، ولذلك يشير القرآن الكريم : (( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ )) [الأنفال : 30] ، وفي ذلك نزلت الآية (( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ )) [البقرة : 207] .
تلك هجرة كانت في السادس من ربيع الأول حفاظا على أرواح المسلمين الأوائل ، وكانوا فئة قليلة ، وحفاظا على الأمر العظيم الذي سبق أن ساومته عليه قريش ، فرد بقولته الشهيرة (( لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري... )) .
تلك هجرة كانت للحفاظ على الأرواح من أجل الحفاظ على الإسلام ، وهجرة ثانية كانت للتضحية بالأرواح لتلافي التضحية بالإسلام ، وهي تكليف إلهي وواجب شرعي أيضا .
وهي هجرة الحسين بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله من المدينة الى العراق ، فبعد أن أحدق الخطر بالإسلام وكاد أن يقضي على معالمه ، كان لابد من هجرة ولابد من ثورة ولابد من دم طاهر يوقظ الضمائر ، وشهادة مقدسة ترد المعالم من الدين .
فالحزب الأموي قد تسلق الى كرسي الخلافة الإسلامية بالتلاقف الذي هتف به أبو سفيان - تلاقفوها ياآل أبي سفيان - !!! ، فأصبح التوحيد ستارا للشرك ، والإسلام يعني الإستسلام للحاكمين ، والسنة قاعدة للسلطة ، والحديث عرضة للوضع والتزوير والتحريف ، وبعض أصحاب السابقة تقاضوا ثمنهم ولايات وأمارات ، واعتزل فريق وفريق ساوم ، والسابقون السابقون ، أولئك المبعدون المنفيون الى صحراء الربذة ، المجزرون في مرج عذاء ، المساقون الى قصر الخضراء .
فمن لدين الله وهاهو ينتهك ؟ ومن لعباد الله وقد أجبروا على عبادة طاغية الشام يزيد ؟ وماذا ينتظر إبن محمد وعلي ؟ فسطع ضوءه في ظلام مطبق ، وبانت ملامح الأمل الجديد .
الكل يعرفه ، ويعرف مكانته العالية عند رسول الله القائل : (( حسين مني وأنا من حسين )) .

فهاهو يستعد لكتابة قصة الفداء بدمه على تراب كربلاء ، (( ألا وأني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما )) .
الكل يعرف من هذا الذي يحمل روحه على راحه ، والكل يعرف من هذا الذي أعاد صوت محمد بعد أن كاد يتلاشى ، إنه إبن بنت النبي الوحيدة ، إنه إبن فتى الإسلام وليث الوغى ، الذي شهدت له ساحات بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين والبصرة وصفين ، والكل يعرف من هو علي جيدا .
فها هو الحسين يهاجر ثائراً من أجل رسالة جده السماوية لئلا تنطمس ، وهاهو يهاجر ثائراً من أجل الفقراء والمستضعفين والمحرومين والمعذبين الذين يساقون سوق الغنم الى قصر الخضراء .
هاجر الى العراق ، بعد أن بعث الى أهل الكوفة إبن عمه وأخاه وثقته من أهل بيته مسلم بن عقيل ، الذي تخاذل عنه الناس وتكالب عليه المجرمون ، إبن زياد وجلاوزته .
هاجر الى العراق ، والمنادي ينادي القوم يسيرون والمنايا تسير معهم ، وهو يسترجع وعلي الأكبر لا يبالي بالموت محقا ، لايبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه .
كان أبو عبدالله مهاجراً إلى الشهادة ، فهو على موعد معها وعلى يقين بها ، وهي في ثقافته زينة الرجل الثائر: (( خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة ،  بين النواويس وكربلاء )) ، فهي إذن هجرة مقدسة ، ملازمة للثورة على الظلم الذي مارسته السلطة الأموية الحاكمة باسم الإسلام وهو منها براء ، بعد أن تخلت عن المنهج الإسلامي ، فحولت الخلافة الإسلامية الى مُلك عضوض .
وهجرته مقدمة لثورة تغييرية شاملة ، ترفع شعار أصالة الرسالة ورفض الظلم والفساد والإنحراف ، من المدينة الى مكة ثم الى العراق ، حيث الكوفة ، ثم إضطره جيش قوامه ألف فارس يقوده الحر بن يزيد الرياحي الى تغيير مساره بإتجاه رمضاء الطف ، كل ذلك في سبيل الله ورسوله ، فتلازم مفهوما الهجرة والثورة في ملحمة عاشوراء الخالدة ، وكلاهما يهدف التغيير وكلاهما يتأسس على إشكالية الظلم .
وكان لتلك الهجرة الحسينية المباركة دورها الفاعل في تغيير حياة المسلمين ، كما كانت هجرة منعطف تحول في حياتهم ، وأصبحت تأريخم الذي يبتدئون به ، وينتهون إليه ، وذلك باقتراح من أبي الحسنين علي بعد أن إختلف المسلمون في عهد عمر بن الخطاب ، فقال أحدهم نجعلها من عام الفيل ، وقال ثان وقال ثالث ، فدخل الإمام علي ليحسم النزاع ، فقال نؤرخ من هجرة الرسول فإستحسنوها ، وقال عمر : لاأبقاني الله لمعضلة ليس فيها أبو الحسن .

---------------------------------

مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي (بتصرف يسير) .