من الحقائق التي عرض لها القرآن الكريم ، إن الإنسان لم يخلق سدىً لاهدف له ولا غاية ، قال تعالى: (( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ )) (1) . وقال تعالى : (( إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى )) (2) ، وقال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الاِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ )) (3) .
فلقاء الله والرجوع إليه ؛ هو الهدف الذي من أجله خُلق الإنسان ، والآيات لإثبات هذه الحقيقة كثيرة ، قال تعالى : (( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا)) (4) .
وقال أيضاً : (( إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ. أُولَئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )) (5) .
تأسيساً على ذلك يطرح هذا التساؤل : كيف يمكن للإنسان أن يحقّق هذا الهدف ، وما هو الطريق الموصل إلى لقاء الله سبحانه وتعالى ؟
في مقام الإجابة نقول : إنّ الإنسان خُلق في نشأة الابتلاء والامتحان ; قال تعالى: (( خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )) (6) ، فكلّ شيء في هذه النشأة لأجل امتحان الإنسان .
من هنا وضعه الله تعالى على مفترق الطريق ، ليختار لنفسه الاتجاه الذي يريد ، قال تعالى : (( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا )) (7) ، وقال تعالى: (( فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ )) (8).
فإذا استطاع الإنسان أن يقف على الطريق الذي يوصله إلى الهدف الذي خلق من أجله فهو المهتدي ، وإلاّ فيكون من الضالّين .
وانطلاقاً من هذه الحقيقة ، يدعو الإنسان ربّه مرّات عديدة في صلواته اليومية (( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ )) (9) ، لأنّ أفضل الطرق وأحسنها وأقصرها للوصول إلى الهدف هو الصراط المستقيم ، وإذا لم يوفّق الإنسان لسلوك هذا الطريق ؛ فهو ضال لا محالة ، ولا تزيده سرعة المشي في غير الصراط المستقيم ؛ إلاّ بعداً عن الهدف .
وإلى هذا أشار الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله : (( العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة المشي إلاّ بُعداً )) (10) .
إذن فما هو الصراط المستقيم الذي يجب على السائر أن يسلكه للوصول إلى قرب الله ولقائه ؟
لقد بيّن القران الكريم ذلك بقوله تعالى : (( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) (11) ، وكذلك قوله تعالى (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )) (12) .
ومن الواضح أنّ الأنبياء جميعاً وعلى رأسهم خاتم الأنبياء والمرسلين ؛ هم من الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم ، قال تعالى : (( كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ . وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَع َوَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ . وَمِنْ آبَائِهِم وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِراط مستَقِيم . ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )) (13) .
على هذا يكون الصراط المستقيم الموصل إلى الله تعالى هو إتباع الخاتم (صلّى الله عليه وآله) ، ولا يتحقّق هذا الإتباع ؛ إلاّ بالأخذ بكل ما جاءنا عنه (صلّى الله عليه وآله) قال تعالى : (( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا )) (14) ، وما ذلك إلاّ لأنّه (صلّى الله عليه وآله) (( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى )) (15) .
ثمّ إنّ الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) حدّد كيفية إتباعه من أجل السير على الصراط المستقيم ، والخلاص من الضلالة بقوله : (( إنّي تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي ؛ كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض ؛ وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفونني فيهما)) حيث بيّن (صلّى الله عليه وآله) : أنّ المنجي من الضلالة هو التمسّك بالقرآن والعترة الطاهرة (عليهم السلام) معاً .
ولذا نقرأ في الدعاء : (( اللهمّ عرّفني نفسك ، فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك ، اللهمّ عرّفني رسولك ، فإنّك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك ، اللهمّ عرّفني حجّتك فإنّك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني )) (16) .
فالذي ينجي الإنسان من الضلالة ويهديه الصراط المستقيم ، هو معرفة الله والرسول والحجّة في كلّ زمان ، ثمّ إنّ القرآن بيّن لنا حقيقة أخرى فيما يرتبط بالإنسان حيث قال : (( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ )) (17) .
فالإنسان وهو في نشأة الدنيا يعيش في أسفل السافلين ، فعليه بعد أن تبيّن له الهدف والطريق أن يصعد من الأسفل إلى الأعلى (( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ )) (18) ، وليس هذا الصعود مكانياً بل هو معنوي ، ذلك أنَّ الارتفاع والصعود إلى الأعلى تارة يكون مكانياً ، كما لو صعد الإنسان على مرتفع من الأرض مثلاً ، وأخرى يكون معنوياً ، كما في قوله تعالى في حق إدريس (عليه السلام) : (( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا )) (19) ، إذ ليس المراد هو الارتفاع المكاني ، بل ارتفاع مكانته عند الله تعالى .
من هنا نجد أنّ القرآن الكريم والروايات الواردة عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ، ذكرت أنّ هذا الصعود إليه تعالى يحتاج إلى حبل ، قال تعالى : (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا )) (20) ، وللوقوف على هذا الحبل الذي أمرنا القرآن بالاعتصام به ، نرجع مرّة أخرى إلى حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين ، لنقف على حقيقة هذا الحبل ، وما هو المقصود به ؟
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في خطبته المشهورة ، التي خطبها في مسجد الخيف في حجّة الوداع : (( إنّي مخلّف فيكم الثقلين ، الثقل الأكبر القرآن ، والثقل الأصغر عترتي وأهل بيتي ، هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عزّ وجلّ ، ما إن تمسّكتم به لم تضلّوا )) (21) .
حيث عبّر الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) عن القرآن والعترة ؛ بأنّهما حبل واحد لا حبلان ، وهذا معناه أنّ التمسّك بالعترة ليس شيئاً وراء التمسّك بالقرآن الكريم ، بل هما حقيقة واحدة ، لكن الفرق بينهما أنّ العترة هم القرآن الناطق ، وأنّ القرآن هو العترة الصامتة .
لذا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في ذيل قوله تعالى : (( إِنَّ هَذَا الْقُرآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )) (22) : - إنّه يهدي إلى الإمام - (23) .
ومنه يتّضح معنى ما قاله أمير المؤمنين علي (عليه السلام) : (( ذلك الكتاب الصامت ، وأنا الكتاب الناطق )) (24) ، فلا يعني بذلك أنّه هو الناطق باسم القرآن ، بل عنى أنّه هو القرآن المتجسّد ، ولذا ورد عن الفريقين عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : (( علي مع الحق والحق مع علي ، يدور معه حيثما دار )) (25) ، أي يدور الحق حيثما دار علي ، لأنّه هو القرآن الناطق ، أي هو التجسيد الحي لكتاب الله في واقع الناس وحياتهم .
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نفهم ما ورد في تفسير العياشي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : (( الصراط المستقيم أمير المؤمنين عليه السلام )) ، وكذلك ما ورد في المعاني عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال : (( هي الطريق إلى معرفة الله ، وهما صراطان ، صراط في الدنيا وصراط في الآخرة ، فأمّا الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة ، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه في الآخرة فتردى في نار جهنّم )) .
وما ورد عن الإمام السجّاد (عليه السلام) : (( ليس بين الله وبين حجّته حجاب ، ولا له دون حجّته ستر ، نحن أبواب الله ، ونحن الصراط المستقيم ، ونحن عيبة علمه وتراجمة وحيه ، ونحن أركان توحيده ، ونحن موضع سرّه )) (26) .
بعد أن تبيّن أنّ الإنسان مسافر إلى الله تعالى ، وكادح كدحاً للوصول إليه والقرب منه واللقاء به ، وأنّ ذلك لا يتحقّق إلاّ من خلال إتباع القرآن والعترة الطاهرة ؛ اللذين هما حبل الصعود إليه سبحانه ، أشار القرآن إلى زاد هذا السفر الإلهي ، حيث قال : (( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى )) (27) .
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (( أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاذ ، زادُ مبْلِغ ، ومعاذ منجح ، دعا إليها أسمع داع ، ووعاها خير واع ، فأسمع واعيها ، وفاز داعيها )) (28) .
وقد أشار القرآن الكريم إلى أن خير مطية يمتطيها الإنسان ؛ لكي يصل إلى هدفه هو قيام الليل ، قال تعالى : (( وَمِنَ اللَيلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لكَ عَسَى أَن يَبْعَثكَ رَبُّكَ مَقَامًا محْمُودًا )) (29) ، وقال تعالى : (( قُمِ اللَيلَ إِلاَّ قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً )) (30) .
فتحصّل إلى هنا ، أنّ أفضل مركوب يمتطيه الإنسان للسير إلى الله تعالى هو قيام الليل ، وأن أفضل الزاد هو التقوى ، وأن أفضل طريق هو الصراط المستقيم .
وبهذا يتضح دور التقوى في حياة الإنسان ، وموضعها في منظومة الشريعة الإسلامية ، إذ كثيراً ما يقع الحث على التقوى من دون أن يتضح للسائر إلى الله موقع ذلك ، وموضعه في حياة الإنسان .
ــــــــــــ
(1) المؤمنون: 115 .
(2) العلق : 8 .
(3) الانشقاق : 6 .
(4) الكهف : 110 .
(5) يونس : 8 .
(6) الملك : 2 .
(7) الإنسان : 3 .
(8) الكهف : 29 .
(9) الفاتحة : 6 .
(10) الأصول من الكافي، لثقة الإسلام أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي: ج1 ص43 / كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، الحديث: 1 .
(11) آل عمران : 31 .
(12) الأحزاب : 21 .
(13) الأنعام: 84 ـ 88 .
(14) الحشر : 7 .
(15) النجم: 3.
(16) مفاتيح الجنان: ص588، الدعاء في زمن الغيبة.
(17) التين : 4 ـ 5 .
(18) فاطر : 10 .
(19) مريم : 57 .
(20) آل عمران: 103 .
(21) بحار الأنوار: تأليف العلم العلاّمة الحجّة فخر الأمّة المولى الشيخ محمد باقر المجلسي (قدّس سرّه): ج92، ص102. مؤسسة الوفاء، بيروت ـ لبنان.
(22) الإسراء : 9 .
(23) أصول الكافي: ج1 ، ص216، كتاب الحجّة، باب إنّ القرآن يهدي للإمام. الحديث 2.
(24) بحار الأنوار: ج39 ، ص272 .
(25) بحار الأنوار : ج38 ، ص188 .
(26) نقلت هذه الروايات عن الميزان في تفسير القرآن
(27) البقرة: 197 .
(28) نهج البلاغة: الخطبة 114.
(29) الإسراء: 79 .
(30) المزمّل: 2 ـ 4
---------------------------------
مراجعة وضبط النص شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي .