من الحقائق التي أكّدها القرآن الكريم في آيات عديدة ، أشرنا إلى بعضها إجمالاً ، أنّ هناك نحواً من الارتباط الوجودي والتكويني بين أعمال الإنسان ، أعمّ من أن تكون حسنات أو سيئات ، وبين النظام الكوني ، بنحو لو جرى الفرد أو المجتمع على ما تقتضيه الفطرة الإلهية من الاعتقاد بالله تعالى ، والعمل الصالح ، لنزلت عليه الخيرات وفتحت عليه أبواب البركات ، والعكس بالعكس .
هنا قد يطرح تساؤل مهمّ ، مفاده : أنّ الحوادث العامة والخاصة التي تصيب الإنسان من خير أو شرّ ، لها علل طبيعية ، وقوانين وسنن مادية تحكمها ، إذا تحقّقت تلك الأسباب والعلل ، تحقّقت معاليلها التي ترتبط بها ، سواء صلحت النفوس أو طلحت ، وبتعبير قرآني سواء استقامت على الطريقة أم انحرفت عنها ، وعليه فلا مجال لربط هذه الحوادث بالأعمال الحسنة أو السيّئة للإنسان .
الجواب : أنّ هذا التساؤل ناشئ من عدم فهم السنن الإلهية التي أودعها الله تعالى في هذا العالم ، توضيح ذلك : أنّ العالم بما فيه من الأجزاء متّصل بعضه ببعض ، اتصال أعضاء بدن واحد ، بنحو يؤثّر صحّة وسقم بعض أجزائه ، على صحّة وسقم الأجزاء الأُخر ، والجميع على ما يثبته القرآن الكريم سائر إلى الله سبحانه ، سالك نحو الغاية التي قدّرت له ، قال الله تعالى : (( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )) (1) ، فكلّ شيء مهدي نحو كماله ، بما جهّز به في وجوده من القوى والأدوات التي يمكنه من خلالها الانتهاء إلى الغاية التي خُلق من أجلها ، وقال تعالى : (( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لَهَا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم )) (2) ، وقال تعالى : (( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ )) (3) .
والتعبير بلفظ الجمع ، دون أن تقولا ( أتينا طائعتين ) لعلّه للإشارة إلى أنّهما أيضاً غير متميّزتين من سائر مخلوقاته تعالى ، المطيعة لأمره ، السائرة في قافلة الوجود للرجوع إليه تعالى : (( إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى )) (4) .
ربما كانت أوضح آية دلّت على الترابط الوثيق بين أجزاء هذا العالم ، هو قوله تعالى : (( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا )) (5) ، وتقريب الاستدلال هو أن يقال : ( إنّ قوام هذا العالم هو بارتباط أجزائه بعضها ببعض ، فإنّ الأجزاء الحالية ترتبط بالأجزاء التي سوف تحدث ، من حيث إنّها تشكِّل موادّها وتهيئ الأرضية لحدوثها ، كما أنّها حدثت من الأجزاء السابقة ، والأجزاء المتزامنة يرتبط بعضها ببعض بأنواع من التأثير والتأثّر والفعل والانفعال ، ممّا يؤدّي إلى نموّ بعضها ، وذبول بعضها الآخر ، إلى غير ذلك ، فماء البحر يتسخّن بضوء الشمس فيتبخّر ويصعد إلى الجوّ سحاباً ، ثمّ يتبدّل بتأثير العوامل الجويّة إلى المطر ، فينزل على سطح الأرض ، فينمو به النبات ، فيأكله الحيوان ، كما أنّ الإنسان يتغذّى به ، وبلحم الحيوان .
فلكلّ جزء من أجزاء هذا العالم ارتباط عرْضي بالأجزاء المتزامنة ، وارتباط طولي زماناً بالأجزاء السابقة واللاحقة ، ممّا يجعل الكلّ منتظماً بنظام واحد شامل ، فيحتاج بعضها إلى بعض في حدوثه وبقائه ونشوئه وتحوّله ، فلو فرضنا وجود علل متعدّدة ، وأرباب متفرّقة لهذا العالم ، لزم انعزال أجزائه بعضها عن بعض ، لقيام كلّ جزء منه حينئذ بعلّته بلا واسطة ، أو بوساطة معلولاتها ، فينعزل عن غيرها وعن معلولات غيرها ، ويؤدى هذا إلى فساد النظام الحاكم على العالم ) (6) ، لذا قال تعالى : (( مَا مِنْ دَابَّة إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيم )) (7) .
ربما لهذا قالت الآية : (( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )) (8) ، حيث أشارت إلى ما تقدّم بـ (( هذا )) مع كونه جمعاً ومؤنثاً ، لتبيّن أنّ النظام الحاكم على هذا العالم واحد ، والحاصل ( أنّ الله سبحانه هو الذي خلق كلّ شيء فقدّره تقديراً ، وهداه إلى ما يسعده ، ولم يخلق العالم سدىً ، ولا شيئاً من أجزائه ، ومنها الإنسان لعباً ، بل إنّما خلق ما خلق ليتقرّب منه ويرجع إليه ، وهيأ له منزل سعادة يندفع إليه بحسب فطرته بإذن الله تعالى ، وجعل له سبيلاً ينتهي إلى سعادته ، فإذا سلك سبيله الفطري فهو ، وإلاّ فإذا اختلّ أمر بعض أجزائه ، وخاصة الأجزاء الشريفة ، وضعف أثره وانحرف عن مستقيم صراطه ، بان أثر فساده في غيره ، وانعكس ذلك منه إلى نفسه في الآثار التي يرسلها ذلك الغير إليه ، وهي آثار غير ملائمة لحال هذا الجزء المنحرف ، وهي المحنة والبلية التي يقاسيها هذا السبب من ناحية سائر الأسباب .
فإن استقام بنفسه أو بإعانة من غيره ، عاد إليه رفاه حاله السابق ، ولو استمرّ على انحرافه واعوجاجه ، وأدام فساد حاله ، دامت له المحنة ، حتى إذا طغى وتجاوز حدّه انتهضت عليه سائر الأسباب ، وهاجت بقواها التي أودعها الله سبحانه فيها ، لحفظ وجوداتها ، فحطّمته ودكّته ومحته بغتةً وهو لا يشعر .
وهذه السنّة التي هي من السنن الكونية التي أقرّها الله سبحانه في الكون ، غير متخلّفة عن الإنسان ، ولا الإنسان مستثنى منها ، فالأمّة من الأمم إذا انحرفت عن صراط الفطرة انحرافاً ؛ يصدّها عن السعادة الإنسانية التي قدّرت غاية لمسيرتها في الحياة ، كان في ذلك اختلال حال غيرها ، ممّا يحيط بها من الأسباب الكونية المرتبطة بها.
وينعكس إليها أثرها السيئ ، الذي لا مسبّب لها إلاّ انحرافها عن الصراط ، وتوجيهها آثاراً سيئة من نفسها إلى تلك الأسباب ، وعند ذلك تظهر اختلالات في المجتمع ، ومحن عامّة في العلاقات التي تحكمه ، كفساد الأخلاق وقسوة القلب وفقدان العواطف الرقيقة وهجوم النوائب ، وتراكم المصائب والبلايا الكونية ، كامتناع السماء من أن تمطر ، والأرض من أن تنبت ، والبركات من أن تنزل ، ومفاجأة السيول والطوفانات والصواعق والزلازل وخسف البقاع وغير ذلك ، كلّ ذلك آيات إلهية تنبّه الإنسان ، وتدعو الأمّة إلى الرجوع إلى ربّها ، والعودة إلى ما تركته من صراط الفطرة المستقيم ، وامتحان بالعسر بعدما امتحن باليسر .
تأمّل في قوله تعالى : (( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )) (9) ، تراه شاهداً ناطقاً بذلك ، فالآية تذكر أنّ المظالم والذنوب التي تكسبها أيدي الناس توجب فساداً في البرّ والبحر ، ممّا يعود إلى الإنسان ، كوقوع الحروب وانقطاع الطرق وارتفاع الأمن وغير ذلك ، أو لا يعود إليه كاختلال الأوضاع الجوية والأرضية التي يستضرّ بها الإنسان في حياته ومعاشه ) (10) .
والمتأمّل في الحوادث التي تقع في العقود الأخيرة ، سواء على مستوى الحروب وزيادة الأمراض ، خصوصاً تلك التي لم يعهدها السابقون ، كما أشارت إلى ذلك روايات سابقة ، أم على مستوى الكوارث الطبيعية ، يجد شاهد صدق على هذه الحقيقة القرآنية .
والدليل الذي أقامه القرآن لإثبات هذه الحقيقة قوله تعالى : (( وَمَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ٭ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ )) (11) ، وقوله تعالى : (( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا )) (12) ، حيث دلّتا أنّ صانعاً من الصنّاع لو صنع شيئاً لغاية معيّنة ، كان مراقباً لأمره ، شاهداً على رأسه ، بنحو إذا عرضه عارض يعوقه ويمنعه عن الوصول إلى الغاية التي صنعه لأجلها ، وركّب أجزاءه للوصول إليها ، أصلح حاله وتعرّض لشأنه بزيادة أو نقيصة ، أو بإبطاله من رأس ، والعود إلى صنعة جديدة .
كذلك الحال في خلق السموات والأرض وما بينهما ومن جملتها الإنسان ، لم يخلق الله سبحانه ما خلقه عبثاً ، ولم يوجده هباءً ، بل للرجوع إليه كما قال تعالى : (( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَتُرْجَعُونَ )) (13) ، ( حيث دلّت الآية أنّه لو لم يكن هناك رجوع إليه تعالى ، لكان خلقهم عبثاً ولعباً ، وهو يقول : (( وَمَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ )) [الأنبياء : 16] .
حينئذ من الضروري أن تتعلّق العناية الربّانية بإيصال الإنسان ، كسائر ما خلق من خلق إلى الغاية التي من أجلها خُلق ; بالدعوة والإرشاد ، ثمّ بالامتحان والابتلاء ، ثمّ بإهلاك مَن بطل في حقّه غاية الخلقة ، وسقطت عنه الهداية ، فإنّ في ذلك إتقاناً للصنع في الفرد والنوع ، وختماً للأمر في أمة وإراحة لآخرين ، قال تعالى : (( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْم آخَرِينَ )) (14) . تدبّر في موضع قوله تعالى : (( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَة )) حيث جعلت أن الرحمة الإلهية هي السبب في استبدال قوم بآخرين .
وهذه السنّة الربّانية ، أعني سنّة الابتلاء والانتقام هي التي أخبر الله عنها ، أنّها سنّة غير مغلوبة ولا مقهورة ، بل غالبة منصورة ، قال تعالى: (( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير٭ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيّ وَلاَ نَصِير )) (15) ، وقال أيضاً : (( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ٭ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ٭ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ )) [الصافات: 173] ) (16) .
الخارج والمحتوى الداخلي
تبيّن ممّا تقدّم أنّ التدبير الإلهي الحكيم يسوق الإنسان وكلّ ما يحيط به ، وخلق لأجله (( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ )) (17) ، إلى الغاية النهائية التي قدّرت لها (( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )) (18) ، فإذا عرض لهذا السير مانع يوجب الإعاقة عن الهدف (( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى )) (19) ، قوبل ذلك بما يدفع العائق المذكور ، إمّا بإصلاحه ، أو إزالة الجزء الفاسد منه ، نظير العاهة التي تعرض بعض أجزاء البدن ، فإنّه إمّا أن يصلح إن أمكن ، أو يقطع ويجتثّ بعملية جراحية .
كذلك في النظام العام الذي يحكم عالم التكوين ، فإنّ الاُمّة إن رجعت إلى صراط الفطرة والعبودية لله تعالى ، بإصلاح نفسها ، فيغيّر الله حالها إلى أحسن الحال ، قال تعالى : (( إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )) (20) .
( حيث يمكن أن يستفاد من الآية العموم ، وهو أن بين حالات الإنسان النفسية وبين الأوضاع الخارجية نوع تلازم ، سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشرّ ، فلو كان القوم على الإيمان والطاعة وشكر النعمة ، عمّهم الله بنعمه الظاهرة والباطنة ، ودام ذلك عليهم حتى يغيّروا ، فيكفروا ويفسقوا ، فيغيّر الله نعمه نقماً ، ودام ذلك عليهم حتى يغيّروا ، فيؤمنوا ويطيعوا ويشكروا ، فيغيّر الله نقمه نعماً ، وهكذا ) (21) ، أمّا إذا استمرّت الأمّة على ضلالها وخبطها ، طبع الله على قلوبهم فاعتادوا ذلك ، وأصبحوا يحسبون أنّ الحياة الإنسانية ليست إلاّ هذه الحياة المضطربة الشقيّة ، التي تزاحمها أجزاء العالم المادّي ، وتضطهدها النوائب والرزايا ، ويحطّمها قهر الطبيعة الكونية .
من هنا حاول الإنسان أن يتسلّح بسلاح العلم ، ليدفع قهر الطبيعة وحوادثها ، بدل أن يرجع إلى نفسه ، ليرى ما هي تلك الأسباب الحقيقية التي أدّت بالطبيعة أن تنتفض عليه ، وتحوّل حياته إلى شقاء مستمرّ ، واضطراب وقلق دائم ، فبدل أن يرجع إلى استقامة الطريق (( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً )) (22) ، وان تكون هذه المحن والمصائب والبلايا منبّهات للرجوع إليه تعالى : (( لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )) (23) ، تراه قد أخذه الخيلاء والتكبّر (( اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً )) (24) ، فظنَّ أنّ التقدّم العلمي في مجالات الحياة المختلفة ، يجعله قادراً في التغلب على السنن الإلهية التي أودعها الله تعالى في النظام الكوني ، فتكون الطبيعة منقادة لأهوائه ، ونسي أنّه لو اتبعته لفسدت السموات والأرض ، ولكان الإنسان من أقدم أجزائها في الفساد ، وأسرعها في الهلاك ، قال تعالى : (( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّموَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ )) (25) .
قال الطباطبائي في ظل هذه الآية : ( إنّ الإنسان حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام ، وله في نوعيته غاية هي سعادته ، وقد خطّ له طريق إلى سعادته وكماله ، يناله بطيّ الطريق المنصوب إليها ، نظير غيره من الأنواع الموجودة ، وقد جهّزه الكون العام ، وخلْقته الخاصة به من القوى والآلات ؛ بما يناسب سعادته والطريق المنصوب إليها ، وهي الاعتقاد والعمل اللذان ينتهيان به إلى سعادته .
فالطريق التي تنتهي بالإنسان إلى سعادته ، أعني الاعتقادات والأعمال الخاصّة ، المتوسّطة بينه وبين سعادته ، وهي التي تسمّى (الدين) ، وسنّة الحياة متعيّنة حسب اقتضاء النظام العام الكوني ، والنظام الخاص الإنساني الذي نسمّيه الفطرة ، وتابعة لذلك ، وهذا هو الذي يشير إليه تعالى بقوله : (( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ )) (الروم: 30) .
فسنّة الحياة التي تنتهي بسالكها إلى السعادة الإنسانية ، طريقة متعيّنة ، يقتضيها النظام بالحقّ ، وتكشف عنها تجهيزات وجوده بالحقّ ، وهذا الحقّ هو القوانين الثابتة غير المتغيّرة التي تحكم النظام الكوني ، الذي أحد أجزائه النظام الإنساني ، وتدبّره وتسوقه إلى غاياته ، وهو الذي قضى به الله سبحانه ، فكان حتماً مقضياً .
فلو اتّبع الحق أهواءهم ، فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم ، لم يكن ذلك إلاّ بتغيّر أجزاء الكون عمّا هي عليه ، وتبدّل العلل والأسباب غيرها ، وتغيّر الروابط المنتظمة إلى روابط جزافية مختلّة متدافعة ، توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم ، وفي ذلك فساد السموات والأرض ، ومن فيهنّ في أنفسها ، والتدبير الجاري فيها ، لأنّ كينونتها وتدبيرها مختلطان غير متمايزين ، والخلق والأمر متّصلان غير منفصلين ) (26) .
فتحصّل ممّا تقدّم ( أنّ الإنسان كغيره من الأنواع الكونية ، مرتبط الوجود بسائر أجزاء الكون المحيطة به ، ولأعماله في مسير حياته وسلوكه إلى منزل السعادة ، ارتباط بغيره ، فإن صلحت ( أي الأعمال ) للكون ، صلحت أجزاء الكون له ، وفتحت له بركات السماء ، وإن فسدت أفسدت الكون ، وقابله الكون بالفساد ، فإن رجع إلى الصلاح فبها ، وإلاّ جرى على فساده ، حتى إذا تعرّق ( تجذّر ) فيه ، انتهض عليه الكون وأهلكه ، بهدم بنيانه وإعفاء أثره ، وطهّر الأرض من رجسه )(27) .
____________
(1) طه: 50.
(2) يس: 38.
(3) السجدة: 11
(4) العلق: 8.
(5) الأنبياء: 22.
(6) تعليقة على نهاية الحكمة: مصباح يزدي، رقم : 422.
(7) هود: 56.
(8) آل عمران: 191.
(9) الروم: 41.
(10) الميزان في تفسير القرآن، ج8 ص196 ، بتصرّف.
(11) الدخان: 3.
(12) ص: 27.
(13) المؤمنون: 115.
(14) الأنعام: 133.
(15) الشورى: 31.
(16) الميزان، ج2 ص184.
(17) الجاثية: 13.
(18) طه: 50.
(19) النجم: 42.
(20) الرعد: 11.
(21) الميزان، مصدر سابق، ج11، ص311.
(22) الجن: 16.
(23) الروم: 41.
(24) فاطر: 43.
(25) المؤمنون: 71.
(26) الميزان، مصدر سابق، ج15 ص46.
(27) الميزان، مصدر سابق، ج8 ص198.
---------------------------------
مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .