تنقسم مباحث الإيمان بنبوة الأنبياء عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام إلى قسمين رئيسيين هما:
النبوّة العامّة:
وهذا البحث يحتوي على عدة مواضيع مهمة يجب الإيمان بها والاطلاع عليها لكي يؤمن الإنسان بضرورة وجود نبي مرسل من الله سبحانه وتعالى لهداية الناس وتبليغهم رسالة السماء. وتنطوي تحت هذا البحث عدة مباحث، أهمها:
1- لزوم بعثة الأنبياء: والأدلة المختلفة على ذلك.
2- ما تثبت به دعوى النبوّة: مثل المعجزة وإخبار الأنبياء السابقين.
3- الوحي وأقسامه وحقيقته.
4- سمات الأنبياء: مثل العصمة والعلم الخاص والكفاءة.
وقد بحثنا في الحلقة السابقة موضوعاً واحداً يتعلق بالقسم الأول من مباحث النبوّة العامة، وهو صفات المشرّع وضرورة أن يكون القانون للإنسان في الدنيا منزل من الله سبحانه وتعالى. ونترك البحث في المواضيع الأخرى إلى وقت أخر.
النبوّة الخاصّة:
وتعني الإيمان بنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأنّه رسول الله حقاً وصدقاً.
فمن درس حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يعلم يقينا أنّه كان مثالاً للصدق والشرف والكرامة والسموّ الإنساني، حتى أنّ قريش كانت تدعوه بالصادق الأمين لأنّها لم تعهد منه طيلة حياته كذبة في قول ولا خيانة في فعل . ومن كان بهذا الخلق الرفيع فإنّه مُصدّق إن ادّعى النبوّة . ومع ذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى أنزل عليه القران الكريم ليكون المعجزة الخالدة التي تشهد على صدق نبوته.
معجزة القران الكريم:
ولكي نتعرف على جوانب من إعجاز القران الكريم، نرى من المفيد أن نعرف معنى المعجزة وشروطها.
تعرف المعجزة بأنّها (أمر خارق للعادة ، مقرون بالدعوى، والتحدّي ، مع عدم المعارضة، ومطابقتها للدعوى)
ومعنى ذلك أنّ للمعجزة شروط خمسة تميزها عن غيرها من الأمور الخارقة للعادة وهي:
1- أمر خارق للعادة: إذ تكون المعجزة مخالفة للعلم أو السحر أو غيرهما لأنّها تخالف العادة المعروفة بين الناس حسب ما يعلمون.
2- دعوى النبوّة: إذ يدّعي من يأتي بالمعجزة بأنّه نبيّ أرسله الله سبحانه وتعالى لهداية البشر. وبهذا تفترق المعجزة عن الآية أو الكرامة التي قد تكون أمر خارق للعادة إلاّ أنّ صاحبها لا يدّعي أنّه نبيّ، بل هي كرامة له من الله سبحانه وتعالى، يعطيها لأوليائه المتقين.
3- التحدّي عن الإتيان بمثله: إذ يتحدّى النبيّ الناس الذين بعث أليهم بأنّهم إن كانوا لا يؤمنون بأنّ ما قام به معجزة ، فليأتوا بما يشبهها.
4- العجز عن مقابلته: أي عجز الناس عن أن يأتوا بما يقابل المعجزة ليبطلوا دعوى المعجزة على يد النبيّ.
5- مطابقة المعجزة للدعوى: أي أن تكون المعجزة مؤيدة ومطابقة لدعوى النبيّ بأنّه نبيّ حقّ مرسل من الله سبحانه وتعالى.
وهذه الشروط مطابقة لدعوى النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بأنّه نبيّ مرسل من الله سبحانه وتعالى لهداية البشرية وكانت معجزته القران الكريم.
خصائص معجزة القران الكريم:
1) تشابه المعجزة مع أرقى علوم العصر:
لكي تكون المعجزة واضحة ومؤثرة في الناس فإنّها عادة ما تكون مشابهة لأرقى العلوم الموجودة في ذلك العصر، حتى يؤمن بها العلماء من الناس لعلمهم بأنّها تختلف عما يعرفونه من علم، ولأنّها خارقة للعادة.
ومن هنا كانت معجزة النبي موسى (عليه السّلام) بالعصا التي تتحول إلى ثعبان ، واليد البيضاء، لأنّ السحر كان من أرقى الفنون في ذلك الزمن، ومع ذلك فقد أدرك السحرة أنّ ما يقوم به النبي موسى (على نبينا وآله وعليه السلام) ليس مشابها لفن السحر الذي يقومون به.
وكذلك كانت معجزة النبي عيسى (عليه السّلام) بإحياء الموتى وشفاء المرضى مشابهة لعلم الطب الذي كان متقدماً بشكل كبير في ذلك الزمان . ولكن يعلم الأطباء بأنّ شفاء المرضى على يد النبي عيسى (عليه السّلام) لا يشبه أسلوب الطبيب في معالجة مرضاه وذلك بإعطائه الدواء المناسب للمريض وضرورة استعمال الدواء لفترة زمنية كافية، بل كان الشفاء مباشراً وبدون أي دواء سوى إرادة النبيّ لذلك وإذن الله سبحانه وتعالى .
وفي زمن النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان الفنّ الغالب لقريش هو الأدب العربي والشعر واللغة، ولذلك جاء القران الكريم معجزاً ومتحدياً أن يأتي بمثله شعراء العرب وبلغائهم، وقد عجزوا عن ذلك.
روى الكليني في الكافي عن أبي يعقوب البغدادي قال: قال ابن السكّيت، لأبي الحسن الرضا (عليه السّلام) : لماذا بعث الله موسى بن عمران (عليه السلام) بالعصا، ويده البيضاء، وآلة السحر؟ وبعث عيسى بآلة الطبّ؟ وبعث محمداً (صلى الله عليه وآله وجميع الأنبياء) بالكلام والخطب؟.
فقال أبو الحسن (عليه السلام):( إنّ الله لما بعث موسى (عليه السلام) كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم.
وإنّ الله بعث عيسى (عليه السلام) في وقت قد ظهرت فيه الزّمانات، واحتاج الناس إلى الطبّ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجة عليهم.
وإنّ الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام- وأظنه قال: الشعر- فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم).
قال: فقال أبن السكّيت: تالله ما رأيت مثلك قط.
2) خلود معجزة القرآن:
إنّ الإنسان في هذه الأيام لا يستطيع أن يرى معجزة النبي موسى (عليه السّلام) أو معجزة النبي عيسى (عليه السّلام)، لأنّها كانت معاجز وقتية أظهرها كُلّ نبيّ لقومه في زمانه. ولا يمكن رؤيتها حالياً ولكن نؤمن بها من خلال إيماننا بالقرآن الكريم الذي يذكرها. أمّا بالنسبة إلى معجزة القرآن الكريم فإنها تختلف عن سائر معاجز الأنبياء (على نبينا وآله وعليهم جميعا السلام) بأنّها معجزة خالدة مستمرة طوال الدهور والعصور. ويمكن أن يطلع على هذه المعجزة أيّ إنسان في كُلّ زمان ومكان. والسبب في ذلك هو أنّ النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) خاتم الأنبياء والمرسلين ولا يوجد نبي بعده، وان رسالته مستمرة إلى يوم القيامة، ولذلك فقد جعل الله معجزة القرآن مستمرة وخالدة إلى يوم القيامة، وتكون حجة على الناس ليؤمنوا بالإسلام ويتبعوه ولا يعتذروا بأنّهم لم يستطيعوا معرفة الحق من الباطل . قال تعالى: ( لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) سورة النساء: الآية 165 وقال تعالى: ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) سورة الأنعام: الآية 149.
جوانب الإعجاز في القرآن الكريم:
في القرآن الكريم جوانب متعددة من الإعجاز تتناسب ومستوى الناس الثقافي والعلمي في كُلّ زمان ومكان، وأهمّ هذه المعاجز ما يلي:
1- الإعجاز البياني.
2- الإعجاز التشريعي: إذ إنّ التشريعات التي وردت في القرآن الكريم لا تتناسب ومستوى العقل الجاهلي، وخارج مستوى تفكير المجتمع المكّي.
3- عدم وجود التناقض: إذ بالرغم من أنّ القرآن الكريم نزل خلال فترة 23 سنة من حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وبالرغم من اختلاف الظروف التي عاشها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) في مكّة والمدينة، مع ذلك لا نجد في القرآن أي تناقض في الأفكار والعقائد.
4- عدم وجود الاختلاف في الأسلوب والمضمون بالرغم من طول مدة نزوله.
5- الإعجاز العلمي: توجد في القرآن الكريم آيات كثيرة تذكر حقائق علمية ، وفلكية ، وطبية لم تكن معروفة في ذلك الزمان واكتشفت بعد مئات السنين، ولو كان القرآن من صنع البشر لما أمكنه معرفة هذه الحقائق عن الكون والحياة.
6- هيمنة القرآن على الكتب السماوية: إذ أنّ قصص الأنبياء التي ذكرها القرآن الكريم تختلف بتفاصيلها عما ورد في التوراة والإنجيل، وهي أقرب للعقل والمنطق بحسب التصور عن الأنبياء وعصمتهم.
وإذ كان المجال لا يتسع لاستعراض تفاصيل كُلّ معجزة قرآنية، فإننا نحاول توضيح الإعجاز البياني بشيء من التفصيل.
الإعجاز البياني للقرآن الكريم:
إنّ القران الكريم منزل باللغة العربية التي يفهمها كُلّ العرب، ولكن أسلوبه خاص إلى درجة أنّه يعجز عن الإتيان بمثله أيّ إنسان مهما أوتي من قوة بيان وبلاغة ومقال. وحتى لغة النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) والتي هي الأحاديث والخطب النبوية ، فإنّها تختلف بأسلوبها كلياً عن القرآن الكريم . هذا مع العلم بأنّ الأحاديث النبوية هي في قمة البلاغة بعد القرآن الكريم.
وكذلك نجد أنّ كتاب نهج البلاغة للإمام علي (عليه السّلام) يمثل قمة الأدب العربي الذي لا يعلو عليه كتاب في بلاغته، ولكنه دون القرآن الكريم ويختلف أسلوبه كلياً عن أسلوب القرآن الكريم.
ويتمثل الإعجاز البياني للقرآن الكريم في أمور متعددة منها.
1- الفصاحة: وهي جمال اللفظ وأناقة الظاهر.
2- البلاغة: وهي جمال العرض وسموّ المعنى، ومطابقة الكلام لمقتضى الحال، ودقة التصوير الفني.
3- النظم ورصانة البيان واستحكام التأليف.
4- الأسلوب في بداعة المنهج وغرابة السبك، إذ يحتوي القرآن الكريم على كُلّ الأساليب الكلامية فلا هو خطابة ولا شعر ولا سجع ولا رسالة ولكنه يحوي كُلّ هذه الأساليب بأبدع بيان.
وإذا كان شرح كُلّ نقطة من هذه النقاط يقتضي مقالاً مستقلاً، فقد يكون من المفيد أن نذكر شيئا من ردّ فعل أهل مكّة وبلغائهم حينما سمعوا القرآن الكريم، وهم الذين كانوا يجيدون الشعر، حتى رفعوا المعلقات السبع على الكعبة تقديساً لها واعتزازاً بقمة الأدب العربي في ذلك الزمان.
اعتراف الوليد بن المغيرة- ريحانة العرب- :
كان رسول الله لا يكفّ عن الحطّ من آلهة المشركين، وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً ومن حكام العرب، يتحاكمون إليه في أمورهم، وينشدونه الأشعار، فما اختاره من الشعر كان مقدّماً ومختاراً. وقد كان من المستهزئين بالرسول (صلى الله عليه وآله).
ويروي التاريخ أنّ الوليد – الذي يصفه العرب بريحانتهم وحكيمهم- سمع الآيات التالية من النبي الأكرم : ( حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) سورة غافر :الآيات1- 6. فلما سمع ذلك قام حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: ( والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وأنّه ليعلو وما يعلى عليه).
ثُمّ انصرف إلى منزله. وهذا اعتراف صريح منه بمعجزة البيان القرآني ، وإن كان تعصبه لقومه قد منعه من الهداية وإتباع الحقّ .
اعتراف عتبة بن ربيعة :
ونفس الاعتراف أقرّ به عتبة بن ربيعة إذ قال بعدما سمع آيات من القرآن :(إنّي قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة . يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي ، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه . فو الله ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم . فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم . وان يظهر على العرب ، فملكه ملككم ، وعزّه عزّكم ، وكنتم أسعد الناس به) قالوا له:سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه . فقال: هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم .
والحمد لله رب العالمين .