[نحن نعرف] أنّ للقرآن محكمه ومتشابهه تأويلاً، وأنّ هذا التأويل أمرٌ يقصر عن نيله الإفهام وتسقط دون الارتقاء إليه العقول، إلاّ نفوسٌ طهّرهم الله وأزال عنهم الرجس، فإنّ لهم قابلية أن يمسّوه ويقفوا على حقائقه، وهو في الكتاب المكنون واللّوح المحفوظ، كما دلّ عليه قوله تعالى: (إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتاب مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ ).
فقوله: ( فِي كِتاب مَكْنُون ) وصف ثان للقرآن أي محفوظ مصون عن التغيير والتبديل، وهو اللوح المحفوظ كما قال تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْح مَحْفُوظ)، وقوله: (لا يَـمَسُّه إلاَّ المطهَّرون) صفة الكتاب المكنون، ويمكن أن يكون وصفاً ثالثاً للقرآن، ومآل الوجهين على تقدير كون لا نافية واحد. والمعنى لا يمسّ الكتاب المكنون الذي فيه القرآن إلاّ المطهّرون، أو لا يمسّ القرآن الذي في الكتاب إلاّ المطهّرون.
والكلام على أيّ حال مسوق لتعظيم أمر القرآن وتجليله، فمسّه هو العلم به وهو في الكتاب المكنون كما يشير إليه قوله: (إنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبـِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ). والمطهّرون ـ اسم مفعول من التطهير ـ هم الذين طهّر الله تعالى نفوسهم من أرجاس المعاصي وقذارات الذنوب، أو ممّا هو أعظم من ذلك وأدقّ وهو تطهير قلوبهم من التعلّق بغيره تعالى، وهذا المعنى من التطهير هو المناسب للمسّ الذي هو العلم، دون الطهارة من الخبث أو الحدث كما هو ظاهر. من هنا لابدّ من الإجابة على هذا التساؤل: مَنْ هُم المطهّرون في القرآن؟
قال تعالى: (إنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا)، كلمة (إنّما) تدلّ على حصر الإرادة في إذهاب الرجس والتطهير، وكلمة (أهل البيت) سواء كان لمجرّد الاختصاص أو مدحاً أو نداءً يدلّ على اختصاص إذهاب الرجس والتطهير بالمخاطبين بقوله (عنكم). ففي الآية في الحقيقة قصران:
قصر الإرادة في إذهاب الرجس والتطهير.
وقصر إذهاب الرجس والتطهير في أهل البيت.
وقد ورد في أسباب النزول أنّ الآية نزلت في النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وعليّ، وفاطمة، والحسنين (عليهم السلام) خاصّةً لا يشاركهم فيها غيرهم.
قال الآلوسي في تفسيره: (أخرج الترمذي والحاكم وصحّحاه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه من طرق أُمّ سلمه (رضي الله عنها) قالت: في بيتي نزلت (إنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ) وفي البيت فاطمة، وعليّ، والحسن، والحسين. فجلّلهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بكساء كان عليه ثمّ قال: (هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً).
وجاء في بعض الروايات أنّه (عليه الصلاة والسلام) أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء وقال: (اللّهمَّ هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً) ثلاث مرّات. وفي بعض آخر أنّه (عليه الصلاة والسلام) ألقى عليهم كساءً فدكياً ثمّ وضع يده عليهم ثمّ قال: (اللّهمَّ إنّ هؤلاء أهل بيتي) وفي لفظ: (آل محمّد)، (فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمّد كما جعلتها على آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد).
وجاء في رواية أخرجها الطبراني عن أُمّ سلمه أنّها قالت: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: (إنّكِ على خير). وفي أُخرى رواها ابن مردويه عنها أنّها قالت: ألستُ من أهل البيت؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّك إلى خير إنّك من أزواج النبيّ). وفي آخرها رواها الترمذي وجماعة عن عمر بن أبي سلمه ربيب النبيّ (عليه الصلاة والسلام) قال: قالت أُمّ سلمه: وأنا معهم يانبيّ الله؟ قال: (أنتِ على مكانك وإنّكِ على خير).
وأخبار إدخاله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليّاً وفاطمة وابنيهما رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء، وقوله عليه الصلاة والسلام: (اللّهمَّ هؤلاء أهل بيتي) ودعائه لهم وعدم إدخال أُمّ سلمه أكثر من أن تُحصى، وهي مخصّصة لعموم أهل البيت بأيّ معنى كان. فالمراد بهم من شملهم الكساء ولا يدخل فيهم أزواجه صلّى الله عليه وآله).
وقال الطباطبائي: (وهي روايات جمّة تزيد على سبعين حديثاً، يربو ما ورد منها من طرق أهل السنّة على ما ورد منها من طرق الشيعة، فقد روتها أهل السنّة بطرق كثيرة عن أُمّ سلمه وعائشة وأبي سعيد الخدري وسعد ووائلة بن الأسقع وأبي الحمراء وابن عبّاس وثوبان مولى النبيّ وعبد الله بن جعفر وعليّ والحسن بن عليّ (عليهما السلام) في قريب من أربعين طريقاً. وروتها الشيعة عن عليّ، والسجّاد، والباقر، والصادق، والرضا، (عليهم السلام)، وأُمّ سلمه وأبي ذرّ، وأبي ليلى، وأبي الأسود الدؤلي، وعمرو بن ميمون الأودي، وسعد بن أبي وقّاص، في بضع وثلاثين طريقاً.
فإن قيل: إنّ الروايات إنّما تدلّ على شمول الآية لعليّ وفاطمة والحسنين (عليهم السلام)، ولا ينافي ذلك شمولها لأزواج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كما يفيده وقوع الآية في سياق خطابهنّ.
قلنا: إنّ كثيراً من هذه الروايات وخاصّة ما رويت عن أُمّ سلمه ـ وفي بيتها نزلت الآية ـ تصرّح باختصاصها بهم وعدم شمولها لأزواج النبيّ (صلّى الله عليه وآله).
فإن قيل: هذا مدفوع بنصّ الكتاب على شمولها لهنّ كوقوع الآية في سياق خطابهنّ.
قلنا: إنّما الشأن كلّ الشأن في اتّصال الآية بما قبلها من الآيات، فهذه الأحاديث على كثرتها البالغة ناصّة في نزول الآية وحدها، ولم يرد حتّى في رواية واحدة نزول هذه الآية في ضمن آيات النساء، ولا ذكره أحد حتّى القائل باختصاص الآية بأزواج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كما يُنسب إلى عكرمة وعروة، فالآية لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النبيّ ولا متّصلة بها، وإنّما وضعت بينها بأمر من النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أو عند التأليف بعد الرحلة. ويؤيّده أنّ آية: (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) على انسجامها واتّصالها لو قدّر ارتفاع آية التطهير من بين جُملها، فموقع آية التطهير من آية: (وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) كموقع آية : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً) المائدة: 3 من آية محرّمات الأكل من سورة المائدة.
وبالبناء على ما تقدّم تصير لفظة أهل البيت اسماً خاصّاً في عرف القرآن بهؤلاء الخمسة، وهم النبيّ وعليّ وفاطمة والحسنان عليهم الصلاة والسلام لا يطلق على غيرهم ولو كان من أقربائه الأقربين وإن صحّ بحسب العرف العام إطلاقه عليهم).
لذا لم تدّع واحدة من نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله) شمول هذه الآية لها، مع مسيس حاجة بعضهنّ إلى ذلك، تصحيحاً لبعض مواقفهنّ السياسية ومعارضة الخلافة القائمة آنذاك، بل على العكس من ذلك فقد اعترفت عائشة وأُمّ سلمه فيما تحدثتا به من حديث الكساء بعدم إذن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لهما بالدخول تحت الكساء وكُنّ يتمنّين ذلك، إلاّ أنّ الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)بقي مصرّاً على عدم مشاركتهنّ لهؤلاء، وقد تقدّم بعض ذلك. عن مجمع قال: (دخلت مع أُمّي على عائشة فسألَتْها أُمّي قالت: أرأيت خروجك يوم الجمل؟
قالت: إنّه كان قدراً من الله. فسألتها عن عليّ، فقالت: تسأليني عن أحبّ الناس كان إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول الله، لقد رأيت عليّاً، وفاطمة، وحسناً، وحسيناً، وجمع رسول الله بثوب عليهم ثمّ قال:( اللّهمَّ إنّ هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً).
فقلت: يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال: تنحّي إنّك إلى خير).
بهذا يتّضح أنّ الخلاف المتقدّم في أنّ الواو للعطف أو للاستئناف والابتداء لا يؤثّر على الموقف شيئاً، لأنّه حتّى لو كانت الواو للاستيناف فإنّها لا تدلّ على عدم علم الراسخين في العلم بالتأويل، ومن الواضح أنّ عدم دلالة الآية شيء ودلالتها على عدم العلم بالتأويل شيءٌ آخر، من هنا فإذا دلَّ دليل آخر ـ كما دلّ ـ على علم البعض بالتأويل فلا منافاة مع الآية محلّ البحث.