إنّ من العقائد الثابتة عند الشيعة الإمامية ، هو القول بالبداء ، ومن الكلمات الدارجة بين علمائهم أنّ النسخ والبداء صنوان ، غير أنّ الأول في التشريع ، والثاني في التكوين ، وقد اشتهرت بالقول به كاشتهارها بالقول بالتقية، وجواز متعة النساء .
وصار القول بهذه الأمور الثلاثة من خصائصهم، وقد أنكرت عليهم السنّة أشدّ الإنكار، خصوصاً في مسألة البداء ، ولكنهم لو كانوا واقفين على مراد الشيعة من تجويز البداء على الله لتوقفوا عن الاستنكار ، ولأعلنوا الوفاق ، وأقول عن جد : لو أتيحت الفرصة لعلماء الفريقين للبحث عن النقاط الخلافية بعيداً عن التعصب والتشنج لتجلى الحقّ بأجلى مظاهره ، ولأقرّوا بصحة مقالة الشيعة ، غير أنّ تلك أمنية لا تتحقق إلاّ في فترات خاصة ، وقد سألني أحد علماء أهل السنّة عن حقيقة البداء، فأجبته بإجمال ما أفصله في هذا المقام ، فتعجب عن إتقان معناه ، غير أنّه زعم أنّ ما ذكرته نظرية شخصية لا صلة بها بنظرية الإمامية في البداء ، فطلب مني كتاباً لقدماء علماء الشيعة ، فدفعت إليه أوائل المقالات ، وشرح عقائد الصدوق لشيخ الأمّة محمد بن النعمان المفيد ( 336 - 413 ه ) فقرأهما بدقة ، وجاء بالكتاب بعد أيام وقال : لو كان معنى البداء هو الذي يذكره صاحب الكتاب فهو من صميم عقيدة أهل السنّة ولا يخالفون الشيعة في هذا المبدأ أبداً .
ولتوضيح حقيقة البداء نأتي بمقدمات :
الأولى :
اتفقت الشيعة على أنّه سبحانه عالم بالحوادث كلها غابرها وحاضرها ، ومستقبلها ، لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء ، فلا يتصور فيه الظهور بعد الخفاء ، ولا العلم بعد الجهل ، بل الأشياء دقيقها وجليلها ، حاضرة لديه ، ويدلّ عليه الكتاب والسنّة المروية عن طريق أئمة أهل البيت - مضافا إلى البراهين الفلسفية المقررة في محلها - .
أمّا من الكتاب : فقوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ) .
وقوله تعالى : ( وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ) .
وقوله سبحانه : ( إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) كيف وهو محيط بالعالم صغيره وكبيره ، ماديه ومجرده ، والأشياء كلها قائمة به قياما قيوميا كقيام المعنى الحرفي بالاسمي والرابطي بالطرفين ، ويكفي في توضيح ذلك قوله سبحانه : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) .
وقوله سبحانه : ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) .
وأمّا الأخبار فنكتفي بالقليل منها : قال الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) : ( لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء ، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء ) .
وقال الإمام علي ( عليه السلام ) : ( كُلّ سرّ عندك علانية ، وكُلّ غيب عندك شهادة ) .
قال ( عليه السلام ) : (لا يعزب عنه عدد قطر الماء ، ولا نجوم السماء ، ولا سوافي الريح في الهواء ، ولا دبيب النمل على الصفا ، ولا مقيل الذَّر في الليلة الظلماء ، يعلم مساقط الأوراق ، وخفي طرف الأحداق ) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) في تفسير قوله : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) : ( فكلّ أمر يريده الله ، فهو في علمه قبل أن يصنعه ، ليس شئ يبدو له إلاّ وقد كان في علمه ، إنّ الله لا يبدو له من جهل ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( من زعم أنّ الله عزّ وجلّ يبدو له من شئ لم يعلمه أمس ، فابرأوا منه ) .
إلى غير ذلك من الروايات التي تدلّ على إحاطة علمه بكلّ شئ، قبل خلقه، وحينه وبعده ، وأنّه لا يخفى عليه شئ أبداً .
وأمّا العقل فقد دلّ على تنزهه من وصمة الحدوث والتغيير ، وأنّه تقدّست أسماؤه أعلى من أن يقع معرضاً للحوادث والتغييرات ، ولأجل ذلك ذهبوا إلى امتناع البداء عليه - بمعنى الظهور بعد الخفاء والعلم بعد الجهل - لاستلزامه كون ذاته محلاً للتغير والتبدّل ، المستلزم للتركيب والحدوث ، إلى غير ذلك مما يستحيل عليه سبحانه .
فالآيات وكذلك الأحاديث المروية عن أئمة الشيعة ( عليهم السلام ) تشهد على علمه الذي لا يشوبه جهل ، وعلى سعته لكلّ شئ قبل الخلق وبعده ، وأنّه يستحيل عليه الظهور بعد الخفاء ، والعلم بعد الجهل . وعليه فمن نسب إلى الشيعة الإمامية ما يستشم منه خلاف ما دلت عليه الآيات والأحاديث فقد افترى كذبا ينشأ من الجهل بعقائد الشيعة ، أو التزلف إلى حكام العصر الحاقدين عليهم، أو التعصب المقيت .
وبذلك يعلم بطلان ما قاله الرازي في تفسيره عند البحث عن آية المحو والإثبات ، حيث يقول : قالت الرافضة : البداء جائز على الله تعالى ، وهو أن يعتقد شيئاً ثُمّ يظهر له أنّ الأمر بخلاف ما اعتقده ، وتمسكوا فيه بقوله : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ ) ، ثُمّ قال : إنّ هذا باطل ، لأنّ علم الله من لوازم ذاته المخصوصة ، وما كان كذلك كان دخول التغير والتبدل فيه باطلاً .
وما حكاه الرازي عن ( الرافضة ) كاشف عن جهله بعقيدة الشيعة ، وإنّما سمعه عن بعض الكذّابين الأفاكين، الذين يفتعلون الكذب، لغايات فاسدة ، وقد قبله من دون إمعان ودقة ، مع أنّ موطنه ومسقط رأسه بلدة ( ري ) التي كانت آنذاك مزدحم الشيعة ومركزهم ، وكان الشيخ محمود بن علي بن الحسن سديد الدين الحمصي الرازي - علامة زمانه في الأصوليين - معاصراً ومواطناً للرازي وهو مؤلف كتاب ( المنقذ من التقليد والمرشد إلى التوحيد ) ، ولو كان الفخر الرازي رجلاً منصفاً لرجع إليه في تبيين عقائد الشيعة ، ولما هجم عليهم بسباب مقذع ، وربما ينقل عنه بعض الكلمات في تفسيره .
وليس الرازي فريداً في التقول في هذا المجال ، بل سبقه البلخي ( 319 هـ ) في هذه النسبة ، ونقله الشيخ الأشعري ( 260 - 324 هـ ) ( 2 ) ونقله أبو الحسن النوبختي في فرق الشيعة عن بعض فرق الزيدية .
الثانية :
كما دلت الآيات والأحاديث على أنّه سبحانه لم يفرغ من أمر الخلق والإيجاد ، والتدبير والتربية ، دلت على أنّ مصير العباد يتغير ، بحسن أفعالهم وصلاح أعمالهم ، من الصدقة والإحسان وصلة الأرحام وبرّ الوالدين ، والاستغفار، والتوبة ،وشكر النعمة وأداء حقها ، إلى غير ذلك من الأمور التي تغير المصير وتبدل القضاء ، وتفرج الهموم والغموم ، وتزيد في الأرزاق ، والأمطار ، والأعمار ، والآجال ، كما أنّ لمحرّم الأعمال وسيئها من قبيل البخل والتقصير ، وسوء الخلق ، وقطيعة الرحم ، وعقوق الوالدين ، والطيش ، وعدم الإنابة ، وكفران النعمة ، وما شابهها تأثيراً في تغيير مصيرهم، بعكس ذلك من إكثار الهموم ، والقلق ، ونقصان الأرزاق ، والأمطار ، والأعمار ، والآجال ، وما شاكلها .
فليس للإنسان مصير واحد ، ومقدر فارد ، يصيبه على وجه القطع والبت ،
ويناله ، شاء أو لم يشأ ، بل المصير أو المقدر يتغير ويتبدل بالأعمال الصالحة والطالحة وشكر النعمة وكفرانها ، وبالإيمان والتقوى ، والكفر والفسوق .
وهذا مما لا يمكن - لمن له أدنى علاقة بالكتاب والسنّة - إنكاره أو ادعاء جهله .