الشفاعة في اللغة
الشفاعة من « شفع يشفع، طلب التجاوز عن سيئة كأنه ضم نفسه إليه معيناً له، فهو شافع وهم شافعون، وهو شفيع وهم شفعاء. والمشفَّع: المقبول الشفاعة » (1).
وعُرِّفت أيضاً بأنها « السؤال في التجاوز عن الذنوب من الذي وقعت الجناية في حقه.
قيل: ولا تُستعمل إلا بضم الناجي إلى نفسه مَن هو خائف من سطوة الغير » (2).
الشفاعة في القرآن
وردت هذه المادة في كتاب الله بصيغ متعددة. منها:
قال تعالى: مَن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه البقرة:255.
وقال تعالى: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الأنبياء:28.
وقال تعالى: لا يملكون الشفاعة إلا مَن اتخذ عند الرحمان عهداً مريم:87.
وقال تعالى: فَهَلْ لنا من شفعاءَ فيشفعوا لنا الأعراف:53.
وقال تعالى: يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا مَن أذن له الرحمان ورضيَ له قولاً طه:45.
وقال تعالى: قل لله الشفاعةُ جميعاً الزمر:45.
ومن التأمل في هذه الآيات، وهي بعض ما وردت فيه هذه المادة في كتاب الله، وبعد إرجاع بعض الآيات إلى بعضها الآخر، يتضح أن الشفاعة، وإن نصّت بعض هذه الآيات ـ كالآية الأخيرة ـ على نفيها عن غير الله سبحانه وإثباتها لله وحده، إلا أن الآيات النافية لمقام الشفاعة عن غير الله إنما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في المُلْك والتصرّف، وحينئذٍ لا تتنافى معها الآيات المُثِبتة للشفاعة لغير الله سبحانه، لأنها إنما تثبتها لهذا الغير بإذنه تعالى وتمليكه، ومن المعلوم أن كل ما بالغير، لابد وأن ينتهي إلى ما بالذات، فالله هو المبدأ، وإليه المنتهى.
ومن هنا يتضح أيضاً، أن مبدأ الشفاعة منسجم مع المبدأ العام للأسباب والمسببات، وليس فيه أي تعطيل لأي جانب من جوانب الحاكمية والتكليف، ولا المحكومية والانقياد.
ممن تصحّ الشفاعة ؟
لا ريب في أن تأثير الشفيع عند المشفّع لديه، لا يمكن أن يكون اعتباطياً من دون مقاييس، وإنما لابد من أن يتوافر ذلك الشفيع على صفات في نفسه، تكون موجبة لقربه إلى المولى، وعلو منزلته لديه، وكرامته عنده، واصطفائه من قِبَله. وهذه مرتبة لا ينالها إلا نبي مرسل، أو مَلَك مقرَّب، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان الخالص، أو شهيد في سبيل الله. وقد يُستفاد ذلك من بعض آيات كتاب الله (3).
شفاعة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله
أجمع المسلمون على أن الشفاعة ثابتة لخاتم الأنبياء صلّى الله عليه وآله، ومقبولة منه عند الله سبحانه يوم القيامة، بشأن العصاة والمذنبين.
وقد استُدل على شفاعته بقوله تعالى:
ومن الليل فتهجَّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربُّكَ مقاماً محموداً الإسراء:79.
فقد أجمع المفسرون (4) على أن المراد بالمقام المحمود، مقام الشفاعة.
كما وردت عدة روايات دالة على شفاعته المقبولة يوم القيامة (5).
شفاعة الأئمّة المعصومين من أهل البيت عليهم السّلام
عند الشيعة الإمامية خاصة (6)، وعند كل مسلم منصف عامة، يأتي في طليعة الشفعاء بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم القيامة أئمّةُ المؤمنين من أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله، الذين أذهب اللهُ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
ومن هنا نفهم معنى الروايات (7) التي نصَّت على أن عليّ بن أبي طالب هو صاحب الحوض واللواء والصراط والإذن يوم القيامة!!
شفاعة فاطمة عليها السّلام
كما أنه عند الشيعة الإمامية خاصة، وعند كل مسلم منصف عامة، فإن في طليعة الشفعاء بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم القيامة، تأتي فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة، كما نصّت على ذلك السنة المطهّرة (8).
لمن تجري الشفاعة ؟
مَن تجري في حقه الشفاعة ؟
هل تجري في حق العصاة والمذنبين من أهل الكبائر في الدنيا ؟ فتُسِقط الشفاعةُ العقوبة تجاوزاً منه سبحانه.
أو أنها تنال المؤمنين من أهل الطاعات والقُرُبات، فتكون سبباً لزيادة الحسنات لهم، ونماءً في ثوابهم ورفع درجاتهم ؟
وبتعبير آخر: هل إنّ الشفاعة تفيد في زيادة الثواب، أو في درء العقاب ؟
هذا هو محل الأختلاف الحاصل بين العلماء في الشفاعة.
حيث ذهب المعتزلة، إلا أبا هاشم منهم (9)، إلى أن الشفاعة لا تكون إلا لمن يستحق الثواب من المؤمنين، ويكون متعلق الشفاعة طلب زيادة الثواب له وعلو الدرجات.
وأما أصحاب الكبائر الذين يموتون بلا توبة، فلا شفاعة لهم، انسجاماً مع مذهبهم في خلود مرتكبها في النار.
وقد اختار هذا الرأيَ جمهورُ الزيدية (10).
في حين ذهب الإمامية الإثنا عشرية (11)، وجمهور الأشاعرة (12)، وأبو هاشم من المعتزلة (13)، إلى القول الأول، وهو أن الشفاعة إنما شُرِّعت لتنال العصاة من أهل الكبائر.
اختيار واستدلال ونقاش
ونحن نختار القول بأن الشفاعة إنما تجري بحق العصاة أصحاب الكبائر من المسْلمين، وذلك لأمور:
أولاً: قوله تعالى فما تَنفعُهم شفاعةُ الشافعين المدّثر:48، فقد وردت هذه الآية، في معرض التهديد للكفار، الذين دلت عليهم الآية التي قبلها وكنا نكذّب بيوم الدين حكايةً عن أنفسهم، فالذي أخبرت عنهم الآية، وهو عدم الانتفاع بالشفاعة، إنما هم هؤلاء الكفّار، والفاسق الذي ندّعي شمول دليل الشفاعة له، لم يخرج بفسقه عن الإسلام، فلو كان حاله ـ كما يقول المعتزلة ومَن تابعهم ـ كذلك، لم يبق فرق في هذا التهديد بينه وبين الكافر، وكان تخصيص الكافر به من العبثية بمكان.. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ثانياً: لو كانت الشفاعة ـ كما ذهب المعتزلة وأتباعهم ـ في خصوص زيادة الحسنات وعلو الدرجات فقط لأهل الطاعات دون أهل الكبائر، لَصحّ أن نكون شافعين في النبيّ صلّى الله عليه وآله حيث نطلب من الله له الدرجات الرفيعة، والفضيلة والوسيلة، وهذا باطل قطعاً، لأنه يُشترَط في الشافع علوُّ رتبة ومقامٌ وقرب عند الله من المشفوع فيه. وإذا كان التالي باطلاً، فالمقدَّم مثله.
ثالثاً: الرواية (14) التي وردت عن النبيّ صلّى الله عليه وآله من عدة طرق، وهي قوله صلوات الله وسلامه عليه من جملة ما ورد فيها: « الشفاعة لأهل الكبائر من أُمتي، فأما المحسنون فما عليهم من سبيل ».
فإن هذه الرواية نصّت على أنّ الشفاعة إنما تَنال أهلَ الكبائر من المسلمين، وأكثر من هذا أنها نصّتْ أن أصحاب الطاعات والحسنات لا يحتاجون إلى شفاعة، فالشفاعة لدرء العقاب لا لجلب الثواب.
رابعاً: إن الآيات التي استدل بها المعتزلة ومَن تابعهم على ما ادّعوه من أن الشفاعة لا تنال أصحاب الكبيرة ومنها: قوله تعالى واتقوا يوماً لا تَجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً ولا يُقبَل منها شفاعة البقرة:48.
وقوله تعالى وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع غافر:18.
وقوله تعالى مِن قَبل أن يأتيَ يومُ لا بيعٌ فيه ولا خُلّةٌ ولا شفاعة البقرة:254.
وقوله تعالى أفأنت تُنقذ مَن في النار الزمر:19.
وقوله تعالى وما للظالمين من أنصار البقرة:270.
وقوله تعالى وإنّ الفُجّار لَفي جحيم * يَصْلَونها يومَ الدين الانفطار:14 ـ 15.
إنّ هذه الآيات كلّها لا تدل على المطلوب.
أما الآيات الثلاث الأُولَيات، فهي نافية لمبدأ الشفاعة بقول مطلق، ولكن يوجد في قبالها آيات كثيرة تقرر مبدأ الشفاعة مع قيدِ ارتضاء الله لصاحبها، أو أذنهِ بها لمن اتخذ عند الرحمان عهداً، وحينئذٍ يمكن أن نحمل تلك الآيات النافية مطلقاً على الآيات المثبتة مع هذه القيود، من باب حمل المطلق على المقيَّد، فلا تعود الآيات تلك صالحة للاستدلال على مدعاهم.
وأما الآيتان الرابعة والسادسة، فخارجتان عن محل الكلام، لأنهما واردتان في الكفار (15)، كما يدل عليه سياق الآيات السابقة واللاحقة، ونحن طبعاً لا ندّعي أن الشفاعة تنال الكافرين.
وأما الآية الخامسة، بملاحظة سياقها، فهي واردة في مَن يمنعون الفقراء والمساكين حقوقَهم التي جعلها الله لهم في أموالهم، فالمقصود بالظلم، ظلمهم لهؤلاء المساكين بهذا المنع، ومعنى ذلك، أن مورد الآية آكل حقوق الناس، وهذا النوع من الظلم لا يكون موضوعاً للشفاعة التي ينحصر موضوعها في حقوق الله تعالى، كما لا يكون موضوعاً للتوبة.
__________________________________
1 ـ معجم الفاظ القرآن الكريم / مجمع اللغة العربية ـ القاهرة ـ المجلد الثاني مادة: ش. فَ. عَ.
2 ـ راجع محيط المحيط للبستاني مادة / ش. فَ. عَ.
3 ـ بالنسبة لشفاعة الأنبياء راجع الآية:29 من سورة الأنبياء ـ وبالنسبة لشفاعة الملائكة فراجع الآية:26 من سورة النجم ـ وبالنسبة لشفاعة المؤمنين للشهداء فراجع الآية نفسها من سورة الحديد.
4 ـ راجع التفسير الكبير للرازي 31:21، ومجمع البيان للطبرسي المجلد الثالث ص 435، وتفسير الميزان للعلامة الطباطبائي 176:13.
5 ـ راجع فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر 302:8 ـ 303، وتفسير الميزان للطباطبائي 179:13.
6 ـ راجع كتاب الخصال للشيخ الصدوق / حديث الأربعمائة ص 610 وما بعدها.
7 ـ راجع مستدرك الحاكم 138:3، وكنز العمال 402:6 ـ 403.
8 ـ راجع فتح الباري شرح صحيح البخاري ـ باب مناقب فاطمة ـ ومستدرك الحاكم 151:3 .
9 ـ راجع شرح الأصول الخمسة للقاضي عبدالجبار ص 688.
10 ـ راجع البحر الزخّار لابن المرتضى 80:1.
11 ـ راجع شرح التجريد للعلامة الحلي ص 330.
12 ـ راجع المواقف للإيجي 312:8 وما بعدها.
13 ـ شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 689.
14 ـ راجع أمالي الصدوق، والمواقف للإيجي 312:8، وصحيح البخاري كتاب الرّقاق.
15 ـ راجع ما أردت من كتب التفسير في موارد الآيات المذكورة، للتأكد مما أوردناه.