نظَراتٌ.. في التَقيّة 3
  • عنوان المقال: نظَراتٌ.. في التَقيّة 3
  • الکاتب:
  • مصدر:
  • تاريخ النشر: 4:35:14 2-9-1403

أدلّة التقيّة

يرى العلماء والفقهاء إمكان الاستدلال على التقيّة بأربعة أدلّة، هي:
الدليل الأوّل: القرآن الكريم
وقد استُدلّ منه بآيات عديدة:
1. قوله تعالى: لا يَتّخذِ المؤمنونَ الكافرينَ أولياءَ مِن دُونِ المؤمنينَ ومَن يَفعَلْ ذلكَ فليسَ مِن اللهِ في شيءٍ إلاّ أن تَتّقُوا مِنهُم تُقاةً، ويُحذِّرُكمُ اللهُ نفسَه، وإلى اللهِ المصير (34).
الاتّقاء في الأصل هو أخذ الوقاية للخوف، ثمّ ربّما استُعمل بمعنى الخوف، وفي الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقيّة، على ما رُوي عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام.
• في كتاب « الاحتجاج » لأبي منصور أحمد بن عليّ الطبرسي، عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث طويل يقول فيه: وآمرُكَ أن تستعملَ التقيّةَ في دِينك، فإنّ الله يقول: ... إلاّ أن تتّقوا منهم تقيّة (35). وإيّاك إيّاك أن تتعرّض للهلاك، وأن تترك التقيّة التي أمرتُك بها؛ فإنك شائط بدمك ودماءِ إخوانك، مُعرِّض لنعمك ونعمهم للزوال، مُذِلّ لهم في أيدي أعداءِ دين الله، وقد أمرَكَ بإعزازهم (36).
• وعن الإمام الباقر عليه السّلام قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: لا إيمان لمَن لا تقيّة له، ويقول: قال الله: إلاّ أن تتّقوا مِنهُم تُقاةً (37).
والآية الشريفة هذه ترسم لنا عنوان ( التقيّة الخوفيّة ) من بين أنواع التقيّة؛ إذ هي ناظرة إلى مَن كان في جمعٍ قليل مع أكثريّة مخالفة ظالمة.. حيث تُستخدم التقية للمحافظة على الحقّ والعِرض والنفس والمال وسائر شؤون الحياة الفرديّة والاجتماعيّة، مع مراعاة الأهم فالمهمّ. فلا يحقّ للمؤمنين أن يتّخذوا الكافرين أولياءَ لهم من دون المؤمنين، يفوّضون إليهم أمرهم، ويستقبلونهم بالمودّة؛ إلاّ في مقام التقيّة الخوفيّة دفعاً للضرر، وائتماراً بما أراد الله تعالى وأمر: إلاّ أن تتّقُوا منهم تُقاةً .
• قال الإمام عليّ عليه السّلام: وآمرُك أن تستعمل التقيّة في دينك؛ فإنّ الله يقول: ... إلاّ أن تَتّقوا منهم تُقاةً ، وقد أذنتُ لكم في تفضيل أعدائنا إن ألجأكَ الخوفُ إليه، وفي إظهار البراءة إن حَملَك الوجلُ عليه... فإنّ تفضيلَك أعداءَنا عند خوفك لا ينفعهم ولا يضرُّنا، وإنّ إظهارك براءتك منّا عند تقيّتك لا يقدح فينا ولا يُنقصنا.
ولئن تبرأْ منّا ساعةً بلسانك وأنت موالٍ لنا بجنابك، لَتُبقي على نفسك روحَها التي بها قِوامُها، ومالَها الذي به قيامُها، وجاهها الذي به تمسكها، وتصون مَن عرف بذلك أولياءَنا وإخواننا، فإنّ ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك وتنقطعَ به عن عملٍ في الدين، وصلاحِ إخوانك المؤمنين (38).
• وفي ظل الآية.. عرّف الشيخ الطبرسيّ معنى التقيّة الخوفيّة المستفادة من النصّ الشريف، قائلاً: المعنى: إلاّ أن يكون الكفّار غالبين والمؤمنون مغلوبين، فيخافهم المؤمن إن لم يُظهر موافقتهم ولم يُحسن العِشرةَ معهم، فعندئذ يجوز له إظهارُ مودّتهم بلسانه، ومداراتهم تقيّةً منه ودفاعاً عن نفسه، من غير أن يعتقد.
وفي هذه الآية ـ وما يزال الكلام للطبرسي ـ دلالة على أن التقيّة جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقد قال أصحابنا: إنّها جائزة في الأقوال كلّها عند الضرورة، وربّما وَجَبت فيها لضربٍ من اللطف والاستصلاح، وليس تجوز من الأفعال في قتل المؤمن، ولا فيما يُعلَم أو يَغلب الظنُّ أنّه استفساد في الدِّين (39).
2. قوله عزّ مِن قائل: مَن كفرَ باللهِ مِن بعدِ إيمانهِ إلاّ مَن أُكرِهَ وقلبُه مُطْمئنٌّ بالإيمانِ ولكنْ مَن شَرَحَ بالكفرِ صَدراً فعَلَيهِم غَضَبٌ مِن اللهِ ولَهمُ عذابٌ عظيم (40).
العبارة إلاّ مَن أُكرِهَ وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمان في الآية المباركة هي استثناء من عموم الشرط، والمراد بالإكراه: الإجبار على كلمة الكفر، والتظاهر به؛ فإنّ القلب لا يقبل الإكراه. فالمعنى يكون هكذا: أستثني مَن أُكرِه على الكفر بعد الإيمان، فكفرَ في الظاهر وقلبه مطمئنّ بالإيمان (41).
وقد رُويت الروايات الوافرة في ظلّ الآية الكريمة، اخترنا منها:
• ما جاء في سبب نزول الآية، أنّ جماعة أُكرِهوا: وهم عمّار وياسر أبوه وأمُّه سميّة، وصُهَيب وبلال وخَبّاب.. عُذِّبوا وقُتل أبو عمّار وأمّه، فأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه. ثمّ أُخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال قوم: كَفَر عمّار! فقال صلّى الله عليه وآله: كلاّ، إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً مِن قَرنِه إلى قَدَمِه، واختَلطَ الإيمانُ بلحمه ودمه.
وجاء عمّار إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو يبكي، فقال عليه السّلام: ما وراك ؟ قال: شرٌّ يا رسول الله، ما تُرِكتُ حتّى نِلتُ منك، وذكرتُ آلهتهم بخير. فجعل رسولُ الله صلّى الله عليه وآله يمسح عينَيه ويقول: إن عادوا لك فعُدْ لهم بما قلت.
فنزلت الآية .. إلاّ مَن أُكرِه وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمان.. . عن ابن عبّاس وقتادة (42).
• وقيل لأبي عبدالله الصادق عليه السّلام: إنّ الناسَ يَرْوون أنّ عليّاً عليه السّلام قال على منبر الكوفة: أيّها الناس، إنّكم ستُدعَون إلى سَبّي فسُبّوني، ثمّ تُدعَون إلى البراءة منّي فلا تبرأوا منّي. قال: ما أكثرَ ما يَكذبون الناس على عليّ عليه السّلام! ثمّ قال: إنّما قال: إنّكم ستُدعَون إلى سَبّي فسُبّوني، ثمّ تُدعَون إلى البراءة منّي وإنّي لَعلى دِين محمّد صلّى الله عليه وآله. ولم يَقُل: ولا تبرأوا منّي.
فقال له السائل: أرأيتَ إن اختار ( أي الرجل ) القتلَ دون البراءة ؟ قال: واللهِ ما ذاك عليه، وما له إلاّ ما مضى عمّار بن ياسر حيث أكرهه أهلُ مكّةَ وقلبه مطمئنّ بالإيمان، فأنزل الله عزّوجلّ: إلاّ مَن أُكرِهَ وقلبُه مُطْمئنٌّ بالإيمان فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله عندها: يا عمّار، إن عادوا فقد أنزلَ اللهُ عزّوجلّ عُذرَك: إلاّ مَن أُكرِه وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمان ، وأمَرَك أن تعود إن عادوا (43).
• ورُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ممّا رُفع عن أُمّته: خَطاؤها، ونسيانها، وما أُكرِهوا عليه، وما لم يُطيقوا، وذلك قولُ الله عزّوجلّ: ربَّنا لا تُؤاخِذْنا إن نَسِينا أو أخطأنا، ربَّنا ولا تَحمِلْ علينا إصْراً كما حَملتَهُ علَى الذين مِن قَبلِنا، ربَّنا ولا تُحمِّلْنا ما لا طاقةَ لنا به (44)، وقولُه: إلاّ مَن أُكره وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمان (45).
• وعن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: إنّ التقيّة تِرسُ المؤمن، ولا إيمان لمَن لا تقيّة له. قال الراوي: قلتُ: جُعِلت فداك، أرأيتَ قولَ الله تبارك وتعالى: إلاّ مَن أُكرِهَ وقلبُهُ مطمئنٌّ بالإيمان ؟ قال: وهل التقيّة إلاّ هذا ؟! (46)
والآية واضحة دالّةٌ على جواز التقيّة بإظهار الكفر عند الضرورة، مِن دون قصده ـ والعياذ بالله. وهي في مقام النفس؛ حفظاً للنفس من البطش والهلاك. والظاهر أنّ الجواز من باب الرخصة لا العزيمة، بمعنى أنّ المتّقي عند الضرورة والخوف من القتل مُخيَّر بين إظهار الكفر؛ لينجوَ بنفسه ويقوّي شوكة المسلمين ويُظهر الحقَّ فيما بعد، أو تحمّلِ الأذى والمشاقّ وجَرع كأس الموت من أجل ترويج الإسلام من خلال الشهادة، كما فعل ياسر وزوجته سميّة رضوان الله عليهما في صدر الإسلام.
يظهر ذلك من قصّة مُسيلَمة الكذّاب، عندما أخذ رجلَين مُسلَمين فقال للأوّل: ما تقول في محمّد ؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فِيّ ؟ قال: أنت أيضاً. فخلاّه وقال للثاني: ما تقول في محمّد ؟ قال: رسول الله، قال: فما تقول فِيّ ؟ قال: أنا أصَمّ. فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه نفسه، فقتله، فبلغ ذلك رسولَ الله صلّى الله عليه وآله فقال: أمّا الأوّل فقد أخذ برخصة الله، وأمّا الثاني فصد صَدَع بالحقّ، فهنيئاً له (47).
وهذه الحالة تُعطي التقيّة عنوان ( التقيّة الإكراهيّة )، ولا يُعتبَر فيها التعذيب ـ كما يرى بعض الفقهاء ـ بل يكفي فيها خوفُ الضرر على النفس، فذلك يجيز العمل بالتقيّة استناداً إلى الآية المباركة. قال البيضاويّ في تفسيره ( أنوار التنزيل ) عند ذِكر الآية: هي دليل على جواز التكلّم بالكفر عند الإكراه، وإن كان الأفضل أن يُتجنَّبَ عنه؛ إعزازاً للدِّين كما فعلَه أبوَا عمّار.
وفي الرواية عن ميثم التمّار قال: دعاني أمير المؤمنين عليه السّلام وقال: كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دَعِيُّ بني أُميّة عبيدُ الله بن زياد إلى البراءة منّي ؟! فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا ـ واللهِ ـ لا أبرأ منك، قال: إذاً واللهِ يَقتلُك ويصلبك. قلت: أصبِر، فذاك في الله قليل، قال: يا ميثم، إذاً تكون معي في درجتي (48).
3. وقوله جل وعلا: وقالَ رَجُلٌ مؤمنٌ مِن آل فِرعَونَ يَكتُمُ إيمانَه: أتَقتُلونَ رجُلاً أن يقولَ ربّيَ اللهُ وقد جاءَكُم بالبيّناتِ مِن ربِّكُم ؟! وإن يَكُ كاذباً فعلَيهِ كذِبُه وإن يَكُ صادقاً يُصِبْكُم بعضُ الذي يَعِدُكُم، إنّ اللهَ لا يَهدي مَن هُوَ مُسْرِفٌ كذّاب * يا قومِ لكمُ المُلْكُ اليومَ ظاهِرينَ في الأرض، فمَن يَنصُرُنا مِن بأسِ اللهِ إنْ جاءَنا ؟!.. (49).
هذا هو مؤمن آل فرعون، قيل: هو من أقربائه، أو ابن خاله أو ابن عمّه في بعض الأخبار، كان يكتم إيمانه سنينَ طويلة؛ تقيّةً. أمّا اسمه فهو « حِزْقيل » أحد الصدّيقين الثلاثة؛ لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: الصِّدّيقون ثلاثة: حِزقيل مؤمن آل فِرعون، وحبيب صاحب ياسين، وعليّ بن أبي طالب وهو أفضل الثلاثة (50). وفي بعض الأخبار قال صلّى الله عليه وآله: سُبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفةَ عين: حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجّار صاحب ياسين، وعليّ بن أبي طالب وهو أفضلهم (51).
ومؤمن آل فرعون رجل من القِبط، من خاصّةِ فرعون. هذا أوّلاً، وثانياً كان يكتم إيمانه.. فكان خطابه: يا قومي!. وكان موقفه استنكاراً لعزمهم على قتل موسى عليه السّلام، قائلاً: أتَقتُلونَ رجُلاً أن يقولَ ربّيَ اللهُ وقد جاءكُم بالبيّنات ؟! فقتلُه هو قتلُ رجلٍ جاء بالحقّ من ربّهم. أمّا قوله: وإن يكُ كاذباً فعليه كذِبُه فقيل فيه: إنّ ذِكره هذا التقدير والاحتمال تلطّف منه، لا أنّه كان شاكّاً في صدق موسى عليه السّلام. وقوله: وإنْ يكُ صادقاً يُصبْكم بعضُ الذي يَعِدُكم فيه تَنزُّل في المخاصمة بالاكتفاء بأيسر التقادير وأقلّها، كأنّه يقول: وإن يك صادقاً يُصِبْكم ما وَعَدكم من أنواع العذاب، مع أنّ لازمَ صدقه إصابتُهم بجميع ما وعد عليه السّلام. وقوله: إنّ اللهَ لا يَهدي مَن هوَ مُسرِفٌ كذّاب تعليل للتقدير الثاني فقط، والمعنى: إن يك كاذباً كفاه كذبه، وإن يك صادقاً يُصِبْكم بعضُ الذي يَعِدكم؛ لأنّكم حينئذٍ مسرفون متعدّون طورَكم، كذّابون في نَفي ربوبيّة ربّكم واتّخاذ أرباب من دونه، واللهُ لا يهدي مَن هو مسرف كذّاب. يا قومِ لكمُ المُلْكُ اليومَ ظاهرين في الأرض، فمَن يَنصرُنا مِن بأسِ اللهِ إن جاءنا ؟! ، الظهور: الغلَبة والعلوّ في الأرض، والأرض: هي أرض مصر، وبأس الله: أخْذُه وعذابه، والاستفهام للاستنكار. فيكون المعنى: يا قومِ لكمُ المُلك حالَ كونكم غالبين عالين في أرض مصر على مَن دونكم مِن بني إسرائيل، فمن ينصرنا مِن أخذ الله وعذابه كما يَعِدُنا موسى إن جاءَنا ؟! (52)
• وحول الآية المباركة هذه رُويَ أنّ رجلاً قال للإمام الباقر عليه السّلام: إنّ الحسن البصريّ يروي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: مَن كتم علماً جاء يوم القيامة مُلجَماً بلجام من نار. فقال: كَذِب وَيْحَه! فأين قول الله تعالى: وقالَ رجلٌ مؤمنٌ مِن آلِ فِرعونَ يكتمُ إيمانه.. ؟! (53)
• وجاء عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام: التقيّة من دِيني ودِين آبائي، ولا دِينَ لمن لا تقيّة له. والتقيّة تِرسُ الله في الأرض؛ لأنّ مؤمنَ آل فرعون لو أظهر الإسلام لَقُتل (54).
وقد احتجّ عليهم، واستدرجهم إلى الاعتراف، ثمّ أخذهم بالاحتجاج من باب الاحتياط، وبالغ في تحذيرهم مظهِراً للإنصاف وعدم التعصّب، فقدّم احتمال أنّ الرجل الذي عُزِم على قتله أن يكون كاذباً، ثمّ جاء بالاحتجاج الثالث إنّ اللهَ لا يهدي مَن هو مسرف كذّاب .. وهذا الاحتجاج ذو وجهين:
الأول: أنّه لو كان مسرفاً كذّاباً لمَا هداه الله إلى البيّنات، ولما عَضَده بتلك المعجزات.
والثاني: أنّ مَن خَذَله الله وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله. ولعلّه أراد « حِزقيل » المعنى الأوّل، فخُيّل إليهم المعنى الثاني؛ لتلين شكيمتهم (55).
وإنّما أعان مؤمنَ آل فرعون على ذلك تقيّتُه التي كانت بأُسلوب كتمان، وهي التي يُصطلَح عليها بـ ( التقيّة الكتمانيّة ).
وكم ورد في الكتمان من أحاديث خطيرة، وكذا في حفظ السرّ وذم الإذاعة، من ذلك:
• عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام: وَدِدتُ ـ واللهِ ـ أنّي افتَدَيت خَصلَتَين في الشيعة لنا ببعضِ لحمِ ساعِدي: النَّزَق، وقِلّة الكتمان (56).
• وعن الإمام أبي عبدالله الصادق عليه السّلام رُوي قوله: أُمِر الناس بخصلتين فضيَّعوهما، فصاروا منهما على غيرِ شيء: الصبر والكتمان (57).
• وعنه عليه السّلام أيضاً وقد تلا قوله تعالى: ذلكَ بأنّهم كانوا يَكفرونَ بآياتِ اللهِ ويقتُلونَ النبيّينَ بغيرِ الحقّ.. (58) قال: واللهِ ما قتلوهم بأيديهم، ولا ضربوهم بأسيافهم، ولكنّهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها، فأُخِذوا عليها فقُتلوا، فصار قتلاً واعتداءً ومعصية (59).
• وفي رواية أخرى في قول الله عزّوجلّ: ويقتلون الأنبياءَ بغير حقّ.. (60) قال أبو عبدالله ( الصادق ) عليه السّلام: أمَا واللهِ ما قتلوهم بأسيافهم، ولكن أذاعوا سرَّهم وأفشَوا عليهم فقُتلوا (61).
فما كلّ ما يُعرف يقال، وليس ما يقال قد حان وقته، وليس كلّ ما حان وقته قد حَضَر رجاله. فكم وكم يجب أن يُكتَم، فإنّ في بثّه إلقاءً بالأيدي إلى التهلكة: للنفس وللغير، وإفساداً للأمور، وإدخالاً للويلات على حياة الضعفاء!
• قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يعذّب اللهُ اللسان بعذاب لا يُعذِّب به شيئاً من الجوارح، فيقول: يا ربّ، عذّبتَني بعذاب لم تعذّب به شيئاً! فيقول له: خَرَجَت منك كلمةٌ فبَلَغت مشارقَ الأرض ومغاربها، فسُفِك بها الدمُ الحرام، وانتُهِب بها المال الحرام، وانتُهِك بها الفَرْج الحرام. وعزّتي وجلالي، لأُعذّبنّك بعذابٍ لا أُعذبُ به شيئاً من جوارحك (62).
• ونقرأ في ( غُرَر الحِكم ودرر الكَلِم ) من كلمات أمير المؤمنين عليه السّلام هذه اللمعات: ـ زلّة اللسان تأتي على الإنسان ( أي: تقضي عليه ). رُبّ لسان أتى على إنسان. كم من إنسان أهلكه لسان. كم مِن دم سفكَه فم (63).
وروي عنه عليه السّلام قوله: المرءُ يَعثر برِجْله فيبرى، ويَعثر بلسانه فيُقطع رأسه.. لا حافظَ أحفظُ من الصمت! (64)
ومن قبله ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: سلامة الإنسان في حفظ اللسان. بلاء الإنسان من اللسان. البلاء موكَّلٌ بالمنطق (65).
ومن بعده رُوي عن الإمام الصادق عليه السّلام قوله: نجاة المؤمن في حفظ لسانه (66).
4. قوله عزّوجلّ: والذين صبروا ابتغاءَ وجهِ ربِّهِم وأقامُوا الصلاةَ وأنفَقُوا مِمّا رَزَقناهُم سِرّاً وعلانيةً ويَدْرأونَ بالحَسَنةِ السيّئةَ أُولئكَ لَهُم عُقْبى الدار (67).
الدَّرْء: الدَّفْع، وفي تطبيقات الآية موارد كثيرة، منها: في سيّئةٍ أتى بها غيرهم بالنسبة إليهم، كمَن ظلمَهم فدفعوه بالعفو أو بالإحسان إليه، أو مَن جفاهم فقابلوه بحُسن الخلق والبِشْر، كما إذا خاطبهمُ الجاهلون قالوا: سلاما. ولعلّ من أسباب ذلك العمل بالتقيّة فيُجازون الإساءة بالإحسان، ولا يكافئون المسيء بما أساء، عملاً بقوله تبارك شأنه: ادفَعْ بالّتي هي أحسَنُ فإذا الذي بينَكَ وبَينَهُ عَداوةٌ كأنّهُ وليٌّ حميم (68).
ولعلّ هذا واضحٌ في حُسن المعاشرة والمجالسة، وحفظ الآداب والسنن الاجتماعيّة الصحيحة، ويُدعى ذلك بـ ( التقيّة المُداراتيّة )؛ لجذب الآخرين إلى الحقّ والوفاق، ودرء السوء والمشاكل، وجمع الفُرقة وتوحيد الصفوف، وسدّ الثغور أمام العدوّ.
• ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ثلاثٌ مَن لم يكنّ فيه لم يَتمَّ له عمل: وَرَع يَحجِزُه عن معاصي الله، وخُلُق يداري به الناس، وحِلْم يَرُدّ به جهلَ الجاهل (69).
• وعن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: في التوراة مكتوب ـ فيما ناجى اللهُ عزّوجلّ به موسى بنَ عمران عليه السّلام: يا موسى، اكتم مكتومَ سِرّي في سريرتك، وأظهِر في علانيتّك المداراةَ عنّي لعدوّي وعدوّك مِن خَلْقي، ولا تَستسبَّ لي عندهم بإظهارِ مكتومِ سرّي، فتُشرِك عدوَّك وعدوّي في سبّي (70).
5. قوله تعالى: أُولئكَ يُؤتَونَ أجرَهُم مَرّتَينِ بما صَبَروا ويَدرَأُونَ بالحسَنةِ السيّئةَ وممّا رزَقناهُم يُنفقُون (71).
قيل: المراد بالحسنة والسّيئة: الكلام الحسن والكلام القبيح.
وقيل: الخلُق الحسن والسَّيّئ.. وهما الحلم والجهل. قيل: وهذا المعنى أوفق.
وقيل: يدفعون بالحِلْم جهلَ الجاهل.
وقيل: يدفعون بالمُداراة مع الناس أذاهم عن أنفسهم (72).
• وفي ظلّ الآية: أولئك يُؤتَونَ أجرَهُم مَرّتينِ بما صَبَروا قال الإمام الصادق عليه السّلام: بما صبروا على التقية، ويدرأون بالحسنةِ السيّئةَ قال: الحسنةُ التقيّة، والسيّئة الإذاعة (73).
6. قوله جلّ جلاله: ومَن أحسَنُ قولاً ممّا دعا إلى اللهِ وعمِلَ صالحاً وقال: إنّني من المسلمين * ولا تَستوي الحسَنةُ ولا السّيئةُ ادفَعْ بالتي هي أحَسنُ فإذا الذي بينَكَ وبينَهُ عداوةٌ كأنّه وليٌّ حَميم (74).
وهذه هي الأُخرى من ( التقيّة الكتمانيّة ـ المداراتيّة ).. يقول الإمام جعفر الصادق عليه السّلام في ظلّ هذه الكلمات الرحمانيّة: الحسَنة: التقيّة، والسيّئة: الإذاعة. وقوله عزّوجلّ: ادفَعْ بالتي هي أحسَن » التي هي أحسن: التقيّة، « فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم (75).
فيكون العمل بهذه الآية: دفع الجهل بالحلم، والإساءة بالعفو.. وهذا هو الدفع بالتي هي أحسن. قال أمير المؤمنين عليه السّلام: صافِحْ عدَّوك وإن كَرِه، فإنّه ممّا أمَر اللهُ به عبادَه، يقول: ادفَعْ بالتي هي أحسَنُ فإذا الذي بينكَ وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم * وما يُلقّاها إلاّ الذينَ صَبَروا وما يُلقّاها إلاّ ذو حَظٍّ عظيم .. (76)
وهناك آياتٌ أُخرى ورد في تفسيرها على أنّها من باب التقيّة.. نُرجئها للباحثين والمستزيدين.
الدليل الثاني: من أدلّة التقيّة هو الحديث الشريف، وهو وافر واضح كثير، نختار منه هذه الباقة العاطرة من بين عشرات الروايات:
• كان فيما أوصى به لقمانُ ابنَه:يا بُنيّ، ليكن ممّا تتسلّح به على عدوّك وتصرعه: المُماسَحة، وإعلان الرضى عنه. ولا تُزاوِلْه بالمُجانَبة فيبدو له ما في نفسك فيتأهّب لك (77).
• قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
ـ إنّ الأنبياء إنّما فضّلهم اللهُ على خَلْقه بشدّة مُداراتهم لأعداء دين الله، وحُسن تقيّتهم لأجل إخوانهم في الله (78).
ـ وُضع عن أُمّتي تسعة أشياء: السهو، والخطأ، والنسيان، وما أُكرِهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون.. (79)
ـ كلُّ ما اضطُرّ إليه العبدُ فقد أحلّه الله له، وأباحه إيّاه (80).
• ورُوي عن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام قال:
ـ لا تمتدحوا بنا عند عدوّنا معلنين بإظهار حبّنا، فتُذلّلوا أنفسَكم عند سلطانكم.. شيعتُنا بمنزلة النَّحل: لو يَعلَمُ الناسُ ما في أجوافها لأَكلوها.. عليكم بالصبر والصلاة والتقيّة (81).
ـ إنّا لَنَبشر في وجوهِ قومٍ وإنّ قلوبنا تَقْليهم ( أي: تُبغضهم )، أولئك أعداءُ الله نتّقيهم على إخواننا، لا على أنفسنا (82).
• وعن مولاتنا فاطمة الزهراء سلام الله عليها، قالت: بِشْرٌ في وجهِ المؤمن يُوجبُ لصاحبه الجنّة، وبِشرٌ في وجه المعاند المعادي يقي صاحبَه عذابَ النار (83).
• وجاء عن الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام أنّه قال: إنّ التقيّة يُصلح اللهُ بها أُمّة، لِصاحِبها مِثلُ ثواب أعمالهم. وإنّ تركها ربّما أهلك أُمّة، تاركها شريكُ مَن أهلكهم (84).
• ونُقل عن الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام أنّه قال:
ـ مَن أطاب الكلام مع مُوافقيه ليُؤنِسَهُم، وبسَطَ وجهه لمخالفيه ليأمَنَهُم على نفسه وإخوانه، فقد حوى من الخيرات والدرجات العالية عند الله ما لا يُقادِرُ قَدْرَه غيرُه (85).
ـ التقيّة في كلّ ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به (86).
ـ خالطوهم بالبَرّانيّة، وخالِفُوهم بالجَوّانيّة، إذا كانت الإمرةُ صِبيانيّة (87).
• قال عبدالله بن عطاء: قلت لأبي جعفر ( الباقر ) عليه السّلام: رجُلانِ من أهل الكوفة أُخِذا، فقيل لهما: إبرآ من أمير المؤمنين. فبرئ واحدٌ منهما وأبى الآخر، فخُلِّيَ سبيلُ الذي برئ وقُتل الآخر. فقال: أمّا الذي برئ فرجل فقيه في دينه، وأمّا الذي لم يبرأ فرجلٌ تعجّل إلى الجنّة (88).
• وأمّا عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام فقد وردتنا أقواله هذه:
ـ ليس منّا مَن لم يَلزم التقيّة، ويصوننا عن سِفْلة الرعيّة (89).
ـ اتّقُوا اللهَ وصونوا دينَكم بالوَرَع، وقَوُّوه بالتقيّة (90).
ـ اتّقُوا على دينكم فاحجُبوه بالتقيّة، فإنّه لا إيمان لمَن لا تقيّة له. إنّما أنتم في الناس كالنحل في الطير، لو أنّ الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقيَ منها شيء إلاّ أكلَتْه، ولو أنّ الناس علموا ما في أجوافكم أنّكم تحبّونا أهلَ البيت لأكلوكم بألسنتهم، ولَنَحلوكم ( أي سابّوكم ) في السرّ والعلانية. رحم الله عبداً منكم كان على وَلاتينا (91).
ـ التقيّة حِرْز المؤمن.. إنّ العبد لَيقعُ إليه الحديث من حديثنا فيَدين اللهَ عزّوجلَ به فيما بينه وبينه، فيكون له عِزّاً في الدنيا ونوراً في الآخرة. وإنّ العبد لَيقع إليه الحديث من حديثنا فيُذيعه، فيكون له ذُلاًّ في الدنيا ويَنزع اللهُ عزّوجلّ ذلك النور منه (92).
ـ واللهِ ما عُبِد الله بشيءٍ أحَبَّ إليه من الخَبْء، قيل له: وما الخَبْء ؟ قال: التقيّة (93).
ـ كلّما تقارَبَ هذا الأمر ( أي: اقترب الفَرَج )، كان أشدَّ للتقيّة (94).
ـ المؤمن مجاهد؛ لأنّه يجاهد أعداء الله عزّوجلّ في دولة الباطل بالتقيّة، وفي دولة الحقّ بالسيف (95).
• وعن الإمام الرؤوف عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام جاء قوله:
ـ التقيّة في دار التقيّة واجبَه، ولا حِنْثَ على مَن حَلفَ تقيّةً يدفع بها ظلماً عن نفسه (96).
ـ لا دِينَ لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقيّة له. إنّ أكرمكم عند الله عزّوجلّ أعمَلُكُم بالتقيّة قبل خروج قائمنا، فمَن تركها قبل خروج قائمنا فليس منّا (97).
• وقد جفا عليه السّلام جماعةً من الشيعة وحَجَبهُم، فتساءلوا عن سبب ذلك فقال لهم: لِدعواكُم أنّكم شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام وأنتم في أكثر أعمالهم مخالفون ومقصّرون في كثير من الفرائض، وتتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في الله، وتتّقون حيث لا تجبُ التقيّة، وتتركون التقيّة حيث لابدّ من التقيّة (98).
وهنالك عشرات الأحاديث والأخبار تبيّن مفهوم التقيّة وأغراضها وآثارها ومواقعها، ربّما تطلّب الأمر فعرضنا قسماً منها.

* * *

بقي أن نذكر : أنّ التقيّة حَمَلت عناوينَ وتعاريف كثيرة.. كان منها:
1 ـ التقيّة جُنّة. 2 ـ التقيّة إيمان. 3 ـ دِين الله. 4 ـ عِزّ. 5 ـ حِصن. 6 ـ حِرز. 7 ـ تُرس. 8 ـ سَدّ. 9 ـ حجاب. 10 ـ أدب الهيّ. 11 ـ مِن سُنن الأنبياء عليهم السّلام. 12 ـ حزم. 13 ـ تقوى. 14 ـ حَسَنة. 15 ـ من أفضل الأعمال. 16 ـ شيمة الأفاضل. 17 ـ من شرف الأخلاق. 18 ـ سلامة. 19 ـ خير الدنيا والآخرة.. إلى غير ذلك من سمات المدح والثناء والتأكيد عليها، مما يؤكّد مشروعيّة التقيّة وفضلها، وأحياناً ضرورتها ووجوبها.. من ذلك قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: رُفعت عن أمّتي أربع خصال: ما أخطأوا، وما نَسُوا، وما أُكرِهوا عليه، وما لم يُطيقوا.. وذلك في كتاب الله: إلاّ مَن أُكرِهَ وقلبُه مطمئنٌّ بالإيمان (99). وقول الإمام الباقر عليه السّلام: التقيّة في كلّ شيء يُضطَرّ إليه ابنُ آدم فقد أحلّه الله له (100). وقول الإمام الصادق عليه السّلام: إنّه مَن كانت له تقيّة رفعه الله.. مَن لم تكن له تقيّة وضعه الله.. إنّ الناس في هُدنة، فلو قد كان ذلك كان هذا (101).
وقوله عليه السّلام: لا إيمانَ لمن لا تقيّة له (102). وقوله: لا دينَ لمن لا تقيّة له (103).
وهنا.. بعد عرض الدليلين: القرآنيّ والحديثيّ، يناسب أن ننقل كلمة السيّد محمّد حسين الطباطبائي بعد بيانه للآية المباركة: إلاّ أن تتّقُوا منهم تُقاةً ، وهي قوله:
الكتاب والسُّنّة متطابقان في جواز التقيّة في الجملة، والاعتبار العقليّ يؤكّده، إذ لا بُغيةَ للدِّين ولا هَمَّ لشارِعه ( أي: لمشرّعه ) إلاّ ظهورُ الحقّ وحياته. وربّما يترتّب على التقيّة والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحقّ مِن حفظ مصلحة الدين وحياة الحقّ ما لا يترتّب على ترك التقيّة، وإنكارُ ذلك مكابرةٌ وتعسّف (104).
الدليل الثالث: الإجماع، ويُعتبر أداةً كاشفة عن وجود دليل متين وقويم عند كثير من الفقهاء، حتّى قالوا به في التقيّة، منهم:
1 ـ ابن عربي المالكيّ ( ت 543 هـ ) ذكر اتّفاق العلماء وإجماعهم على أن ما استُكِره عليه الإنسان فهو له، وهذا هو معنى التقيّة (105).
2 ـ القرطبيّ المالكيّ ( ت 671 هـ ) قال: أجمع أهل العلم على أن مَن أُكره على الكفر حتّى خَشِي على نفسه القتلَ أنّه لا إثمَ له إنْ كفَرَ وقلبُه مطمئنّ بالإيمان (106).
3 ـ ابن كثير الشافعيّ ( ت 774 هـ ) قال: اتّفق العلماء على أنّ المُكْرَه على الكفر يجوز له أن يواليَ أيضاً لمهجته، ويجوز له أن يأبى (107).
4 ـ ابن حجر العسقلانيّ الشافعيّ ( ت 852 هـ ) قال: قال ابن بطّال ـ تبعاً لابن المنذر: أجمعوا على أنّ مَن أُكره على الكفر حتّى خَشِيَ على نفسه القتلَ فكفرَ وقلبُه مطمئنّ، أنّه لا يُحْكَم عليه بالكفر (108).
5 ـ الشوكانيّ ( ت 1250 هـ ) قال: أجمع أهل العلم على أنّ مَن أُكره على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل أنّه لا إثمَ عليه إن كفر وقلبه مطمئنّ بالإيمان، ولا تَبينُ منه زوجته، ولا يُحكَم عليه بحكم الكفر (109).
6 ـ جمال الدين القاسميّ الشاميّ ( 1332 هـ ) قال: مِن هذه الآية: إلاّ أن تتّقوا منهم تُقاةً استنبط الأئمّة مشروعيّة التقيّة عند الخوف، وقد نقل الإجماعَ على جواز التقيّة عند ذلك الإمام مرتضى اليمانيّ (110).
التقية إذاً واجبة، أو جائزة عند الفقهاء، ذلك من المتسالَم عليه، وإن اختلفوا في تطبيقاتها على المسائل.. لكنّها ثابتة. وجاء الإجماع مؤيّداً لمشروعيتها القرآنيّة والحديثيّة، بل ومؤكّداً لإمضائها مِن قِبل الأنبياء والأولياء عليهم السّلام في حياتهم الشريفة عملاً وقولاً.. قبل الإسلام وبعده، فيكون الإجماع حاصلاً من ذلك كلّه.
الدليل الرابع: العقل، وإن كان المسلمون لا يَرَونه المصدر الأوّل للمعرفة، ولم يجعلوه مقياساً لردّ النصوص أو قبولها.. إذ لم يكن للعقل البشريّ صلاحية الاستقلال بالحكم عند جميع المسلمين، فلم يثبت عنهم اعتباره حاكماً في المقام ومقدَّماً على حكم الشرع. بل هو ـ كما يقول الشيخ المفيد ـ الطريق المُوصل إلى العلم القطعيّ، والسبيل إلى معرفة حجيّة القرآن ودلائل الأخبار (111).
وإذا كان للعقول قابليّة الإدراك، فهي إنما تُدرك الكلّيات ولا تتعدّاها إلى الجزئيّات والفروع التي تحتاج إلى نصّ خاص. وهذا لا يمنع أن يُدرك العقل السليم خصائص كثيرة في توضيح النصوص بشرط ألاّ يكون خاضعاً لتأثيرات أُخرى تصدّه عن الوصول إلى الواقع.
وممّا يحكم به العقل: دفعُ الضرر. وقد قسّم الفقهاء الضرر إلى:
أ. ضرر دنيويّ: كالمتعلّق بالنفس والعرض والمال، وضرر أُخروي: كالعقاب على مخالفة الشرع.
ووجوب دفع الضرر من أحكام الفطرة، سواء كان الضرر:
1 ـ معلوماً.. والعقل هنا يحكم بوجوب دفعه مهما كان نوعه.
2 ـ مظنوناً محتمَلاً.. فان كان:
أ. أخروياً، وكان ناشئاً عن العلم بوجود التكليف والشكّ في المكلَّف به، فهو واجب الدفع؛ لأنّه يعود إلى وجوب الإطاعة، فيدخل في باب الاحتياط. أو كان الخوف من الضرر الأُخروي ناشئاً من الشكّ في أصل وجود التكليف، فالعقل لا يحكم بوجوب الدفع؛ لوجود المؤمِّن العقلي.. وهو: عدم البيان أمان من العقاب، لحديث السعة عن أمير المؤمنين عليه السّلام: هُم في سعةٍ حتّى يعلموا (112). وقول الإمام الصادق عليه السّلام: كلّ شيء مطلق حتّى يَرِد فيه نهي (113). وقوله عليه السّلام أيضاً: كلّ شيء مطلق حتّى يَرِد فيه نصّ (114).
ب. أمّا الضرر الدنيويّ المظنون والمحتمل، فإنّ العقل يحكم بوجوب دفعه، ولا فرق بينه وبين الضرر المعلوم من هذه الجهة، لأنّ الإقدام على ما لا يُؤمَّن معه الضرر قبيحٌ عقلاً.
والخلاصة: إنّ الضرر الدنيويّ يحكم العقل بوجوب الابتعاد عنه: معلوماً كان أو مظنوناً. فيكون واضحاً أنّ الاستدلال بالعقل على مشروعيّة التقيّة، إنّما هو من جهة حرص العاقل على حفظ النفس من التلف، بل ومن كلّ ما يهدّد كيانه بالخطر، أو يعرّض شرفه إلى الانتهاك، أو أمواله إلى الضياع.
من هنا تكون التقية وسيلة وقائيّة لحفظ الإنسان وصيانته عندما يستوجب الأمر ذلك، على أن لا يؤدّيَ استخدام التقيّة إلى فسادٍ في الدين، كما لو أُبيحت الدماء، واستلزم الجهاد.. فهذا يُبحث في مواضع ما لا يجوز فيه التقيّة.
وأخيراً يرى بعض الفقهاء أنّ الدليل في حكم التقيّة هو:
أولاً: عموم أدلّة نفي الضرر، كما في الحديث الشريف: لا ضررَ ولا ضِرار (115).
ثانياً: عموم حديث الرَّفع، في قوله صلّى الله عليه وآله: رُفِع عن أُمّتي تسعة أشياء.. ( منها: ما اضطُرّوا إليه ) (116).
ثالثا: عمومات التقيّة، مثل الخبر: إنّ التقيّة واسعة، ليس شيء من التقيّة إلاّ وصاحبها مأجور (117).

-----------

34 ـ سورة آل عمران:28.
35 ـ قرأها القرّاء « تُقاةً »، وقرأها ابن عبّاس ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والضحّاك وأبو حبوة وسهل وحميد بن قيس والمفضّل عن عاصم ويعقوب من القرّاء الأربعة عشر « تقيّةً »، وكلاهما مصدر ( إتّقى ).
36 ـ تفسير نور الثقلين للعروسي الحوزيزي 325:1 / ح 82.
37 ـ تفسير العيّاشي ج 1 في ظلّ الآية المباركة.
38 ـ وسائل الشيعة ج 11 ص 749 ـ الباب 29 / ح 11.
39 ـ مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسيّ 430:2.
40 ـ سورة النحل:106.
41 ـ الميزان في تفسير القرآن للسيّد محمّد حسين الطباطبائيّ 353:12 ـ 354.
42 ـ مجمع البيان ـ في ظلّ الآية الشريفة.
43 ـ تفسير القمّي عليّ بن إبراهيم ج 1 ـ في ظلّ الآية المباركة.
44 ـ سورة البقرة:286.
45 ـ تفسير نور الثقلين 89:3 / ح 239.
46 ـ تفسير نور الثقلين 89:3 ـ 90 / ح 241، عن قرب الإسناد للحِميَريّ.
47 ـ مستدرك وسائل الشيعة للميرزا النوريّ 378:2.
48 ـ وسائل الشيعة 476:11 ـ الباب 29 / ح 7.
49 ـ سورة غافر: 28 ، 29.
50 ـ بحار الأنوار للشيخ المجلسيّ 38:24 / ح 12 عن كنز الفوائد للكراجكيّ.
51 ـ عرائس المجالس للثعلبي ـ أو قصص الأنبياء 110.
52 ـ تفسير الميزان 347:17 ـ 348.
53 ـ تفسير نور الثقلين 518:4 / ح 38 ـ عن بصائر الدرجات للصفّار القمّي.
54 ـ تفسير نور الثقلين 519:4 / ح 43 ـ عن مجمع البيان.
55 ـ تفسير الصافي للفيض الكاشانيّ 340:4.
56 ـ أصول الكافي 221:2 ـ باب الكتمان / ح 1.
57 ـ أُصول الكافي 222:2 ـ باب الكتمان / ح 2.
58 ـ سورة البقرة: 61.
59 ـ أصول الكافي 371:2 ـ باب الإذاعة / ح 6.
60 ـ سورة آل عمران:112.
61 ـ أُصول الكافي 371:2 ـ باب الإذاعة / ح 7.
62 ـ أصول الكافي 115:2 ـ باب الصمت وحفظ اللسان / ح 16.
63 ـ غرر الحِكَم للآمديّ.
64 ـ بحار الأنوار 293:71 / ح 63 ـ عن كنز الفوائد للكراجكيّ.
65 ـ بحار الأنوار 286:71 / ح 42 ـ عن جامع الأخبار للشعيريّ.
66 ـ ثواب الأعمال للشيخ الصدوق 166.
67 ـ سورة الرعد: 22.
68 ـ سورة فُصلّت: 34.
69 ـ أُصول الكافي 116:2 ـ باب المداراة / ح 1.
70 ـ أُصول الكافي 117:2 ـ باب المداراة / ح 2.
71 ـ سورة القصص: 54.
72 ـ تفسير كنز الدقائق للميرزا محمّد المشهدي 456:7.
73 ـ أُصول الكافي 217:2 ـ باب التقيّة / ح 1.
74 ـ سورة فُصّلت: 33 ، 34.
75 ـ أُصول الكافي 218:2 ـ باب التقيّة / ح 6.
76 ـ تفسير نور الثقلين 550:4 / ح 55 ـ عن كتاب الخصال للشيخ الصدوق.
77 ـ أمالي الصدوق 396.
78 ـ تفسير الإمام العسكريّ عليه السّلام 145.
79 ـ مَن لا يحضره الفقيه للصدوق 36:1 ـ الباب 14 / ح 132.
80 ـ بحار الأنوار 413:75 / ح 64.
81 ـ بحار الأنوار 395:75 / ح 11 ـ عن الخصال للصدوق.
82 ـ تفسير الإمام العسكريّ عليه السّلام 145.
83 ـ تفسير الإمام العسكريّ عليه السّلام 145.
84 ـ تفسير الإمام العسكريّ عليه السّلام 149.
85 ـ تفسير الإمام العسكريّ عليه السّلام 145.
86 ـ الكافي 174:2 ـ باب التقيّة / ح 13.
87 ـ الكافي 175:2 ـ باب التقيّة / ح 20.
88 ـ الكافي 175:2 ـ باب التقيّة / ح 21.
89 ـ أمالي الطوسيّ 299:1.
90 ـ أمالي المفيد 59.
91 ـ الكافي 172:2 ـ باب التقيّة / ح 5.
92 ـ الكافي 175:2 ـ باب التقيّة / ح 23.
93 ـ الكافي 174:2 ـ باب التقيّة / ح 11.
94 ـ الكافي 175:2 ـ باب التقيّة / ح 17.
95 ـ علل الشرائع للشيخ الصدوق 152:2.
96 ـ عيون أخبار الرضا عليه السّلام للشيخ الصدوق 124:2 ـ الباب 35 / ح 1.
97 ـ كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق 42:2.
98 ـ وسائل الشيعة 470:11.
99 ـ تفسير العيّاشي 272:2.
100 ـ وسائل الشيعة ج 11 ـ الباب 25 من أبواب الأمر والنهي / ح 2.
101 ـ وسائل الشيعة ج 11 ـ الباب 25 ـ من أبواب الأمر والنهي / ح 8.
102 ـ قرب الإسناد 17.
103 ـ الخصال 14:1.
104 ـ تفسير الميزان 153:3.
105 ـ أحكام القرآن 1179:3.
106 ـ الجامع لأحكام القرآن 180:10.
107 ـ تفسير القرآن العظيم 609:2.
108 ـ فتح الباري 264:12.
109 ـ فتح القدير 197:3.
110 ـ محاسن التأويل 197:4.
111 ـ التذكرة بأُصول الفقه 28.
112 ـ الكافي 297:6 ـ الباب 48 / ح 2.
113 ـ من لا يحضره الفقيه 208:1 ـ الباب 45 / ح 937.
114 ـ غوالي اللآلي لابن أبي جمهور 44:2 / ح 111.
115 ـ تهذيب الأحكام للطوسيّ 146:7؛ الكافي 280:5 / ح 4؛ مسند أحمد 313:1؛ سنن ابن ماجة 784:2 / ح 2340؛ السنن الكبرى للبيهقي 69:6؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم 58:2؛ كنز العمّال 59:4 / ح 9498؛ حلية الأولياء لأبي نعيم 76:9؛ مجمع الزوائد للهيثميّ 110:4.. وغيرها.
116ـ الخصال 417:2 / ح 9؛ فتح الباري 160:5؛ تلخيص الخبير لابن حجر 281:1؛ كنز العمّال 233:4 / ح 10307؛ الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة للسيوطيّ 87.. وغيرها، في بعضها: ما استُكرِهوا عليه.
117 ـ الكافي 380:3 / ح 7.