أسباب نشوء البدعة
  • عنوان المقال: أسباب نشوء البدعة
  • الکاتب: نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام
  • مصدر: نقلاً من موقع شبكة الإمام الرضا عليه السلام
  • تاريخ النشر: 0:11:2 2-9-1403

إنّ ما قدمناه من الاَحاديث والروايات قد يعطينا تصوراً كاملاً عن خطورة هذا الاَمر من خلال شدّة التحذير من الابتداع، بل وحتى من مرافقة المبتدعين.. كل ذلك من أجل أن تعي الاُمّة أيَّ خطر يتهددها إنْ هي سارت وراء المبتدعين والمحدِثين في الدين.

روي عن ابن مسعود أنّه قال: «خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطاً بيده، ثم قال: »هذا سبيل الله مستقيماً «ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك وعن شماله ثم قال: «وهذه السُبل، ليس من سبيل إلاّ عليه شيطان يدعو إليه «ثم قرأ: (وأنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيماً فاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ)» (1).

ويروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم وهو يذكّر الاُمّة بالسنن التاريخية وما جرى على الاُمم السابقة، قوله: «كل ما كان في الاُمم السالفة فإنَّه يكون في هذه الاُمّة مثله، حذو النعل بالنعل والقُذّة بالقُذّة «(2).

___________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين السيوطي 3: 56. والآية من سورة الانعام 6: 153.

(2) بحار الانوار، للمجلسي 28: 10 | 15 باب 1. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: حذو النعل بالنعل والقُذّة بالقُذّة «، «مثل يُضرب للشيئين يستويان ولا يتفاوتان» والقُذّة: ريشة الطائر كالنسر والصقر.

________________________________________ الصفحة 52  ________________________________________

ويقول صلى الله عليه وآله وسلم مفسراً قوله تعالى: (لَتَركَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) «حالاً بعد حال، لتركبنَّ سُنّة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، والقُذّة بالقُذّة، لاتخطئون طريقهم ولا يخطأ، شبر بشبر، وذراع بذراع، وباع بباع، حتى إنّه لو كان مَن قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى تعني يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: فمن أعني ؟ لتنقضن عرى الاِسلام عروة عروة، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الاَمانة، وآخره الصلاة «(1).

لقد بلّغ الرسول الاَكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرسالة على أكمل وجه وكانت أفعاله وسنّته الشريفة محطّ أنظار المسلمين مما لا يدع المجال للاجتهادات الشخصية أو الاختلاف، فلماذا إذن حدثت البدع من بعده ؟

هذا هو السؤال الذي سنحاول اكتشاف جوابه في النقاط الآتية:

 

أولاً: توّهم المبالغة في التعبّد لله تعالى

ونعني بذلك الخروج عن الحدّ المعقول في التعبّد لله تعالى، أو بعبارة أُخرى الاتيان بشيء مخالف لتعاليم الشريعة تحت عنوان الاجتهاد في العبادة لله تعالى ومن أمثلة ذلك:

1 ـ استأذن عثمان بن مظعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الاستخصاء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس منّا من خصي أو اختصى، إنَّ اختصاء أُمّتي الصيام، إلى أن قال: ائذن لي في الترهب، قال: إنَّ ترّهب أُمتي الجلوس في

____________

(1) بحار الانوار، للمجلسي 28: 80 | 11 باب 1 كتاب الفتن والمحن. والآية من سورة الانشقاق 4: 19.

________________________________________ الصفحة 53  ________________________________________

المساجد لانتظار الصلاة» (1).

ونحن نسأل عن هذا الدافع الذي يدفع ابن مظعون ليطلب من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يخصي نفسه أو أن يترهب ! إنّه ليس له من دافع سوى أنّه يرى أنّ ممارسة الحياة الاجتماعية على طبيعتها إنّما يكون سبباً لانصراف الانسان عن التوجه نحو العبودية لله سبحانه وتعالى ! لكن أليس ذلك تطرّفاً في فهم العبودية لله ؟ كل ذلك يجري والرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيٌّ بينهم وهم يشهدون سيرته وهو أعظم الناس عبودية لربّه وأعظمهم معرفة به وقرباً إليه.

2 ـ ونظير ذلك ما رواه الكليني عن الامام الصادق عليه السلام قال:... «إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة، فلما انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر، فشرب وأفطر، ثم أفطر الناس معه، وثَمَّ أُناس على صومهم، فسمّاهم العصاة، وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» (2).

فهل في موقف هؤلاء العجيب ما يمكن تفسيره سوى ظنّهم أنَّهم ببقائهم على صيامهم يتقربون أكثر إلى الله ؟! وهم إنّما يخالفون حكماً حكم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !

3 ـ روى جابر بن عبدالله: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في سفر فرأى رجلاً عليه زحام قد ظُلِّل عليه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «ما هذا ؟» قالوا: صائم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس من البرِّ الصيام في السفر» (3).

____________

(1) الاعتصام، للشاطبي 1: 325.

(2) الكافي، للكليني 4: 127 | 5 باب كراهية الصوم في السفر.

(3) مسند أحمد 3: 319 و 399.

 ________________________________________ الصفحة 54  ________________________________________

 

إنّ الانسان الساذج الذي لا يفهم الدين بصورة صحيحة يتخيّل أنّه لو بقي على صيامه في السفر فإنَّ عمله سيكون أكثر قبولاً عند الله تبارك وتعالى، لاَنّه تحمل فيه مشقّة أكبر !

4 ـ والاَعجب من ذلك ما رواه مالك في الموطأ: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس فقال: «ما بال هذا» ؟ قالوا: نذر أن لا يتكلم ولايستظلّ من الشمس، ولا يجلس، ويصوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مروه فليتكلم وليستظلّ وليجلس وليتم صيامه» (1).

5 ـ وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم: دخل أبو بكر على امرأة... فرآها لا تكلَّمُ فقال: ما لها لا تَكلَّمُ ؟ قالوا: حجَّت مُصمتة، قال لها: تكلمي فإنّ هذا لا يحلّ، هذا من عمل الجاهلية فتكلّمت.. (2).

6 ـ وروي عن الزبير بن بكّار أنّه قال: «سمعتُ مالك بن أنس وقد أتاهُ رجل فقال: يا أبا عبدالله من أين أحرم ؟ قال: من ذي الحليفة، من حيثُ أحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...، قال: فإنّي أُريد أن اُحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل فإنّي أخشى عليك الفتنة. فقال: وأي فتنةٍ هذه ؟ إنّما هي أميال أزيدها ! قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنّك سبقتَ إلى فضيلة قصّر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ إنّي سمعتُ الله يقول: (... فَليَحذَرِ الَّذينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمرِهِ أنْ تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أليمٌ) (3).

7 ـ «روي أن سلمان الفارسي رضي الله عنه جاء زائراً لاَبي الدرداء فوجد أُمَّ

____________

(1) موطأ مالك: 309 | 9 كتاب الايمان والنذور، طبعة دار الكتاب العربي ـ بيروت.

(2) صحيح البخاري 5: 52 باب أيام الجاهلية، ط مؤسسة التاريخ العربي.

(3) الاعتصام، لابي اسحاق الشاطبي 1: 132. والآية من سورة النور 24: 63.

  

________________________________________ الصفحة 55  ________________________________________

الدرداء مبتذلة، فقال: ما شأنكِ ؟ قالت: إن أخاك ليست له حاجة في شيء من أمر الدنيا.

فلما جاء أبو الدرداء رحّب بسلمان وقرَّب إليه طعاماً، فقال لسلمان: أطعم، فقال: إنّي صائم. قال: أقسمت عليك إلاّ ما طعمت. فقال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل، وبات عنده، فلما جاء الليل قام أبو الدرداء، فحبسه سلمان، وقال: يا أبا الدرداء، إنّ لربّك عليكَ حقاً، وانَّ لجسدك عليك حقاً، ولاَهلك عليك حقاً، فصُم وافطر، وصلِّ ونم، واعطِ كلَّ ذي حقٍ حقّه. فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بما قال سلمان، فقال له مثل قول سلمان»(1).

8 ـ في حديث طويل عن الاِمام الصادق عليه السلام: «إنّ الصحابي سعد بن أشجع قال: إنّي أُشهد الله، وأُشهد رسوله، ومن حضرني، أنّ نوم الليل عليَّ حرام، والاَكل بالنهار عليَّ حرام، ولباس الليل عليَّ حرام، ومخالطة الناس عليَّ حرام، وإتيان النساء عليَّ حرام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا سعد لم تصنع شيئاً، كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، إذا لم تخالط الناس، وسكون البرية بعد الحضر كفر للنعمة، نَمْ بالليل، وكُل بالنهار، والبس ما لم يكن ذهباً، أو حريراً، أو معصفراً، وآتِ النساء..» (2).

9 ـ روي عن أنس أنّه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما أُخبروا، كأنّهم استقلّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟، قال أحدهم:

____________

(1) بحار الانوار، للمجلسي 67: 128 | 14 باب 51 عن تنبيه الخواطر 1: 2.

(2) بحار الانوار، للمجلسي 67: 128 ـ 129 | 15 باب 51 عن نوادر الراوندي: 25 ـ 26.

________________________________________ الصفحة 56  ________________________________________

 

أما أنا فإني أُصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إنّي لاَخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم، وأفطر، وأُصلي، وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني..» (1).

هكذا يتوهّم هؤلاء أنّهم بقيامهم ببعض الاَعمال ذات الطابع العبادي، يجهدون بها أنفسهم، إنّما يتقربون بذلك إلى الله أكثر مما لو اقتصروا على ماجاءت به الشريعة من الاَعمال العبادية.

ومثلما يتحدث القرآن الكريم عن الجهاد في سبيل الله، فإنّه يتحدث أيضاً عن نصيب الحياة الذي يجب ان يأخذه الاِنسان من دُنياه: (قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتي أخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيّباتِ مِنَ الرِّزقِ قُلْ هِيَ للَّذينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنيا خالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ...) (2).

إنَّ القرآن الكريم وفي أماكن متعددة يشجب ظاهرة الرهبنة وتحميل النفس للمشاق والصعوبات البالغة مما لم يأمر به الله سبحانه وتعالى، وفي مقابل ذلك وجّه الانسان والمجتمع نحو السلوك المتوازن الذي يحفظ معاً حقّ الله وحقَّ الناس وحقّ النفس.

إنَّ ظاهرة الرهبنة تعبّر عن أوضح صورة لاعتزال الحياة وبالتالي انصراف الانسان عن دوره الرسالي التغييري، وهي تنشأ عادةً لدى الاَفراد بسبب الاعتقاد بأنَّ تكثيف الجانب الروحي العبادي على حساب

____________

(1) صحيح البخاري 7: 2 كتاب النكاح، طبعة مؤسّسة التاريخ العربي ـ بيروت.

(2) الاعراف 7: 32.

________________________________________ الصفحة 57  ________________________________________

الجوانب الاُخرى هو الموجب للاقتراب من رضى الله سبحانه وتعالى.. ولعلَّ للرهبنة دوافع أُخرى:

عن ابن مسعود قال: كنتُ رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حمار، فقال: «يا ابن أُمّ عبد، هل تدري من أين أحدثت بنو اسرائيل الرهبانية ؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى، يعملون بمعاصي الله، فغضب أهل الايمان، فقاتلوهم، فهُزم أهل الايمان ثلاث مرات، فلم يبق منهم إلاّ القليل، فقالوا: إنْ ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبقَ للدين أحدٌ يدعو إليه، فتعالوا نتفرق في الاَرض، إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى ـ يعنون محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ـ فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسّك بدينه، ومنهم من كفر، ثم تلا هذه الآية: (ورهبانيةً ابتدَعُوها ما كتبناها عَليهم إلاّ ابتِغاء رضوانِ اللهِ فما رَعوَها حقَّ رعايتها فآتينا الذينَ آمنُوا مِنهم أجرَهُم وكثيرٌ منهم فاسِقُونَ) (1)، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابن أُمّ عبد، أتدري ما رهبانية أُمتي ؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة..»(2).

وقد انتشرت ظاهرة الاعتزال والرهبنة في المجتمع الاسلامي لاَسباب ودواعي كثيرة، من بينها تفشي الظلم والفساد ووقوع الفتن والاضطرابات.

ثانياً: اتّباع الهوى

إنَّ استعراض تاريخ حياة المتنبئين كذباً والكثير من المبتدعين يكشف بوضوح عن الدور الكبير للاهواء وحبّ الظهور والرئاسة أو السمعة في

____________

(1) الحديد 57: 27.

(2) مجمع البيان، للطبرسي 9: 308.

________________________________________ الصفحة 58  ________________________________________

دفع هؤلاء إلى الابتداع.

إنَّ المبتدع وإنْ لم يكن متنبئاً أو مُدّعياً للنبوّة إلاّ أنَّ عمله يُعدُّ نوعاً من أنواع التنبؤ، لاَنه يأتي بدين جديد، أو بشيء لم تفرضه الشريعة جزءاً من الدين، أو يحذف شيئاً جعلته الشريعة جزءاً من الدين، وقد دلّت روايات كثيرة على هذا المعنى.

إنَّ بعض البدع تنشأ من الهوى، فقد خطب أمير المؤمنين علي عليه السلام الناس، فقال: «أيُّها الناس إنّما بدء وقوع الفتن: أهواءٌ تُتبع، وأحكام تبتدع، يخالَف فيها كتاب الله، يتولى فيها رجالٌ رجالاً..» (1).

إنَّ رغبة الظهور تلعبُ دوراً كبيراً في حياة الانسان، وإذا ما انفلتت هذه الرغبة من القيود الشرعية، وتُركت تنمو وتتصاعد حتى تسيطر على مشاعر الانسان وتتدخل في رسم سلوكه العام فإنّها في نهاية المطاف ستدفع بصاحبها إلى ادعاء المقامات الرفيعة التي تختص بالانبياء.

روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أنَّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام مرَّ بقتلى الخوارج بعد معركة النهروان فقال: «بؤساً لكم لقد ضرّكم من غرّكم، فقيل له: من غرّهم يا أمير المؤمنين ؟ فقال عليه السلام: الشيطان المُضلّ، والنفس الاَمارة بالسوء، غرتهم بالاَماني وفسحت لهم في المعاصي ووعدتهم الاظهار فاقتحمت بهم النار» (2).

قال تعالى: (... ومَن أضَلُّ مَمَّن اتَّبعَ هَوَاهُ بِغيرِ هُدىً مِّن اللهِ...) (3).

____________

(1) الكافي، للكليني 1: 54 | 1 باب البدع.

(2) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 19: 235.

(3) القصص 28: 50.

 

________________________________________ الصفحة 59  ________________________________________

وقال عزَّ من قائل: (... ولا تتَّبعِ الهَوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهم عَذَابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ) (1).

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «ما تحت ظِلِّ السماء من إلهٍ يُعبد من دون الله أعظم عند الله من هوىً مُتّبع» (2).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّما أخافُ عليكم أثنتين: اتبّاع الهوى، وطول الاَمل، أما اتّباع الهوى فإنّه يصدُّ عن الحق، وأما طول الاَمل فيُنسي الآخرة» (3).

وعن الاِمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيءٌ أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم»(4).

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «يقول الله عزَّ وجل، وعزّتي وجلالي وعظمتي وكبريائي، ونوري، وعلوّي، وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواه على هواي، إلاّ شتّتُ عليه أمره، ولبّستُ عليه دنياه، وشغلتُ قلبه بها، ولم أوته منها إلاّ ما قدّرت له...» (5).

لقد شهد تاريخ الاسلام منذ قرون معارك وحروباً وانحرافات ومذاهب وفرقاً وبدعاً جاءت كلها بسبب اتّباع الاَهواء والابتعاد عن جادة الصواب..

____________

(1) صَ 38: 26.

(2) مجمع الزوائد، لنور الدين الهيثمي 1: 188 باب في البدع والاهواء.

(3) اصول الكافي، للكليني 2: 335 | 3 باب اتباع الهوى.

(4) اصول الكافي، للكليني 2: 335 | 1 باب اتباع الهوى.

(5) اُصول الكافي، للكليني 2: 335 | 2 باب اتّباع الهوى.

 

________________________________________ الصفحة 60  ________________________________________

ولذلك كلّه كانت التأكيدات النبوية على محاربة هوى النفس، لاَنّ من تمكن من نفسه وسيطر على هواه يكون في منجاة من كل أنواع الضلالة والهلكة.

ثالثاً: التسليم لغير المعصوم

إنّ من أسباب نشوء البدع: التسليم لمن هو دون المعصوم، وجعله في مصاف مصادر التشريع، لاَن غير المعصوم يصيب ويخطىء، وقد يكذب أحياناً فيكون التسليم لقوله واتّباعه سبباً للانحراف والابتداع والكذب على الله ورسوله.

إنَّ النبي الاَكرم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، وكتابه القرآن الكريم خاتم الكتب، وشريعته خاتمة الشرائع، فلا حكم إلاّ ما حكم به، ولا سُنّة إلاّ ماسنّهُ، والخروج عن هذا الاطار يمهد الطريق للمبتدعين.

قال الاِمام الباقر عليه السلام: «يا جابر إنّا لو كنّا نحدِّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ولكنّا نحدِّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم» (1).

إنَّ هناك ظاهرة في حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام تستحق التأمل، وهي أنّ أي واحد منهم لم يتلق العلم كما يتلقاه الناس بالتطواف على المدن والحواضر والمدارس وحلقات الحديث، بل إنّهم يتوارثون العلم أباً عن جدٍ حتى يتصلون بعلمهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي شواهد حياتهم ما يبعث العجب للدارس المحايد، حتى لقد تمكن الامام الجواد عليه السلام من أن يُفحم

____________

(1) بصائر الدرجات، لابن فروخ الصفار: 318 | 1 باب 14. والاختصاص، للمفيد: 280 طبعة مؤسّسة الاَعلمي ـ بيروت.

________________________________________ الصفحة 61  ________________________________________

ـ وهو الذي كان لم يتجاوز من عمره عقده الاَول ـ فحول العلماء والمحدّثين في زمن المأمون ممن طعنوا بإمامته.. وقصة حواره معروفة دوّنتها كتب التاريخ (1).

وهذا يعني أنَّ هؤلاء الاَئمة الطاهرين هم الطريق الصحيح الموصل إلى المصدر الصافي والمعين النقي للسُنّة النبوية الشريفة وعلم الكتاب وتأويل القرآن وفهم التشريع.

وعندما تنكّبت الاُمّة هذا الطريق والمحجة كثرت البدع والضلالات.

____________

(1) الاحتجاج، للطبرسي 2: 465 ـ 482، باب احتجاجات الاِمام أبي جعفر محمد بن علي الجواد عليهما السلام.