هل تتعايش الدولة الإسلامية مع نظام الحكم الذاتي
؟
د. نضير الخزرجي
لا تختلف الأمة عن الفرد من حيث الأداء
والتبعات ، فما يتركه الفرد من ذكرٍ - حسناً كان أو سيئاً - تتركه الأمة ،
ويعظم مثل هذا الأثر إذا تخطى محيط الأمة الأصل ، فهو ينبع من المسؤولية ،
وبحجمها تتسع دائرة الأثر أو تقل ، وقد خلقت عملية الاحتكاك بين المسلمين
وغيرهم من الشعوب غير المسلمة ، حالة من القبول أو الرفض تبعاً للمسؤولية
التي يظهرها القادم من وراء الحدود ، تاجرأ كان أو محاربا ، مهاجراً كان أو
لاجئاً ، وطبيعة تعامله مع أهل الدار ، ومدى التزامه بالنصوص القرآنية
القطعية ، الرافضة لحمل الآخر على دخول الإسلام خلاف إرادته .
من هنا فإن الأمة التي احترمت إرادة الأمم الأخرى ، ساهم مسارها في تثبيت
قواعد العلاقة الأخوية تحت شعار الإسلام الذي رفعه الإمام علي بن أبي طالب
(عليه السلام) ، في عهده لواليه على مصر مالك الأشتر النخعي المستشهد في
بلدة الخانكة (المرج الجديدة) خارج القاهرة عام 37 هـ ، :
(( فإنهم - الناس -
صنفان إما أخ لك في الدين وإمَّا نظير لك في الخلق))
(نهج البلاغة: 3/605، كتاب: 53) .
وهذا
التصنيف في واقعه ليس تنظيراً أو حبراً على ورق ، أو جلدة غزال نعلقها على
جدار غرفنا وصالاتنا للزينة ، وإنما هي ممارسة وأداء تنزل من علياء الجدار
الظاهري إلى علياء الأرض الواقعي ، فالمجتمعات المسلمة التي طبقت هذا
المفهوم القيمي مع نظيراتها من المجتمعات الأخرى ، كانت على قدر من
المسؤولية والتزامها بمفهوم التعامل مع الآخر الإنساني ، وبفضل هذه
المسؤولية نجد بعض الكتابات وحتى يومنا هذا ، يذكر المسلمين الذين حلُّوا
على بلدان الأرض بالخير ، وهذا التوجه ليس منَّة على المسلمين بقدر ما هو
تثبيت لحقيقة أتى بها الإسلام وطبقتها الأمة الإسلامية في بعض مراحلها ،
وهي دعوة قائمة حتى اليوم .
ولهذا ، فإن الأمة الأرمينية على سبيل المثال ، وإلى اليوم تذكر المسلمين
الذين دخلوا أرضها في القرن الأول الهجري بخير ، بل يعتقد البعض أن أرمينيا
عاشت أول تجربة حكم ذاتي في العهد الإسلامي ، كما يذهب إلى ذلك الباحث
السوري الأرمني المعتقد المولود في حلب عام 1954 م الدكتور أواديس بن
أرشاور استانبوليان ، وهو في معرض إعداده وتقديمه وتعليقه على كتاب -
الإسلام في أرمينيا - للمحقق الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي الذي صدر
نهاية عام 1431 هـ (2010 م) ، عن بيت العلم للنابهين ببيروت في 72 صفحة من
القطع المتوسط ، وهو أمر ذهب إليه المؤلف ، وهو يستعرض حركة التاريخ
الإسلامي في أرمينيا ودخول المسلمين إليها في العام 25 هـ بقيادة حبيب بن
مسلمة الفهري (2ق . هـ - 42 هـ) ، وعلاقة الحكومات الأرمينية بالعاصمة
الإسلامية عبر التاريخ ، ويشهد على مظاهر العلاقة الحسنة كما يقول المعد :
عهود الصلح وكتب الأمان المحرَّرة من قبل الخلفاء العرب حول حق الأرمن في
ممارسة شعائرهم الدينية ، والحفاظ على تقاليدهم بكل حرية ، وأدى هذا إلى
خلق جو ملائم لنشاط الأرمن في الخلافة العربية ، وأفسح المجال أمام
مشاركتهم في الحياة الإقتصادية والسياسية والثقافية للدولة ، وسجَّل
التاريخ صفحات مشرقة من النضال المشترك لأمراء الأرمن والعرب ضد الدولة
البيزنطية والغزاة الأجانب .
رسول السلام
ولا يخفى أن كثيراً من أهل أرمينيا تقبلوا الإسلام طواعية ، فهو دين الفطرة
، وكان فيهم الكثير من القادة والأعلام الذين أثروا العالم الإسلامي ،
ولاسيما في مجال الأدب واللغة والطب ، وتظل اللغة العربية هي الرسول إلى
الأمم الأخرى ، فهي التي تدخل قلوب الناس وعقولهم ، دون الحاجة إلى إشهار
السيف ، ولأن اللغة العربية هي لغة الأدب فإنها أقرب الى القلوب ، وهذا
الأمر تحقق بقدر مع الشعب الأرمني كما يذهب إلى ذلك البحاثة الكرباسي ،
ولذلك ظهر أدباء أرمن كتبوا باللغة العربية ، كما إن العديد من الكتابات في
أرمينيا والنقوش العربية على الحجر التي تعود الى القرون الوسطى ، تشهد على
رواج اللغة العربية وعلى المكانة الرفيعة التي احتلتها هذه اللغة في النفوس
، ولعل من أقدم هذه النماذج تلك المسماة بكتابات - زفارتنوتس - التي يعود
تاريخها الى الثلث الثاني من القرن الثاني الهجري - النصف الثاني من القرن
الثامن الميلادي - وقد تنوعت مثل هذه الكتابات حتى أصبحت منتشرة بكثرة في
جميع أرجاء أرمينيا ، ويضيف الدكتور استنابوليان معلقا على كلام المحقق
الكرباسي : إن المعاملات والأعمال الديوانية المختلفة كانت تجري
باللغة العربية.
ووفق
المصادر فقد كانت طبقة التجار والإقطاعيين من أكثر شرائح المجتمع استعمالا
للعربية ، كما وانتشرت العربية لدى ممثلي الطبقة العليا في المجتمع كأسرة
الباقرادونيين والزاكاريين وغيرهم ، ومن آثار ذلك انتشار الأسماء العربية
لدى ممثلي هذه الطبقة ، وانتشار الزيجات المخلتقة أيضا ، لكنه في الوقت
نفسه يرى أن التأثير حصل بشكل واضح مع الأرمن الذين هاجروا وعاشوا في بلاد
الشرق الأدنى ، حيث : تحولت - اللغة العربية - إلى وسيلة تواصل يومية ،
ولغة إبداع رئيسة لبعضهم ، ومنهم من دوّن نتاجه باللغة العربية رافداً بذلك
الحضارة العربية ، ويضيف الدكتور استانبوليان ، - لقد - تحولت اللغة
العربية إلى لغة قريبة من قلوب الأرمن القاطنين في الدول العربية ، لأنها
أصبحت وسيلة للإحتكاك والتواصل الحضاري مع الشعب العربي الشقيق ، ودخلت في
أرمينيا الأبحاث المتعلقة باللغة العربية نطاق البحث الأكاديمي ، ولقيت
رواجاً في مراكز الدراسات ، واليوم يزداد باطراد اهتمام أبناء شعبنا تجاه
لغة الشعب العربي الصديق ولهجاتها المختلفة ، بل أن المفكر
التربوي ريتيوس كريكوريان كما يذكر الدكتور استانبوليان يقطع بأن : اللغة
العربية لغة رائعة لا مثيل لها .
ويفهم من ذلك أن الأرمن في بلادهم كانوا ألصق بدينهم ، حيث لم يقصرهم
المسلمون على تغيير الدين ، والجزية التي وضعها الإسلام هي مساوية للخمس
التي وضعها على المسلمين ، فهي ضريبة بمفهوم اليوم تشمل المواطنين مسلمين
وغير مسلمين ، وبالأساس فإن قوله تعالى: (لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : 6] ،
هو الحاكم على العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين بخاصة في البلد الواحد ،
بلد المواطنة ، من هنا فإن الدكتور استنابوليان في تقديمه لكتاب العلامة
الدكتور الكرباسي يرى أن: الأرمن هم أول شعب أعتنق المسيحية ، وجعلها
العبادة الرسمية للدولة الأرمنية في عام 301 ميلادي ، كما أن للأرمن: أدب
محلي راق ، مدون باللغة الأرمنية وتاريخ ثقافي عريق ، وتقاليد راسخة سبقت الفتح
العربي ، من هنا والكلام له : عندما أتى المحمديون إلى أرمينيا وجدوا شعباً
واعيا استوعب الرسالة السماوية الإسلامية السامية من الجانب الروحي ، لأنهم
كانوا على مستوى عال من الروحانية ، من خلال ممارساتهم للتعاليم المسيحية
الروحية السمحاء .
إذن فالعلاقة بين المسلمين والأرمن هي علاقة متميزة ، نجد مظاهرها في الأرمن
المتوزعين في عدد من البلدان المجاورة والقريبة لأرمينيا ، مثل : إيران وبلاد
الشام ومصر ، لهم مشاركة ملحوظة في الحياة اليومية مع المسلمين والعرب ، ولهم
حضورهم في العملية السياسية ، فضلاً عن حضورهم في مجال الأدب والثقافة ، وكما
يقول المعد: الأرمن واعون للقيمة الروحية للقرآن الكريم ، وتواقون لمعرفة
مضمونه المقدس ، ودليل على ذلك وجود ترجمات أرمنية لمعاني القرآن الكريم منذ
بدايات القرن العشرين ، بل أن الدكتور أواديس استانبوليان نفسه يعتبر
نموذجا لهذا التواصل الثقافي بين الأرمن والمسلمين ، حيث قام بإعادة تنضيد
ترجمة السيد ليفون لارينتس للقرآن الكريم عن ترجمة فرنسية في اسطنبول ، مع
ترجمة السيد نوبار أميرخانيان في بلغاريا عن اللغة العربية مباشرة ، وبعد
التنضيد قام الدكتور استنابوليان بالتحقيق في المعاني ، لكي يكون القرآن
الكريم متاحاً لكل أرمني أينما وجد ، وإلى جانب التحقيق في ترجمة القرآن فإن
له اهتمامات كبيرة في الدراسات القرآنية ، حيث قدم 320 بحثاً حول سور القرآن
الكريم وأهل البيت (عليهم السلام) في مجلس - آدم القرآني - المنعقد في دمشق بشكل دوري ،
ولأنه أديب وشاعر فقد أعاد صياغة نصوص الصحيفة السجادية لإمام المسلمين علي
بن الحسين السجاد (عليه السلام) المتوفى سنة 92 هـ ، بطريقة الشعر الحديث .
أسماء
وإنجازات
تحتفظ أرمينيا بمكانة كبيرة في قلوب المسلمين ، ويمكن إدراك الأمر من خلال
التعرف على بعض الأسماء الأرمينية وطنا والأرمنية ديناً ، وما نعنيه بالوطن
إشارة إلى الأرمن إن كانوا من المسلمين أو من الأرامنة ، وما نعنيه بالدين
إشارة إلى الأرامنة ، لأن أرمينيا إنما سميت بذلك - كما يقول ياقوت بن عبد
الله الرومي الحموي المتوفى سنة 626 هـ - نسبة إلى أرمينا بن لنطا بن أوقر
بن يافث إبن النبي نوح (عليه السلام) ، فكان هو أول من نزلها وسكنها فعرفت باسمه
(معجم
البلدان: 1/160) .
ويسكنها 93 في المائة من الأرامنة الذين ينتمون إلى
مجموعة القوميات الهندوأوروبية ، الذين انشقوا بالأساس عن المذهب الكاثوليكي
في القرن الثالث الميلادي ، و3 في المائة من الآذريين ، و2 في المائة روس
ومثلهم من الكرد ، وعاصمتها إيروان وتلفظ يريوان أو يريفان ، فأصبح الوطن
ملازماً للمعتقد في داخل حدود أرمينيا ، لكنهم انتشروا خارج الحدود .
ومن الأسماء اللامعة ممن تعود أصولهم إلى أرمينيا : الفقيه محمد بن صالح
الأرمني وهو من أصحاب إمام المسلمين الحسن بن علي العسكري المتوفى في
سامراء سنة 260 هـ ، والوزير المصري أبو النجم بدر الأرمني الجمالي المتوفى
سنة 487 هـ الذي اشتهر بتكريم العلماء والأدباء والشعراء ، والحاكم المصري
الملك الصالح طلائع بن رزيك بن الصالح الأرمني المتوفى سنة 556 هـ والمولود
أصلا في أرمينيا سنة 495 هـ الذي قرّب العلماء وأكرم الأدباء وكان هو
شاعرا إماميا ، والعالم والرياضي والسائح أبو عبد الله الأرمني المتوفى سنة
631 هـ ، والعارف أبو القاسم بن محمد الإيرواني المولود في العاصمة إيروان
والمتوفى في تبريز سنة 1237 هـ ، والفقيه الإمامي الشيخ عبد الكريم بن أبي
القاسم الإيرواني المولود في إيروان والمتوفى سنة 1294 هـ ، والأديب
والصحافي والسياسي السوري رزق الله بن نعمة الله الحلبي الشهير بـ - رزق
الله حسون - المولود في حلب والمتوفى في لندن سنة 1297 هـ ، والخطيب الفقيه
الشيخ علي أصغر بن محمد باقر الإيرواني ، حيث سكن قزوين وتوفى في المدينة
المنورة سنة 1300 هـ ، والأديب والشاعر والصحافي السوري أديب إسحاق ،
المولود في دمشق والمتوفى في لبنان سنة 1302 هـ ، والفقيه العالم الشيخ محمد بن محمد
باقر الإيرواني المتوفى في النجف الأشرف سنة 1306 هـ ، والفقيه الخطيب الشيخ
عبد الحسين بن علي أصغر بن محمد باقر الإيراوني ، من علماء كربلاء المقدسة
والمتوفى عام 1314 هـ ، والفقيه السيد علي بن عبد الله بن محمد الإيرواني ،
المولود في إيروان والمتوفى في النجف الأشرف سنة 1324 هـ ، والأديب العالم
الشيخ فضل علي بن عبد الكريم بن أبي القاسم الإيرواني ، وهو من علماء
آذربايجان أرمني الأصل توفى سنة 1337 هـ ، والفقيه الأصولي الشيخ علي بن عبد
الحسين بن علي أصغر الإيرواني ، من أساتذة الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة
والنجف الأشرف ومات في الثانية سنة 1354 هـ ، وغيرهم .
ولا تختلف أرمينيا عن مصر أو العراق أو إيران أو الشام وغيرها من حيث
المقامات وقبور الأولياء والصالحين ، فهناك مرقد العباس بن إسحاق الموسوي
، وهو حفيد إمام المسلمين موسى بن جعفر الكاظم المتوفى سنة 183 هـ ومنه أخذ
لقب الموسوي ، وفيها مرقد لأحد أحفاد محمد بن علي بن أبي طالب الشهير بـ
محمد ابن الحنفية المتوفى سنة 81 هـ ، وآخر لأحد أحفاد الحسن المثنى بن
الحسن بن علي المتوفى سنة 97 هـ ، فضلا عن - المسجد الأزرق - في العاصمة إيروان
الشهير بـ - مسجد كبود - .
وكدلالة على التداخل العميق بين المسلمين والأرمن يشير المعد إلى ظاهرة
زواج الحاكمين وأبنائهم في الدولة الإسلامية من الأرمنيات ، ومثال ذلك : بدر
الدجى أو قطر الندى ، والدة القائم بالله (1031- 1075 م) وزوجة
القادر (991- 1031 م) ، وقرة العين أو أرجوان ، أم
المقتدى (1075- 1094 م) ، وزوجة الفاطمي المستعلي (1094- 1102 م) ،
وزوجة الفاطمي العاضد (1160- 1171 م) .
وخلاف أن المعالم التاريخية والحديثة للعلاقات الطيبة بين المسلمين
والأرامنة ، تقدم إشارات واضحة على حقيقة التراحم بين بني البشر على أسس
إنسانية ، وأمر الإعتقاد بدين أو مذهب متروك لتقدير الإنسان نفسه ، لأن القهر
الآني على معتقد أو دين في معظم الأحيان مآله إلى نتائج غير محمودة
العواقب .
---------------------------------
مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .